وعندما يحتدم الحديث في القهوة، النادى، وتدور كئوس الخمر، تعم حماسة، ثم تتكرر الكئوس، فتستحيل الألسنة وتنفرج الكظوم ويصعد الدم إلى الوجنات، ويأخذ العين بريق، ويعم الجو سرور خيالي واستهتار وقتي لذيذ، وتجترئ وقتئذ الألسنة على ما لا يجترئ عليه وقت الصحو، فتخرج الآراء صريحة. وينفذ إلى الجميع شعاع من الذكاء الذي يتجمل بالتحذر والمساهلة ونية الخير.
وفي باريس كظوم كثيرة، من الغلاء، ومن توقع الحرب. وهي كظوم كانت تكفي لأن تحيل انتفاضة السخط إلى انتهاض الثورة لولا الخمور التي تهدئ وتخدر.
قعدت إلى سيدة في العقد الرابع من العمر فحدثتني عن الفراعنة حديثا مثقفا لم أجد مثله قط عند سيدة مصرية، وجرت على لسانها كلمات الهكسوس وهيرودتس والبطالسة وأبيس وزواج الأخت، وكانت تظن أن هذا الزواج اسمي فقط لكني أوضحت لها أنه كان فعليا، وسألت: هل أدى هذا الزواج الأخوي إلى انحطاط؟ فأخبرتها بأن رمسيس الثاني الفاتح العظيم كان ثمرة خمسة عشر زواجا أخويا من جدوده، ولم يبد عليه أي انحطاط، وطربت عندما قالت: إن النحت في مصر الفرعونية هو أعظم ما عرفته البشرية من هذا الفن، وأخبرتها أن عندنا فنانين عصريين ينزعون إلى الفن الفرعوني.
وشربت قهوة، وشربت هي كأسا من الكونياك تلتها كأس أخرى، فانفرجت، وانطلق لسانها، ووصفت بول سارتر بأنه يهذي ويسمي هذيانه «الوجودية» فلسفة. ثم انتقل الحديث إلى أدب التوراة، وتذاكرنا قصة الحب في «نشيد الأنشاد» حيث تؤثر الفتاة زواج حبيبها الراعي الساذج على زواجها من سليمان الحكيم، فقالت وحمرة وجنتيها تنطق بنشوة الكأسين: ألا يمكن أن تكون هذه القصة مصرية، وخاصة لأن الحبيب يذكر حبيبته بكلمة «أختي»؟
فاستوقفتني كلماتها وجعلتني أتأمل، فإن زواج الأخت في مصر كان يجيز للحبيب أن يصف حبيبته بهذا الوصف، وفي التوراة عديد من الحكم والأمثال منقولة عن مصر، وانفصلنا على ميعاد، ونهضت منتعشا من هذا الحديث، وقصدت إلى نهر السين حيث تباع الكتب القديمة الرخيصة، وهي تصفف على مسافة مديدة على كورنيش هذا النهر، وتشبه تلك الكتب التي تباع على سور حديقة الأزبكية، مع فرق أصيل، هو أن البوليس في القاهرة يعاكس الباعة، أما في باريس فلا يلقى باعة الكتب على السين أية معاكسة.
واشتريت خمسة مجلدات، منها واحد للشاعر الملعون كبلنج، واشتريته بخمسة وعشرين مليما فقط مع أن ثمنه الأصلي أربعون قرشا، وكان جديدا مغلفا بالصمغ لم يفتح، وأحسست بالشماتة لكساد هذا الشاعر الإمبراطوري الذي كان يحرض الجنود الإنكليز على بقر بطون السودانيين والمصريين وضربهم بالسياط حتى يعترفوا بالنقود التي يخفونها.
وباريس ليست عاصمة فرنسا فقط؛ إذ هي عاصمة أوروبا بل عاصمة العالم، فإن فيها أكثر من نصف مليون أجنبي، من الإيطاليين، ومن الروس البيض والحمر، ومن السنغاليين والفيتناميين، وبها نحو خمس مئة مصري إلى آلاف من الآسيويين والإفريقيين والأمريكيين ... وهم جميعا يلقون كرم الضيافة ومميزات التمدن ووجدان الثقافة.
والمدارس والجامعات هي «كالماء والهواء» في فرنسا، ولا تفرض على الصبيان والشبان ضريبة للالتحاق بها، ويستطيع الجمهور أن يحضر المحاضرات دون أي اعتراض، وقد حضرت أنا بعض المحاضرات في الأسبوع الماضي.
وباريس هي بابل اللغات والعناصر، تسمع فيها جميع اللغات وترى جميع الوجوه البشرية: من الأسود إلى الأصفر إلى الأسمر إلى الأبيض إلى الأحمر، وهي وجوه ولغات تكسبك النزعة البشرية والاتجاه العالمي.
أجل، نحن بشر قبل أن نكون مصريين أو فرنسيين أو هنود أو صينيين، وهذه الدنيا واسعة تتسع لنا جميعا، وهي دنيا حافلة بالخير، والزهور والأثمار، وبالقمح والذرة، وبالنهر والجبل، بل هي حافلة بالحب والإخاء، بالشبان يحبون الفتيات، وبالآباء يحبون الأبناء.
Página desconocida