(والعاشرة): اعلم أن كل ما يقدر آلة للعقل من قلب أو دماغ فالعقل قادر على إدراكه فاذا أدركه فادراكه لا يكون إلا بحصول صورة فيه إذ هذا معنى كل إدراك فالصورة الحاصلة لا تخلو إما أن تكون عين صورة الآلة أو غيرها بالعدد ولكن تماثلها وباطل أن يكون هى عين صورة الآلة فانها حاضرة أبدا فيها فينبغى أن يكون أبدا مدركا لها وليس كذلك فانه تاره يعقلها وتارة يعرض عن إدراكها والأعراض عن الحاضر محال وإن كان غيرها بالعدد فاما أن يحل فى نفس القوة من غير مشاركة الجسم فيدل ذلك على أنها قائمة بذاتها وليست فى الجسم وإما أن يكون بمشاركة الجسم حتى يكون هذه الصورة المغايرة فى التعين فى القوة فى الجسم الذى هو الآلة وهى مثل الجسم فيؤدى إلى اجتماع صورتين متماثلتين فى جسم واحد وذلك محال كما يستحيل اجتماع سوادين في محل واحد فانا بينا ان الاثنينية لا تكون إلا بنوع مفارقة وههنا لا مفارقة فان كل عارض يذكر لاحدى الصورتين فهى للصورة الأخرى موجود وبذلك يصيران متطابقين وقد ظهر استحالته.
(دليل حادى عشر): هو انا قد ذكرنا فيما تقدم أن كل قوة جسمانية فلا تكون الا قوة على متناه والقوة على ما لا يتناهى لا تكون فى الجسم البتة والقوة العقلية قوة على صور عقلية وجسمانية وغيرها لا نهاية لها إذ ما يمكن أن يدركه العقل من الحسيات والمعقولات ليس محصور فيستحيل أن تكون القوة العقلية جسمانية أما برهان أنها لا تفنى بفناء الجسم فيتقدم عليه أنها حادثة مع الجسم لأنها لو كانت موجودة قبل الجسم لكانت النفوس اما واحدة وأما كثيرة وباطل أن تكون كثيرة فان الكثرة لا تكون إلا باختلاف وتغاير بالعوارض وإذا لم تكن مواد وعوارض يقع بها الاختلاف فلا يتصور الاختلاف وإن كانت واحدة فهو محال أيضا لأنها فى الأبدان كثيرة والواحد لا يصير كثيرا كما لا يصير الكثير واحدا إلا إذا كان له حجم ومقدار فيتصل مرة وينفصل أخرى ودليل كثرته في الأبدان أن معلوم زيد ليس معلوم عمرو ولو كان نفسا واحدا لما كان الشىء معلوما لنفس ومجهولا بعينه لنفس أخرى إذ يكون الشىء معلوما لنفس الواحدة ومجهولا لها وذلك محال ولكنا نقول مع أنها حدثت مع الأجسام فليست حادثة بالأجساد إذ قد سبق أن الجسم لا يكون سببا لاختراع شىء البتة لا سيما ما ليس بجسم بل سببها واهب الصور وهو جوهر عقلى أزلى ويبقى المعلول ببقاء العلة وذلك الجوهر باق* فان قيل كما يفتقر حدوثها إلى البدن فكذلك بقاؤها* قيل البدن شرط لحدوث النفس لا علته وكأنه شبكة بها يقتنص من العلة هذا المعلول أو يستخرج من هذه العلة فبعد الوقوع في الوجود بواسطة الشبكة لا يحتاج إلى بقاء الشبكة ووجه كونه شرطا لا علة أن العلة لو صدرت منها نفس لكانت اما واحدة أو اثنتين او عددا غير متناه فى كل لحظة وكل ذلك محال إذ ليس عدد أولى من عدد فلا ترجيح لواحد من الأعداد ولو اقتصر على واحد لم يكن له مخصص أيضا فان امكان الثانى منه كامكان الأول فلما لم يترجح إمكان الوجود على إمكان العدم بقى العدم مستمرا إلى أن تستعد النطفة لأن تكون آلة لنفس يشتغل بها فصار وجود النفس حينئذ أولى من عدمها واختص عددها بعدد النطف المستعدة فى الأرحام وهذا شرط الابتداء ليترجح الوجود على العدم فبعد الوجود يكون بقاؤه بعلته لا بالمرجح* وأما برهان بطلان التناسخ فان النفس إذا تركت تدبير البدن بفساد المزاج وخروجه عن قبول التدبير فلا يخلو إما أن يكون مشتغلة بتدبير حجر أو خشب وما لا يستعد لقبول التدبير فيصير نفسا له وهو محال أو يشتغل بتدبير نطفة استعدت لقبول التدبير لأية نطفة سواء كانت نطفة انسان أو حيوان أو غيره وهو الذى ظنه قوم وذلك محال لأن كل نطفة استعدت لقبول النفس استحقت حدوث نفس من الجوهر العقلى الذى هو مبدأ النفوس استحقاق بالطبع لا بالانحراف والاختيار فيؤدى الى اجتماع نفسين لبدن واحد وهو محال فان استعداد النطفة لقبول نور النفس من واهب النفوس بازاء منزلة استعداد الجسم لقبول نور الشمس إذا رفع الحجاب من وجهه فان كان عند ارتفاع الحجاب ثم سراج حاضر أشرق نور السراج ونور الشمس جميعا ولا يمتنع نور الشمس بنور السراج فكذلك لا يمتنع تأثير النطفة لقبول النفس من مبدئها بوجود النفس فى العالم غير مشغولة ببدن فيؤدى ذلك إلى اجتماع نفسين فى بدن واحد وما من شخص إلا وهو يشعر بنفس واحدة فالتناسخ محال.
(المقالة الخامسة) (فيما يفيض على النفوس من العقل الفعال): لا شك أن النظر فى العقل الفعال يليق بالالهيات وقد سبق اثباته وصفته وليس النظر فيه من حيث ذاته الآن بل من حيث تأثيره في النفوس بل ليس النظر في تأثيره وإنما هو فى النفس من حيث تأثرها به ولنذكر فى هذه المقالة دلالة النفس على العقل الفعال ثم كيفية فيضان العلوم عليها منه ثم وجه سعادة النفس به بعد الموت ثم وجه شقاوة النفس المحجوبة عنه بالأخلاق المذمومة ثم سبب الرؤيا الصادقة ثم الرؤيا الكاذبة ثم سبب إدراك النفس علم الغيب ثم اتصالها بعالم العلوم ثم سبب مشاهدتها ورؤيتها في اليقظة صورا لا وجود لها من خارج ثم معنى النبوة والمعجزات وطبقاتها ثم وجود الأنبياء ووجه الحاجة اليهم فهذه عشرة أمور.
(الأول): دلالة النفس على العقل الفعال ووجه أن النفس الانسانية تكون عالمة بالمعقولات المجردة والمعاني الكلية في الصبى بالقوة ثم تصير عالمة بالفعل وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فلا بد له من سبب يخرجه إلى الفعل فاذا لا بد للنفس فى خروجها فى حال الصبى من القوة إلى الفعل من سبب وهذا أيضا لا بد له من سبب ويستحيل أن يكون ذلك السبب جسما لأن الجسم لا يكون سببا لما ليس بجسم كما سبق والعلوم العقلية تقوم بالنفس التى ليست بجسم ولا هى منطبعة فى جسم فلا تدخل فى المكان والحيز حتى يحاورها جسم آخر أو يحاذيها فيؤثر فيها فاذن يكون السبب جوهرا مجردا عن المادة وهو المعنى بالعقل الفعال لأن معنى العقل كونه مجردا ومعنى الفعال كونه فاعلا فى النفوس على الدوام ولا شك فى أن هذا من الجواهر العقلية التى سبق إثباتها فى الالهيات وأولاها بأن تنسب اليه العقل الأخير من العقول العشرة التى ذ كرناها والشرع أيضا مصرح بأن هذه المعارف في الناس وفى الأنبياء بواسطة الملائكة.
(الثانى): كيفية حصول العلوم فى النفس فذلك أن المتخيلات المحسوسة ما لم تحصل فى الخيال لا يحصل منها المعانى الكلية المجردة ولكنها في ابتداء الصبى تكون في حكم صورة مظلمة فاذا كمل استعداد النفس أشرق نور العقل الفعال على الصور الحاضرة في الخيال فوقع منها فى النفوس المجردات الكلية حتى يأخذ من صورة زيد صورة الانسان الكلى ومن صورة هذا الشجر صورة الشجر الكلى وغير ذلك كما تقع من صور المتلونات عند إشراق الشمس عليها مثلها في الأبصار السليمة والشمس مثال العقل الفعال وبصيرة النفس مثال قوة الأبصار والمتخيلات مثل المحسوسات فانها محسوسة مرئية بالقوة فى الظلام فى العين مبصرة بالقوة فلا يخرج إلى الفعل إلا بسبب آخر وهو إشراق الشمس فكذلك هذا ومهما أشرق هذا النورميزت القوة العقلية من الصور المنتقشة فى الخيال العرضى عن الذاتي وميزت الحقائق عن الأمور الغريبة التى ليست ذاتية فيكون مجردة ويكون كلية أيضا إذ أبطل وجود العقل الجزئية بحذف المخصصات التى هى عرضية خارجة عن الذات فبقى أمر واحد مجرد نسبته إلى جميع الجزئيات نسبة واحدة.
(الثالث): السعادة وهى أن النفس إذا استعدت بالاستعداد لقبول فيض العقل الفعال وأنست بالاتصال به على الدوام انقطعت حاجتها عن النظر إلى البدن ومقتضى الحواس ولكن لا يزال البدن يجاذبها ويشغلها ويمنعها عن تمام الاتصال فاذا انحط عنها شغل البدن بالموت ارتفع الحجاب وزال المانع ودام الاتصال لأن النفس باقية والعقل الفعال باق أبدا والفيض من جهته مبذول فانه لذاته والنفس مستعدة للقبول بجوهرها إذا لم يكن مانع وقد زال المانع فدام الوصال لأن البدن وإن كان تحتاج اليه النفس لما فيه من الحواس والقوى فى الابتداء لتحصل بواسطة التخيلات حتى تلتقط من الخيالات المجردات الكلية وتقتنصها بواسطتها إذ ليس يمكنها فى الابتداء كسب المعقولات إلا بواسطة الحواس فالحاسة نافعة فى الابتداء كالشبكة وكالمركوب الموصل إلى المقصد ثم بعد الوصول إلى المقصد يصير عين ما كان شرطا وبالا عليها بحيث تكون الفائدة فى الخلاص منه لكونه مانعا للنفس من التمتع بالمقصود بعد الوصول وشاغلا لها وكذلك هذا وإنما كانت هذه سعادة لأنها لذة عظيمة لا تدخل تحت الوصف وإنما كانت لذة لما بينا من قبل أن معنى اللذة إدراك كل قوة لما هو مقتضى طبعها بغير آفة وخاصية طبع النفس المعارف والعلم بحقائق الأشياء على ما هى عليه فان هذه العقليات ليست للحس أصلا وقد ظهر أنه لا قياس للذة القوة العقلية إلى لذة القوة الحسية وظهر أن سبب خلونا عن إدراك لذة العلوم ونحن فى شغل البدن ماذا وقد سبق هذا فى الالهيات فاذا كانت المعارف التى هى مقتضى طباع القوة العقلية وخاصيتها المعرفة بالله وملائكته وكتبه ورسله وكيفية صدور الوجود منه إلى غير ذلك من المعارف حاضرة حتى اشتغلت النفس بها وهى فى البدن عن أن تصير مستغرقة بالبدن وعوارضه مستوعبة لهمتها ما دام اتصالها وكمل حالها بعد فراق البدن والتذت بها لذة لا يدرك الوصف كنهها وإنما ليس يشتد الشوق والرغبة فى هذا الآن لعدم ذوقه كما لو وصفت لذة الجماع للصبى وليست له شهوة لم يرغب فيه بل ربما يعاف صورة الجماع وهذه اللذة العقلية إنما تكون لنفس كملت في هذا العالم فان كانت منزهة عن الرذائل ولكنها منفكة عن العلوم وهمها مصروف إلى المتخيلات فلا يبعد أن يتخيل الصورة الملذة كما فى النوم فيتمثل لها وصف فى الجنة من المحسوسات فيكون بعض الأجرام السماوية موضوعا لتخيلها إذ لا يمكن التخيل إلا بجسم.
(الرابع القول فى الشقاوة): وهى أن تكون النفس محجوبة عن عن هذه السعادة التى هى مقتضى طبعها فاذا حيل بينها وبين ما تشتهيه فقد تشقى وإنما تصير محجوبة بأن تتبع الشهوات وتقصر الهمة على مقتضى الطبع البدنى وتؤثر هذا العالم الخسيس الفانى فترسخ بالعادة تلك الهيئة فيها ويتأكيد شوقه اليها فيفوته بالموت آلة درك المشوق واقتناص العلوم ويبقى الشوق والنزوع وهى الألم العظيم الذى لا حد له وذلك يمنع من الوصال والاتصال بالعقل الفعال لأن النفس في هذا العالم لا يمنع دوام اتصالها لكونها منطبعة فى البدن وإن كانت ليست في البدن كما بينا ولكن لاشتغالها بعوارضه وشهواته ونزوعه اليه وعشقه الطبيعى الذى يحول بين النفس ومقتضى طبعها ولكن لا يحس فى هذا العالم بالم ذلك لشغل البدن إياها كالمشغول بالقتال أو الخوف فانه قد لا يشعر بالألم وقد شرحنا أسباب ذلك فاذا فارقت البدن بالموت ارتفع ذلك الشاغل وبقى الشوق وفاتت الآلة أعنى الحواس والقوى البدنية التى يفيض بها المعقولات وعدم المركب الذى يوصل إلى المقصد وصار الشوق إلى ما تعوده وألفه من الحس صارفا له إلى ما فاته ومانعا إياه عن الاتصال بمقتضى طبعه وهو البلاء العظيم المخلد وهذه النفس ناقصة بفقد العلم ملطخة باتباع الشهوة وأما الذى استكمل القوة العقلية فحصل المعارف ولكنه اتبع الشهوات فذلك يبقى هيئة الشهوات والنزوع اليها فى نفسه فيجاذبها إلى جهة الطبيعة السفلى وما حصله من المعارف فى جوهره يجذب نفسه إلى الملأ الأعلى ويحصل من تصاد المتجاذبين ألم عظيم هائل ولكنه ينقطع ولا يخلد لأن الجوهر قد كمل وهذه الهيئة عارضة وقد انقطع أسبابها بالموت فلم يبق ما يؤكدها ويجددها فتمحى بعد زمان ولا يتعذب أبدا ويكون قرب الزوال وبعده بحسب قوة تلك الصفة وضعفها وعن هذا أخبرتك الشريعة بأن المؤمن الفاسق لا يخلد فى النار وأما من اكتسب شوق الاستكمال بالعلم بممارسة مباديه ثم تركه يتضاعف عقابه لأنه ينضاف إلى آلامه تحسره على ما فاته مع كونه مشتاقا اليه وان ما لا يعرف قدره لا يشتاق اليه فلا يشعر بفواته ولا يتحسر عليه كما لو قتل ملك وأخذ الملك من أولاده وله ولدان.
(أحدهما): صبى لا يعرف ما الملك.
(والآخر): أكبر قد عرف الملك ومارسه ولم يصل بعد إلى استكماله واستدامته فانه لا شك يكون أعظم حسرة وأشد من أخيه الذاهل عن قدر ما فاته ألما وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا. (أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه): وقال النبى صلى الله عليه وسلم.
(من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا).
Página desconocida