المرأة في الجاهلية
القسم الأول
القسم الثاني
المرأة في الجاهلية
القسم الأول
القسم الثاني
المرأة في الجاهلية
المرأة في الجاهلية
تأليف
حبيب الزيات
المرأة في الجاهلية
كل من عانى البحث في أحوال العرب في الجاهلية، وتصفح ما دون عنهم في أسفار التاريخ الإسلامية، يعلم ما يكتنف تلك الأعصار من الظلمات الطامسة، على آثارها المودية بكثير من صحيح أخبارها، بحيث كان هذا اليسير المنقول منها لا يسد حاجة ولا يشفي غلة، فضلا عما يتنازعه من الأقوال المتناقضة، والروايات المتضاربة التي لا يصح معها رأي، ولا يتجه بها حكم، وفضلا عن كون أكثر هذه الروايات واردا مورد الأقاصيص والخرافات، مما لا يتضح به بحث ولايبنى على مثله علم؛ ولذلك لم يكن بد للناظر في هذا الصدر من تاريخ العرب، المستزيد بيانا لأحوالهم وتفصيلا لوجوه معيشتهم، المتشوف إلى الوقوف على كنه أخلاقهم، واستطلاع طلع عوائدهم؛ من إعادة النظر فيما جاء عنهم لذلك العهد، والتنقيب عن تتمته في تضاعيف الأخبار، وغضون الأحاديث التي لا يكاد يخلو منها مصنف في اللغة، أو مؤلف في الأدب، والاستعانة على تحقيق موضع الشاهد فيها من استقراء دواوين الشعراء في الجاهلية وبدء الإسلام. وهي على عزتها وتعذر منالها، تكاد تكون فيما عدا اللغة والأمثال أوحد الآثار التي تمثل تلك الأعصار. ولا يخفى ما يقتضي مثل هذا المطلب الشاق من الجلد الرابط، وما يستغرقه من الوقت الطويل، مما لا يضطلع به الواحد، ولا يتسنى بلوغه لكل طالب.
وإنما جاء هذا النقص لاشتغال العرب في القرون الأولى من الإسلام بجهاد المشركين وفتح الفتوحات، وانصراف الرواة منهم عن رواية الأخبار الجاهلية إلى استقصاء الأحاديث الإسلامية، حتى إذا استقر فيهم الملك، ودانت لهم الأمصار، وأخلدوا إلى الحضارة؛ كان أول ما دفعتهم إليه الحاجة تدوين بعض ما يستعينون به على تفهم السنة، والحديث، وأحكام تلاوة القرآن، كما يشهد بذلك ما نقل عن أصل وضع فني الصرف والنحو؛ ولذلك كانت أكثر تآليفهم في سائر العلوم لا تتجاوز في بدء أمرها حد الكفاية، ولا تتعدى الغرض الذي دعاهم إلى وضعها؛ لأنفتهم من انتحال غير العلوم الدينية، واطراحهم كل ما عداها مما لا يرجع إليها أو لا يعين عليها؛ نظرا لقرب عهدهم بالبداوة، واشتغالهم بتولي الرئاسة وتقلد الأعمال السلطانية، حتى كان أكثر حملة العلم بينهم من العجم، كما نبه على ذلك ابن خلدون في مقدمته.
ولهذه الأسباب لم أطمع، حين أقبلت على البحث عن حالة الأنثى في الجاهلية، أن أفي هذا الموضوع حقه، ولا أن أحيط بالمسألة من جميع أطرافها؛ لغياب ما يمثل تلك الحالة بتمامها، لا سيما وأن الكلام فيها نسج على غير منوال وطبع على غير مثال؛ إذ لا أعلم فيما بلغني أن قد سبق لأحد من أهل اللسان العربي كلام في هذا الصدد أو استقصاء في البحث عنه؛ ولذلك اضطررت أن أرجع في كثير مما ذكرته إلى أبيات من الشعر، أصبتها بعد طويل الجهد متفرقة في أقوال شتى لشعراء مختلفين، أوردتها شواهد بما وصفته جريا على المشترط في أصول البحث من الاحتجاج لكل قول بما يثبت صحته وينفي عنه شبهة الوضع. ولم أقتصر منها على ما كان جاهليا بحتا، بل نقلت أحيانا من شعر المخضرمين وأهل الطبقة الأولى من المحدثين ما أصبت الشاهد فيه؛ إذ كانت الأخلاق والعوائد لذلك العهد لم تحل بعد بتمامها عما كانت عليه في الجاهلية، إلا ما نسخه الشرع أو حظره الدين.
ولست أدعي بذلك أن ما حكيته هو تمثيل الواقع وإصابة السداد؛ فرب رأي تخيل لي أنه هو الراجح، والأرجح غيره. وإنما حكمت بحسب ما ثبت لي من الظاهر ودلتني عليه القرائن، وعلى قدر ما اجتمع عندي من الشواهد التي حصلتها مما تهيأ لي مطالعته من المصنفات التي تكاد تنحصر في شرح الحماسة للتبريزي، وجزء من العقد الفريد لابن عبد ربه، وبعض صفحات من كتاب الأغاني للأصبهاني. ولا ريب أنه إذا تسنى لأحد من ذوي الخبرة والاطلاع استكمال مثل هذه المطالعات واستقراء أشباه هذه الشواهد في مظانها؛ يظفر منها بما يكون حكاية الصحيح وفصل الخطاب، وينجلي البحث بعدها بما لا يذكر معه ما اشتملت عليه هذه العجالة القاصرة.
وقد قسمت الكلام عن حالة الأنثى إلى قسمين، وصفت في الأول حياتها المادية، وفي الثاني حياتها الأدبية، مقتصرا في كل منهما على ما قل ودل، ميلا مع الفائدة، واكتفاء بالشاهد الواحد في مقام الاحتجاج.
القسم الأول
معلوم أن العرب في جاهليتهم كانوا أكثرهم أهل بادية؛ معاشهم من القيام على الإبل يغتذون بألبانها، ويقتاتون بلحومها، ويكتسون بأوبارها، ويتخذونها ركائب يقطعون عليها مجاهل القفار، فكانت لذلك مخصصة عندهم بمزيد العناية، يتخيرون لها أطيب الأرض بقعة، وأكثرها عشبا، ويتتبعون لأجلها مواقع الغيث على حسب اختلاف الفصول، فلا يزالون دهرهم في حل وترحال يطوفون الآفاق طلبا للمرعى وارتيادا للماء. غير أنهم كثيرا ما كانوا يصابون بالقحط ويحتبس عنهم المطر، فيهلكون هم ومواشيهم جوعا، أو تدفعهم الحاجة أو الطمع إلى الإغارة على من جاورهم فيقطعون السابلة، ويغزو بعضهم بعضا فينهبون ويسبون، وربما أصاب أحدهم الفتاة العذراء أو المتزوجة أم البنين فيحسبها غنيمة باردة كسبها برمحه، ويختصها لنفسه دون تحرج ولا تورع، وربما سبيت منه فيغتصبها غيره، فلا تزال تنتقل من مالك إلى آخر إلى أن يتيسر لأهلها استرجاعها، فتعود إلى منزلها الأول وقد لزمها من العار ما يبقى سبة لذويها مدى الدهر.
وقد كانت السبية لمعرفتها بمقدار الذل الذي يلحقها من امتلاكها بالسبي، وأنفتها من تعيير أهل مولاها ودعائهم إياها بالأمة؛ تتحين الفرص لمفارقته وتعمل على الفرار من يديه، لا يثبطها عن ذلك طول صحبتها إياه مع إحسانه إليها، ولا يثني من عزمها ما يصلها به من علاقة الولد، كما ذكر أبو عمرو الشيباني عن سلمى امرأة عروة بن الورد، وقد كان أصابها بكرا من بني كنانة، وأعتقها وتزوجها واتخذها لنفسه، فمكثت عنده بضع عشرة سنة، وولدت له أولادا، وهو لا يشك أنها أرغب الناس فيه، وهي تقول له: لو حججت بي فأمر على أهلي، وأراهم. فحج بها، ثم أتى المدينة، فلما هم أن يعود بها قالت سلمى لقومها: تعالوا إليه وأخبروه أنكم تستحيون أن تكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحته سبية وافتدوني منه؛ فإنه لا يرى أني أفارقه. فأتوه وسقوه الشراب فلما ثمل قالوا له: فادنا بصاحبتنا فإنها وسيطة النسب فينا معروفة، وإن علينا سبة أن تكون سبية، فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها فاخطبها إلينا. فامتنع ثم اشترط عليهم أن يخيروها، فاختارت أهلها ثم أقبلت عليه فقالت: يا عروة، أما إني أقول فيك - وإن فارقتك - الحق، والله ما أعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك، وأغض طرفا وأقل فحشا وأجود يدا وأحمى لحقيقة، وما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك؛ لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته، ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبدا، فارجع إلى ولدك راشدا، وأحسن إليهم. فقال عروة في ذلك أبياتا ذكرها صاحب الأغاني.
ولهذين السببين - أي خوف العار وخوف الفقر - كان بعض العرب يئدون بناتهم، لا يفعل ذلك منهم عابد الوثن فقط، بل المتنصر أحيانا، كما نقل عن عدي بن ربيعة المعروف بالمهلهل زير النساء أنه لما ولدت له ابنته ليلى أمر بدفنها، ثم بدا له فاستحياها. وذكر عن قيس بن عاصم أنه وأد بيده بضع عشرة ابنة له قال: وما رحمت منهن إلا واحدة، ولدتها أمها وأنا في سفر، ودفعتها إلى أخوالها، فلما قدمت وسألت عن الحمل، أخبرت أنها ولدت ميتا، ومضت سنون حتى ترعرعت، فزارت أمها ذات يوم، فدخلت فرأيتها قد ضفرت لها شعرها وزينتها وألبستها الحلي، فقلت: من هذه الصبية فقد أعجبني حسنها؟ فبكت وقالت: هذه ابنتك. فأمسكت عنها حتى اشتغلت أمها فأخرجتها وحفرت حفرة وجعلتها فيها، وهي تقول: يا أبت أتغطيني بالتراب؟! حتى واريتها وانقطع صوتها.
واستمر الوأد جاريا عند العرب إلى أن قام زيد بن عمرو النصراني، فجعل ينهي عنه، وتبعه صعصعة بن ناجية جد الفرزدق، فأخذ يطوف في القبائل يشتري الموءودة بناقتين وجمل، يشتري حياتها لا رقها، وظل كذلك إلى أن جاء الإسلام وقد فدى ثلاثمائة موءودة، وقد افتخر بفعله هذا الفرزدق فعده في شعره من جملة مآثر آبائه فقال:
وجدي الذي منع الوائدات
وأحيا الوئيد فلم يوأد
ونظرا لتأصل هذه العادة القبيحة في نفوسهم وتعارفهم بها، كان الوالد إذا أدركته الشفقة على ابنته وأحب استحياءها، يجهد بإخفائها من الناس؛ لئلا يفطن لها أحد، مثلما فعل عصيم بن مروان بابنته نضيرة أم حصن بن حذيفة، فيما حكاه أبو محمد الأعرابي ولم يكن له ولد غيرها، فلما ولدت له ورآها انتشرت نفسه عليها ورق لها، وقال لأمها: استرضعيها وأخفيها من الناس.
ومع ذلك، فلم يكن العرب بأسرهم على هذا المنوال يئدون بناتهم، فإن عددا منهم ليس بالقليل كانوا يستحيونهن، غير أنهم كلهم قاطبة كانوا يكرهونهن ويرون ولادتهن مصيبة عليهم؛ أنفة من العار الذي قد يلزم عنهن، وهربا من مئونة تربيتهن. وقد سئل أحدهم عن ولده فقيل له: كم ولدك؟ فقال: قليل خبيث. فقيل له: كيف؟ قال: لا أقل من واحد، ولا أخبث من أنثى. وقال آخر في ابنة له كانت تبالغ في بره وإكرامه:
تهوى حياتي وأهوى موتها أبدا
والموت أكرم نزال على الحرم
وقد توارث هذه الكراهة الخلف عن السلف، حتى إنه لما أراد بعض الإسلاميين أن يهنيء بعض الوزراء قديما بابنة ولدت له احتاج أن يذكر - تسلية له - ما في السماء والأرض وما بينهما من الإناث، وهذا نص كتابه أورده تفكهة ليعلم منه كم كانت الأنثى مبغضة إلى والديها. قال:
أهلا وسهلا بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، المبشرة بإخوة يتسابقون، ونجباء يتلاحقون.
ولو كان النساء كمثل هذي
لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
والله يعرفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادرع اغتباطا، واستأنف نشاطا؛ فالدنيا مؤنثة: والناس يخدمونها، والذكور يعبدونها. والأرض مؤنثة: ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية. والسماء مؤنثة: وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجوم الثواقب. والنفس مؤنثة: وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان. والحياة مؤنثة: ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا تحرك الأنام. والجنة مؤنثة: وبها وعد المتقون، وفيها تنعم المرسلون.
إلى آخر ما هنالك مما هو بالتعزية أشبه منه بالتهنئة. وأما التهنئة الصحيحة فإنما كانت تكون عندهم إذا توفيت الأنثى، وأقل ما كانوا يكتبونه في التهنئة بوفاتها قولهم: ستر العورات من الحسنات، ودفن البنات من المكرمات، وتقديم الحرم من النعم. وغير ذلك مما لا أستقصي في ذكره.
على أن بعض العرب كانوا في عكس من سبق، يحبون بناتهن ويبذلون في إكرامهن غاية جهدهم، دون أن يمنعهم ما كانوا يتقونه منهن من الفضيحة وثقل المئونة عن توفيتهن حقهن من العناية والتربية، بحيث كانوا يجزعون لأقل أذى يحل بهن. قال حطان بن المعلى:
لولا بنيات كزغب القطا
رددن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع
في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم
لامتنعت عيني من الغمض
وقد بقيت آثار ذلك كله إلى اليوم كما هو مشهور في هذه الأقطار.
وقد نقبت كثيرا فيما بين يدي لأجد ما أصف به حالة الأنثى في بيتها إذا ترعرعت وما كان يستغرق وقتها من أشغال المنزل ومهمات تدبيره؛ فلم أظفر من ذلك بالبلاغ؛ فإن البيت كله كان في الغالب قائما في طراف أو خباء، يتولين فيه الردن - أي الغزل، ومنه اشتقاق ردينة من أسمائهن - أو ينسجن الصوف والوبر والشعر ونحوه، وقد يدبغن الأديم ويرملن الحصير. قال الوليد بن عقبة:
فإنك والكتاب إلى علي
كدابغة وقد حلم الأديم
وقال النابغة:
كأن مجر الرامسات ذيولها
عليه حصير نمقته الصوانع
ومهمات المنزل بأسره منحصرة في تهيئة الطعام، فيما لا يكاد يخرج عن اللبن الحليب والأقط والتمر والدقيق والعسل والزبد والسمن والزيت والشحم، شأن سائر سكان القفار الباقين على نشأتهم الطبيعية؛ ولذلك إذا راجعنا مآكل العرب وحلوياتهم لم نرها تتعدى هذه الأشياء، تفرد أو تخلط بعضها ببعض، وأما اللحم فغاية إحضاره أن يشوى على الجمر أو على الحصى، أو يدفن في الرماد، أو يكون جيد النضج بالغه أو قليله؛ مما يرجع إلى حالة واحدة ولا يتطلب كبير عناء؛ ولذلك كان بعض النساء يخرجن راعيات يقضين يومهن في القيام على الإبل أو الشياه، وبعضهن بائعات كما نقل عن ذات النحيين في المثل المشهور، وأكثر ما كن يبعن العسل والسمن والتمر والعطر، يطفن به الأحياء يستبدلنه أحيانا بالشحم، أو يلزمن به مكانهن فيأتيهن الرجال يتطيبون به لديهن كما جاء في المثل عن منشم في أحد الأقوال، وربما تعرضن للركبان بالأدم والبرم؛ أي الجلود والقدور. قال النابغة أيضا:
ليست من السود أعقابا إذا انصرفت
ولا تبيع بجنبي نخلة البرما
وبعد ذلك:
كادت تساقطني رحلي وميثرتي
بذي المجاز ولم تحسس به نغما
من قول حرمية قالت وقد ظعنوا:
هل في مخفيكم من يشتري أدما؟
ولا يبعد أن يكون هنالك صنائع أخرى كن يتعاطينها مما لا يكاد يتعدى حاجة ساكن القفر، مثلما جاء عن ردينة أنها كانت في خط هجر هي وزوجها سمهر يقومان الرماح؛ ولذلك نسبت الرماح إليهما، فقيل رمح رديني ورمح سمهري.
ويلحق بهذا ما كان يتعاطاه بعضهن من فنون الكهانة، كالضرب بالحصى - مما يشاهد مثله في بدويات اليوم - وكزجر الطير أو العيافة، وهي أن ترمي الطائر بحصاة أو أن تصيح به، فإن طار عن اليمين استسعدت به، وإن طار عن اليسار تشاءمت به، تسمى العرب الأول سانحا، والثاني بارحا، وكانوا يعتقدون بصحة هذه الخرافات، وقل من أنكرها منهم كلبيد حيث يقول:
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وكن فيما عدا التنجيم يتكلفن الرقي والنفث في العقد من فنون السحر، وهو أن يعقدن عقدا في خيوط أو في وتر وينفثن عليها؛ أي ينفخن مع ريق، وقد استعاذ منهن القرآن فقال:
قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد .
على أن كثيرا من هذا الذي تقدم كان تقوم به الولائد والإماء من الرقيق، وهن وقتئذ يعددن بالألوف، فكن يستخدمن في عامة حاجات المعيشة: من رعي الإبل خاصة، وخدمة المنزل ، وتعاطي المهن، وسائر ما تتطلبه لوازم الحياة في القفر مما كانت تترفع عنه حرائر النساء أو يأنفن من مزاولته؛ لما يترتب عليه عندهن من العار والغضاضة في الشرف. قال التبريزي في شرح قول قيس بن الخطيم:
يهون علي أن ترد جراحها
عيون الأواسي إذ حمدت بلاءها «الأواسي المداويات للجراح، وإنما ذكر النساء؛ لأنهم يأنفون من الصناعات ويعلمونها العبيد والإماء وحرائر النساء، إذا لم يكن في غاية بعيدة من الشرف.» ولذلك قال النابغة في البيت المتقدم: ولا تبيع بجنبي نخلة البرما. وقال ذو الإصبع العدواني:
عني إليك فما أمي براعية
ترعى المخاض ولا رأيي بمغبون
ومن أظهر الدلائل على هذه الأنفة من الامتهان والتبذل قولهم في المثل: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
ومما يلحق بذلك الغناء، فإنه في الجاهلية كان من خصائص الإماء، وتسمى عندهم الأمة المغنية بالقينة والكرينة، وأول من غنى من الإماء - فيما زعموا - جاريتان كانتا لمعاوية بن بكر من قبيلة عاد الهالكة، وهما المدعوتان في الأخبار بالجرادتين.
ولا يبعد أيضا أن تكون الأمة هي التي كانت تتولى خياطة الثياب وإصلاحها بنفسها، أو تسعفها في ذلك مولاتها، إذا كان المخيط لها أو لأسرتها أو لم تكن عريقة في الشرف، وكانت النساء لذلك العهد أو بعضهن يحتفلن بملابسهن، ولا يقتصرن على لبس القطن والصوف والوبر، بل يتشحن أحيانا بالديباج والحرير حسب يسارهن. قال المنخل اليشكري:
الكاعب الحسناء تر
فل في الدمقس وفي الحرير
وأقل من ذلك لبسهن الثياب الموشاة بالذهب قال سلمى بن ربيعة:
والبيض يرفلن كالدمى
في الريط والمذهب المصون
يعني بالبيض النساء، يتبخترن في الريط وهي الملاءة الواسعة، والمذهب المصون يراد به الثياب الفاخرة المطرزة بالذهب، على أنهن كن في أوقات الخلوة يقتصرن على لبس الصدار والمجول والإتب تحت دروعهن، وهي كما ذكره الثعالبي قمص متقاربة الكيفية في القصر واللطافة وعدم الأكمام، ولا بد أن ذلك كان عاما لهن، حتى قيل في المثل: كل ذات صدار خالة.
وأما الزي الذي كن يتخذنه في ملابسهن فالظاهر أنه كان لا يخلو من بعض التأنق، ومن أغرب الشواهد الدالة على مبلغه عندهن هذه الوسادة التي تضعها نساء الفرنجة ونساؤنا تحت أثوابهن في أسفل الخصور لتعظيم ما خلف الظهور، فإنها ليست من إيجاد مخترعات الزي في أوروبا، بل هي من معلومات نساء العرب في سالف الدهر، وتسمى عندهن بالعظامة والحشية والرفاعة، وإذا قرأنا في تفسيرها قول أرباب اللغة «العظامة ثوب كالوسادة تعظم به المرأة عجيزتها»؛ علمنا أنها هي هي ما نراه اليوم في زي المرأة المتمدنة، ومن ذلك أيضا عادة إطالة الذيول وجرها تبخترا وخيلاء، وأشعار العرب طافحة بذكرها، فلا حاجة إلى النص عليها في بيت بعينه.
وأشد من اهتمامهن بالملبس حرصهن على التحلي، وبلغ من شغفهن به أنهن لم يقتصرن على الحلي الواحد في الموضع الخاص به، بل ربما عددنه في كل قسم منه، كاليد مثلا؛ فإنهن فيما عدا الخواتم في الأصابع اتخذن فيها للمعصم سوارا، وللساعد جبيرة، وللعضد دملجا. وكالرجال فقد ذكر الثعالبي فضلا عن الخلخال والخدمة لها الفتخ لأصابعها، وقال تلبسها نساء العرب، وكذلك الأذن؛ فقد جاء الشنف لما يعلق في أعلاها والقرط لأسفلها، ويظهر أن السوار لم تكن تلبسه إلا الحرائر من النساء دون الإماء، بدليل قول حاتم الطائي لما لطمته العنزية حين فصد لها البعير: لو ذات سوار لطمتني!
ومن لوازم التحلي ولواحقه التزين والتبرج فيما يتناوله من التطيب والاختضاب والوشم وترجيل الشعر وتزجيج الحواجب والتكحل وما أشبه، وأكثر ما كان الوشم في ظاهر الكف والمعصم يدل على هذا الثاني قول زهير في معلقته:
ودار لها بالرقمتين كأنها
مراجيع وشم في نواشر معصم
وربما وشمت الحمقاء غير ذلك ليكون أحسن لها، كما ذكروا في تفسير المثل: هو أعظم في نفسه من المتشمة. وأما الشعر فيستفاد من وصف امرئ القيس للفرع في معلقته المشهورة أنهن كن إذا أردن ترجيله تفنن في ضفره وتهيئته، وخالفن فيه بين تثنية وإرسال وهو قوله:
غدائره مستشزرات إلى العلى
تضل العقاص في مثنى ومرسل
ونظرا لما يترتب على الفرع الطويل من الحسن كن إذا قصر شعر إحداهن تصله بغيره ليكون أتم لها، وتسمى من كانت كذلك بالواصلة والطالبة له بالمستوصلة، وقد لعنهما كلتيهما الرسول كما لعن الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنصمة، ومعنى النامصة الناتفة لشعرها كما تفعل بعض النساء اليوم، ومنه قول الراجز:
يا ليتها قد لبست وصواصا
ونمصت حاجبها تنماصا
أراد بتنماص الحاجب نتف ما نبت فيه وراء القوس من الشعر، وكانت العرب تحب الحواجب المزججة أي المدققة المطولة، وأما صبغها المعروف بالخطوط فلم تكن تعرفه البدويات، وإنما هو من تبرج الحضريات كما قال أبو الطيب:
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا حاجة إلى التنبيه على أن هذا الذي تقدم من حرص المرأة على التزين والتحلي كان يشاهد في غير المرأة الثاكل أو الفاقد؛ فإن حداد هذه كان يشغلها عن كل زهو وتبرج؛ ولذلك عرفوا الحداد بكونه خاصة ترك الزينة والخضاب، وإن كان في الواقع يتناول غير ذلك كلبس السلب السود، وهي ثياب المأتم، والمسوح كما قال لبيد:
يخمشن حر أوجه صحاح
في السلب السود وفي الأمساح
وقد تعصب الحاد رأسها أيضا بالسلاب، كما يدل عليه قول ضمرة بن ضمرة النهشلي:
هل تخمشن إبلي علي وجوهها
أم تعصبن رءوسها بسلاب؟!
بل ربما تناول الحداد ما هو أشد من ترك الزينة؛ كحلق الشعر وتعليق النعلين أحيانا، كما ذكر عن الخنساء أنها رؤيت بعد مقتل أخيها صخر تطوف بالبيت محلوقة الرأس وهي تبكي وتلطم خدها وقد علقت نعل صخر في خمارها، فلما عوتبت على ذلك ونهيت عنه قالت أبياتا منها:
ولكني رأيت الصبر خيرا
من النعلين والرأس الحليق
قال المبرد: وتأويل النعلين أن المرأة كانت إذا أصيبت بحميم لها جعلت في يديها نعلين تصفق بهما وجهها وصدرها. قال عبد مناف بن ربع الهذلي:
ماذا يغير ابنتي ربع عويلهما
لا ترقدان ولا بؤسي لمن رقدا
إذا تجاوب نوح قامتا معه
ضربا أليما بسبت يلعج الجلدا
وقصره الإصابة على الحميم فقط يدل على أنه إذا لم يكن المصاب به كذلك ندبته المرأة بغير نعلين، واستعاضت عنهما بخرقة تمسكها بيدها وهي تنوح كما تصنع النوادب اليوم، وتسمى هذه الخرقة بالمئلاة قال الشاعر يصف سحابا:
كأن مصفحات في ذراه
وأنواحا عليهن المآلي
ومما اشتهر عنهن البروز عند سماع النعي حاسرات بغير نقاب كما سيجيء، وخمش الوجه وقد تقدم شاهده، وشق الجيب كما قال طرفة:
وإن مت فانعيني بما أنا أهله
وشقي علي الجيب يابنة معبد
وأقل منه تخريق الخمار كما قال صخر في أخته الخنساء:
والله لا أمنحها شرارها
وهي حصان قد كفتني عارها
وإن هلكت خرقت خمارها
واتخذت من شعرها صدارها
وأما مدة الحداد فلا يبعد أنها كانت تختلف باختلاف منزلة الفقيد أو نسبه، وقد جعلها لبيد حولا كاملا، حيث قال يخاطب ابنتيه بعد أن نهاهما عن خمش الوجه وحلق الشعر:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
ومما يتصل بالملبس التقنع والتنقب، وقد كان النقاب يستر الوجه إلى قصبة الأنف أو إلى المحجر فقط، بحيث كانت ترى منه العين، ولعله لم يكن في بدء الأمر إلا فضلة القناع تردها المرأة على شفتها كما يرد الرجل فضل عمامته على فمه، بدليل إطلاق لفظ اللثام على كلا الردين. ثم ما لبث اللثام أن ارتفع إلى ما فوق الفم فكان لفاما، ثم انتهى إلى الأنف فغشيه أو بعضه فكان نقابا، وربما ضاق أيضا حتى لا تبدو منه إلا العين فقط وهو البرقع والوصواص. قال المثقب العبدي:
ظهرن بكلة وسدلن أخرى
وثقبن الوصاوص للعيون
وذكر أبو زيد في كتاب النوادر أنه قيل لأعرابي: ما تقول في نساء بني فلان؟ فقال: برقع وانظر. يريد حسن أعينهن.
ومن هذا الترتيب يستدل على أن النقاب كان في أول اتخاذه كاللثام للرجال، ثم لما جعل أرباب الهوى لا يرون حسناء إلا تعشقوها ونظموا فيها الأبيات السائرة تحرز منهم النساء بالنقاب؛ سترا لمحاسنهن أن يبتذلها الوصف، فأصبح لذلك التنقب عادة أوجبها التعفف والتصون. يشهد بذلك ما ذكر عن المتجردة امرأة النعمان ملك الحيرة حين سقط يوما نصيفها؛ أي خمارها، فأبصرها النابغة الشاعر فبادرت واستترت بيدها وذراعها، فكادت ذراعها تستر وجهها لامتلائها وغلظها، فما لبث النابغة بعد هذه اللمحة اليسيرة أن نظم قصيدته الدالية، وصف فيها المتجردة وصفا نبه فيه على أكثر محاسنها حتى تجاوز إلى رضابها، فقال فيه ما أوجب غضب النعمان عليه، ولما انتهى إلى أمر سقوط النصيف واستتار المتجردة قال:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
ونقل مثل ذلك عن طرفة لما كان بين يدي عمرو بن هند يشرب وأشرفت أخت للملك فرآها طرفة، فقال فيها بيتين من الشعر نقمهما عليه عمرو بن هند، وكان من بعض ما بعثه على الأمر بقتله كما ذكر في قصته.
ومما يدل على أن التنقب لذلك العهد كان تصونا استئثار الحرائر به دون الإماء، حتى كانت الحرة إذا خشيت السبي يوما وأرادت أن تأمن على نفسها تلقي عنها النقاب وتبرز حاسرة كالأمة ليظن أنها هي فلا يتعرض لها. قال التبريزي في شرح قول معدي كرب:
وبدت لميس كأنها
قمر السماء إذا تبدى
أي برزت هذه المرأة كاشفة عن وجهها، وإنما فعلت كذلك إما للتشبه بالإماء حتى تأمن السباء، أو لما تداخلها من الرعب، ومثله:
ونسوتكم في الروع باد وجوهها
يخلن إماء والإماء حرائر
على أن التنقب لم يكن عاما لكل الحرائر على السواء ملازما لهن في جميع أحوالهن؛ فإن بعضهن كن لا ينتقبن من الرجل إذا كان غير شجاع تظاهرا بالاحتقار له أن يكون عاجزا عن حماية الأعراض ومدافعة الأعداء، وقد نقل عن بني الحرث بن كعب خاصة أنه إذا كان الرجل منهم جبانا لم تختمر منه امرأة أبدا، وكن كلهن جمع إذا فاجأهن ما يذهلن له من مصيبة أو حزن يبرزن حاسرات سافرات عن وجوههن يلطمنها باكيات. قال الربيع بن زياد في مقتل مالك بن زهير:
من كان مسرورا بمقتل مالك
فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه
يلطمن أوجههن بالأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تسترا
فاليوم حين برزن للنظار
يضربن حر وجوههن على فتى
عف الشمائل طيب الأخبار
وقد وصف المتنبي مثل هذا في بعض نساء المحدثين فقال:
وأخرجت الخدور مخبآت
يضعن النقس أمكنة الغوالي
أتتهن المصيبة غافلات
فدمع الحزن في دمع الدلال
ومثل ذلك كانت تفعل بعض النساء الحسان، فكن في أكثر الأوقات يبرزن للنظار سافرات؛ عجبا بجمالهن أن يستره قبح القناع. وقد عرف ذلك منهن حتى كانت المرأة إذا رؤيت حريصة على التنقب والتستر حكم عليها لأول وهلة أنها قبيحة المنظر، واعتقد فيها أنها إنما تقنعت لتغر الناظر إليها وتوهمه جمالها؛ ولذلك قيل في المثل: ترك القناع من ترك الخداع. وقد ذكر عمر بن أبي ربيعة عادة النساء الحسان في ترك التقنع، فقال من شعر له:
ولما تفاوضنا الحديث وأسفرت
وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
أي استخفها الحسن أن تستر وجهها بالقناع. قال التبريزي في شرح هذا البيت: وهكذا كانت نساء العرب تفعل إذا كانت جميلة. وقد ذكر مثل ذلك الشماخ وأبو النجم من الرجاز، فقال الأول: أطارت من الحسن الرداء المحبرا. وقال الثاني: من كل غراء سقوط البرقع.
وعلى كل فأيا كان السبب لم تكن النساء يبرزن حاسرات إلا وهن حريصات على التعفف حرصهن عليه وهن منتقبات مستترات، كما قال في مثلهن بعض واصفيهن:
برزن عفافا واحتجبن تسترا
وشيب بقول الحق منهن باطل
فذو الحلم مرتاب وذو الجهل طامع
وهن عن الفحشاء حيد نواكل
كواس عوار صامتات نواطق
بعف الكلام باخلات بواذل
ومن هنا يعلم أن النساء لم يكن جميعا يستترن بالنقاب استتارا لا يكشفن فيه عن وجوههن البتة، بل كان كثيرات منهن يبرزن للرجال، ولا سيما الفتيات يراهن الراغب في الزواج فيخطبهن عن معرفة ومرأى لا عن شهادة ورواية، وقد بقي بعض هذه العادة إلى ما بعد الإسلام، فكان بعض النساء يبرزن للرجال يحدثنهم ويحدثونهن، كما ذكر عن سكينة بنت الحسن، وتسمى من كانت كذلك برزة، وبعضهن يجلسن لخطابهن، كما صرح بذلك ابن عبد ربه في العقد الفريد فيما نقله عن معبد بن خالد الجدلي أنه قال: خطبت امرأة من بني أسد في زمن زياد، وكان النساء يجلسن لخطابهن، فجئت لأنظر إليها وكان بيني وبينها رواق، فدعت بجفنة من الثريد مكللة باللحم فأتت على آخرها وألقت العظام نقية، ثم دعت بقربة صغيرة مملوءة لبنا فشربته حتى أكفأت القربة على وجهها، وقالت: يا جارية، ارفعي الستر. فإذا هي جالسة على جلد أسد، وإذا شابة جميلة، فقالت لي: يا عبد الله، أنا أسدة من بني أسد وعلى جلد أسد، وهذا طعامي وشرابي، فإن أحببت أن تتقدم فتقدم، وإن أحببت أن تتأخر فتأخر. فقلت أستخير الله في أمري وأنظر. وخرجت ولم أعد، وأورد ابن عبد ربه حكايات أخر في مثل هذا المعنى، بعضها أصرح في الدلالة، لا أنقلها لطولها فليطالعها من يشاء.
وعلى ذكر الخطبة والزواج فقد يظهر أن بعض فتيات الأعراب كن يتزوجن في سن حدث جدا، ومما لا يكاد يصدق ما وجدته في رجز لبعض النساء قالته في ابنتها رداعلى جارة لها ولدت غلاما. فقالت:
وما علي أن تكون جاريه
تغسل رأسي وتكون الفاليه
حتى إذا ما بلغت ثمانيه
زوجتها مروان أو معاويه
أختان صدق ومهور غاليه
فإن تزوج الفتاة في الثامنة من سنها مما ينكره الطبع وتكاد تنكره الطبيعة، ولعله إنما كان يقع في الظاهر فقط ليملك أمرها، ثم لا يبتني عليها إلا متى أدركت كما نقل عن الرسول فيما ذكره ابن عبد ربه من أنه تزوج عائشة في السادسة من سنها، وابتنى عليها في التاسعة.
ولا يبعد أن تكون هذه العادة باقية إلى اليوم في بعض المدن الإسلامية، كما يؤخذ مما ذكره نيبهر
1
في كتابه في وصف بلاد العرب، وهو أحد من زارها سنة 1763، قال في معرض كلامه عن الجمع بين الزوجات: «سمعت في فارس أن امرأة وضعت في الثالثة عشرة من سنها.» قال: «وفي هذه البلاد تزوج البنات من التاسعة من أعمارهن.» وذكر أيضا في الجزء الثاني من كتابه هذا من بعض ما تختلف فيه أهل الجبال وأهل المدن: «إن بنات اليمن يتزوجن في التاسعة أو العاشرة من سنيهن، وأما بنات الجبال فيندر أن يتزوجن قبل الخامسة عشرة.»
ومهما يكن من مقدار العمر فلم تكن الفتاة تزوج في الغالب إلا من كان غريبا عنها لا تجمعها به صلة معرفة أو صلة نسب؛ أما صلة المعرفة فلأنهم كانوا شديدي الغيرة على أعراض النساء أن يلحق بهن ما يعرضن من أجله للظنة، حتى لقد كانوا يمنعون زواج الفتاة لمجرد سلام يسلمه عليها الرجل، فضلا عما إذا كان مشتهرا بهواها. قال عبد الشارق بن عبد العزي العزى:
ألا حييت عنا يا ردينا
نحييها وقد كرمت علينا
أي نسلم عليها وإن كان في السلام يأس منها. قال أبو رياش فيما نقله التبريزي في شرح هذا البيت: «قيل إن الرجل إذا عرف بحب امرأة لم يزوجوه إياها، فإذا سلم عليها عرف أنه يهواها.» وقريب من هذا فيما أظن قول الآخر:
وما لي من ذنب إليهم علمته
سوى أنني قد قلت: يا سرحة اسلمي
نعم فاسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي
ثلاث تحيات وإن لم تكلمي
وأما صلة النسب فلأن العرب كانت تعتقد أن الرجل إذا تزوج قريبة له جاء ولده ضاويا نحيفا. قال أعرابي:
ألا فتى نال العلا بهمه
ليس أبوه بابن عم أمه
ترى الرجال تهتدي بأمه
ولذلك جاء في الحديث: اغتربوا لا تضووا. أي تزوجوا في الأجنبيات ولا تتزوجوا في العمومة.
ولكنهم في ضد ذلك كانوا يتزوجون أحيانا بنساء آبائهم، كما ذكر الأصبهاني في آمنة بنت أبان أنه لما مات عنها أمية بن عبد شمس تزوجها من بعده ابنه أبو عمر. وقال: وكان هذا نكاحا تنكحه الجاهلية فأنزل الله تعالى تحريمه قال:
ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا
فسمي نكاح المقت.
وقد يتوهم كثير من الناس أن النساء في ذلك العهد، كن يتزوجن من يختاره لهن ذووهن ويكرهن على الاقتران بمن لا يعرفنه أو لا يرغبن فيه. وهذا، وإن كان يجري بعضه أحيانا، لا يصح في الإطلاق، بل كانت الأنثى مخيرة في الغالب تختار من تشاء، وتتزوج من تعرف إذا لم يكن ثم ما يمنع زواجها كما سبق مما يخشى منه على طيب الذكر، أو يبعث تحدث الناس. وقد جاء على ذلك شواهد كثيرة، أجتزئ منها بما نقلوه عن الخنساء الشاعرة من أنها كانت تهنأ بعيرا لها، ودريد بن الصمة يراها وهي لا تشعر به، فأعجبته فانصرف وأنشد أبياتا منها:
ما إن رأيت ولا سمعت به
كاليوم طالي أينق جرب
متبذلا تبدو محاسنه
يضع الهناء مواضع النقب
فلما أصبح غدا على أبيها، فخطبها إليه، فقال له أبوها: مرحبا بك أنك الكريم لا يطعن في حسبه، والسيد لا يرد في حاجته، ولكن لهذه الفتاة في نفسها ما ليس لغيرها، وأنا أذكرك لها. ثم دخل إليها وقال لها: يا خنساء، أتاك فارس هوازن وسيد بني جشم يخطبك وهو من تعلمين. فقالت: يا أبت أتراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرماح ومتزوجة شيخ بني جشم هامة اليوم أو غد. فلم يجبها أبوها بشيء مع رغبته في تزويجها لدريد، وخرج إليه، وقال: يا أبا قرة قد امتنعت، ولعلها أن تجيب فيما بعد. وسيأتي فيما عدا هذا دليل آخر أكثر صراحة يعلم منه كم كانت الأنثى يومئذ حرة في اختيار من تشاء ورفض من تشاء زوجا لها، وفي هذا الشاهد الذي نقلته عن الخنساء شاهد آخر بما تقدم ذكره من أن بعض النساء كن إذا أردن يخرجن حاسرات بلا نقاب، ولذلك قال دريد: متبذلا تبدو محاسنه.
ومما يزيد في فضل هذه المشيئة التي تركها العرب لفتياتهم في اختيار الزوج أن النساء في الجاهلية أو بعضهن كن يطلقن رجالهن، وكان طلاقهن أنهن إن كن في بيت من شعر حولن الخباء إن كان بابه قبل المشرق حولنه قبل المغرب، وإن كان بابه قبل اليمن حولنه قبل الشام، فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته، فلم يأتها كما حدث لحاتم الطائي مع امرأته ماوية مثلما هو مذكور في قصته. وقد قيل في حاتم هذا إنه كان نصرانيا، فإن صح هذا القول كان في تطليق امرأته له دليل على أن الطلاق كان مشتركا بين النصارى وعابدي الوثن، وهذا الموضع مهم للمشتغل بتاريخ النصرانية في الجاهلية والإسلام، فلينتبه إليه. ونظيره ما ذكر من تطليق امرئ القيس لامرأته أم جندب حين حكمت لعلقمة الفحل عليه عندما تحاكما إليها فيما قالاه من الشعر، وفي هذه القدرة التي كانت للمرأة على تطليق الرجل دليل ناطق بمقدار منزلتها في الجاهلية، بحيث كان لها من الحقوق قريب مما كان للرجل؛ تطلقه إن أنكرت منه سوء معاملة لها، أو تحامل عليها، أو رأته مهملا لمكانها مقبلا على ما تكره منه، وفي هذا من العدل والإنصاف ما لا يخفى على أحد.
ولم يكن الجمال في المرأة الجاهلية هو وحده المعين لها على الزواج، فإن كثيرين من الرجال كانوا يؤثرون فيها جمال النفس، وكمال الخلق وشرف النسب وكرم العنصر ودهاء الرأي، وذكاء الفهم سواء كانت مع ذلك حسناء، أو قبيحة، وأكثر ما كانوا يلتمسون فيها شهرة الأسم، وتطاير الصيت، فرب فتاة كانت خاملة الذكر مجهولة المكان متناهية الفقر لا يأتيها راغب ولا يخطبها خاطب، ثم اتفق ما نوه باسمها ونبه على منزلتها من شعر قيل فيها أو في مدح أسرتها، فما لبثت حتى أقبل عليها الطلاب من كل قبيلة يبذلون لها من المهر ما أغنى ذويها، وأدر عليهم أخلاف الرزق، كما روي عن المحلق الكلابي أنه كان له ثلاث أخوات قد كسدن عليه، وكان مع ذلك فقيرا سيء الحال، فاتفق أن مر ذات يوم به الأعشى الشاعر، فبادر وبعث إليه بالضيافة وأكرمه، فما كان بعد قليل حتى قال الأعشى شعرا سار وشاع في العرب، فما أتت على المحلق سنة حتى زوج أخواته الثلاث؛ كل واحدة على مائة ناقة وأيسر وشرف. وحكى صاحب الأغاني أيضا أن امرأة جاءت إلى الأعشى نفسه، وقالت له: إن لي بنات قد كسدن علي فشبب بواحدة منهن لعلها أن تنفق. فشبب بواحدة منهن، فما شعر الأعشى إلا بناقة بعثت إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: زوجت فلانة. فشبب بالأخرى، فأتاه مثل ذلك، فسأل عنها فقيل: زوجت. فما زال يشبب بواحدة فواحدة منهن حتى زوجن جميعا.
وأما الذكاء والفطنة فما من أحد يجهل قصة شن وما ألزم به نفسه من أن لا يتزوج إلا بامرأة تضاهيه في الدهاء، فكان يجوب البلاد في ارتياد طلبته إلى أن صادف في بعض أسفاره أبا طبقة، فسأله أسئلة لم يفطن لمغزاها، حتى فسرتها له ابنته طبقة تفسيرا حمل شنا على خطبتها وتزوجها، ونظير ذلك ما يحكى عن امرئ القيس من أنه كان قد أقسم ألا يتزوج امرأة حتى يسألها عن ثمانية وأربعة واثنين، فجعل يخطب النساء فإذا سألهن عن هذا قلن أربعة عشر، فبينما هو يسير في جوف الليل إذا هو برجل يحمل ابنة له صغيرة فأعجبته، فقال لها: يا جارية ما ثمانية وأربعة واثنان؟ فقالت: أما ثمانية فأطباء الكلبة، وأما أربعة فأخلاف الناقة، وأما اثنان فثديا المرأة. فخطبها إلى أبيها، فزوجه إياها واتفق له معها قبل الزواج ما يدل على شدة ذكائها ووفرة عقلها مما لا أنقله لطوله. وفي هذه الحكاية دليل أيضا على ما سبق التنبيه عليه من أن بعض الفتيات كن يتزوجن في سن حدث، وهو قول صاحب الرواية عن الرجل الذي لقيه امرؤ القيس أنه كان يحمل ابنة له صغيرة، ولم يمنعه صغرها مع ذلك من تزويجها.
القسم الثاني
تقدم في القسم الأول وصف المرأة الجاهلية في حياتها المادية، وسأصف في هذا القسم حياتها الأدبية، وما كان لها من المنزلة والتأثير في أسرتها وبين قومها، وأول ما أذكر من ذلك سلطتها على القلوب واستيلاؤها على الأفكار، حتى كانت مفتتح كل قول ومنصرف كل حديث، كالبسملة تقدم بين يدي كل كلام، وكالقبلة ينثني إليها وجه كل داع، بحيث لم يكن من شعر ينظم إلا يقف الشاعر في مطلعه يحيي المرأة تحية خاشع لها خاضع، ويصف في مستهله شوقه إليها صفة هائم بمحاسنها مفتون بمحبتها، وما برحوا يعتقدون ذلك فرضا واجبا عليهم، حتى عم ذكر المرأة سائر أقوالهم ومنظوماتهم مهما اختلفت فيها الأحداث النفسانية، فصاروا يذكرونها في غير مقامات الصبابة وفي حين لا داعي إلى ذكرها، كفي أحيان الغضب مثلا وطلب الثأر مما لا يبقى للنفس فيه محل لرقة القلب ووصف الأشواق، والشواهد على ذلك كثيرة، أجتزئ منها بواحد آخذه من شعر لذي الإصبع العدواني، قاله في ابن عم له كان يعاديه ويبغيه شرا، فلما هاج به هائج الغيظ قال فيه قصيدة افتتحها بذكر امرأة له اسمها أم هارون أولها:
يا من لقلب شديد الهم محزون
أمسى تذكر ريا أم هارون
وأتبع ذلك بأبيات في مثل هذا المعنى وصف فيها الشوق وحرقة البعد، ثم وقف فجأة فقال:
لي ابن عم على ما كان من خلق
مختلفان فأقليه ويقليني
فجمع في قصيدة واحدة بين صفة الحب وصفة البغض، وما أبطأت مثل هذه العادة أن تملكت من كل الخواطر، حتى صار النسيب وهو وصف المرأة وذكر الأشواق؛ واجبا لا بد منه في مطلع كل قصيدة، ولا سيما قصائد المدح، كما يشاهد في المنقول من شعر العرب؛ ولذلك لما أنكر الحسن بن زيد على ابن المولى ذكره النساء في شعره وتشبيبه بهن وقال له: من ليلى هذه التي تصفها في شعرك؟ قال له ابن المولى: ما هي إلا قوسي هذه، سميتها ليلى لأذكرها في شعري؛ لأن الشعر لا يحسن إلا بالتشبيب. ووقع لابن المولى هذا مثل هذه القصة مع عبد الملك بن مروان لما قال له: أخبرني عن ليلى التي تقول فيها:
وأبكى فلا ليلى بكت من صبابة
إلي ولا ليلى لذي الود تبذل
والله لئن كانت حرة لأزوجنك إياها، ولئن كانت أمة لأبتاعنها لك بما بلغت. فقال: كلا يا أمير المؤمنين، ما كنت لأذكر حرمة حر ولا أمته، ما ليلى إلا قوسي هذه سميتها ليلى لأشبب بها. فقال له عبد الملك: ذلك أظرف لك. وزاد المتأخرون تمسكا بهذه العادة حتى أصبح كل شاعر عندهم مضطرا أن يتعشق ويصف النساء في مقدمة شعره ولو لم يكن متيما بهن، وقد أنكر ذلك عليهم المتنبئ:
إذا كان مدح فالنسيب المقدم
أكل فصيح قال شعرا متيم
وعلى كل فإن لم يكن بد من النسيب والتغزل في الشعر، فكل ذي حظ من الأدب يؤثر معي طريقة العرب الأقدمين في التشبيب بالنساء والشكوى من بعادهن والتشوق لقربهن على هذه الطريقة القذرة، التي ولع بها المولدون من التغزل بالغلمان وذكر أوقات الاجتماع بهم، وما يرتكب في خلالها من ضروب المحرمات وأصناف الفسق، مما أخذوه - ولا بد - عمن خالطهم بعد الجاهلية من الأعاجم، ولينظر أي فرق بين نسيب العرب وبين تغزل المولدين، فإن شعر الأولين كان في الغالب عفيفا، إذا أنشدته العذراء في خدرها لم تستحي له، بخلاف الثاني مما يرجع الفضل فيه إلى تأثير المرأة على أفئدة العرب وحفظها لآدابهم.
وقد كانت المرأة عالمة بهذه المنزلة التي لها في القلوب، فكانت تستخدمها، لا لتبلغ مآربها، ولكن لتبعث روح الحمية والإقدام في نفوس قومها، وتضرم في أفئدة الشبان نار الشجاعة والغيرة، وتحملهم بما لها من النفوذ في أهوائهم على الترفع عن الدنايا واجتناب مساوئ الأخلاق. وقد نقل عن بعض نساء بني كنانة، لما خشيت من خيل تغير على حيها، أنها خرجت من خيمتها وكانت حسناء تامة الحسن، وجلست بين صواحب لها، ثم دعت وليدة من ولائدها وقالت: ادعي لي فلانا. فدعت لها رجلا من الحي، فقالت له: إن نفسي تحدثني أن خيلا تغير على الحي، فكيف أنت إن زوجتك نفسي؟ فقال: أفعل وأصنع. وجعل يصف نفسه فيفرط، فقالت له: انصرف حتى أرى رأيي. وأقبلت على صواحباتها فقالت: ما عنده خير، ادعي لي فلانا. فدعت آخر، فخاطبته فأجابها بمثل جوابه فقالت له: انصرف حتى أرى رأيي. وقالت لصواحباتها وما عند هذا خير أيضا. ثم قالت للوليدة: ادعي لي ربيعة بن مكدم. فقالت له: مثل قولها للرجلين، فقال لها: إن أعجز العجز أن يصف الرجل نفسه، ولكني إن لقيت أعذرت، وحسب المرء غناء أن يعذر. فقالت له: قد زوجتك نفسي، فاحضر غدا مجلس الحي ليعلموا ذلك. فلما كان الغد تزوجها وخرج من عندها ودافع الخيل عنها خير دفاع، فلينظر كيف أن هذه المرأة لما كانت عارفة بمقدار السلطة التي لها على النفوس، ورأت أن المقام حينئذ أصبح حرجا واحتاج الحي إلى من يرد عنه هجمات العدو؛ بذلت نفسها جائزة لمن يحمي حوزتها، ولم تبخل بجمالها على أول فارس رأت فيه الكفاءة للدفاع، وإن كانت ربما لم تر فيه الزوج الذي يهواه قلبها.
ومن أظهر الدلائل الشاهدة بما كان للمرأة من التأثير في أفئدة قومها، ما نقل عن ابنتي الفند الزماني يوم التحالق، أنها لما اشتدت الوغي وحمي القتال وخاف بنو بكر من الفرار، عمدت إحداهما إلى أثوابها فألقتها عنها وأقبلت عارية مجردة، وجعلت تحض الناس وتنشد الأشعار، ثم اقتدت بها أختها الأخرى فكشفت عن جسمها، ووثبت بين القوم تحرض الفرسان على القتال وهي تنشد:
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق
أو تدبروا نفارق
فتحمس القوم وثارت في رءوسهم حمية الجاهلية، ووثبوا يتقاتلون قتالا منكرا، ولا جرم أن المتأدب بآداب هذا العصر يستفظع فعل هاتين الفتاتين وينسبهما إلى القحة والفجور، كما اتهمهما بذلك بعض الرواة، ولكن من راجع ما ذكرته من معرفة المرأة بسلطتها على الأفكار وتأثيرها في النفوس، وتدبر أخلاق أهل الجاهلية وصحة آدابهم؛ قضى أنهما لم تفعلا ما فعلتا إلا لتضرما في صدور المتقاتلين نار الغيرة على حماية الأعراض، ودفع العار الذي يلزم من الفرار، دون أن يخطر لهما ببال أن ظهورهما بذلك المظهر قد ينكر عليهما أو ينسب إلى سفاهة وفجور؛ نظرا للعفة التي كانت متصفة بها المرأة في الغالب، وحرصها على صيانة النفس من الانقياد إلى ما يأمر به داعي الشهوات والاستسلام إلى أميال الرجل، حتى فيما كان يجري بينهما من مطارحات الحب وأحاديث الغرام، مما لا يبقى للنفس معه قدرة على كبح جماح الهوى والإغضاء عن مطالب القلب. ولذلك كان بعض النساء، لشدة تمسكهن بأذيال العفة، إذا اشتد بهن الغرام يؤثرن الموت طاهرات على التلطخ بأوضار الإثم. وقد عرفت بذلك خاصة قبيلة بني عذرة واشتهر عنها، حتى كان العرب إذا أرادوا أن يصفوا الحب الطاهر قالوا عنه حب عذري، نسبة إلى هذه القبيلة، كما يقال عند غيرهم حب أفلاطوني.
بيد أن المرأة كانت، مع هذه الحصانة والنزاهة، كثيرا ما تعرض للتهمة وسوء الظن، فيحل بها البلاء على غير استحقاق، وذلك أن العرب لشدة غيرتهم كانوا إذا أراد أحدهم سفرا عمد إلى شجرة فعقد غصنين من أغصانها، وهو ما كانوا يسمونه بالرتم، فإن رجع وكان الغصنان على حالهما، قال إن امرأته لم تخنه، وإلا فقد خانته. وعلى ذلك فإن عرض المرأة ونقاءه كان موكولا إلى رحمة القدر، متوقفا على غصنين ربما هبت الريح ففصلتهما، أو عمد إليهما بعض من له حاجة فحل عقدهما، ومن ثم لا يخلو أن يكون بعض ما نقل من الأبيات التي اتهمت فيها المرأة بالخيانة وبذل العرض مسببا عن مثل ذلك، وبالتالي جديرا بالاطراح في مقام الحكم والاستشهاد.
ومن النساء اللواتي اشتهرن بالعفة ليلى بنت لكيز الملقبة لذلك بالعفيفة، وكانت تامة الحسن كثيرة الأدب، خطبها كثيرون من أشراف العرب وأبناء الملوك، فصانت نفسها تعففا عنهم، وعن ابن عمها البراق بن روحان مع رغبتها فيه، ثم سمع بها ابن لكسرى ملك العجم، فبعث من اختطفها وحملها إليه، وأرادها على التزوج به فأبت، فجعل يضيق عليها ويضربها، وهي لا تزداد إلا منه نفرة وعنه تصونا، حتى استنقذها ابن عمها البراق. وهي القائلة عن ابن كسرى لما جعل يعذبها:
يكذب الأعجم لا يقربني
ومعي بعض حساسات الحيا
على أن هذه العفة الغالبة لم تكن لتثني بعض النساء عن حب الفجور وإيثار السفاح؛ فإن العواهر لا يخلو منهن مكان، ولا تسلم من آفتهن أمة، غير أن أكثر ما كانت تأتيهن العرب إذا وفد الليل وخيم الظلام، حتى إذا هموا بالرجوع أرخوا أزرهم لتنجر على آثارهم فلا تبين، كما ذكر ذلك التبريزي في شرح قول العوراء بنت سبيع:
طيان طاوي الكشح لا
يرخي لمظلمة إزاره
ويؤخذ من قول الآخر:
ألا رجلا جزاه الله خيرا
يدل على محصلة تبيت
إن المرتاد لهن كان إذا لم يهتد إلى موضع إحداهن لا يدع أن ينشدها مسترشدا إليها، ومعنى المحصلة هنا المرأة التي تختلف إليها الرجال، كما هو الأشبه والأظهر في المراد من هذا البيت، لا التي تحصل تراب المعدن وتميزه كما نقل في تفسيرها صاحب كتاب النوادر في اللغة.
ولكن أين مكان هؤلاء المومسات من سائر نساء العرب اللواتي كن لشدة إيثارهن للعفاف لا يقنعن لأجله بالترفع عن ملابسة المحرمات واقتراف المحظورات، بل يطمحن إلى ما هو أسمى من ذلك همة وأجل فضيلة ويصن النفس أيضا عما هو حل لهن مباح، حتى لقد كانت الفتاة المضطرمة شبابا يعرض عليها الزوج فتأباه لاعتقادها عدم كفاءتها له، أو تؤثر الدميم الخلقة الشريف النسب المشهور بالشجاعة على الصبيح الوجه الضئيل النسب المعروف بالجبن، ثم لا تتزوج الأول حتى تحمله بما استقر لها من السلطة في فؤاده على فعل ما يكسبه الفخر وترامي الصيت بين قبائل العرب، وأنا ناقل في الاستشهاد على ذلك قصة لا أحسب أن التاريخ أورد مثلها عن أمة مثل العرب نشأت في القفار لا أدب لها مكتسب إلا آدابها النفسانية، وهي ما حكاه صاحب الأغاني عن الحارث بن عوف، أنه خطب إلى أوس بن حارثة الطائي ابنته ومعه خارجة بن سنان، فرده أوس لأول وهلة، ثم أجابه وقال لزوجته: ادعي لي فلانة. لأكبر بناته فأتته فقال: يا بنية، هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب، قد جاءني خاطبا وقد أردت أن أزوجك منه، فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. قال: ولم. قالت: لأني امرأة في وجهي ردة (أي قبح) وفي خلقي بعض الشدة، ولست بابنة عمه فيرعى قرابتي، وليس بجارك في البلد فيستحييك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي في ذلك ما فيه. قال: قومي بارك الله عليك، ادعي لي فلانة. لابنته الوسطى فدعتها، فقال لها مثل قوله لأختها فأجابته بمثل جوابها وقالت: إني خرقاء ليست بيدي صناعة، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني، فيكون علي في ذلك ما تعلم. فقال قومي بارك الله عليك، ادعي لي بهية. يعني الصغرى فقال لها كما قال لهما. فقالت: أنت وذاك. فقال: إني قد عرضت ذلك على أختيك فأبتاه. فقالت - ولم يذكر لها مقالتيهما: لكني والله الجميلة وجها الصناع يدا الرفيعة خلقا الحسيبة أبا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير. فقال بارك الله عليك. ثم خرج إلى الحارث فقال له: قد زوجتك يا حارث بهية بنت أوس. قال: قد قبلت. فأمر أمها أن تهيئها وتصلح من شأنها، ثم أمر ببيت فضرب له وأنزله إياه. قال خارجة بن سنان: فلما هيئت العروس بعث بها إليه، فلما أقبلت عليه لبث هنيهة، ثم خرج إلي فقلت: أبلغت شأنك؟ قال: لا. قلت: وكيف ذلك؟ قال: لما دنوت منها قالت: مه، أعند أبي وإخوتي؟! هذا والله ما لا يكون.
قال: فأمر بالرحلة فارتحلنا وسرنا ما شاء الله، ثم قال لي: تقدم. فتقدمت، وعدل بها عن الطريق، وما لبث أن لحق بي فقلت: أكان ما تحب؟ قال: لا والله. قلت: ولم؟ قال: قالت لي: أكما يفعل بالأمة الجليب أو الأخيذة السبي؟! لا حتى تنحر الجزر وتذبح الغنم وتدعو العرب وتعمل ما يعمل لمثلي. قلت: إني لأرى همة وعقلا، وأرجو أن تكون المرأة منجبة إن شاء الله. فرحلنا حتى جئنا بلادنا، فأحضر الإبل والغنم، ثم دخل عليها وخرج إلي فقلت: أبلغت ما تريد؟ قال: لا. قلت: ولم؟ قال: دخلت أريدها وقلت لها: قد أحضرنا من المال ما قد ترين. قالت: لقد ذكرت لي من الشرف ما لا أراه فيك. قلت: وكيف؟ قالت: أتفرغ لزواج النساء، والعرب تقتل بعضها؟! وذلك في أيام حرب عبس وذبيان. قلت: فيكون ماذا؟ قالت: اخرج إلى هؤلاء القوم، فأصلح بينهم ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتك. فقلت: والله إني لأرى همة وعقلا، ولقد قالت قولا فاخرج بنا. فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح واحتملنا عنهم الديات فكانت ثلاثة آلاف بعير، وانصرفنا بأجمل الذكر. انتهى ببعض تصرف. فهل سمع قط بمثل هذه العفة الشريفة والعقل الراجح؟ يعرض على الفتيات في شرخ صباهن سيد من سادات العرب فتأباه بعضهن بدعوى أنها لا تصلح له، وترضاه إحداهن وبدلا من أن تتمتع بما أحل لها تصون عنه النفس تعففا؛ أنفة من أن تشتغل بلذتها، بينما الناس يقتل بعضهم بعضا. لا غرو أن مثل هذه العفة في مثل تلك الهمة لغريبة في مثل تلك الفتيات اللواتي لم يصحبن إلا الوحش في الفلوات.
وفي هذا الشاهد شواهد أخر جاءت مثبتة لبعض ما تقدم ذكره من موضوعات هذا البحث، أنبه عليها تعزيزا للدعوى، فمنها شاهد بأن الفتيات كن لا يغصبن على التزوج بمن لا يردنه، بل تعرض عليهن في الغالب الأزواج فيخترن من يشأن ويرفضن من يشأن. ومنها سلطة المرأة على الرجل وتأثيرها في أفكاره وأعماله، بحيث كان يأتمر بأمرها ولا يعصي لها نهيا. ومنها عناية بعض الأسر الكريمة بتعليم فتياتهن بعض الصنائع اليدوية، واعتقاد هؤلاء الفتيات تعلمهن لها من أفضل واجبات المرأة الكاملة وأهم الضروريات المعينة على الزواج، خلافا لما تقدم من أنفة أكثر النساء من الامتهان وتجافيهن عن الصناعات للإماء والحرائر غير العريقات في الشرف.
وقد كانت النساء لهذه العفة التي وصفت حريصات على سمعتهن، يغرن عليها غيرتهن على شرف أسرتهن، فكن يرضين بكل شيء خلا قبح الأحدوثة، ويؤثرن الموت على فعل ما يغض من ذكر قومهن أو يلحق بهن العار. وقد جاء عن فاطمة بنت الخرشب، وهي إحدى النساء المنجبات، وكان يقال لبنيها الكملة؛ أنه لما ظفر بها حمل بن بدر راكبة وقادها بجملها، قالت له: أي رجل، هل ضل حلمك؟ والله لئن أخذتني فصارت بي وبك هذه الأكمة التي أمامنا وراءنا، لا يكون بينك وبين بني زياد صلح أبدا؛ لأن الناس يقولون في هذه الحال ما شاءوه، وحسبك من شر سماعه. قال: إني أذهب بك حتى ترعي علي إبلي. فلما تيقنت أنه ذاهب بها، رمت بنفسها على رأسها من البعير فماتت؛ خوفا أن يلحقها أو يلحق بنيها عار فيها.
لا جرم إن أن اجتماع مثل هذه الخصال الشريفة في المرأة الجاهلية كان نتيجة حسن تأديب والديها لها، وأخص بفضل هذه التربية المرأة نفسها، وإن كان للرجل فيها حظ ونصيب، فإن الوالدة كانت للأدب الذي نشأت عليه تحرص على تهذيب ابنتها بمثل ما هذبت به نفسها، وتعنى ببث روح العفة وعزة النفس في فؤداها، حتى إذا ترعرعت خرجت نظيرها لا همة لها إلا كرم الأخلاق وطيب الخصال، ولا رغبة إلا في نقاء العرض وحسن الذكر، كما يشهد بذلك ما ذكر قريبا عن بنات أوس الطائي وتصرف الصغرى منهن خاصة مع زوجها. وقد نقل الرواة وصية أوصت بها امرأة عوف بن محلم الشيباني ابنتها لما خطبها عمرو بن حجر ملك اليمن، يعلم منها مبلغ التربية التي كانت تربي بها النساء فتياتهن في الجاهلية، ومنهج التأديب الذي كن ينهجنه في تعليمهن كيف يستسرن في المنزل، ومع الزوج إذا دفعن إلى الزواج، ومنها يستدل على مقدار الحكمة التي كانت متصفة بها الأنثى في الجاهلية، ووفرة العقل الذي كانت تستضيء برأيه في كل أمر تباشره أو خطة تجري عليها، وقد نقل عنها من الأقوال الآخذة بمجامع السداد المستولية على لب الصواب ما يشف عما كان يتقد فيها من الذكاء والنباهة. ومن طالع أقوال هند بنت الخس، إحدى حكيمات العرب الأربع، وما كان يدور بينها وبين أبيها من الأحاديث؛ تيقن صحة ما ذهبت إليه، واستدل بهذه الآثار على رفعة المكانة التي بلغتها المرأة في تلك القفار.
ومع كل ذلك لم تكن الأنثى تكتفي بهذه الفضائل، بل كانت تطمح إلى كثير من مزايا الرجل فتشاركه فيها: كالكرم والشجاعة والخوض في معامع الحروب والحرص على إدراك الثأر مما هو خاص بالرجل مشهور به وحده.
أما الكرم فإنها كانت لا تفرغ يومها أجمع من استقبال الضيوف وبذل القرى لهم، ولو لم يحضرها في ذلك زوجها، ومن المشتهرات بالجود والسخاء سفانة بنت حاتم الطائي، كان أبوها يعطيها القطعة من الإبل بعد القطعة فتهبها وتعطيها للناس، فقال لها حاتم: يا بنية، إن القرينين إذا اجتمعا في المال أتلفاه، فإما أن أعطي وتمسكي أو أمسك وتعطي؛ فإنه لا يبقى على هذا شيء. فقالت: لا أمسك أبدا. قال: وأنا لا أمسك أبدا. فقاسمها ماله وتباينا. ولما كان الكرم داعيا إلى الشجاعة كانت المرأة لا ترهب من شهود القتال، ولا تخشى الخوض في ساحات الوغى، ولست أعني بذلك أنها كانت تعتقل الرمح وتتقلد السيف وتبرز لمطاعنة الرجال، بل أنها كانت تخرج لتحرض فرسان قومها على الثبات في مدافعة العدو، وتؤجج في قلوبهم نار الحمية بما تهيجهم به من الأقوال الحماسية والمظاهر التي تلتهب لها الصدور غيرة، كما ذكرت عن ابنتي الفند الزماني، ومثلما يشاهد اليوم في بدويات العصر. ولايزال إلى الساعة صدى القفر يردد قول الزرقاء: ألا أن إن خضاب الرجال الدماء، وخضاب النساء الحناء. وقد نقل ابن عبد ربه في كتابه العقد الفريد جملة من مثل هذه الأقوال والخطب الحماسية المحفوظة عن أشهر النساء، فلتطالع هنالك.
ولقائل أن يقول إن غير ذلك كان أولى بالمرأة، وإنها لو انصرفت عن تهييج القوم على سفك دماء بعضهم إلى معالجة الجريح منهم وإعانة الملهوف، لكان أشبه بها وأزين لها. فأجيب إن المرأة إنما كانت تفعل ما تفعله لا رغبة في إراقة الدماء، ولكن لعلمها أن قومها إذا صدقوا القتال وأحسنوا الدفاع، حموا بذلك عرضها من أن تخلص إليه يد الغالب فتدنسه بما يكون سبة الأبد وعار الدهر، فضلا عن أن بعض النساء كن إذا شهدن الحرب ورأين الصريع من قومهن، يبادرن إليه فيعصبن جراحه ويعالجنه بما استطعن؛ كما حكي عن نساء بني بكر يوم التحالق أنهن تقلدن كل واحدة إداوة من ماء في يد، فكن إذا مررن بصريع من قومهن سقينه الماء ونعشنه، ولكنهن في ضد ذلك أخذن هراوة في اليد الأخرى، وكن إذا مررن على رجل من الأعداء ضربنه بها وأجهزن عليه.
وأما الحرص على إدراك الثأر فقد يظهر أن المرأة كانت لا ينام لها وتر ولا تغفل عن طلب الانتقام، وربما كانت تتشدد في هذا الطلب أكثر من الرجل، وتنبهه إليه إذا رأته مهملا له، مثلما ذكر عن ريحانة بنت معدي كرب أنها قالت لدريد بن الصمة بعد حول من مقتل أخيه: يا بني، إن كنت عجزت عن طلب الثأر بأخيك فاستعن بخالك وعشيرته. فأنف من ذلك وحلف لا يكتحل ولا يدهن ولا يأكل لحما ولا يشرب خمرا حتى يدرك ثأره، وما لبث حتى جاءها بقاتل أخيه وقتله بفنائها، وقال: هل بلغت ما في نفسك؟ قالت: نعم متعت بك. ولست أنكر أن مثل هذا الحرص على سفك الدم تشفيا وانتقاما مما لا تمدح به المرأة الجاهلية، وإن كان لها بعض العذر فيه؛ لكون القتيل قريبا لها من ذوي رحمها، وممن يعد الطلب بثأره والحقد على قاتله طبيعة لكل نفس، فإن مثل هذه الصفة هي بالرجال أجدر، لا سيما وأنهم كانوا يحسبون القعود عن طلب الثأر إقرارا بالعجز والجبن، وهو ما كانوا يأنفون منه. ومثل ذلك أنكر بعض الناس من المرأة سجيتي الكرم والشجاعة، وآثروا لها في ضدهما البخل والجبن، حتى كانوا إذا مدحوا الفاضلة من النساء مدحوها بهما وعدوهما فخرا وزينا لها، كما قال الطغرائي في لاميته:
قد زاد طيب أحاديث الكرام بها
ما بالكرائم من جبن ومن بخل
وإنما ذهبوا هذا المذهب لاعتقادهم أن المرأة إذا كانت كريمة تجود بمالها، لا تبطئ أن تجود بعرضها أيضا! وإذا كانت شجاعة قد تعودت مشاهدة الأبطال ولقاء الرجال، لا تلبث أن تألفهم فلا تستتر منهم وتعرض نفسها للاتهام بهم! قال الصفدي في شرح البيت المتقدم: «الجبن والبخل خصلتان محمودتان في النساء، مذمومتان في الرجال؛ لأن المرأة، إذا كان فيها شجاعة، ربما كرهت بعلها فأوقعت به فعلا أدى إلى هلاكه، أو تمكنت من الخروج من مكانها على ما تراه؛ لأنه لا عقل لها يمنعها مما تحاوله، وإنما يصدها عما يقتضيه عقلها الجبن الذي عندها والخور، فإذا لم يكن لها مانع من الجبن أقدمت على كل قبيح وتعاطت ما تختاره، إقداما منها على ما يأمرها به الشيطان، وإذا كانت المرأة سمحة جادت بما في بيتها فأضر ذلك بمال زوجها، ومتى علم منها الجود بما يطلب منها، ربما حصل الطمع فيها بأمر آخر وراء ذلك.» ولعل مثل هذه الاعتبارات تصدق في غير المرأة الجاهلية؛ فقد سبق في عفة هذه وصحة آدابها وأصالة رأيها ما يغني عن التكرار ويزيل كل شك وارتياب.
ومما شاركت الرجل فيه أيضا، وساوته به إذا لم أقل أبرت عليه في بعض أقسامه؛ قول الشعر؛ فإنه كان أيسر فضائلها وأهون شيء عليها ترسل الكلام فيه إرسالا، فيأتي محكما صادق الوصف، مستوليا على أقصى آماد الفصاحة، قد جمع بين مثل رشاقة قدها وسحر مقلتها، وأخذ من صحة آدابها بأجزل قسم، ومن رقة فؤادها بأوفى نصيب، ولذلك كانت أكثر ما تجيد في المراثي خاصة، كما يرى في شعر الخنساء في أخويها صخر ومعاوية، ولهذه السجية المطبوعة على النظم كان لا يخلو منه قول لها جدا كان أم هزلا، فإذا أنامت غلامها، أو أرقصت فتاتها، أو فاخرت جارتها، أو مدحت قوعها، أو بكت فقيدها؛ ذكرت ذلك كله بمنظوم، ربما كان الغالب عليه الرجز، وقد كان العرب يعرفون لها هذه المنزلة في الشعر. حتى إن النابغة الذبياني - وكان يجلس لشعراء العرب في عكاظ على كرسي ينشدونه فيفضل من يرى تفضيله - لما أنشدته الخنساء في بعض المواسم أعجب بشعرها، وقال لها: لولا أن هذا الأعمى أنشدني قبلك، يعني الأعشى، لفضلتك على شعراء هذا الموسم. وقد نقل التاريخ فيما عداها أسماء شواعر كثيرات ممن حفظ الرواة شعرهن، تضمن منه الجزء الأول وحده من ديوان رياض الأدب المطبوع في المطبعة الكاثوليكية في بيروت شعر نحو إحدى وستين شاعرة في الرثاء فقط، فليطالعه من يشاء، وكفى دليلا على رفعة مكانة المرأة في الفصاحة وجلالة قدرها في النظم أن أبا تمام، ومعلوم من هو، لما ألف كتابه المشهور بالحماسة، الذي انتقاه من أجود شعر العرب، لم يجد بدا من تضمينه أقوال كثيرات من النساء الشواعر، بل أن امرأ القيس نفسه لما اختلف هو وعلقمة الفحل في أيهما أشعر، لم يجد من يحاكمه إليه إلا امرأة كان قد تزوجها من قبيلة طيء، فأنشدها شعرا وأنشدها علقمة شعرا، فحكمت لعلقمة عليه لبيت وصف فيه امرؤ القيس فرسا فقصر، وحسبي بهذا الشاهد فلا أتخطاه إلى غيره لتعريفه بالقدرة الراجحة التي كانت للمرأة على قرض الشعر أو نقده، حتى كان يتقاضى إليها فيه فحول الشعراء من الرجال.
ولا ريب أن الفرزدق نفسه لو كان قد أدركها في الجاهلية وسئل عنها لما اجترأ أن يجيب بمثل ما أجاب به حين قيل له أن فلانة تقول الشعر فقال: «إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فلتذبح!» فإن هذه الدجاجة التي لم تكن تصلح عنده إلا للذبح، كانت هي نفسها تصلح أحيانا للديك صياحه، كما نقل عن جواري المدينة أنهن أصلحن للنابغة الذبياني ثلاثة أبيات من شعره كان قد أقوى فيها. قال المرزباني في الموشح: فقدم المدينة فعيب عليه ذلك، وأسمعوه إياه في غناء، وأهل القرى ألطف من أهل البدو، وكانوا يكتبون جواريهم عند أهل الكتاب، وفي هذا القول شاهد آخر جاء اتفاقا من غير عمد على أن بعض النساء في الجاهلية كن أيضا يحسن الكتابة والقراءة فضلا عما سبق من فضائلهن، وهذا - ولا جرم - من أغرب ما تمتدح به الأنثى في تلك الأعصار، ومن أفضل ما تعرف به حياتها الأدبية في تلك الأقطار، وليكن آخر ما أذكره من أوصافها وقوفا عند الحد الذي رسمته لنفسي في هذا المختصر، ولو أردت أن أستقصي وأبلغ الغاية في الوصف للزمني مجلد كامل؛ إذ كان لا يكشف الكشف الوافي عن هذا البحث إلا سرد القصص والروايات، وهي ما يضيق عنها المقام.
ولا محالة أن الناظر في هذه النبذة اليسيرة المتصف بالنزاهة والتجرد عن الهوى؛ يقف وقفة الدهش والاستغراب عندما يتأمل رفعة المنزلة التي بلغتها المرأة في الجاهلية، ويرى أنها قد خلقت فيها لغير قضاء الشهوة وخدمة اللذة، وبالتالي أنها لم تكن لعبة الرجل ولا نعلا له يلبسها متى شاء، كما ذكر فيها بعض واصفيها من المخضرمين. ومع ذلك فقد وجدت كثيرين يبخسونها حقها، أو يساوون بينها وبين غيرها من الإناث، ويجمعونهما تحت حكم واحد جهلا لا محالة بالصحيح وقياسا لإحداهما على الأخرى، وقد ذكرت في الأولى منهما ما وسعني ذكره مما يظهر به الفرق بين المرأتين ويتضح الحق لذي عينين.
فإياك واسم العامرية إنني
أغار عليها من فم المتكلم
Página desconocida