حياة أدب وأدب حياة
تأملات نهرو في السجن
كيف نكون عبقريين؟
كتب العلم وكتب الأدب
هل الأدباء والفنانون مجرمون؟
نحو النظافة
أرجو أن يحرق جثماني بعد وفاتي
المستبد الفاسد
الواقعية في الأدب العصري
ثلاثة عمالقة
Página desconocida
بين البراعة والإنسانية
إنسانية العلم
العرب والعلم والصناعة
والفلسفة للشعب أيضا
ابن خلدون والعرب
شاعران من مصر
صلاح الدين ومقامه في التاريخ
نابليون في مصر
أدباء فرنسا في اللغة العربية
حيوية التفكير السياسي
Página desconocida
باريس بعد 40 عاما
دماء الأعناب في فرنسا
المسلمون في الصين
المرأة العربية الجديدة
ختان البنات
جحا العاقل وجحا المغفل
رسالة الكاتب
حياة أدب وأدب حياة
تأملات نهرو في السجن
كيف نكون عبقريين؟
Página desconocida
كتب العلم وكتب الأدب
هل الأدباء والفنانون مجرمون؟
نحو النظافة
أرجو أن يحرق جثماني بعد وفاتي
المستبد الفاسد
الواقعية في الأدب العصري
ثلاثة عمالقة
بين البراعة والإنسانية
إنسانية العلم
العرب والعلم والصناعة
Página desconocida
والفلسفة للشعب أيضا
ابن خلدون والعرب
شاعران من مصر
صلاح الدين ومقامه في التاريخ
نابليون في مصر
أدباء فرنسا في اللغة العربية
حيوية التفكير السياسي
باريس بعد 40 عاما
دماء الأعناب في فرنسا
المسلمون في الصين
Página desconocida
المرأة العربية الجديدة
ختان البنات
جحا العاقل وجحا المغفل
رسالة الكاتب
مقالات ممنوعة
مقالات ممنوعة
تأليف
سلامة موسى
حياة أدب وأدب حياة
لم يقل أحد إن غاندي كان أديبا، ولم يقل هو نفسه ذلك، ولكن حياته كانت أدبا عظيما إذا فهمنا أن العظمة الإنسانية هي الموضوع الأول للأدب، وبرهان ذلك أننا نستطيع أن نؤلف قصة رائعة أو قصيدة سماوية عن حياته، يكون هو بطلها الذي يقتحم الأفكار ويبني الإنسانية، ويلهم الأمم ويخلق من الضعف قوة تحطم الاستعمار.
Página desconocida
كانت حياة غاندي أدبا وفلسفة، وكذلك الشأن في ألبيرت شفيتزر الذي منح جائزة نوبل قبل ثلاثة أو أربعة شهور.
والإنسانيون العظماء في أيامنا صنفان:
صنف يحيا حياة الداعية المكافح الذي يحاول تغيير المجتمع البشري، فهو يكتب ويؤلف ويعمل ويغير، والأنبياء من هذا الصنف. ولكن هناك إنسانيين من غير الأنبياء، أو بالأحرى هم طراز جديد من الأنبياء ، يحاولون تغيير المجتمع؛ مثل كارل ماركس، وجان جاك روسو، وأفلاطون. ولا نكاد نسأل عن حياتهم الشخصية؛ لأننا نقنع بمذهبهم الاجتماعي.
وصنف آخر يحيى حياة القديسين أو ما نفهمه من معاني القداسة، فهم ينصبون أنفسهم للخير، ويجعل كل منهم شخصيته مثالا وقدوة لهذا الخير، ليس لتغيير المجتمع، أو إذا كان لهم ذلك، فهو يتضاءل خلف حياتهم العظيمة.
ومن هؤلاء تولستوي، وجيته، وإخناتون، وشفيتزر. فإني حين أذكر تولستوي أكاد أنسى أنه كان له برنامج اجتماعى يحاول به تغيير معايش الناس، وإنما تلفت ذهني حياته وشخصيته، فأذكره وهو خلف المحراث يحاول أن يكون فلاحا يتعب ويعرق مثل الفلاحين، وأذكره حتى في علاقاته الزوجية، وهو يحاول أن يتقشف في شهواته، وأنا أحبه في كل هذه المجهودات الإنسانية التي فشل فيها جميعا أكثر مما أحبه لقصصه الخالدة.
وكذلك تروعني حياة جيته أكثر مما تروعني مؤلفاته، فإنه جاء هذه الدنيا وبنى شخصيته، بناها بالحب، والعلم، والأدب، والثقافة، والسياسة.
وكذلك إخناتون أحبه لشيء واحد هو أنه كان «الشخصية» الأولى في التاريخ البشري؛ إذ رفض الإيمان بالآلهة، وأعلن استقلاله الروحي، وحطم الأصنام وآمن بإله واحد، وأرجو أن يفهم القارئ أني لا أعجب به؛ لأنه آمن بإله واحد، وإنما رفض الخضوع للتقاليد والعادات، واستقل وفكر وجابه وأعلن وجهر، ولم يبال الكهنة، ولم يبال الخاصة أو العامة.
وكذلك الشأن في ألبيرت شفيتزر، فإن حياته، وليست برامجه، هي موضوع إعجابي وحبي، وذلك أنه اختار الحياة التي شاء أن يحياها، وهذه كلمات تبدو تافهة، ولكن على القارئ أن يتأمل حياته وحيوات غيرها من الناس، فإنه عندئذ واجد أنهم لا يختارون حياتهم، وإنما يختارها لهم المجتمع الذي ينصب لهم الهدف، وعليهم أن يبلغوه، ولكن شفيتزر رفض الجري وراء الهدف الاجتماعي رفض أن يحيى الحياة الأوروبية الناعمة المتمدنة، وأن يحيى فوق المنصة التي بلغها حين صار دكتورا في الغيبيات الدينية، وفي الموسيقى يكسب الكثير من المال ويجد الكثير من الاحترام، رفض ذلك كله، والتحق بكلية الطب في جامعة باريس، عندما كانت سنه قد بلغت الرابعة والثلاثين، ودرس هذه الحرفة الإنسانية بغية أن يتسلح بها، ويقصد إلى إفريقيا كي يشفي جراح الزنوج المتقيحة، التي أنزلها الاستعمار الأوروبى والتقاليد الإفريقية السوداء، عاش حياته كما أراد، وكما رسم هذه الحياة سنة 1911، هو شخصية عالية يجب على كل مثقف أن يعرفها.
وقد أحب المسيحية وعمل بمبادئها، ولكنه كره غيبياتها، فنقب عنها وكشف عن زيفها، وأحب الدنيا والخير، والإنسان والحيوان، وتعمق الثقافة البشرية، وعرف ظلامها ونورها، وآمن بالإنسان وبالحب.
وهو حين أنشا مستشفى للزنوج، كان أعقل من تولستوي حين وقف خلف المحراث يسوق الماشية، ولكن كليهما كان بعيدا عن أن يضع برنامجا للمجتمع يغيره ويصلحه؛ إذ كان يقنع بمجهوده الشخصي، وهو لذلك قدوة عظيمة لكل منا يجب أن ينبهنا حتى لا يغفو ضميرنا ونستسلم للنوم.
Página desconocida
إننا نعاصر، أو قد عاصرنا، أدباء حياة في أشخاص الكثيرين من الرجال والنساء قبل ألبيرت شيفتزر ومدام كوري وبرنارد شو وبول سارتر وغاندي ونهرو.
هؤلاء هم أدبنا الحي الذي يروح ويغدو ويعلم ويهذب.
تأملات نهرو في السجن
يجب أن نؤلف عشرين بل ثلاثين بل خمسين كتابا عن الهند، وكيف وقعت في الاستعمار البريطاني؟ ثم كيف نهضت؟ كيف بعث غاندي الحياة الجديدة فيها؟ وكيف أقنع أثرياءها بأن يلبسوا الخيش بدلا من الجبردين الإنجليزي؟ وهو الخيش الذي نعبئ نحن فيه القطن، وكيف حارب غاندي الخرافات حتى قتل البقرة المقدسة بيده؟ وكيف قاد نهرو البلاد نحو النهضة الصناعية الجديدة؟ وكيف رفع المرأة من الأنوثة الشرقية إلى الإنسانية الحرة؟ وكيف تسير الهند هذه الأيام في الزراعة والصناعة والسياسة؟
يجب أن نؤلف عن الهند أكثر مما نؤلف عن أوروبا؛ لأن الهند كابدت ما نكابده، وشربت السم كما شربنا، سواء من الاستعمار الأجنبي أم الاستبداد الداخلي، وعرفت الرجعية كما عرفناها، وكانت لها تقاليد توغل في آلاف السنين كما لنا، وكان لهذه التقاليد رجال يقولون: لا تتطوروا، لا تجرءوا على التفكير.
أقول هذا بعد أن قرأت كتاب نهرو «اكتشاف الهند»، فقد انتهيت منه وفي رأسي طنين من أفكاره وآرائه، وكنت في أثناء قراءتي أحس بالمؤلف رجلا مليئا بالشرف مضيئا بالذكاء عامرا بالأمل.
ولكن لا، ليست هذه صفاته الأصلية؛ إذ هي ثمرة الشجرة الأصلية التي يهفوا قلبي إلى أن أرى مثلها في تربتنا المصرية. إنما الصفة الأصلية في نهرو أنه رجل ناضج ليست فيه فجاجة أو صبيانية، ولن أعود إلى شرح هذه الصبيانية في رجالنا، رجال العهود الماضية، ولكني أرمز إليها بمنظر واحد كنت أراه قبل أكثر من نصف قرن على جسر قصر النيل، فقد كان الأمراء السابقون يخرجون في عرباتهم التي كانت تجرها خيول مطهمة، كل منهم يبدو كما لو كان حصانا أو حمارا قد شد لجامه فارتفع رأسه وانبعج بطنه، وكان يتقدم العربة رجلان يحمل كل منهما عصا طويلة تبلغ أربعة أمتار، وقد اكتسى بسترة قزحية الألوان، وكانا يعدوان ويصيحان: هيه. هيه. هيه. أبهة. فخامة. أبهة الصبيان وفخامة الصبيان.
وإني أحس كأني أسب نهرو حين أقول: إنه ليس كذلك؛ إذ هو هنا يعلو على المقارنة، ولكن هذه العربة هي رمز للذهبية، والضيعة، والباشوية، والسيارة، وسائر ما نعرفه عن أبهة هؤلاء الصبيان.
لقد نجحت الهند في تحقيق استقلالها، ونجحت بعد ذلك في احترام العالم صوت ساستها؛ لأن هؤلاء الساسة لم يعرفوا قط هذه الصبيانية. •••
لا أعرف هل كان قدرا أم تدبيرا ذلك الذي هيأ للهند رجلين يشعلان لها طريق المجد، أحدهما يخاطب قلوبها وهو غاندي، والثاني يخاطب عقولها وهو نهرو.
Página desconocida
ولكن ليس من شك أن النهضة الهندية احتاجت إلى هذين الرجلين كي تصل إلى تمام فورتها وذروتها.
وهذا الكتاب الذي قرأته لو ترجم إلى اللغة العربية لزاد على ألف صفحة، وهو واحد من كتب عديدة ألفها نهرو في السجن، فقد أقام في سجون الهند نحو ثلاث عشرة سنة؛ لأنه هندي يحب الهنود، أو لأنه إنسان ينزع إلى الإنسانية، وهو يبدو في هذا الكتاب أديبا فنانا، واقتصاديا عصريا يعرف قيمة الصناعة، ومؤرخا يشرح الحضارة الهندية قبل ثلاثة آلاف سنة، ولكنه في كل ذلك غربي المزاج، وليس شرقيا؛ إذ يطلب الحضارة العصرية ويؤمن بالعلم، وحسبي أن أنقل إلى القراء بعض السطور التي تنير وتدل. •••
هو الآن في السجن ينظر إلى القمر فيقول:
إن القمر، وهو رفيقي في السجن، قد توثقت صداقته لي لزيادة استئناسي به، وهو يذكرني بجمال هذه الدنيا، وبنمو الحياة وفنائها، وبالنور يخفف الظلام، وبالموت والبعث يتعاقبان في سلسلة لا تنقطع، وهو على كثرة تغيره باق على ما هو عليه، ولقد راقبته في أطواره المختلفة، وحالاته العديدة حين تطول الظلال في المساء، وفي الساعات الساكنة في الليل، وحين يتنفس الفجر، ويهمس باستقبال النهار القادم، أجل ما أنفعه هذا القمر حين أعد به الأيام والشهور؛ ذلك لأن شكل القمر وحجمه حين يسفر، يعينان الأيام في الشهر بما يقارب الدقة ...
هذه إحساسات سجين قد ألف السجن، فعقد بينه وبين القمر ألفة لا يمكن المستعمر، أو السجان، أن يحرمه إياها.
وهو في هذه الكلمات التالية ينصح للهنود بأن يعتمدوا على العلم الذي يقول عنه:
إن العلم لا يفصح لنا كثيرا أو قليلا عن الغاية من الحياة، ولكن آفاقه تتسع وتتراحب هذه الأيام، ولعله يغزو قريبا ما نسميه «العالم غير المنظور» وعندئذ قد نستعين به على فهم الغاية من الحياة في معانيها، أو هو يتيح لنا على الأقل أن نلمح بعض ما يلقي الضوء على مشكلة الوجود البشري.
ثم يقول هذا الزعيم الذي ساهم في تحرير أمة تبلغ أربعمائة مليون إنسان:
إنى أجدني في صميم نفسى، مهتما بهذا العالم، وبهذه الحياة، ولست أعرف إذا كانت هناك روح، أو أننا سنحيا بعد الموت، ومع أن هذه المسائل خطيرة فإنها لا تقلقني أقل القلق.
ثم يقول:
Página desconocida
إن تحضير الأرواح، وما يقال من عقد الجلسات بشأنها، وأنها تظهر فيها، وسائر هذا الكلام، كان يبدو لي على الدوام، شيئا سخيفا ووقحا، باعتباره طريقة أو وسيلة لبحث الظواهر النفسية أو الروحية وخفايا الحياة الأخرى، بل هو في العادة أكثر من هذا، إذ إن تحضير الأرواح هذا هو استغلال لعواطف الناس الذين يجدون أنه من السهل أن يصدقوا؛ إذ هم في حاجة إلى ما يخفف عنهم متاعبهم العقلية، ولست أنكر أنه من الممكن أن يكون للظواهر الروحية أساس من الحقيقة، ولكن طرق معالجتها تبدو لي جميعا مخطئة ...
هذا الرجل «نهرو» قد عاش في إنجلترا كما عاش في الهند، ولذلك هو يقارن كثيرا بين الرقي والانحطاط، فيقول هذا الكلام التالي الذي يجب أن يتعمق أدباؤنا المتزمتزن معانيه:
إن أسباب الانحطاط في الهند واضحة؛ ذلك أنها تأخرت في الصناعات الفنية، في حين أن أوروبا التي كانت متخلفة أخذت بالارتقاء الفني، وكان خلف هذه الصناعات هذا الروح العلمي، وهذه الحياة المتدفقة، التي انتفضت في نشاط واقتحام تكشف الدنيا.
ونحن نجد في التاريخ الماضي للهند تقهقرا يتوالى قرنا بعد قرن، فإذا بروح الخلق والابتكار يتضاءل إزاء التقليد والنقل، وبدلا من الأفكار الثائرة المنتصرة التي كانت تحاول أن تخترق خفايا الطبيعة والكون لم نعد نجد غير المعلقين والشراح بتوضيحاتهم وتخريجاتهم المستفيضة، حتى إن فخامة الفن والعمارة تنهزم وتترك مكانها للنحت الدقيق في التفاصيل المعقدة، بدلا من النبل في التصوير أو التخطيط، كما أن قوة اللغة وخصوبتها، قوة وخصوبة ولكن مع السهولة، تزول وتأخذ مكانها زخارف وأساليب أدبية معقدة.
إني أقف هنا وأتساءل: هل يومئ نهرو إلينا؟
هل هو يتكلم عن تطعيم الخشب بالصدف والعاج، وعن المشربية التي تصنع من نوى البلح؟
هل هو يتكلم عن زخارفنا اللفظية؟ وما معنى قوله: والقوة والخصوبة ولكن مع السهولة؟ أية سهولة؟
هل هي السهولة التي ندعو إليها كي يفهم الشعب؟ •••
وكنت أحب أن أنقل ما قاله نهرو عن الصناعة، وما كان يقوله المستعمرون بأن الهند بلاد زراعية، وما قلت مثله مئة مرة في الثلاثين سنة الماضية حتى صار كلامي عن هذا الموضوع يشبه الهوس، ولذلك سأتركه، وكذلك لن أنقل ما يقوله عن المرأة، أليست شقيقته رئيسة جمعية الأمم المتحدة هذا العام؟ وقصارى ما أقول عن نهرو: إنه رجل أوروبي الذهن مئة في المئة، وإنه يعارض الرجعيين في بلاده كما يعارض المستعمرين.
وإنه لا يبالى بأن يقول للشعب الهندى: أنا كافر بأدبائكم؛ إذ هو يأنف من أن يغش الجماهير التي يقودها؛ ذلك لأنه يقود، ولا ينقاد، حرصا على الزعامة.
Página desconocida
وعندما أقارن بين نهرو وبين ساستنا القدامى، الصبيان الذين يحبون هيه، هيه، أحس كأني أقارن بين أرسطوطاليس وبين صبي يعدو بدراجته في الشوارع وهو يطرب بزمارتها.
لقد حاولت أن أعلم ساستنا القدامى، وألفت عشرات الكتب، وكتبت مئات المقالات كي أوضح لهم قيمة العلم، وقيمة الصناعة، وقيمة المرأة في الارتقاء الاجتماعي، ولكني لم أجد غير الاضطهاد والنفور.
إني أنصح لساستنا، الذين أرجو ألا يعود أحدهم إلى الحكم في المستقبل، أن يشتغلوا فيما بقي لهم من أعمار بدراسة الهند أيام الاستعمار وأيام الاستقلال، وأنا واثق بأنهم لن يندموا؛ لأنهم سيتغيرون من الصبيانية إلى الرجولة، ومن فجاجة التفكير إلى النضج.
كيف نكون عبقريين؟
قبل أن نشرح هذا الموضوع نحتاج إلى أن نشرح نقيضه وهو: كيف نكون غير عبقريين؟
والجواب سهل، بل في غاية السهولة، وهو: أننا نكون غير عبقريين إذا كانت الظروف الاجتماعية تمنعنا بالقوانين أو بقوة وضعها الاجتماعي عن ذلك؛ كأن تكون هذه القوانين تقاليد فقط.
إن تاريخ مصر وأوروبا، بل جميع الشعوب يدل على أنه وضعت قوانين لمنع التفكير البكر الأصيل، وسنت قوانين تنص على عقوبة المفكرين، فقد كان في فرنسا مثلا قبل الثورة قانون يعاقب كل من يجرؤ على مخالفة أرسطوطاليس، وكلنا يعرف أن قوانين الكنيسة كانت تطالب بمعاقبة كل من يخالف تقاليدها ونصوصها بفكرة جديدة تنقض هذه النصوص أو تزيد عليها أو تنقص منها.
وأسوأ ما في القوانين المانعة للتفكير أن يؤيدها المجتمع حين تكون العامة هي الكثرة الغالبة في هذا المجتمع، بل أحيانا يكون بحاله من التقاليد، وبلا حاجة إلى قوانين، هو الذي يمنع التفكير البكر الأصيل، ولكن حين يجتمع الاثنان، التقاليد والقوانين، فإن الطامة تفدح والشعب يركد وييأس.
إن مؤلفاتنا العصرية، وأعني تلك التي تحمل الروح العصرية التطورية، لا تدخل اليمن الآن، وليس هذا لأن الإمام يمنع دخولها فقط، بل لأن المجتمع اليمني، بتقاليده وغيبياته، ينفر منها، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن ننتظر من اليمن مؤلفا عبقريا يفكر التفكير الأصيل البكر.
والذي يجب ألا ننساه أن العبقرية ليست هبة موروثة، وإنما هي كفاءة يطلبها المجتمع، بحيث إذا لم يطلبها لم توجد، وهذه هي الحال المؤسفة في بعض الشعوب العربية الآن.
Página desconocida
وفي مصر منعتنا الحكومة الاستبدادية من التفكير الاجتماعي البكر، أو ما يسميه بعضهم التفكير اليساري، فتخلفنا في التفطن إلى الأصول التي ينبع منها الاستعمار، وإلى العوامل التي يستند إليها، وضاعت منا عبقريات في الفهم الاجتماعي العام بسب العقوبات التي عوقب بها بعض المفكرين الذين جرأوا على التفكير.
ومن عجيب ما أقرأ من وقت إلى آخر كلمات لأحد المغفلين ينعي فيها على المرأة في كافة الدنيا عجزها عن الابتكار والتفكير الأصيل. مع أن القليل من التأمل في حالها الاجتماعية يوقفنا على علة هذا العجز؛ إذ كانت المرأة إلى وقت قريب لا تمارس من الأعمال سوى تلك التي تتصل بالبيت، وهى أعمال لا تحتاج إلى ذكاء، ونحن بإصرارنا على منعها من الاختلاط بالمجتمع، إنما وضعنا بذلك قيودا على ذكائها، ومنعناها من تدريبه وتنبيهه، ولكن هذه الخمسين سنة الأخيرة، التي أطلقت فيها المرأة من حدود البيت، وأخرجت إلى ميادين النشاط الاجتماعي المختلفة، بعثت فيها من الذكاء ما يساوي ذكاء الرجل، وما حدث في أوروبا وأمريكا سوف يحدث في مصر.
نعود فنقول مع الإحساس بالتكرار: إن العبقريات، بل الذكاء؛ مثل اللغة التي هي أعظم وسائل الذكاء اجتماعية، وإنه إذا كان المجتمع بتقاليده لا يحتاج إلى العبقرية أو يعاقب على ظهورها، فإنها لن توجد إلا في أفراد شاذين ثائرين سرعان ما يفرون أو ينتحرون أو يعاقبون، وقد رأينا بعض هذا في مصر مما عطل التفكير السياسي عدة سنين. •••
في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ظهرت كوكبة من المفكرين المبتكرين في العالم العربي هم:
ابن رشد الفيلسوف الذي لا تزال فلسفته تناقش إلى الآن في أوروبا.
وموسى بن ميمون الذي هاجر من الأندلس إلى القاهرة، والذى شرح طريقة التفكير المادي.
وابن حزم الذي قال بضرورة الحب، وكان باعثا لإيجاد الحركة الرومانتيكية الأولى في أوروبا.
وابن النفيس الذي عرف الدورة الدموية قبل أن تعرف في أوروبا.
وابن خلدون أول مفكر اجتماعي في العالم كله.
هؤلاء خمسة من المفكرين المبتكرين الذي لم يسبقهم أحد إلى أسلوب تفكيرهم، والذين تجرأوا على نقض المألوف من الأفكار السابقة لهم، كلهم نقضوا شيئا في التفكير القديم وأوجدوا تفكيرا جديدا، ولكننا لا نجد مفكرا عربيا واحدا بعدهم. لماذا؟
Página desconocida
لسبب واحد هو أن التفكير الحر المستقل أصبح جريمة، وصارت الشعوب العربية تؤمن بالغزالي، الذي كان يعد تعلم الجغرافية سبيلا إلى الكفر، بدلا من أن تؤمن بابن رشد أو ابن النفيس.
ورأى ابن رشد مؤلفاته تحرق أمام عينيه، وينفى إلى مراكش، حيث بقي يتعفن إلى أن مات، بل إن موسى بن ميمون تلميذه، كان يؤلف مؤلفاته العربية في القاهرة بالخط العبري حتى لا يقرأها العرب ويتهموه بالكفر، ورأينا صلاح الدين يأمر بقتل السهروردي بتهمة الكفر.
بعد ذلك مات الفكر العربي، وازداد موتا بدخول الأتراك واحتلالهم الأقطار العربية، وأصبحت النهضات العربية تعتمد على الأئمة بدلا من الاعتماد على الفلاسفة.
أصبح التفكير محظورا بحكم الآراء ورضا المجتمع، ولذلك لم يظهر عبقري واحد في الشعوب العربية منذ 600 سنة، وإلى الآن، لا يزال المفكر المصري يتهم بأنه ضد التقاليد إذا جرؤ على التفكير المثمر. •••
كل ما سبق يعالج موضوع: كيف لا نكون عبقريين؟
أما كيف نكون عبقريين فشروط ذلك أن نعيش في مجتمع حر، غير متجمد بما نسميه تقاليد، وفي ظل حكومة غير مستبدة، أو تخشى الأفكار الجديدة، مثل حكومات إسماعيل صدقي وغيره أيام فؤاد وفاروق ...
أما كيف يكون المؤلف مبتكرا عبقريا؛ فالشرط الأول لذلك أن يحب الإنسانية، وأن تكون النظرة الشاملة ليس إلى وطنه وحده بل إلى العالم كله، وحبه الإنسانية، وشمول نظرته، يحملانه على الرغبة في الارتقاء والخير فينقذ الحال القائمة، وهو يؤمل ويرجو في حال أخرى أسعد للناس وأوفر هناء لهم، وعندئذ يؤلف كي يغير ويطور المجتمع.
وهذه هي العبقرية.
كتب العلم وكتب الأدب
في ظروفنا الحاضرة، في فقرنا الذي يدل عليه هبوط الدخل السنوي في عام 1937، وهو نحو 830 قرشا يعيش بها المصري، وعليه أن يحصل منها على قوته طيلة العام لحما وخبزا وملحا، وأن يحصل منها على السكنى واللباس ووسائل النظافة ... في ظروفنا الحاضرة هذه ... أنحتاج الذي يسميه الدكتور طه حسين «ترفا ذهنيا»؟ أم نحتاج إلى العلم الذي نبني به بلادنا ونعمرها، زراعة وصناعة، حتى يرتفع متوسط الدخل للمصري من 850 قرشا في العام إلى 600 أو 700 جنيه، كما هو متوسط الدخل في الولايات المتحدة؟
Página desconocida
ليس منا من يكره الترف والحلوى، ولكن أولى من الترف حاجات الصحة والطمأنينة. وأولى من الخبز واللحم.
في ظروفنا الحاضرة، في فقرنا المذل، لا يتسع وقتنا للترف، بل لا نستحقه؛ لأننا نحتاج إلى الخبز، وإلى اللباس، وإلى السكنى، وإلى ما يوفر لنا صحة الأم وصحة الطفل في المعيشة النظيفة التي تليق بالكرامة الإنسانية. هنالك ما هو حسن وما هو أحسن، الأدب حسن ولكن العلم أحسن.
ومرة أخرى أقول: إننا في ظروفنا الحاضرة، نحتاج إلى العلم وليس إلى الأدب، أي: نعجل بنقل الكتب العلمية ونؤجل كتب الأدب. ونعجل بالخبز الضروري ونؤجل حلوى الترف.
لا أعتقد أن أحدا يتهمني بأني شكسبير، فإني أستطيع أن أنشد سبعين بيتا من أشعاره عن ظهر قلب، كما أستطيع أن أفعل ذلك في أشعار المعري، ولكني لأني أعرف شكسبير، أقول: إن في وسعنا، في ظروفنا الحاضرة أن نستغنى عنه عشر سنوات، أو عشرين سنة، بلا أقل ضرر، كما نستغني عن أي ترف آخر.
وقد سبق أن قلت: إن شكسبير يعد من شعراء الملوك والأمراء، ونقلت قليلا من الكثير الذي تحفل به دراماته في سب الشعب واستصغار العامة، والعامة عنده، التي يصفها بأنها تأكل الثوم، هي الشعب.
ولم أكن في حاجة إلى أن أنقل ما قاله عنه تولستوي، وهو أنه مليء بالجلافة وسوء التقدير للقيم الأدبية، ولا أن أنقل ما قاله عنه برناردشو، من أنه في كثير من أشعاره لا يبدي عبقرية أو ذكاء، هذا بعض ما قاله عنه هذان الأديبان العظيمان، وعندي أن أعظم ما يعاب على شكسبير أنه يخلو من الرسالة، وأنه ليس له مبادئ أو مناهج، ولذلك لن تجد أديبا عصريا في إنجلترا يستطيع أن يقول إنه تعلم من شكسبير.
وقد يرد على الراغبون في نقل مؤلفاته إلى لغتنا بأنه «فنان»، وهو لا شك كذلك، ولكن فنه ليس هو الفن الذي يمكن أن يغير في أساليب التفكير أو التعبير في أدبنا. هو ترف.
لو أنه طلب إلي اختيار بعض كتب الأدب لنقلها إلى لغتنا لقلت: العلم أولى.
فلو كرر علي الطلب لاخترت هذه الكتب التالية باعتبار كل منها طرازا لغيره: (1)
الإخوة كارامازوف لدوستويفسكى باعتبارها أعظم قصة ظهرت في العالم القديم والوسيط والحديث، وأنها جديرة بأن تحدث ثورة في القلوب الشرقية، وتنقل معاني جديدة من الإنسانية تغير النفس العربية. (2)
Página desconocida
الإنسان والسوبرمان لبرناردشو؛ لأنها جديرة بأن تحدث ثورة في العقول، فتجددها وتجرئها وتغير النظرة والعبرة للمستقبل. (3)
اعترافات روسو؛ لأنها جديرة بأن تجعل أدبنا ينعطف إلى طريق أخرى غير طريقه الحاضرة، فيغدو أدب البوح، أدب السريرة المكشوفة. (4)
مؤلفات أناتول فرانس الذي صار رئيس الجمهورية الفرنسية في جنازته على الرغم من مخالفته لعرف المجتمع الفرنسي، ويمكننا أن نتذوق من هذه المؤلفات أذواقا أدبية جديدة تغيرنا. (5)
قصة آنا كارنينا لتولستوي، تنقل كاملة بأسلوب تولستوي.
أختار هذه الكتب وأمثالها؛ لأنها محورية قد تغيرت الآداب الأوروبية بها، أما شكسبير فلم تتغير هذه الآداب بمؤلفاته، ومع ذلك أوثر كتب العلم؛ لأن حاجتنا إليه ملحة، أما الآداب فيمكن أن نؤجلها. إن لنا مشكلات روحية، ومشكلات أخرى مادية، ولا يمكن شكسبير أن يحل مشكلاتنا الروحية، وإنما الذي يحلها من رجال الأدب هو هؤلاء الخمسة الذين ذكرتهم أو أمثالهم.
أما مشكلاتنا المادية، فقرنا ومرضنا وموت أطفالنا، وقصر أعمارنا، وجوعنا وبؤسنا، وعجزنا عن العيشة النظيفة، كل هذا يحله العلم، بل العلم في عصرنا، يحل مشكلاتنا الروحية أكثر مما يحلها الأدب، وهناك فلسفة علمية، وإنسانية علمية، قد تغير بها نظرنا إلى الإنسان والطبيعة والكون، والنفس العربية في حاجة ملحة إلى هذا التغير؛ لأنها نفس جامدة قديمة تحيا على العقائد، وتنفر، أو تكاد تنفر من الحقائق. ثم العلم هو الذي قرر السيادة لأوروبا على الأمم العربية، فإذا لم نحبه، فلنخفه ونعرفه.
هل الأدباء والفنانون مجرمون؟
كتب كامل التلمساني مقالا فريدا في الجمهورية تحت عنوان «نحن مجرمون»، شرح فيه اتجاه الفنون والآداب أيام الشقيين فؤاد وفاروق ثم انتهى بقوله، باعتباره أحد الفنانين:
لقد كنا مجرمين فعلا في مصر الملوكية، ومن العار ألا نكفر عن خطئنا أيام الجمهورية.
وأحتاج قبل أن أعلق وأشرح، إلى أن أقتبس بعض السطور مما كتبه كامل؛ لأنها جديرة بأن نحققها، ثم إذا كانت حقيقية، فيجب أن نردد معانيها؛ حتى يفهم جمهور القراء موقفهم من الأدباء والفنانين الذين عاشوا أيام هذين الملكين، يقول كامل:
Página desconocida
الإجرام مرض ... والمسئول عنه ... هو المثل والتقاليد والأهداف الاجتماعية ... وما يسري على الإجرام في الحياة يسري أيضا على الإجرام في الفن، فالفن المصري فن شاذ مجرم خلقه المجتمع الفاسد الذي أوجدته الملوكية؛ لتعيش فيه لمصلحة أفراد قلائل يتعاونون مع المستعمر الإنجليزي، ومع المستعمر الداخلي الإقطاعي، وهذا التعاون المنظم ينصب على استغلال موارد البلاد، كما ينصب على استغلال مؤهلات الأفراد ... كان من المستحيل على الملوكية المصرية أن تثبت أقدامها طوال السنوات السود ... دون الاستيلاء الفكري على قلوب الشعب نفسه لتوجيهه لما تريد من الزاوية التي تحافظ بها على بقائها ... لذلك كان لا بد للفن والإذاعة، والمسرح، والسينما، والشعر، والغناء، كل الفنون، كان لا بد منها؛ لتسخر لخدمة الملوكية ضد مصالح البلاد، وضد مصالح الشعب نفسه ... كان الفن المصري، في غالبيته العظمى فنا مجرما من خلق سادة فاسدين، وكان الفنانون المصريون في غالبيتهم العظمى مجرمين فعلا، مجرمين في حق بلادهم، ومجرمين في حق قدسية الفن ومثاليته ... واليوم، هل تغيرت الصحافة والإذاعة والمسرح والسينما والموسيقى والشعر والفنون؟
ويجيب كامل على هذا السؤال بكلماته المعتدلة:
قد تكون في سبيل تغيير شكلها، وقد تكون بصدد تغيير مضمونها، ولكنها لم تصبح ثورية ... لا بد لها من ثورة كاملة شاملة، ثورة في الشكل، وثورة في المضمون ...
قلت ما يكفينى للتعليق والشرح، وقد حذفت الكثير مما لا أعتقد أن حذفه يخل بموقف الكاتب وآرائه. •••
ولا أنكر اغتباطي بقراءة هذا المقال، فقبل أكثر من عشرين سنة ألفت كتابا عن «الأدب الإنجليزي الحديث» أوضحت فيه أنه أدب الشعب وأدب المجتمع، وكان قصدي أن أعكس بمرآته صورة لأدب جديد يعرفها شبابنا، ويطالبون بمثلها للأدب المصري، وفي 1952 كتبت في «أخبار اليوم» مقالا بعنوان «الأدب للشعب» أثار علي عاصفة، يمكن القارئ لكامل التلمسانى أن يفهمها الآن، والآن فقط لأني خالفت ودافعت، عن أدب جديد للشعب، أجل للشعب.
بل إنى في حماستى، صرحت بأني أوثر أزجال بيرم التونسي على أشعار شوقي؛ لأن الأول شعبي والثاني ملوكي، والأول كان يأكل التراب جوعا في باريس؛ لسخطه على فؤاد بينما كان شوقي يؤلف القصائد بالكلمات الرائعة في مدح فؤاد ويحيا في ترف موسد، ويأكل ويشرب في هناء.
وتحليل «كامل» للفنون والآداب ومرجع الانبعاث الفني والإلهام الأدبي صحيح، وإن كان يستحق المزيد من الشرح، فالفنون والآداب جميعا تعبر عن المجتمع وأهدافه ووسائله، فإذا كان الفنان أو الأديب ينتمي إلى الطبقة الحاكمة، ويحيا على ما يكسبه منها، فإنه يعبر عن آرائها، فلا يذكر الشعب، ولا يدرس الاشتراكية، ولا يعترف بأن للشعب أية حقوق، بل ما زلت أذكر أنه عندما ألغى الوغدان زيور وفؤاد البرلمان الشعبى في 1925 كانت صحفه تسمي الشعب «الرعاع».
أجل، وكان طه حسين وعبد القادر المازني يكتبان في الدفاع عنه في الجريدة التي أنشأها الحزب الذي يؤيد زيور، بل وجدنا أدباء بعد ذلك يدافعون سنة 1929 عن وقف الدستور ثلاث سنوات تقبل التجديد، ثم أعقب ذلك التعطيل التام للدستور، هذا التعطيل الذي وجد أيضا من يدافع عنه من الأدباء.
وقد بدأ العقاد حياته الأدبية بالسير مع الشعب، وكافح مع الزعيم العظيم سعد، وسجن من أجل هذا الدفاع، ولكنه بعد ذلك آثر الملوكية على الشعبية، وكذلك فعل طه حسين، ويستطيع الباحث أن يجمع ما كتباه وهما مع الشعب، أيام ثورة 1919، وما كتباه بعد ذلك حين أصبحا ملوكيين، ويقارن ويعلل هذا الانقلاب.
فإن طه حسين الذي ألف كتابا في أيام شبابه، عن المعري الشاعر الشعبي الذي استنهض الشعوب العربية إلى مكافحة المظالم، طه حسين هذا الذي نشأ من الدرجات الأولى في السلم الاجتماعي، وكافح وتعلم في جهد ومشقة، انقلب ملوكيا يفرح برتبة باشا، ويصف الشقي فاروق بأنه «صاحب مصر».
Página desconocida
ويصيح أمام الطلبة في الجامعة، يخاطب هذا الوغد بقوله: «يا صاحب مصر»، ثم لا يكتفي بهذا الكفر الاجتماعي السياسي، بل يزيد عليه بقوله: «إن سلوكك الشخصي يا مولاي يصلح أن يكون قدوة لشعبك والناس».
تأمل هذا أيها القارئ، فاروق قدوة في أخلاقه الشخصية لي ولك ولسائر الناس ... يقول هذا طه حسين ... الذي يصف الأدب ويعرفه بأنه ترف ذهني.
ومثل هذا فعل العقاد الذي وصف فاروق بأنه فيلسوف، أعظم فيلسوف عرفه، كما لو كان هذا البغي يشبه أرسطاطاليس أو أفلاطون، ويؤلف القصائد في مدح فاروق فيقول:
وما اتخذت غير فاروقها
عمادا يحاط وركنا يؤم
ولا عرفت مثله في العلا
صديقا يشاركها في القسم
فدته البلاد وفدى البلا
د بعالي التراث وغالي القيم
إلخ إلخ.
Página desconocida
لقد أصاب كامل التلمساني، إن فؤاد ثم فاروق، قد أفسدا الأدباء والفنانين، وبدلا من أن ينهضوا بالثورة عليهما انحنوا وركعوا ومسحوا الأحذية، ولم ينج توفيق الحكيم من هذا الانهيار، فإن درامة «أهل الكهف» هو دعوة المجتمع اليائس إلى الموت؛ لأنه لا يجد أملا في حياته، أي أمل كنا نجده في نهضة مصر أيام فؤاد وفاروق، يؤيدهما الإنجليز المستعمرون والإقطاعيون المصريون؟
لم يكن اليائسون يجدون أي أمل، ولكن كان في مصر ثائرون غاضبون يبصرون بالصباح من خلال الليل القاتم البهيم، كان منا مثلا بيرم التونسي وعبد الحليم، اللذان لم يستسلما للموت، ولم يفكر واحد منهما في إيجاد كهف يموت فيه الصالحون، ويرفضون الحياة كما فعل توفيق الحكيم بأبطاله في «أهل الكهف».
وكان منا أدباء تمذهبوا بمذاهب الحياة الجديدة، ورفضوا الملوكية والموت واليأس.
إن آدابنا وفنوننا تحتاج إلى نهضة للتمذهب بمذاهب الحياة الجديدة، وليس بمذاهب الموت، آدابنا مثل فنوننا تحتاج كما يقول كامل التلمساني إلى ثورة.
نحو النظافة
من التحيات السامية التي أعتز بها، والتي قصد منها قائلها أن يسبني، قوله قبل نحو ربع قرن: «سلامة موسى المراحيضي»، وذلك أني كنت قد ألقيت محاضرة بالجامعة الأمريكية قلت فيها: إن الإصلاح الأول للريف يقتضينا سن قانون لإجبار المالكين على إيجاد مرحاض لكل منزل؛ لأننا بذلك نوفر النظافة للسكان كما نوفر لهم الصحة والكرامة، وحياني صحفي عريق في جهله بأني «مراحيضي».
وقبل أن يموت الدكتور خليل عبد الخالق تحدثت إليه في هذا الموضوع، فوجدت أنه قد درسه، وشرع يشرح لي ضرورة هذا الإصلاح، وكيف يمكن إتقان الديدان الطفيلية بصنع المرحاض على وضع وقياس معينين.
ثم قرأت في مجلة أمريكية مقالا للسيدة «رامونا بارت» عما أسمته حربا صليبية قامت بها كي تعمم «السيفون» في مراحيض الزنوج في نيويورك، والسيفون هو المضخة التي تكسح المرحاض وتنظفه.
ونفهم من مقالها أن منازل الزنوج كانت تحوي المراحيض، ولكن هذه لم تكن مزودة بالسيفونات لفقر سكانها، وكان لهذا أثره في القذر والعفن والذباب، وقامت هذه السيدة بجمع التبرعات وشراء السيفونات، وتزويد كل مرحاض بواحد منها، فهي مثلي كانت «مراحيضية» ولكنها تفوقت علي بكفاحها، فجعلت دعواتها عملية.
وما أجمل أن نكافح من أجل النظافة، وما أجمل أن نخدم الفلاحين وننظف منازلهم ونطهرها من القذر والعفن والذباب.
Página desconocida
وإنه لأليق وأشرف لكرامتنا أن نعامل الفلاح بالحب، فنتحرى الوسائل والأسباب لنظافة بيته وهناء عيشته، فإننا حين نذكر الريف تجري على ألسنتنا كلمات الأمن العام، وثمن القطن، والري والصرف، وتكاد ألسنتنا تجهل كلمات الحب والهناءة، والنظافة لسكان هذا الريف.
ومع أني لست طبيبا فإني أعتقد أن إيجاد المراحيض أجدى على الصحة العامة للفلاحين من تطهير ماء الشرب، وليس هناك أيسر علينا من أن نسن قانونا بإجبار المالكين على إيجاد المراحيض في المنازل التي يبنونها، وليس أيسر على الحكومة من أن تضع رسما يسترشد به المالكون، ويعملون وفقه، كي يوفروا النظافة لأكثر من عشرة ملايين مصري يعيشون بين برازهم وأقواتهم.
إن الذهن الذكي والقلب البار لا يرضيان هذه الحال المزرية التي يعيش فيها فلاحونا، وليس من الإسراف أن نطالب المالكين بإنفاق جزء من الأموال التي يجمعونها من محصول القطن لتوفير النظافة والكرامة لنصف الشعب المصري أو أكثر.
أرجو أن يحرق جثماني بعد وفاتي
لما مات برناردشو أذاعت التلغرافات أن جثمانه سيحرق، وأنه قد أوصى بألا يصلي عليه القسيس، وقد أدخل جثمانه في الكنيسة يومين، زاره في أثنائها أصدقاؤه وودعوه بتراتيل موسيقية، ثم حمل جثمانه إلى المرمدة حيث أحرق، والمرمدة مشتقة من الرماد الذي يتخلف من النار، ولا تخلو منها مدينة في أوروبا حيث تقوم مقام الجبانة التي لا تزال تستعمل للدفن.
وكان برناردشو يؤثر الحريق على الدفن، ولما ماتت زوجة الكاتب ه.ج. ولز دعاه إلى إحراق جثمانها، وقصد معه إلى المرمدة حيث تأمل كلاهما إحراق الموتى، وقد سر ولز من المنظر، إذ رأى فيه من النظافة والجمال وسرعة الفناء ما حمله على إحراق زوجته.
وقد ذكرت لنا التلغرافات أن برناردشو قد أوصى بأن يخلط الرماد المتخلف منه بالرماد المتخلف من زوجته التي سبقته إلى المرمدة قبل ثماني سنوات، وهذا خيال جميل وولاء أجمل من الزوجين.
وليس الإحراق للموتى جديدا، فإن الهندوكيين، الذين يزيدون على 350 مليونا، يمارسونه منذ آلاف السنين، وليس في الهند كلها جبانة واحدة، إلا للقليلين من المسيحين، وحتى بعض هؤلاء يؤثر الإحراق على الدفن.
ومن الإعلانات الطريفة في بعض الجرائد الأوروبية أن أصحاب المرامد يقولون: إن الحرق أرخص من الدفن، وهذا صحيح في أوروبا؛ لأن الدفن يحتاج إلى نفقات كبيرة لا يحتاج إليها الإحراق، وهذا بالطبع غير ما يتحيزه الدفن من قبور كان أولى بمكانها أن يزرع ويستغل.
وأنا أميل إلى الحرق، وأوثر أن يحرق جثماني بعد وفاتي لجمال الفكرة في النار تحيل جسمي في دقائق إلى بخار ورماد، بدلا من ترك هذا الجثمان يتعفن، ثم ينتفخ البطن بالغازات، ثم ينفجر، ويبقى على هذا التعفن بضع سنوات إلى أن يذهب اللحم والدم ، ولا يبقى غير الهيكل العظمي.
Página desconocida
وإني لأبوح هنا بسر قد يشمئز منه القارئ حين يعرف السبب، وهو أنه قد مضى علي نحو أربعين سنة لم أذق فيها الفسيخ، ومرجع هذا أني كنت أشيع قريبا لي إلى قبره، وكان بالقبر ميت لما يمض على دفنه عشرون يوما، فما هو أن فتح القبر حتى خرجت منه رائحة الفسيخ، وسمعت من أحد اللحادين أن الميت السابق لم ينضج، وغمرتنا الرائحة كأنها نفذت إلى مسام أجسامنا، وبقيت ملوثا بها شهورا.
ومنذ هذه اللحظة إلى الآن لا أطيق هذه الرائحة، بل لا أستطيع أن أذكر كلمة «الفسيخ» إلا مع الاشمئزاز والقشعريرة، وهذه الحال البشعة هي مصيرنا جميعا في الدفن.
وقد يقال: إننا في الجبانات من الموتى، عظة وعبرة بالتجوال بين القبور، ولست أنكر أني أجد ذلك حين أجول بين القبور، ولكن هذه العظة وهذه العبرة يمكن أن نجدهما أيضا في المرمدة، بل إن الفناء السريع يحملنا على أن نحس أن الحياة لا تزيد على أن تكون هباء وهواء، وحفنة من الرماد، وفي هذا عبرة أية عبرة.
وهناك من يحتفظ بالرماد بعد الإحراق في علبة تصونها الأسرة كأنها كنز، وعندي أن هذا خطأ؛ إذ يجب أن نذرو الرماد في الريح كي نؤكد فكرة الفناء.
هذا هو ما فعله لندبرج الطيار الأمريكي، فإنه عقب وفاة أبيه حمل جثمانه إلى المرمدة، ثم أخذ الرماد المتخلف وامتطى طائرته فوق العزبة التي قضى أبوه حياته فيها، ثم أذرى الرماد فوق الحقول، من التراب وإلى التراب.
أجل إنى أوثر المرمدة على الجبانة؛ لأن الفناء بالنار أجمل من الفناء بالتعفن.
المستبد الفاسد
يقول أحد الكتاب الفرنسيين: «إن كل سلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد إفسادا مطلقا».
والسلطة المطلقة هي الاستبداد، وقد يكون الاستبداد سياسيا أو دينيا أو ثقافيا.
فالمستبد السياسي:
Página desconocida