(الخاصة الثانية للقوة النظرية): هى أن تصفو النفس صفاء يكون شديد الاستعداد والاتصال بالعقل الفعال حتى يفيض عليها العلوم فان النفوس منقسمة إلى ما يحتاج إلى التعليم وإلى ما يستغنى عنه والمحتاج إلى التعليم منه ما يؤثر فيه التعليم وإن طال تعبه ومنه ما يتعلم سريعا وقد يوجد من يستنبط الشىء من نفسه من غير معلم بل العلوم كلها لو تؤملت لوجدت مستنبطة من النفوس فان المعلم الأول لم يكن متعلما من معلم بل يرتقى ذلك إلى من عرف من نفسه وما من ناظر إلا وهو يذكراستنباطات كثيرة وقد استنبطها من نفسه من غير معلم وذلك بأن تخطر النتيجة بباله فيتنبه للحد الأوسط كأنه الذى فى نفسه من حيث لا يدرى أو يبتدر للحد الأوسط فتحضر النتيجة كمن نظر إلى سقوط الحجر إلى أسفل فيخطر له أنه لولا اختلاف الجهتين لما كان الحجر ينزل من أعلى إلى أسفل ثم يخطر له أن اختلاف الجهتين لا يكون إلا فى البعد من جسم والقرب منه وذلك لا يتصور إلا بمحيط ومركز فينكشف له بذلك أن السماء هى محيطة ولا بد من وجودها أو ينظر فى حدوث الحركة فيخطر له أن كل حادث فلا بد له من سبب حادث ويتسلسل ذلك إلى غير نهاية ويعرف أن ذلك لا يمكن إلا بحركة دورية ثم يسبق له أن الحركة الدورية لا تكون بالطبع فانها رجوع الى ما فارقته من الوضع فيحتاج الى النفس والنفس إلى العقل كما سبق فهذا وأمثاله غير محال وإذا خطر فليس بمحال أن يتمادى إلى آخر المعقولات إما في زمان طويل أو قصير ومن انكشفت له هذه المعقولات كلها فى زمان قصير من غير تعلم فيقال أنه نبى أو ولى ويسمى ذلك كرامة أو معجزة للنبى وهو ممكن وليس بمحال وإذا كان يمكن التصور إلى حد يمتنع عن الفهم من التعلم جاز أن يترقى الكمال إلى حد يغنى عن التعليم وكيف لا يمكن هذا وكم من متعلمين في مدة واحدة يسبق أحدهما الآخر بحقائق العلوم مع أن اجتهاده أقل من اجتهاد المسبوق ولكن شدة الحدس وقوة الذكاء أعطته ذلك فالزيادة فى فى هذا من الممكنات.
(الخاصة الثالثة للقوة المتخيلة): أن النفس قد تتقوى كما سبق وتتصل فى اليقظة بعالم الغيب كما سبق وتحاكى المتخيلة ما أدركت بصور جميلة وأصوات منظومة فيرى فى اليقظة ويستمع ما كان يراه ويسمعه في النوم للسبب الذى ذكرناه فتكون الصور المحاكية المتخيلة للجوهر الشريف صورة عجيبة فى غاية الحسن وهو الملك الذى يراه النبى أو الولى أو يكون المعارف التى تصل إلى النفس من اتصالها بالجواهر الشريفة يتمثل بالكلام الحسن المنظوم الواقع فى الحس المشترك فيكون مسموعا فهذا أيضا ممكن غير مستحيل فهذه طبقات النبوة ومن اجتمعت له هذه الثلاثة فهو النبى الأفضل وهو فى الدرجة القصوى من درجات الانسان وهى متصلة بدرجات الملائكة لكن الأنبياء فى هذه يتفاضلون يكون للواحد منهم خاصيتان من هذه الثلاث وقد يكون له خاصة واحدة وقد لا يكون إلا مجرد الرؤيا وقد يكون له من كل واحدة شىء ضعيف وبه يتفاوت منازلهم فى القرب من الله تعالى وملائكته.
(العاشر): فى إثبات أن النبى لا بد له أن يدخل تحت الوجود وأن يصدق بدخوله فى الوجود وذلك أن العالم لا ينتظم إلا بقانون مسموع بين كافة الخلق يحكمون به بالعدل والا تقاتلوا وهلك العالم وكما لا بد لنظام العالم من المطر مثلا والعناية الالهية لم تقتصر عن إرسال السماء مدرارا فنظام العالم لا يستغنى عمن يعرفهم وجه صلاح الدنيا والآخرة ولا يشتغل بذلك كل واحد وهذا النظام موجود فى العالم فاذن سبب النظام موجود ومن هو سبب النظام فى العالم فهو خليفة الله فى أرضه إذ بواسطته يتم فى خلق الله تعالى الهداية إلى مصاح الدنيا والآخرة وإلا فالخلق دون الهداية لا يفضى إلى خير ولذلك قال تعالى (قدر فهدى) وقال عز وجل (أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) فالملك واسطة بين الله تعالى والنبى* والنبى واسطة بين الملك والعلماء* والعلماء واسطة بين النبى والعوام والعالم قريب من النبى* والنبى قريب من الملك والملك قريب من الله سبحانه وتعالى ثم تفاوت درجات الملائكة والأنبياء والعلماء فى مراتب القرب تفاوتا لا يحصى فهذا ما أردنا أن نحكيه من علومهم (المنطقية والالهية والطبيعية) من غير اشتغال فى تميز الغث من السمين والحق من الباطل ولنفتح بعد هذا بكتاب (تهافت الفلاسفة) حتى يتضح بطلان ما هو باطل من هذه الآراء والله الموفق لدرك الحق بمنه وحوله* والحمد لله حمد الشاكرين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين آمين (تم بعون الله وحسن توفيقه)
Página desconocida