المقالة الأولى
المقالة الثانية
المقالة الثالثة
المقالة الرابعة
المقالة الخامسة
المقالة السادسة
المقالة السابعة
المقالة الثامنة
المقالة التاسعة
المقالة العاشرة
Página desconocida
المقالة الحادية عشرة
المقالة الثانية عشرة
المقالة الثالثة عشرة
المقالة الأولى
المقالة الثانية
المقالة الثالثة
المقالة الرابعة
المقالة الخامسة
المقالة السادسة
المقالة السابعة
Página desconocida
المقالة الثامنة
المقالة التاسعة
المقالة العاشرة
المقالة الحادية عشرة
المقالة الثانية عشرة
المقالة الثالثة عشرة
المقالات الأدبية
المقالات الأدبية
تأليف
صالح مجدي
Página desconocida
المقالة الأولى
الجزاء من جنس العمل
كان لي جار من الكهول، يخلب بسماع أحاديثه العقول، فقال لي ذات يوم - وقد خلا ناديه من الناس، ولم يكن معنا فيه أحد من الجلاس: يا بني، إنه يختلج في صدري منذ أربعين سنة سر ما جرى ذكره في هذه المدة الطويلة على الألسنة، وها أنا عليك الآن أقصه، وكما رأيته بأسانيده أنصه، فأعر سمعك لمقالي، والتقط منه نفيس اللآلي. إني دعيت بمجلس أنس إلى وليمة عرس، فبادرت بالإجابة عملا بما رواه عن النبي الصحابة، فلما دخلت دار العروس عطفوا بي، قبل الجلوس، على الخوان؛ لتناول ما راج من الطعام، مع فتية من الظرفاء وأبناء التجار العظام، ثم انتقلت مع هؤلاء الجماعة، بعد مضي برهة لا تنقص عن ساعة، إلى مجلس سماع الألحان والأغاني المطربة الحسان، فلاحت مني التفاتة ذات اليمين.
فرأيت رجلا منعزلا في ناحية عن الجالسين، وهو قصير القامة، دقيق الساقين، أشعث أغبر، مشوه الخلقة، حالك السواد، قبيح المنظر، محدودب الظهر، مرتفع الصدر، فقلت لخال الفتاة الذي دعاني إلى الوليمة: من أين تعرف هذا الرجل صاحب الخلقة الذميمة؟ فقال لي وهو مبتسم: إن هذا العبوس هو صهري أبو العروس؛ فقلت: تبا له! مالي أراه وهو رب الفرح غارقا في بحار الهم والترح! فقال: إنه ورث جميع ما فيه عن جده وأبيه، وإني سألت عن أطواره وأحواله أحد أقاربه وأمثاله، فأخبرني أنه ما دعي فأجاب، ولا تكلم في أي مادة فأصاب، ولا قرع بابه ابن سبيل، ولا تصدق على سائل بالنزر القليل، وطالما لهج أمام والده في المحافل ، مع ما هو عليه من البخل بقول القائل:
هبك عمرت عمر عشرين نسرا
أترى أنني أعيش وتبقى
ولئن عشت بعد موتك يوما
لأشقن جيب مالك شقا
وهو وإن كان والد ربة الزفاف، وبعل أمها شقيقتي بلا خلاف، فإنه ما حضرها في عقد نكاح، ولا قام لها بأداء واجب ولا مندوب ولا مباح، ولا سعى بدعوته إلى داره أحد لعدم وقوفه في شحه عند حد، وما أظن أنه بش في وجه صهره وهو ابن أخيه، الذي ما بنى بابنته لرغبته فيه، بل لطمع في الاستحواذ على ماله من بعده، عقب حلوله عما قليل بلحده؛ لأنه عار عن حلل المروة، مجرد عن حلية الإنسانية والفتوة، تارك للمفروض والمسنون، متقلب في أودية السخف والجنون، مشغوف بالأباطيل، آخذ في الأضاليل، ما انبعث شعاع عقله لشيء سوى العبث، ولا شيع هالكا إلى جدث، وهو حائر في أمره، نابذ لمكارم الأخلاق وراء ظهره، وقيل إنه قصد الأقطار الحجازية للتجارة، في سنة من السنين لا للحج والزيارة، وكان ذلك غب قدومه من العراق بكثير من الجمال والنياق، فقالت له أمه: خذني معك إلى بيت الله الحرام؛ لأقضي فريضة الحج هذا العام، فأجابها إلى سؤالها بشرط أن تكون نفقتها على نفسها من مالها، فلما توسطت الدرب في السير مع الركب سقطت من تحتها الراحلة، وكادت تفوتها القافلة، فمشت على قدميها حتى كلت وضعفت قواها واضمحلت، وولدها لا يلتفت إليها، ولا تأخذه رأفة بها ولا شفقة عليها، فقالت له، وقد وقفت من شدة التعب عن المسير، وامتد إليه طرفها فارتد وهو حسير: يا بني، احملني على واحدة من هذه الدواب؛ لتفوز في غد بجزيل الثواب، ولا تتركني في هذه الفدافد الشاسعة، والدروب والعقبات الوعرة غير الواسعة؛ فأموت بالظمأ والسغب، أو أقع في قبضة أحد من العرب، أو تفترسني الوحوش الكواسر، وأنت على خلاصي من هذه التهلكة قادر.
فقال وقد نسي ما لها عليه من الحقوق، مبارزا لها بالعقوق: هيهات هيهات أن يستوي على قتب، سوى من يبذل الفضة والذهب ، فأنقديني خمسين من الدراهم، التي هي لجروح أمثالي كالمراهم؛ حتى أسمح لك براحلة سريعة الحركة، لا يلحق غبارها سليك بن السلكة؛ فقالت له: يا بني، إني حملتك تسعة أشهر في بطني فلا تخيب فيك ظني، وتذكر قول الرحيم الرحمن في كتابه المنزل على سيد ولد عدنان:
Página desconocida
وبالوالدين إحسانا ؛ لتزداد يقينا وإيمانا، فقال لها - ولم يزدد إلا جحودا وقسوة، وحنقا ونفورا ونبوة: لا سبيل لك بغير المنقوشة إلى بلوغ المرام، فاقطعي حبال الرجاء واذهبي عني بسلام.
وكان بإزائهما من يسمع ما دار بينهما من المقال، فتى قد توفرت فيه شروط السماحة والوجاهة والكمال، فقال لها: اركبي يا أماه على هذه الراحلة، فأنت سميرة والدتي في القافلة، ثم نظر إلى هذا المهين نظرة الغضب، وعبس في وجهه وقطب، وقال بعد أن قرعه بالعصا، ورجمه بالحصا: يا قذى جفن الدين، وبلاء نفوس المهتدين، أما علمت أن الجنة تحت أقدام الأمهات، وبطاعة الوالدين يفوز الولد بأقصى الدرجات! لك الويل إن الشقاوة غلبت عليك، وقادك العقوق إلى النار برجليك، ثم خلى سبيله وانصرف، وهو على عدم قتله في غاية الأسف.
وبالجملة فأخبار هذا السفيه المفند في مثل هذه الرذائل لا تعد، ثم ضرب صفحا عن ذكره، بعد أن لعنه في علانيته وسره، ولا زلنا نخوض في حديث بعد حديث، ونحن ساخطون على هذا الرجل الخبيث، حتى عول الحاضرون على الرواح، وكان أكثر الليل قد مضى ودنا الصباح، فانتصبت عند انفضاض الناس للوداع، وكان غيري قد فاز بلذة السماع، وقلت لغلامي: يا ابن شكلة، هيئ لي على الفور البغلة، فقال: إني تركتها في الدار مع الجواد والحمار، هنالك انتهز صاحبي الفرصة، وقال: إنه لم يبق من الليل إلا حصة، فاقبل مني النصيحة، واسترح في هذه القاعة الفسيحة، وكنت لطول السهر قد اعتراني بعض فتور وخدر، فلم أخالفه فيما به أشار؛ لبعد المنزل واقتراب النهار، بل أجبت بالطاعة، وتبعته إلى القاعة.
وبعد أن اضطجعت فيها على سرير، ودعني وعدل إلى بعض المقاصير، وإذ كنت بين اليقظان والنائم في تلك القاعة الخالية من النسائم، إذ سمعت من بعيد صلصلة حديد؛ فطار عن جفني الوسن، واقشعر مني البدن، وتلوت وقد أعياني الأرق:
قل أعوذ برب الفلق ، وبينما أنا من الفزع في اضطراب إذ أبصرت معي شبحا من داخل الباب، فتأملته وقد استولى على قلبي الرعب وخفق، وكدت أموت من شدة الفرق، فإذا هو رجل طويل القامة، قصير اليدين، كبير الهامة، عاري الجسد، أصلع الرأس، يلوح عليه مع شيخوخته أنه شديد البأس، فقويت جأشي وثبت الجنان، وقلت له: أمن الإنس أنت أم من الجان؟! فصاح صيحة كأنها الرعد في خلال الغمام، وتنهد تنهد الواله المستهام، ثم قال بعد هذه الضجة: قد مر بي عشرون حجة، ما طرق سمعي حديث بشر، ولا وقعت عيني على أنثى ولا ذكر، فما هذه الأغاني والأصوات، والألحان الموسيقية المطربات، التي شنفت المسامع؟ وما هذه الشموع التي أضاءت بها جميع المواضع؟ فقلت مجيبا له وقد سكن روعي، وتماسكت بعض التماسك ضلوعي: إن رب هذه الدار أنكح ابن أخيه ابنته نوار؛ فصرخ صرخة هائلة وسقط على الأرض، وقد كاد بما حل به من التشنجات يختلط طوله في العرض، فلما أفاق من غشيته، ورجع إليه بعض قوته، قال: اللهم اجعل هذه الوليدة برة بوالدتها سعيدة، ولا تجعلها كأبيها الشقي المحروم من رحمة الحي القيوم، فقلت له: من أنت يا أبتاه؟! ومن أين أقبلت يرحمك الله؟! وما هذا الحديد الذي حمله أعياك، وأودى بك إلى هذه الحالة في دنياك؟! فجثا على ركبتيه، وبسط راحتيه، وقال بعد تضرع وابتهال، وطلب الغفران من ذي الجلال: إني والد هذا الجبان الخائن، عدو نفسه المهان المائن، وإني أقبلت عليك من طبقة في الأرض تحت قدميك، طرحني فيها هذا الوغد العنيد، بعد أن كبلني - كما ترى - بالحديد، ولعل الباعث له على ذلك - والله أعلم بما هنالك - هو أنه زار في بعض الأيام ثلاثة إخوة من اللئام، وكان أبوهم هلك عن تركة جسيمة، وأموال عظيمة القيمة، فلما اقتسموها وهو إليهم ناظر، تكدر منه على عدم موتى الخاطر، ودخل علي في بعض الليال، ومعه أربعة متنكرون من الرجال، فوضع في رجلي هذا القيد الثقيل، وحبسني في هذه الطبقة عن الصاحب والخليل، وأشاع أني شربت كأس المنون، وبكى واستبكى علي العيون.
تنكرني دهري ولم يدر أنني
أعز وأحداث الزمان تهون
فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه
وبت أريه الصبر كيف يكون
وقد لبثت في السجن عشرين من الأعوام، لا يزورني فيها من الناس شيخ ولا غلام، ولا أتغذى في الليل والنهار، إلا بشربة ماء ورغيف من الكشكار، تدفعها إلي في كل صباح، عجوز اسمها كفاح، ثم تغلق علي باب الطبقة، ولا تأخذها بي شفقة، وقد غفلت في يوم هذه الوليمة عن الباب، فتركته وانسابت كأنها الحباب في الحباب، فلما خفقت الأصوات، وانقطع حس الآلات، خرجت لاستنشاق النسيم، فاجتمعت بك في هذا الليل البهيم.
Página desconocida
ثم إنه استعد للانصراف إلى حبسه وهو ساخط على يومه، راض عن أمه، فقلت له: إلى أين وقد فرج عنك الكرب، ونجوت وزال عنك الخطب، وتخلصت من الطبقة والتصفيد، وبلغت - بمنه تعالى - فوق ما تريد؟ فقال ودمعه في انهمال، ونيران جواه في اشتعال: يا بني، جزيت عني خيرا، ولا لقيت من زمانك ضيرا، كيف السبيل إلى الخلاص، وليس لي عن السجن مناص؟! وكيف أرمي ولدي باتباعك في مهاوي الفضيحة، وأكشف الغطاء عن أفعاله القبيحة؟ وإن أجلي قد أخذ في الاقتراب، وشمس حياتي قد توارت بالحجاب، فقلت له: لا تخش على ولدك من الفكاك العار، فإن لي التزاما بعيد المزار، أسيرك إليه في غد؛ بحيث لا يشعر بك أحد، فقال لي: لا سبيل إلي ما جنحت إليه؛ لأن ذمتي لا تطاوعني عليه، فقلت له: إن أبيت إلا الإصرار على الإقامة في غيابة الجب إلى يوم القيامة، فأنا أسعى في خلاصك منه بالقوة القهرية، وأفضح ولدك بين البرية، فقال لي: يا بني، سر على مهل ولا تعجل، فالجزاء من جنس العمل، وكما يدين الفتى يدان، وإني مستحق لهذه العقوبة من قديم الزمان؛ فإني قتلت والدي في حب المال، وجرعته بيدي كأس الوبال، وهذه آثار دمه على الجدار تشهد علي بأني رميته بسهام البوار. فلما عرفت حقيقة الخبر، ووقفت على جلية الأثر، تبين لي أن الوالد أشقى من الولد، وأن عذابه في الآخرة أشد، وكان الليل قد أدبر، والصبح قد أسفر، فانطلق وهو أبغض إلي من قاتل ابن جبير، ولسان حالي يتمثل فيه بقول البهاء زهير:
بحق الله متعني
من ذاتك بالبعد
فلا تصلح للهزل
ولا تصلح للجد
فلا صبحت بالخير
ولا مسيت بالسعد
فكان آخر عهدي بهذا الجار أول انقطاعي عن سماع مثل هذه الأخبار، فخرجت من داره، عازما على عدم ازدياره، قائلا في نفسي: لا راد لما قضاه الله وأراده، راجيا منه سبحانه أن يختم لنا بالحسنى وزيادة.
المقالة الثانية
في التصريح بحميد الأخلاق، والتلويح بالتوبة عن الاعتراض على الرزاق
Página desconocida
دخل رجل من سكان الأطراف، ذات يوم مدينة بديعة الأوصاف، وطاف بشوارعها المنيفة، وأزقتها المرونقة اللطيفة، وأسواقها النفيسة الأمتعة، وخاناتها ذات الأقمشة الثمينة والحلل المرصعة، فرأى في أثناء طوافه بهذه الأماكن المزخرفة، الحوانيت والمساكن جما غفيرا من ذوي الثروة واليسار، والأبهة والرفاهية والاعتبار، والنعم الوافرة، والخيرات المتكاثرة، وكان عليه أطمار بالية، ولم تكن عيشته حالية، فترك المدينة وانتجع الجبل، وقلبه بنيران الاعتراض على رازقه اشتعل، فلما خلا بنفسه تمنى موته وحلوله برمسه، ولكراهته في البقاء، واعتقاده أنه خص من بين الناس بالشقاء؛ خلع جلابيبه وقذف بها إلى السماء، وضل عن طريق الهدى واستحب العمى، وتمادى على القذف بها إلى الجو وهي تسقط عليه، وتنجذب في أقل من لمح البصر إليه، وما برح عاكفا على هذا العمل، حتى وهت قواه وضعف جسمه وكل، واحتاج إلى الراحة فجلس على الأرض.
وهو على غاية من الغضب والنكد، وكان بالقرب منه أجمة فيها أسد، قد خرج من عرينه للاصطياد، والفتك بكل حيوان صعب الانقياد، فلما وقعت عينه على هذا المعترض المخالف، لم يصرفه عن الحملة عليه صارف، فزمجر زمجرة الرعد، وأيقن بنيل المنى وبلوغ القصد، فأقبل عليه بأظافر كالخناجر، وكشر عن أنياب كالسيوف البواتر، وكاد يبدد منه أمعاه، ويريحه من الاعتراض على مولاه، هنالك ضاقت به الحيل، وانقطع منه الأمل، وتحقق أن القضاء به نزل، وانطوى من حياته سجل الأجل، فاسترجع وحوقل، وتاب من ذنبه وعلى الله توكل، وأخلص النية، وأقبل على التضرع بحسن طوية.
وبينما هو متقلب في أودية الدهشة والحيرة، مترقب هلاكه وضيره، إذ ظهر له وهو في أثناء الخطر فارس على فرس محجل أغر، لا يلحق منه الغبار، ولا يجول سواه معه في مضمار، وكان هذا الفارس شديد الباس، وافر العزم قوي المراس، فعطف بلا مهل على أسامة، بشهامة تامة وصرامة، وخفف ما عليه من اللباس، وألقى ما بيده من السلاح، وهجم عليه وهو من نفسه واثق بالنجاح، ولكمه بيده على أنفه، لكمة هائلة ساقه بها إلى حتفه، وبإقدام هذا الهمام المنيع، تخلص الرجل من الموت المقتضب السريع، ثم وقف على مصرع أبي الحارث وأنشد، وهو منه في الكفاح أقوى وأشد:
عرضت نفسك للأخطار معتمدا
على وثوقك في الإقدام بالظفر
ولو علمت بما لاقى سواك لها
مشيت وحدك في البيدا بلا خفر
ولما نجا هذا اليائس على يديه، دنا منه وانكب على قدميه، فانحنى عليه، ومن الأرض أقامه وقبله بين عينيه، وهنأه بالسلامة.
وبينما هو يسأله عن سبب تجرده عن الثياب، ووجوده في هذا القفر الخراب، وهو يجيبه عما دار في خلده من الوسواس، من اعتراضه على رب الناس، ويخبره أنه إلى الله تاب، وأقلع عن ذنبه وإليه أناب؛ إذ خرجت عليهما قطاع الطريق، من كمين في درب داخله مضيق، فقال له: لا تخف ولا تحزن، وقف مكانك وإلى الفرار لا تركن، ثم وثب على صهوة جواده الأدهم، وامتشق سيفه وعليهم أقدم، وهو يقول وقد اعتراهم من حملته الذهول:
أنا الهمام الذي في كل معترك
Página desconocida
سيفي يقرب من أخصامي الأجلا
فلو تمثلت في الهيجا لعنترة
لفر عن جنده رغبا وما وألا
ولو زحفت إلى الأبطال منفردا
لانفل جمعهم من قبل أن أصلا
ولما انكشف عنه الغبار بعد ساعة، وقد قتل عشرة من الجماعة، ولم ينج من سيفه الماحق، سوى من كان تحته جواد سابق، كر راجعا إلى صاحبه كالقشعم، وهو بهذين البيتين يترنم:
والنصر من تحت أعلامي وبين يدي
بالأمن يسعى إلى من قد أبيح دمه
ولو تمثل لي شخص الزمان وفي
كفي حسام لزلت في الوغى قدمه
Página desconocida
وعندما قرب منه سارع إلى ملاقاة جنابه؛ ليحظى بلثم قدمه في ركابه، وأطلق لسانه بشكره، وأثنى عليه في سره وجهره، وكان الفارس قد جمع الأسلاب، بعد أن فرق الأحزاب، وهم بدفعها إلى صاحبه؛ لتذهب عنه بالفقر وغياهبه، وقال له: اقبل هذا النزر اليسير، واعذرني في التقصير، وإن شئت فسر معي إلى الأوطان، حتى تكون آمنا في ذمامي من حوادث الأزمان، فقال له وقد اتسع صدره وانشرح، ولاحت عليه بشائر السرور والفرح: إن مفارقة الأرواح للأشباح أهون علي من فراقك يا فارس البطاح، وكيف أقدر على ذلك وقد دفعت عني المهالك، وغمرتني بالإحسان بعد أن بدلت خوفي بالأمان؟! فاسمح لي بخدمتك؛ لأعيش في نعمتك، فأجاب إلى ما طلب، وبلغه بمرافقته الأرب، والفارس المذكور هو من نسل معن بن زائدة المشهور، وهو في السماحة آية، وفي الجود غاية، وفي الحلم لا يجارى، وفي العلم والرواية لا يبارى، وفي الشعر حسان، وفي البلاغة سحبان، وله دراية تامة بالأخبار، ومعرفة كاملة بالآثار، وهو أول مبادر إلى سماع النوادر؛ قيل إنه خرج غير مرة من جميع ماله بدون احتياج أحد من الناس إلى سؤاله، ولطالما كان يترنم في المحافل بقول القائل:
المال ينفد والثناء يخلد
والجود في كل المواطن يحمد
وأخو السماحة في البلاد جميعها
بين العباد على الدوام مسود
ونقل عنه صاحبه الذي فاز منه بالذمام، واستغرق في خدمته عدة من الشهور والأعوام، أنهم دخلوا عليه في ناديه بمغلول، وقتيل على الأعناق محمول، وقيل له: إن ابن أخيك قتل ابنك عمدا بلا شريك، فأمر بإطلاقه من حبال وثاقه، وقال له وقد عافاه من القصاص، ومن عليه بالخلاص:
قتلت أخا كريما كان عونا
على الأعداء في يوم الكفاح
وبالإثم ارتديت ولست تدري
بأنك صرت مقصوص الجناح
Página desconocida
ثم أقبل بوجهه عليه، وأبدى له من الابتسام ما دفع عنه كل ما هجس بخاطره من توقع الانتقام، ولخوفه عليه من غائلة أتباعه بعث به في أمان إلى بعض أقطاعه. ولعمرك هذا هو الجود الذي أنسى جود حاتم، والحلم الذي محا من الصحف حلم قيس بن عاصم.
وزاره في داره ذات يوم جماعة من الأفاضل، ممن تتحلى بمعارفهم أجياد المحافل، فتجاذب معهم أطراف الرواية، وأظهر كل منهم فيها ما عنده من الدراية، وقام وتكلم فأحسن، وتنوع فيما أبداه وتفنن، وأطلق لجواد فكره في هذا المضمار العنان، ففاز بالسبق وحاز قصب الرهان، ولا زال في هذا المبحث الطويل ينتقل من الجمل إلى التفاصيل، حتى قال في حقه، من يعول على صدقه:
لله درك من إمام ما له
بين البرية في الرواية ثاني
كم من مخبأة كشفت لنا الغطا
عنها بأعذب منطق وبيان
ومن محاسن شعره الذي سارت به الركبان، وأضاءت ببدور معانيه في خدور مبانيه الأكوان، ما رواه عنه أبناء الأدب، واستملاه نبلاء العجم والعرب، حين قال في خطابه لابن وده، وقد أصمى فؤاده بسهام صده:
حسبي بحبك في الغرام نحولا
ومدامعا فوق الخدود سيولا
سل عن ليال بالجوى قضيتها
Página desconocida
وقد اتخذت بها السهاد خليلا
نعم السهاد فلو ألم بي الكرى
لرأيت مع طيف الخيال عذولا
وقوله لنديمه في مجلس انشراح، طاب فيه تناول الراح:
هاتها يا نديم من خد أهيف
سيف لخطيه في المضارب مرهف
عاطنيها ممزوجة برضاب
طاب لي منه في الصبابة مرشف
وقوله لمليحة اسمها حياة الأنفس، وقد خطرت بين يديه في حلة من سندس:
ملئت بحبك يا حياة الأنفس
Página desconocida
كل القلوب عرفت أم لم تعرفي
وعلى هواك وقفت روحي فاسمحي
بقبولها مني ولا تتوقفي
ونقل عن صاحبه الذي اتسعت دائرة أرزاقه، عند اختصاصه به وتخلقه بأخلاقه؛ أنه حضره في يوم افتخر فيه بالبلاغة كل حكيم، وامتاز فيه بالفصاحة كل عليم، فقام على قدميه، وابتكر خطبة لم ينسج على منوالها، ولم يأت قبله أحد بمثالها، فلم يبق أحد من فصحاء تهامة إلا أذعن له بالزعامة، وهو جدير بما قال فيه بعض واصفيه:
قس الفصاحة في زمانك أبكم
ولأنت منه بكل شيء أعلم
ولديك سحبان البلاغة أخرس
مع أنه في عصره متكلم
وقد ضربت الأمثال بصدقه في الأخبار، واعترف له به العلماء والأحبار، وقام الدليل والبرهان، على أنه أوحد الزمان:
هو الثقة الذي نسعى إليه
Página desconocida
لنأخذ عنه أخبار الأوائل
هو البحر الذي في كل فن
يحل بفكره صعب المسائل
ولقد سأله أحد جلسائه عن تاريخ بعض الممالك المشهورة، وعن مباني البرابي والأهرام التي هي من الآثار المأثورة، فأجاب عما أراد بأوضح إشارة، وأرشده إلى الصواب بأفصح عبارة، وأماط القناع عن وجه أشرف البقاع، وبسط الكلام على ما كانت مصر عليه من الأحوال الظاهرة والباطنة في عهد ملوكها الأولين من الفراعنة، ونوه بما وقع فيها من كمشيد وباقي الأكاسرة، ونبه على حوادث البطالسة والقياصرة، وقص أثر فتوحها بالإسلام، وانتزاعها من قبضة الأروام، وكان ذلك في محفل حافل، حضره جم غفير من الأفاضل، وقد قام من بينهم شيخ كبير بدقائق علم التاريخ خبير، فقال مخاطبا له بأشرف المعاني، وألطف الألفاظ والمباني:
تاريخ آدم والدنيا بأجمعها
لولاك ما زاد إيضاحا ولا ظهرا
لا زلت تبدي بما أوتيت من حكم
في كل ما فيه نفع للورى أثرا
ووفد عليه وهو بمدينة بغداد درويش من الأمجاد، فغمره ببحار المواهب، ورفع قدره بين ذوي المراتب، وكان هذا الدرويش خزانة نوادر، وكنانة نكات تهيم بسماعها الأكابر، فقال له رجل من ندماء الفارس اسمه كميت: حدثنا بأحسن ما رأيت؛ فقال الدرويش صاحب المخترعات المشكورة، والمبتدعات الحسنة المشهورة:
إني مررت في سياحتي بخراسان على قرية كانت لبني ساسان، فرأيت بظاهرها شيخا محلوق اللحية عاري الجسد، وشيخة في عينها اليسرى رمد، وهي كالتي قال في حقها الواحد الأحد:
Página desconocida
وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد
فقلت له: ما اسمك؟ وما اسم هذه القرية بين القرى؟ وما هي هذه الشيخة التي مثلها في النساء لا يرى؟ فقال له: أما أنا فاسمي أبو الغواية ضلال، وأما القرية فاسمها في الكتب القديمة ملال، وأما الشيخة فهي زوجة الشيخ جابر، إمام زاوية أيوب بن صابر، وإنه عازم على فراقها؛ لشراسة أخلاقها، وعدم وفاقها، وإنها بالأمس قرعت بابي، ورفعت قضيتها إلى جنابي، وسأنظر إليها، وأقضي بالحق لها أو عليها. فقلت له: ما هي وظيفتك يا أبا غواية؟ وكيف تقضي ولست بقاضي الولاية؟ فقال: اعلم أني أنا نائبه في هذا البلد، وأني أحفظ من القرآن الفاتحة، وقل هو الله أحد. فقلت له: إذا كنت كذلك يا جاحظي السحنة، فما لي أراك مخالفا للكتاب والسنة؟! فقال: إنهم قلدوني نيابة القضاء بهذا الشرط، وأغضوا عما يفرط مني من الخلط، وأخذوا علي بذلك العهود، فما أخرج عن هذه الحدود. فقلت له: بقي عليك شيء لا بد منه، وأمر مهم لا محيص عنه، وهو أنك تجب نفسك بيدك، وتخلع زوجتك على ولدك، حتى إذا انفصلت روحك الخبيثة عن بدنك، ودرجت إلى حفرتك بعد اندراجك في كفنك، سحبوك على وجهك إلى الجحيم، وطرحوك في نار العذاب الأليم، فوقعت هذه النصيحة عند الشيخ الخرفان، موقع القبول والاستحسان، وأجاب إلى ما دعوته إليه وامتثل، وقصد حانوت الحلاق؛ لبت ما أمر به بلا مهل، وقال وهو متأهب للقيام يمدحني بهذا الكلام.
لك الثناء على نصح أعيش به
بين العباد جليل القدر في بلدي
لا سيما بعد فقد الأنثيين ومن
بعد التخلص من أهلي ومن ولدي
قال الكميت: فلما سمعنا أعجوبة هذا الدرويش، قلنا: كم يشاهد من عجائب الدنيا من يعيش!
المقالة الثالثة
في اليسر بعد العسر
حدثني مبارك الطلعة، الصديق الثقة، في ليلة أنس كانت بالبدر المنير مشرقة؛ أنه نشأ بمدينة سان، فيما سلف من الزمان؛ أخوان يتيمان، توفي أبوهما وهما صبيان، وماتت أمهما بعده بعام، وتركتهما بلا زاد ولا حطام، فألجأتهما ضرورة القوت، تارة إلى خدمة ذوي البيوت، وطورا إلى الكد في العمل من غير كسل، مع سد الرمق بكل ما حصل، وتماديا على مزاولة هذه المشاق، التي ضاق بها منهما الخناق، حتى جمع كل واحد منهما بعد أن بلغا أشدهما؛ مقدارا من الدراهم المعدودة، والنقود المدخرة المرصودة، فاتقفا على التأهل بشقيقتين شريفتين عفيفتين، واشتغل منهما الفكر بذلك في الجهر والسر.
Página desconocida
وسمع بخبرهما بعض اللصوص، فصرف عزيمته إليهما بالخصوص، وانقض على مأواهما في ليلة حالكة السواد، وقد غرقا في بحر الكرى بعد طول السهاد، فسرق المال وطار قبل أن يفضحه ضوء النهار، واستيقظا من الرقاد، وشغفهما إلى الزواج في ازدياد، ولم يعلما بذهاب الأثر والعين، ولا بانتهاب النضار واللجين، فقال أحدهما للآخر: بالمال يتخذ الإنسان سلما، ويصعد به متى أراد إلى السما، ونحن بما عندنا من النقد، نفوز على رغم الحسود بالقصد، فابعثني إلى أي خاطب إن رمت نيل المطالب، فقال له.
وقد لاحت منه التفاتة إلى باب الخزانة، التي كانت بالأمس محتوية على الأمانة: ما لي أرى عقب هذا الباب قد انصدع، وقفله انفصل عنه ووقع، وفي الحال أخذ بيده وقصده، وبحث عن المال فما وجده.
لله أشكو من زمان ساءني
وعلي غارات المصائب شنها
وسرت إلى قلبي هموم غمومه
وسيوفه لقتال صبري سنها
فطفقت أنشد والخطوب تنوشني
صبت علي مصائب لو أنها
1
هنالك أرسلا من أعينهما أدمعا، وتأسفا على ضياع دراهمهما وتوجعا، وتمثلا في هذه الحال، بقول من قال:
Página desconocida
مال كأن غراب البين يرقبه
فكلما قيل هذا مجتد نعبا
ثم أجمعا أمرهما على مفارقة الأوطان لبلوغ الأوطار، وقد هان عليهما في طلب الرزق ركوب الأخطار، وقال أكبرهما اللبيب مخاطبا لأخيه الأريب، ومسليا له على نوائب الأزمان، والنزوح بغير اختيار عن الأوطان:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
فإن قيل في الأسفار ذل ومحنة
وقطع فياف وارتكاب شدائد
فموت الفتى خير له من حياته
Página desconocida
بدار هوان بين واش وحاسد
هذا وقد جدا في التقلب من واد إلى واد، والتنقل في النجائد والوهاد، وصبرا على هذا المصاب صبر من استسهل الصعاب، وتأسيا في هذا الخطب النازل بما قال القائل:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
فما انقادت الآمال إلا لصابر
ويقول من يرجو بصبره بلوغ المآرب، ويترقب حسن العواقب:
الصبر مثل اسمه مر مذاقته
لكن عواقبه أحلى من العسل
ويقول من ضاقت عليه المذاهب، ورماه الزمان من كنانة غدره بنبال النوائب:
صبرا على نوب الزمان فإنها
مخلوقة لنكاية الأحرار
Página desconocida
لا يخسف النجم الضعيف وإنما
يسري الخسوف لرفعة الأقمار
فكانا تارة يمدان أيديهما للسؤال في الظلمات، وآونة يحتطبان في ضياء النهار من الأجمات، ومرة ينخرطان في سلك العملة، ويقتديان في نقل الجير والطين بالفعلة، وأخرى يخفران الحوانيت بالليل، ويحرسان في الغياض المواشي والخيل، وكلما ضجر أحدهما من الاغتراب، قال له أخوه بأعذب خطاب: يا ابن أمي، إن لسان الفرح يناجي، صبرا صبرا؛ فإن الفرج يفاجي. ويخفف عنه بلواه بقول القائل رحمه الله:
خفض عليك ولا تكن قلق الحشا
مما يكون وعله وعساه
فالدهر أقصر مدة مما ترى
وعساك تكفى شر ما تخشاه
وقد عكفا على مثل هذه الأعمال، مترقبين من دهرهما صلاح الأحوال، مدة سبعة أعوام، وستة أشهر وخمسة أيام، حتى تحصلا في خلال هذه المدة على مقدار لا يزيد على المسروق في العدة، فتداولا في العودة إلى الأوطان، التي حبها من الإيمان.
بلادي وإن جارت علي عزيزة
ولو أنني أعرى بها وأجوع
Página desconocida
ولي كف ضرغام إذا ما بسطتها
بها أشتري يوم الوغى وأبيع
ثم ترقبا للسفر، يوما ليس فيه مطر، وهم الجيران والأمثال، بمنعهما عن الترحال، فقال أحدهما مشيرا بيده إليهم، وشاكرا لهم ومثنيا عليهم:
لو كان قلبي معي ما اختار غيركم
ولا أردت سواكم في الهوى بدلا
لكنه راغب فيمن يعذبه
فليس يقبل لا قولا ولا عملا
وتفرغا للمناقشة في هذا الصدد، وسرعة الانقلاب إلى البلد، والعزيمة على التأهيل باثنتين من الأبكار، أو من الثيبات المصونات الأحرار، وبعد أن طال في ذلك بينهما الجدال، انحط رأيهما على الترحال، فوجها وجهيهما إلى البحر، وكان بينهما وبينه مسيرة ميل في البر، فقطعاه على أقدامهما بلا مهل، ولحقا بالموردة على عجل، وكان لسان الحال ينشدهما عند ذلك من أبكار أفكار حبيب، هذا المعنى الفائق الرائق الغريب:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
Página desconocida
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
وبمجرد وصولهما إلى الساحل، المشحون بالمراكب والزوارق والصنادل، نزلا سريعا مع الركاب، في زورق متأهب للذهاب، وقالا وقد رفع الشراع، بعد الإشارة بالوداع.
ودعتهم ودموعي
على الخدود غزار
فاستكثروا دمع عيني
لما استقلوا وساروا
فلما انساب هذا الزورق انسياب الأرقم، بريح طيبة في لجة البحر الأعظم، صار يقتحم الموج ويمر من فوقه مر السحاب، ويتجنب في طريق سيره ما ارتفع من الشعاب، حتى إذا قطع مسافة يومين تكدر صفاء الجو، واختلفت الرياح وأظلمت السماء وتحدر النو، وانكسرت الدفة وتقطعت الحبال، وأقبلت الأمواج من كل جهة كالجبال، واختفى عن أعين الملاحين أثر المسالك، وتحقق الوقوع في مهاوي المهالك، وعظم الخطب، واشتد الكرب، وعلا النحيب والصياح، وكثر العويل والنواح، وتوالت المصائب، وزحفت جنود الأخطار من كل جانب، واستغاث الركاب برب الأرباب، وبسط الربان راحة الضراعة، والابتهال والدعاء وأمنت الجماعة:
يا خالق الخلق يا رب العباد ويا
من قلت في محكم التنزيل ادعوني
Página desconocida