ولا نباشر في المساء والصباح، شيئا من الأعمال التي ما فزنا منها بالنجاح، وتحول بنا عن السهل إلى هذا الجبل المرفوع؛ ليفترسنا الوحش أو نموت من الجوع، ونستريح في هذه المرة، من المعيشة الكريهة المرة، ولا برح يسخط على الزمان الخئون، ويحسن لأخيه شرب كأس المنون، حتى أطاعه وصعد معه على هذا المرتفع الشاهق، الذي رأسه للسحاب ملاصق، فلما استويا على ظهره، وركض بأرجلهما في وعره، انتهيا فيه إلى مغارة، في ساعة اشتدت بها الحرارة، وكانا قد أضر بهما الظما، وكادا يكتحلان بمراود العمى، فمالا إلى المغارة المذكورة، التي تبدو لعين الرائي كأنها مقصورة، وحيث كان وصولهما إليها من طريق اضطرمت فيها من القيظ نيران، سقطا على الأرض كالموتى تحت بعض الجدران، وأقاما على هذه الحال إلى وقت العصر، وكانت درجة الحرارة قد انحطت وزال الحر، فارتكن أحدهما بظهره إلى جدار، فوقعت عليه منه قطعة جص لا يحملها حمار، لكنه مرق من تحتها كالسهم، ولم يحصل له منها أدنى وهن ولا وهم، والتفت بوجهه إلى هذا الجدار، وأمعن النظر فيه، وتأمل بالدقة في تركيبه ومبانيه، فإذا هو من آثار بناء رصين، هو في الحقيقة عبارة عن دائر قبر كأنه حصن حصين، وقد اقتضت الحكمة الإلهية أنه قد انفتحت فيه طاقة متسعة، فنظر فيها وكان أخوه راقدا فنهض معه، فلم يدركا آخرها ببصرهما الحديد، ولم يدركا به ما وراءها من الامتداد البعيد، وكان بيد أحدهما آلة، فعالج بها هذه الطاقة، واستعان بأخيه على هذا العمل، حتى أحدثا في الجدار المذكور فرجة يلج منها الجمل، وانكشف لهما سرداب عظيم الاتساع، مهندم الشكل جسيم الارتفاع، فانطلقا فيه كفرسي رهان، وعثرا في آخره على إيوان، فألفياه مزخرفا بنقوش وكتابات، وصور ورموز وإشارات، ووجدا به جملة من الجواهر والأحجار، الثمينة الغالية الأسعار، واللآلئ البديعة، والدرر الرفيعة، والصور الغريبة، والأواني العجيبة، والأموال الوافرة، والأسلحة الفاخرة، فسجدا شكرا لله سبحانه على هذه النعم الجزيلة، والهبات الربانية الجليلة، ثم توجها إلى أقرب مدينة من الجبل المذكور، واكتريا بها دارا واسعة ذات سور، ونقلا إليها كنزهما في عدة أيام، من غير أن يشعر بهما أحد من الأقوام، وأكثرا من الحشم، والجواري والخدم، وفتحا الأبواب للغادي والرائح، والسائح من الناس والبارح، وانتجعتهم الشعراء من جميع الفدافد، بكل ما رق وراق من منتخبات القصائد، فغمرا منهم الماشي والراكب، ببحار العطاء والمواهب، وأنفقا على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، وشيدا المساجد للعبادة والمارستان لمعالجة المريض والعليل، وشاع ذكرهما في السخاء والبذل في الشدة والرخاء، واشتهرا في جميع الآفاق بالسماحة ومكارم الأخلاق، فانجذبت إليهما قلوب العباد، وأثنوا عليهما في كل ناد، وأقبل عليهما أكابر الدولة وأمراؤها بوجه بشوش، ولهجت بحسن سيرتهما الرعية والجيوش، وتناشدوا مدائحهما في مجلس سيد الأقيال، سلطان عصرهما أبي الأشبال، فأرسل رسوله في طلبهما؛ ليقف بنفسه على حقيقة نسبهما، فلما قدم بهما عليه، قبلا الأرض بين يديه، وقال أكبرهما يمدحه بهذه الأبيات، بعد ما دعا له بطول البقاء وصفاء الأوقات:
لئن شرفت أرض بمالك رقها
فمملكة الدنيا بكم تتشرف
بقيت بقاء الدهر أمرك نافذ
وسعيك مشكور وحكمك منصف
ومكنت في حفظ البسيطة مثلما
تمكن في أمصار فرعون يوسف
ومذ تبين له بعد أن تليا عليه ما لهما من القصص، وما تجرعاه في مدة حياتهما من القصص؛ أنهما ممن حنكتهم التجاريب، وهذبتهم التداريب، وعرفوا أصول السياسة، واستحقوا الانتظام في سمط أرباب الرياسة؛ بسط لهما بساط فضله وكرمه، ونظر إليهما بعين عنايته وحسن شيمه، وقربهما من سدته، وجعلهما من ندمائه وعترته، واعتمد عليهما في تدبير مملكته المنيفة، ولا يزال يقلدهما وظيفة بعد وظيفة، حتى خلع على أكبرهما خلعة الوزارة، وألبس أصغرهما حلة الإمارة، وكان له كريمتان من المخدرات، كأنهما الشمس والقمر بين أترابهن من البنات، فأنعم على الوزير بالكبرى، ومن على الأمير بالصغرى، وتبدل عسرهما باليسر، وتضاعف منهما لله الشكر، وعاشا معه في سعة وأرغد عيش، رافلين في حلل الحرير بعد الخيش، هكذا كانت عاقبة هذين الأخوين، اللذين نشآ يتيمين فقيرين، وقد سعيا بقدميها إلى المنية، فكان لهما في هذا السعي بلوغ الأمنية.
المقالة الرابعة
وتلك الأيام نداولها بين الناس
Página desconocida