وبدا أنه يكافح حتى يخرج الكلمات من فمه، وهو يقول: «خطأ. النار خطأ. تفهم؟ لا نار.» وبدا أنه أقل غضبا الآن. «ولكن والدتي، والدي، قد يشاهدان النار، يشاهدان الدخان» كان واضحا أنه لم يفهمني. فأشرت إلى البحر لأشرح له الأمر قائلا: «هناك! إنهما هناك. سوف يشاهدان النار ويحضران لأخذي.»
وعادت لهجته العدوانية على الفور فصرخ قائلا: «داميدا!» وهو يلوح بعصاه في وجهي. «لا نار!» وظننت لحظة أنه سوف يهاجمني، لكنه لم يفعل، بل بدأ ينبش الرمل بعصاه عند قدمي. كان يرسم خطوط شيء ما، ويتفوه بألفاظ غير مفهومة طيلة الوقت . وبدا ما رسمه في البداية مثل ثمرة فاكهة من نوع ما، ربما مثل لوزة، أو حبة الفول السوداني. وعندها فهمت، كانت خريطة للجزيرة. وعندما انتهى جلس على ركبتيه بجوار الرسم، وأهال كومتين من الرمال، كومة عند كل طرف، كانتا تمثلان التلين. وبعدها رسم، بدقة شديدة، خطا مستقيما يقسم الرسم نصفين ويفصل نصف الجزيرة الأصغر عن نصفها الأكبر.
وقال: «أنت يا غلام، أنت هنا.» وأشار إلى كهفي في أحد طرفي الشاطئ. وأضاف «أنت»، وهو يغرس إصبعه في كومة الرمل التي تمثل التل الذي أقيم عنده، ثم بدأ يكتب شيئا على الخريطة الرملية كلها، لم تكن الحروف حروفا على الإطلاق، بل كانت رموزا - شتى ألوان العلامات والأهرام والصلبان والخطوط الأفقية والمائلة والخربشة - وكتب ذلك كله في الاتجاه العكسي، في أعمدة، من اليمين إلى الشمال.
وجلس على عجزه ودق صدره، قائلا: «كنسوكي. أنا كنسوكي. جزيرتي»، ثم هوى بيده على الرسم بحدة مثل السكين فقسم الجزيرة قسمين، قائلا: «أنا، كنسوكي، هنا. أنت يا غلام هنا.» ولم يكن لدي الآن أدنى شك فيما يعنيه. وفجأة وقف من جديد وأشار لي بعصاه أن أبتعد. «اذهب يا غلام. لا نار. داميدا. لا نار. هل تفهم؟»
لم أناقشه، بل مضيت في سبيلي فورا. وعندما جرؤت بعد فترة أن ألتفت وأنظر، كان لا يزال راكعا بجانب ما بقي من النار، وهو يهيل المزيد من الرمال عليها.
كانت ستلا لا تزال في صحبته. فصفرت أستدعيها. وجاءتني، وإن كان ذلك بعد فترة. كان من الواضح أنها ترفض مفارقته. كان سلوكها بالغ الغرابة، فلم تكن ستلا أرتوا تأنس في يوم من الأيام إلى صحبة الغرباء قط! وأحسست أنها خذلتني، بل وأنها خانتني قليلا.
وعندما نظرت إلى الوراء في المرة التالية لم تكن النار تصدر أي دخان، فقد انطفأت تماما، واختفى الرجل الهرم من ناظري.
ومكثت بقية ذلك اليوم في كهفي. كنت، لسبب ما، أشعر بالأمان فيه. وربما كنت بدأت أعتبره بيتي. لم يكن لي بيت سواه. وأحسست بما يحس به اليتيم، من تخلى الناس عنه فأصبح وحيدا في الدنيا. كنت أشعر بالخوف، وبالجوع، وبالحيرة الغامرة.
وجلست في الكهف أحاول أن أجمع شتات أفكاري. ففي حدود ما أعرف - وإن لم أكن واثقا من صحة ذلك - لم يكن في هذه الجزيرة سوى اثنين، العجوز وأنا. وفي هذه الحالة، يقول المنطق إنه لا أحد سواه قد ترك لي السمك والموز والماء. ولا بد أن يكون ذلك بادرة عطف، دليلا على الصداقة، أو على الترحيب؟ ومع ذلك، فإن هذا الرجل نفسه قد نفاني الآن إلى طرف من طرفي الجزيرة كأنني مجذوم، وبين لي بوضوح وجلاء أنه لا يرغب في أن نلتقي مرة أخرى. هل ينحصر السبب في أنني استوقدت نارا؟ كل ذلك يجافي المنطق تماما، إلا إذا كان الرجل مخبولا فقد عقله تماما.
وجعلت أتأمل وأتملى موقفي طويلا. لقد ألقت بي السفينة وحدي على جزيرة في مجاهل الدنيا، وربما كان رفيقي فيها مجنونا، إلى جانب حشد من القرود التي تعوي (ومن بينها سعلاة واحدة على الأقل) - والله أعلم بما تخبئه الغابة وتخفيه عني أيضا - وملايين البعوض التي تلتهمني حيا كل ليلة، كنت واثقا من شيء واحد: يجب علي أن أهرب، ولكن كيف؟ كيف يمكنني أن أخرج من هذه الجزيرة إلا إذا استطعت أن أجعل إحدى السفن العابرة تنتبه لوجودي؟ البديل أن أبقى هنا لآخر عمري. وهو ما لا أحتمل التفكير فيه.
Página desconocida