كلاهما يندغم في الآخر، أجل، إن اهتماماته هي: انهض. تعلم. اخدم الشعب. اعمل للمساواة والحرية. ارتفع من شئونك الشخصية الصغيرة إلى الشأن الإنساني العظيم. امتلئ بنهوض الشعب ولا تيأس، فإن الحق والعدل سينتصران على الباطل والظلم.
لما فشلت ثورة 1905 وذبحت حكومة القيصر آلاف الآباء والآمهات والأبناء من الشعب سادت فترة من اليأس والغم، قابلها جوركي بقصة «الأم» كي يبعث الأمل والشجاعة ويحيي الثورة التي خمدت، ونحتاج إلى القليل من النظرة في هذه القصة.
إن القصة تبدأ بعامل تقدمت به السن، يعمل كثيرا في المصنع ويتعب كثيرا، فإذا ترك المصنع وقصد إلى بيته لم يجد شيئا ينسيه تعبه ويأسه وفقره سوى الخمر، يشربها حتى يغيب عن وعيه، هذا الوعي الذي لا يطيقه.
ويموت الأب، ويخلفه ابنه، ويقتدي به، يعمل في المصنع ثم يعب الخمر في المساء، وكأن الدنيا بحضارتها وثقافتها، وهمومها الإنسانية، واهتماماتها الاجتماعية، أشياء بعيدة عن ذهنه لا يعرفها، وتتأمل الأم ابنها فترى فيه صورة أبيه ومصيره، أي: الموت بعد الفقر والبؤس، فتناشد فيه مع البكاء، رجولته وشرفه، وتدعوه إلى ترك الخمر. ولكلمات الأم أكبر الأثر في التوجيه.
ويكف الابن «بافيل فلاسوف» عن الخمر، ويصحو نهاره وبعض ليله.
وعندما يصحو يفكر، وعندما يفكر يسخط، ثم يدفعه السخط إلى التفكير مرة أخرى، ويعرف زملاء له من المفكرين الذين يحملون في قلوبهم الهموم الوطنية، والهموم الإنسانية ويقرأ كما يقرأون، الكتب البذرية التي يؤلفها الحالمون، الذين عرفوا الواقع ولم ييأسوا، بل أملوا في مستقبل زاهر تنهدم فيه منظمات الظلم والاستغلال والامتياز، فيجتمع مع هؤلاء الحالمين من العمال والأساتذة والطلبة يتذاكرون السوء الذي يعيشون فيه، وينظمون الدنيا المشرقة القادمة، وهو يجد بهذا الارتباط بهؤلاء الثائرين الحالمين، قوة تنويرية عظيمة لذهنه الخام، فيقرأ ويدرس ويصنع من نفسه رجلا جديدا، فلا يفكر في الخمر يشربها كي ينسى بها بؤسه، وإنما يفكر فيما يزيد يقظته من هذه الكتب.
وأمه الجاهلة، التي لم تعرف أيام زوجها غير الطبخ، وتحمل الضرب، وشراء الخمر، هذه الأم تتأمل في استطلاع ابنها وهو يعب ويقرأ، ويخبئ الكتب المحرمة، ثم تحدس بعقلها البدائي وترى من الاجتماعات السرية التي يعقدها مع زملائه ثم شيئا جديدا تكاد تفهم خطورته وخطره.
تفهم أن ابنها وزملاءه يخشون الشرطة، وأنهم يقومون بحركات قد تنتهي بهم إلى السجن، فتمتلئ خوفا على ابنها، ولكنها مع ذلك كانت تنظر إلى هؤلاء الزملاء وتقشفهم في العيش واستقامتهم في السلوك وكياستهم في المعاملة، فتمتلئ إعجابا بابنها الذي لم ينشأ مثل أبيه سكيرا قذرا لا يعرف من الأصدقاء غير رفقاء الحانة، ولا يفتح كتابا ولا يطيق اليقظة، إن ابنها يعرف الطلبة والأساتذة المهذبين ولا يشرب الخمر.
ويدفعها حبها لابنها إلى السؤال عن معنى الثورة بل معانيها، وإلى الأهداف الإنسانية الكبرى التي يحتضنها ابنها وزملاؤه، وإلى البرامج التي يتبعونها، وتتسلل الكلمات والأفكار إلى قلبها، ويدخل شعاع بعد شعاع من النور إلى عقلها المظلم، فيستضئ، وتشرع وهي في العقد الخامس أو السادس من عمرها في تعلم القراءة.
لقد أحالتها أفكار الثورة إلى إنسان ناهض بعد نصف قرن من الظلام، وتلقي حكومة القيصر القبض على ابنها؛ لأنه يخطب ويوزع المنشورات الثورية ضد القيصر، وتطرحه في السجن.
Página desconocida