جامعاته هي الكتب، وأعظم ما أثر فيه كما سنرى، هو العلم.
العلم هو الذي جعله يحلم ويبني الآمال، فيجعل قصصه لذلك واقعية خيالية، إن جوركي أحيانا يشمئز من حياة العمال، من قذارتهم، وسكرهم، وضربهم لزوجاتهم وجهلهم، واستسلامهم للعقائد الخرافية، وخضوعهم، ولكنه مع كل ذلك يرى آفاق المستقبل المشرقة فيحلم ويتخيل، ويبني أحلامه وخيالاته على العلم الذي سيغير الدنيا.
وتمتاز «الجامعات» التي تعلم فيها جوركي بأنها لم تفصله عن الشعب في غرف دراسية تلقى فيها المحاضرات بعيدا عن السوق والمتجر والمصنع؛ إذ كان وهو خباز، يحمل ويخبئ في صدره رسالة صغيرة عن علاقة الأجور برأس المال أو كتابا لكوربتكين عن زيادة الإنتاج حتى يصير الفقير غنيا.
ثم كانت هذه «الجامعات» أيضا تمتاز بأنها لم تحمله على إضاعة وقته في دراسات ومناقشات موروثة عن القرون الوسطى أو في التعليقات والتفسيرات لأشعار شكسبير أو درامات الإغريق.
كان جوركي يقرأ، ويدرس، ويختار، وفق حاجاته الذهنية، ولذلك كان يهضم ويمثل ولا يقيء ما قرأ ودرس، كان إحساسه بجاهلية شبابه يجعله يحس الظمأ للمعرفة. •••
ولكن تقلبه في الأعمال الوضيعة، أو ما نسميها وضيعة في نظامنا الاجتماعي، جعله يحس إحساس الشعب، وكانت لقمة العيش الجافة التي كان يحصل عليها بالعرق والتعب تحمله على التفكير في غيره ممن يأكلون مثل هذه اللقمة، ولا يكادون يسيغونها.
وحين يكون الشعب الأساس أو الهدف للأديب، يزدهر الأدب، وتزخر الثقافة؛ وذلك لأن أحوال الأفراد في الشعب، وأهدافهم، وألوان البؤس أو السعادة فيهم لا تنتهي؛ ولذلك نحن نجد في أبطال القصص التي ألفها جوركي شخصيات تتعدد وتتنوع، نجد الراهب في صومعته، والمشرد السفاح، والصبي المترف المدلل، والثائر، والجاهل الذي يحاول أن يتعلم، والصحفي البائس، والثري المستبد والرجل الناهض، وجوركي يحب اثنين من الرجال ويكره اثنين:
يحب الرجل الناهض الذي أفاق من نومه وشرع يستطلع الدنيا ويدرس، ويكبر، حتى ولو كان رأسماليا، أي: الرجل الذي ينفض نفسه من الكسل أو يرتفع من الوهدة التي أراده فيها المجتمع، أو الثائر الذي يحاول التغيير لهذا المجتمع.
ثم هو لحبه للحرية والاستقلال والاستطلاع يحب شخصا آخر هو ما نسميه «المتشرد»، فإنه يؤثره على الثرى الناعم الذي لا يكاد يعرف من الاستمتاعات في هذه الدنيا غير الطعام والشراب، كما يؤثره على التاجر الجشع الذي يجمع المال لمحض جمع المال، ويتعس الآلاف في سبيل ذلك بإفقارهم وحرمانهم.
وواضح أن جوركي لا يدعونا إلى أن نكون «متشردين» ولكنه يهدف إلى المقارنة بين من يسميهم السادة الممتازين بالمال، المستمتعين بالكسل والطعام والشراب، وبين المشردين العاطلين الذين يحملون في صدورهم عواطف فجة بدائية للثورة، فيهيمون، كما يهيم هو عندما استقر فترة من حياته على صيد الطيور، وكأن هذا العمل حرفة.
Página desconocida