إهداء
تقديم
1 - بيجي سو
2 - الماء، الماء في كل مكان
3 - سجل السفينة
4 - قرود وأشباح
5 - أنا، كنسوكي
6 - أبوناي!
7 - كل ما قاله الصمت
8 - كل من في نجاساكي مات
Página desconocida
9 - ليلة السلاحف البحرية
10 - وصول القتلة
حاشية الرواية
معجم
إهداء
تقديم
1 - بيجي سو
2 - الماء، الماء في كل مكان
3 - سجل السفينة
4 - قرود وأشباح
Página desconocida
5 - أنا، كنسوكي
6 - أبوناي!
7 - كل ما قاله الصمت
8 - كل من في نجاساكي مات
9 - ليلة السلاحف البحرية
10 - وصول القتلة
حاشية الرواية
معجم
مملكة كنسوكي
مملكة كنسوكي
Página desconocida
تأليف
مايكل موربورجو
ترجمة
محمد عناني
إهداء
إلى جراهام وإيزابيلا
مع الشكر لإيزابيلا هتشنز، وتيرنس بكلر، والأستاذ سيجو تونيموتو وأسرته، لما تعطفوا به من عون في إعداد هذا الكتاب.
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية؛ فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي؛ فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة؛ ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره؛ فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
Página desconocida
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي؛ فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (It tolls for thee) ، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
Página desconocida
الفصل الأول
بيجي سو
اختفيت في الليلة السابقة لعيد ميلادي الثاني عشر، يوم 28 يوليو 1988م. ولم أكن أستطيع قبل الآن أن أروي تلك القصة العجيبة، وها أنا ذا أرويها أخيرا - القصة الحقيقية. كان كنسوكي قد جعلني أعده بألا أقول شيئا، بل لا شيء على الإطلاق، قبل مرور عشر سنوات على الأقل. ويكاد يكون ذلك آخر ما قاله لي، وما دمت وعدته، فقد اضطررت أن أعيش في أكذوبة، وتمكنت من الكتمان والحفاظ على أكذوبتي فترة ما، لكنه قد انقضى ما يزيد الآن على عشر سنوات، انتهيت فيها من الدراسة في المدرسة والجامعة، وتسنى لي الوقت اللازم للتفكير. وهكذا، فمن حق أسرتي وأصدقائي الذين خدعتهم فترة طويلة أن أخبرهم بحقيقة اختفائي الطويل، وكيف عشت حتى أتيح لي أن أعود من دنيا الأموات.
ولكن لدي سببا آخر يدفعني إلى الكلام الآن، وهو سبب أفضل من ذلك كثيرا، إذ إن كنسوكي كان رجلا عظيما، كريم الخلق، وكان صديقا لي، وأريد أن يعرفه العالم مثلما عرفته.
كانت الحياة تسير على منوالها الطبيعي حتى بلغت عامي الحادي عشر تقريبا، وحتى وصلنا الخطاب. كنا أربعة يعيشون في المنزل: والدتي، ووالدي، وأنا، وستلا أرتوا، كلبة الرعي ذات اللونين الأبيض والأسود، وكانت لها أذن تتدلى والأخرى منتصبة، وكانت دائما تعرف، فيما يبدو، ما يوشك أن يحدث قبل حدوثه، ولكن ستلا نفسها لم تكن تستطيع أن تتنبأ بقدرة ذلك الخطاب على تغيير مسار حياتنا إلى الأبد.
وأنا أتذكر الآن أن فترة طفولتي الأولى كانت منتظمة وتسير على وتيرة واحدة. فأنا أقطع الطريق كل صباح إلى المدرسة، وكان والدي يسميها «مدرسة القرود»؛ لأنه كان يقول إن الأطفال فيها يصيحون ويصرخون ويتعلقون في أوضاع مقلوبة بجهاز التسلق مثل القرود في الفناء . وكان يناديني دائما ب «القرد» عندما يريد السخرية والملاعبة، وكثيرا ما كان كذلك. وأما اسم المدرسة الحقيقي فهو مدرسة سانت جوزيف، وكنت سعيدا فيها، أو في أغلب الأحيان على أية حال. فبعد انتهاء الدراسة كل يوم، ومهما تكن حالة الجو، كنت أنطلق إلى الملعب لألعب كرة القدم مع إدي دودز، أفضل صديق لي في الدنيا، ومع مط وبوبي والآخرين. كانت أرض الملعب يكسوها الطين، فإذا حاولت تمرير الكرة وقفت والتصقت بالوحل. كان لدينا فريقنا، الذي أسميناه «مدلاركس»، ومعناه اللاعبون في الطين، وكنا فريقا قديرا. وكانت الفرق الزائرة تتوقع - لسبب ما - أن ترتد الكرة حين تصطدم بالأرض، وإلى أن تدرك أنها لن ترتد، نكون نحن قد تفوقنا عليهم بهدفين أو ثلاثة أهداف في حالات كثيرة. أما إذا لعبنا مباريات خارج ملعبنا فلم نكن بنفس المهارة.
وفي عطلة نهاية الأسبوع كنت أقوم بتوزيع الصحف على المنازل، لحساب المستر باتل، صاحب الدكان على ناصية شارعنا، وكنت أدخر أجري لشراء دراجة تسلق، أي إنني كنت أريد أن أركب الدراجة في الطرق الصاعدة في المروج من حولنا مع إدي، ولكن المشكلة هي أنني كنت دائما أنفق ما ادخرته، وما زلت كذلك.
أما أيام الأحد، فكانت دائما مناسبات خاصة، حسبما أذكر، إذ كنا نبحر جميعا في زورق شراعي صغير في مياه الخزان، وكانت ستلا أرتوا تنبح نباحا شديدا للزوارق الأخرى كأنما لم يكن من حقها الإبحار أيضا. وكان أبي يحب ذلك، كما يقول؛ لصفاء الجو ونقاء الهواء وخلائه من تراب الطوب، فقد كان يعمل آنذاك في مصنع الطوب القريب. وكان يتمتع بمهارات يدوية عالية ومولعا بالعمل اليدوي، وكان يستطيع إصلاح أي شيء، حتى لو لم يكن بحاجة إلى الإصلاح، وهكذا كان يشعر في الزورق أنه في مكانه الطبيعي. وكانت والدتي تعمل نصف الوقت في المكتب بمصنع الطوب نفسه، وكانت تستمتع كثيرا برحلة الزورق. وأذكر أنني شاهدتها ذات يوم جالسة عند ذراع الدفة، وقد مدت رأسها إلى الخلف أمام الريح وأخذت نفسا عميقا ثم هتفت «هذا هو الصواب! هذا هو ما ينبغي أن تكون الحياة عليه! رائعة! رائعة فعلا.» كانت دائما ترتدي القبعة الزرقاء. كانت ربان السفينة الذي لا خلاف عليه؛ فإذا كان النسيم يهب من أية جهة، وجدت هذه الجهة وحاولت استغلال النسيم. كانت تتمتع باستعداد فطري لذلك.
كم قضينا من أيام سعيدة على سطح الماء! كنا نخرج والجو عاصف، عندما يحجم الآخرون عن الخروج، وننطلق متواثبين فوق الأمواج، مستمتعين بسرعة الزورق، ولذة الانطلاق الخالصة. وحتى عند سكون الهواء، لم نكن نكترث لذلك. وأحيانا كنا الزورق الوحيد فوق مياه الخزان، وعندها نجلس وحسب ونشرع في صيد الأسماك، وأقول بالمناسبة إنني كنت أبرع من أمي وأبي في الصيد، وكانت ستلا أرتوا تقبع خلفنا في الزورق، وقد بدا عليها الملل من ذلك كله؛ لأنها لا تجد شيئا تنبحه.
ثم وصل الخطاب. التقطته ستلا أرتوا من فتحة الخطابات في الباب وكادت تمزقه، فقد كانت به ثقوب من أنيابها، وكان مبتلا، لكننا استطعنا قراءته. كان الخطاب يقول إن مصنع الطوب سوف يغلق، وإن أبي وأمي فقدا وظيفتيهما.
Página desconocida
كان الصمت الرهيب يسود مائدة الإفطار في ذلك الصباح. وبعدها توقفنا تماما عن الإبحار في أيام الأحد. ولم يكن لدي ما يدعوني إلى السؤال عن السبب. وحاول والدي ووالدتي الحصول على وظائف أخرى، لكنه لم تكن هناك أية وظائف خالية.
وساد المنزل إحساس بالكآبة والبؤس. كنت أحيانا أعود إلى المنزل فأجدهما يلتزمان الصمت. كانا يتجادلان كثيرا، وحول أشياء صغيرة تافهة، ولم يكن هذا عهدهما من قبل على الإطلاق. وتوقف والدي عن إصلاح الأشياء في المنزل. بل ونادرا ما كان يمكث في المنزل على أية حال، فإذا لم يكن يبحث عن عمل، فهو في المشرب القريب. وكان عندما يعود إلى المنزل يجلس صامتا وهو يتصفح أعدادا لا تنتهي من مجلات الإبحار في اليخوت الشراعية.
كنت أحاول قدر طاقتي ألا أمكث في المنزل وأن ألعب كرة القدم، ولكن إدي كان قد انتقل من مسكنه لأن أباه وجد عملا آخر في مكان ما في الجنوب. ولم يكن لكرة القدم مذاقها المميز دون وجوده. وانفرط عقد فريق «مدلاركس» بل انفرط عقد كل شيء من حولنا.
ثم عدت ذات يوم من أيام السبت بعد جولة توزيع الصحف لأجد والدتي جالسة في أسفل السلم وهي تبكي. كانت دائما قوية صلبة، ولم أشاهدها من قبل في هذه الحال قط.
قالت: «مغفل! أبوك مغفل يا مايكل! هل تسمع؟»
وسألتها: «ماذا فعل؟»
وقالت لي: «لقد ذهب!» وتصورت أنها تعني أنه ذهب بلا رجعة، لكنها قالت: «لم يشأ أن يصغى لصوت العقل، لا! بل يقول إنه خطرت له فكرة. لم يخبرني بها، لكنه يقول فقط إنه باع السيارة، وإننا سوف ننتقل إلى الجنوب، وإنه سوف يجد لنا مسكنا.» وتنفست الصعداء، بل شعرت بالسرور في الواقع، فلا بد أن الإقامة في الجنوب ستجعلني أقرب من إدي. وأردفت قائلة: «إذا كان يظن أنني سوف أترك هذا المنزل، فلا بد أن يستعد لمفاجأة! وأؤكد لك!»
وقلت لها: «ولماذا لا نتركه؟ ليس لدينا الكثير هنا.»
فقالت: «بل لدينا! لدينا البيت أولا، ثم جدتك، ثم المدرسة.»
وقلت لها: «توجد مدارس أخرى»، وإذا بها تحتدم غضبا، بل زاد غضبها عما عهدته فيها في أي يوم من الأيام.
Página desconocida
وقالت: «تريد أن تعرف القشة التي قصمت ظهر البعير؟ إنها أنت يا مايكل! أعني قيامك بجولة توزيع الصحف هذا الصباح. هل تعرف ما قاله والدك عندها؟ هل تريد أن تعرف؟ سأخبرك! قال لي والدك: «هل تدركين أن هذا هو الأجر الضئيل الوحيد الذي يدخل هذا المنزل، أقصد ما يكسبه مايكل من توزيع الصحف! ماذا تظنين إحساسي إزاء ذلك؟ ابني في الحادية عشرة، وهو يعمل وأنا دون عمل».»
وحاولت تهدئة نفسها برهة قصيرة قبل أن تواصل حديثها، وقد اغرورقت عيناها بالدموع قائلة: «لن أنتقل من هنا يا مايكل. فلقد ولدت هنا. لن أذهب مهما يقل، لن أترك هذا المكان.»
كنت في المنزل حين جاءت المكالمة التليفونية بعد نحو أسبوع. كنت أعرف أن أبي هو المتحدث. لم تقل أمي إلا أقل القليل، ولذلك لم أستطع فهم ما يجري، وذلك حتى دعتني إلى الجلوس فيما بعد وأخبرتني.
قالت أمي: «يدل صوته على أنه قد تغير يا مايكل. أعني أنه عاد إلى طبيعته، بل إلى طبيعته الأولى في الأيام التي تعرفت إليه فيها أول الأمر. قال إنه وجد لنا مكانا نقيم فيه. وأضاف قائلا: «ما عليكما سوى إعداد حقائبكما والمجيء.» اسم المنطقة فيرهام. وهي قريبة من ميناء ساوثامتون. وقال: «إنها تطل مباشرة على البحر.» لقد أحسست اختلافا كبيرا فيه، وأؤكد لك ذلك.»
والواقع أن والدي بدا رجلا مختلفا. كان ينتظرنا عندما هبطنا من القطار، وعيناه تبرقان من جديد ويجلجل بالضحكات. ساعدنا في حمل الحقائب وقال: «المكان قريب» وهو يعبث بشعر رأسي. وأضاف: «انتظر حتى تراه أيها القرد! لقد رتبت كل شيء، كل شيء! ولن يجدي أن يحاول أحدكما إثنائي عن عزمي. فأنا مصمم عليه.»
وسألته: «مصمم على ماذا؟»
فقال: «سوف ترى.»
وكانت الكلبة ستلا أرتوا تتواثب في الطريق أمامنا، وقد رفعت ذيلها وبدت عليها السعادة. وأعتقد أننا جميعا كنا سعداء.
لكننا في النهاية ركبنا حافلة بسبب ثقل الحقائب الشديد، وعندما غادرنا الحافلة وجدنا أنفسنا على شاطئ البحر مباشرة. ونظرت فلم أجد أي منازل من حولنا، لا شيء سوى مرسى لليخوت والسفن الصغيرة.
وسألته والدتي: «ماذا نفعل هنا؟»
Página desconocida
وأجاب قائلا: «يوجد من أريد أن تقابلاه، من أصدقائي المقربين، واسمها بيجي سو، وهي تتطلع إلى لقائكما، وقلت لها كل شيء عنكما.»
ونظرت والدتي إلي مقطبة الجبين في حيرة، لكنني لم أكن أعرف أكثر مما تعرفه. ولم أكن متأكدا إلا من أنه يتعمد الغموض والإلغاز.
وسرنا ونحن ننوء بحمل الحقائب في الطريق، وطيور النورس تصيح فوق رءوسنا، وأشرعة اليخوت الراسية المطوية تصفق حولنا، والكلبة ستلا تثرثر عما يجري، حتى وقفنا أخيرا أمام مطلع خشبي يؤدي إلى يخت لونه أزرق أدكن براق. ووضع أبي الحقائب على الأرض والتفت إلينا وهو يبتسم ابتسامة عريضة.
وقال: «ها هي ذي! فلنبدأ التعارف. هذه هي بيجي سو، منزلنا الجديد. ما رأيكما؟»
وبدا أن والدتي متماسكة رغم كل شيء، فلم تصرخ في وجهه، بل لزمت الصمت التام، وظلت صامتة طيلة استغراقه في الشرح ونحن نحتسي الشاي في مطبخ السفينة السفلي. قال والدي: «لم تكن هذه فكرة خطرت لي فجأة، بل لقد فكرت في الأمر طويلا، على مدى السنوات التي عملت فيها في المصنع. نعم! ربما كنت أحلم بذلك وحسب في تلك الأيام. والأمر غريب عندما أتأمله، فلولا أنني فقدت وظيفتي ما جرؤت قط على فعل ذلك» وتوقف والدي، إذ أدرك أنه لم يشرح شيئا ثم عاد يقول: «لا بأس، إذن! سأقول لكما ما فكرت فيه. ما أحب عمل إلى قلوبنا؟ الإبحار؟ صحيح؟ وهكذا قلت في نفسي ألن يكون رائعا أن ننطلق وحسب فنبحر حول العالم؟ لقد فعلها غيرنا. ويسمى ذلك الإبحار في المياه الزرقاء. وقرأت عنه في المجلات.» «كانت الفكرة حلما وحسب في البداية، كما ذكرت. ثم أتى فقدان العمل وفقدان الفرصة في الحصول على عمل. ماذا يقول المرء في هذه الحالة؟ اركب الدراجة. إذن لم لا نركب سفينة؟ لقد حصلنا على نقود التعويض عن الفصل من العمل، مهما تكن قليلة. ولدينا بعض المدخرات، وثمن بيع السيارة. ليست ثروة كبيرة ولكنها تكفي. ماذا نفعل بها؟ لي أن أضعها في البنك كلها، مثلما فعل الآخرون. ولكن لماذا؟ حتى أشهدها تتناقص يوما بعد يوم حتى تنفد؟ قلت في نفسي ربما استطعت أن أفعل شيئا جميلا حقا بها، شيئا لا يحدث إلا مرة واحدة في العمر، إذ لنا أن نبحر حول العالم. أفريقيا وأمريكا الجنوبية وأستراليا والمحيط الهادئ. لنا أن نشاهد أماكن لم نعرفها إلا في الأحلام.»
وجلسنا صامتين من الصدمة، وعاد والدي يقول: «أعرف ما يجول بخاطركما. أنتما تقولان إننا لم نعرف من قبل إلا الإبحار في مياه الخزان، في الزورق الصغير. وتقولان إنني مجنون، فقدت عقلي، وتقولان إنه أمر خطر، وتقولان إنني سوف أفلس تماما بعدها، ولكنني فكرت ودبرت كل شيء، بل حتى فكرت في أمر جدتك يا مايكل - مثلا. فنحن لن نختفي إلى الأبد. وسوف تكون في انتظارنا عندما نعود. فهي في أتم صحة وعافية.» «ولدينا النقود الكافية. لقد حسبت حساباتي: سوف نقضي ستة أشهر في التدريب، ثم نقطع الرحلة في عام أو في ثمانية عشر شهرا، وفق ما تكفي النقود. وسوف نحرص على السلامة في الرحلة، ونقوم بها على الوجه الصحيح. وسوف تحصلين يا «ماما» على شهادة قيادة اليخت. آه! ألم أذكر لكما ذلك؟ لا لم أذكره من قبل: سوف تكونين ربان السفينة يا «ماما»! وسوف أكون ضابط السفينة الأول والقائم بالأعمال اليدوية. وأنت يا مايكل سوف تكون غلام السفينة. وأما ستلا؛ الواقع أن ستلا يمكن أن تلعب دور «قطة السفينة»!» كان والدي مفعما بالحماس، يلهث من فرط الانفعال. «سوف نتقن التدريب، ونقوم بعدة رحلات عبر القنال الإنجليزي إلى فرنسا، وربما أيضا إلى إيرلندا. وسوف نعرف كل صغيرة وكبيرة عن هذه السفينة كأنها فرد من أفراد الأسرة. طولها أربعة عشر مترا، وأماكن المجاديف محكمة الصنع والتصميم، بل أفضل ما يمكن العثور عليه وأكثرها أمانا. لقد درست الأمر جيدا. ستة أشهر من التدريب ثم نقوم برحلة حول العالم. ستكون مغامرة العمر. فرصتنا الوحيدة. لن تتاح لنا فرصة أخرى. ماذا تقولان إذن؟»
وقلت في حماس: «مم .. تاز»، وكان ذلك حقا رأيي.
وسألته والدتي: «تقول إنني سأصبح قائد السفينة؟» وقال والدي وهو يضحك ويحييها تحية البحارة: «نعم، نعم أيها الربان!»
فعادت تقول: «وماذا نفعل في مدرسة مايكل؟»
وقال والدي: «فكرت في هذا أيضا. سألت في المدرسة المحلية هنا. لقد رتبنا كل شيء. سوف نصحب جميع الكتب التي يحتاجها. وسوف أتولى تعليمه. وكذلك أنت. وسوف يعلم نفسه. ودعيني أؤكد لك بالمناسبة أنه سوف يتعلم في عامين بالبحر أكثر مما يمكنه أن يتعلم على الإطلاق في مدرسة القرود التي يذهب إليها. هذا وعد مني.»
Página desconocida
ورشفت والدتي رشفة من فنجان الشاي وأومأت برأسها ببطء. ثم قالت: «لا بأس.» ولاحظت أنها تبتسم، ثم أضافت: «ولم لا؟ عليك بها إذن. اشترها! اشتر السفينة.»
وقال والدي: «لقد اشتريتها بالفعل.»
لا شك أنه كان جنونا. كانا يعرفان ذلك، بل كنت أعرفه أنا، ولكن ذلك لم يكن مهما. وحين أتذكر ما حدث آنذاك أقول إنه كان، ولا بد، لونا من الإلهام الذي دفعه إليه اليأس.
كان الجميع يحذروننا من ذلك. وجاءت جدتي لزيارتنا وقضت معنا فترة في السفينة. وقالت إن الأمر يدعو للسخرية، ويدل على التهور وانعدام الإحساس بالمسئولية. كانت تتحدث عن البلايا والمحن التي تنتظرنا: جبال الجليد الطافية، والأعاصير، والقراصنة، والحيتان، وناقلات النفط العملاقة، والأمواج العاتية، وتنتقل من أهوال إلى أهوال، حتى تخيفني وبذلك تخيف أمي وأبي حتى يتخليا عن الفكرة. ولا شك أنها نجحت في تخويفي، لكنني لم أظهر خوفي قط. لم تفهم جدتي أننا نحن الثلاثة أصبحنا نرتبط برباط واحد من الجنون. لقد صممنا على الرحيل ولن يفلح شيء أو شخص في إثنائنا عن عزمنا. كنا نفعل ما يفعله الناس في القصص الخيالية: كنا نريد الانطلاق سعيا وراء المغامرة.
سارت الأمور في البداية وفق التخطيط الذي وضعه والدي، فيما عدا أن التدريب استغرق وقتا أطول بكثير، فسرعان ما عرفنا أن الإبحار في سفينة أو يخت طوله أربعة عشر مترا ليس مجرد إبحار في زورق أكبر. كان القائم بتعليمنا بحارا عجوزا ذا شارب كث يعمل في «نادي اليخت»، واسمه بيل باركر (وكنا نسميه بارناكل بيل، من وراء ظهره، وتعني بيل «اللزقة»). وكان قد أبحر مرتين حول كيب هورن، في أقصى جنوب أمريكا الجنوبية، وعبر المحيط الأطلسي مرتين وحده، وعبر القنال الإنجليزي «مرات يزيد عددها على عدد الوجبات الساخنة التي تناولتها في حياتك يا بني.»
والحق، أن أيا منا لم يكن يحبه كثيرا. كان صاحب عمل لا يرحم. وكان يعاملني ويعامل ستلا أرتوا بنفس القدر من الاحتقار، إذ كان يرى أن الأطفال والكلاب مجرد مصدر للمضايقة، وإذا وجد أي منهما على ظهر سفينة أصبح عبئا على البحارة. ولذلك تحاشيت اللقاء به قدر طاقتي، وكذلك كانت ستلا أرتوا تتحاشاه.
ويقتضي الإنصاف أن أقول إن بارناكل بيل كان يجيد صنعته. وعندما انتهى من تعليمنا، وحصلت والدتي على شهادتها ، شعرنا أننا نستطيع الإبحار في بيجي سو إلى أي مكان في العالم. كان قد غرس فينا احترام البحر وخشيته، وهو شعور صحي، ولكننا كنا نشعر في نفس الوقت بالثقة في قدرتنا على «التعامل» مع أي شيء تقريبا يأتي به البحر.
ومع ذلك، فلقد مررت بلحظات أحسست فيها برعب يجمد الأطراف. وكان والدي يشاطرني الإحساس بالرعب في صمت. وتعلمت أنك لا تستطيع التظاهر بالاطمئنان حين تدهمك موجة خضراء عالية طولها سبعة أمتار، وكنا نهبط في منخفضات مائية بلغ من عمقها أن أحسسنا أنه من المحال الخروج منها. لكننا كنا نخرج منها، وكلما نجحنا في التغلب على خوفنا، وركوب الأمواج العالية، ازدادت ثقتنا بأنفسنا وبالسفينة من حولنا.
وأما والدتي فلم تبد قط أدق ذرة من ذرات الخوف. والفضل يرجع لها وللسفينة بيجي سو معا في تغلبنا على أسوأ ما مر بنا من لحظات. كانت تصاب بدوار البحر من حين لآخر، لكننا لم نصب به قط. وكانت هذه مزية لنا.
كنا نعيش بالقرب من بعضنا البعض، ملتصقين تقريبا، وسرعان ما اكتشفت أن الآباء أكثر من مجرد آباء، إذ أصبح والدي صديقا لي، بل ملاحا زميلا لي، وغدا كلمنا يعتمد على صاحبه. وأما والدتي فالحق - وأنا أعترف به - أنني لم أكن أعرف أنها تتمتع بهذه المقدرة. كنت أعرف دائما أنها شجاعة، وأنها كانت دائما تصر على المحاولة حتى تنجح في فعل ما تريد، ولكنها واصلت الليل بالنهار في دراسة كتبها وخرائطها حتى أتقنت كل شيء، ولم تتوقف لحظة واحدة. صحيح أنها كانت تتسم ببعض الاستبداد إذ ما تهاونا في الحفاظ على السفينة بأكمل صورة ممكنة، ولكنني لم آبه كثيرا لذلك، ولم يأبه والدي هو الآخر، وإن كنا تظاهرنا بعكس ذلك. كانت هي ربان السفينة. وكانت الخطة أن تطوف بنا حول العالم وتعيدنا. كانت ثقتنا مطلقة فيها، وكنا فخورين بها. كانت باختصار نابغة. ولا بد أن أقول أيضا إن غلام السفينة وضابطها الأول كانا من النوابغ أيضا في تشغيل الروافع، وإدارة الدفة، وكانا ماهرين في إعداد الفاصوليا المعلبة في مطبخ السفينة، وهكذا كنا فريقا متكاملا رائعا.
Página desconocida
وفي يوم 10 سبتمبر 1987م - وأنا أعرف التاريخ لأنني أضع سجل السفينة أمامي أثناء الكتابة - وبعد أن حشدنا في كل ركن وزاوية بالسفينة ما نحتاج إليه من مئونة ومن زاد، أصبحنا أخيرا على استعداد للإقلاع حتى نبدأ مغامرتنا الكبرى، ملحمة الأوديسية العظمى لنا.
كانت جدتي حاضرة لوداعنا وقد اغرورقت عيناها بالدموع، وكانت في النهاية قد وافقت على قيامنا بالرحلة، بل قالت إنها تريد أن تصحبنا لزيارة أستراليا - إذ كانت دائما تتوق إلى مشاهدة دببة الكوالا الصغيرة على الطبيعة. وكان في وداعنا حشد كبير من أصدقائنا أيضا، ومن بينهم بارناكل بيل. وجاء صديقي الصغير إدي دودز مع والده. وألقى إلي بكرة قدم أثناء رفع المرساة. وصاح عاليا «إنها تميمة السعد!» وعندما فحصتها فيما بعد وجدت أنه غمرها بتوقيعاته مثل نجوم كأس العالم لكرة القدم.
وودعتهم الكلبة ستلا أرتوا بنباحها، كما ودعت جميع القوارب الراسية أثناء مرورنا بمضيق سولينت الذي يفصل جزيرة وايت عن أرض إنجلترا، ولكننا أثناء عبورنا تلك الجزيرة سكتت فجأة عن النباح، ربما أدركت، مثلما أدركنا، أنه لا عودة إلى الوراء الآن، لم يكن ذلك حلما، بل لقد بدأنا الإبحار حول العالم. كان ما يحدث حقيقيا، وحقيقيا حقا.
الفصل الثاني
الماء، الماء في كل مكان
يقولون إن الماء يغطي ثلثي سطح الأرض، والواقع أن الأمر يبدو كذلك عندما تكون في البحر، بل وهو ما تشعر به أيضا. ماء البحر، وماء المطر؛ كله بلل في بلل! كنت معظم الوقت مبتلا بللا كاملا. كنت أرتدي الملابس اللازمة، إذ كان الربان دائما يستوثق من ذلك، ولكن البلل كان يتسرب إلى جسمي بصورة ما.
وفي أسفل السفينة كان كل شيء مبتلا، حتى الأكياس المبطنة المعدة للنوم، ولم نكن نستطيع تجفيف أي شيء إلا عندما تسطع الشمس ويتوقف صدر البحر عن الصعود والهبوط! وعندها نأتي بكل شيء إلى ظهر السفينة، وإذا بسفينتنا بيجي سو وقد ارتدت الملابس كلها، وامتلأ حبل الغسيل من آخر السفينة إلى مقدمها. وكانت العودة إلى الجفاف بعد البلل متعة حقيقية، لكننا نعرف أنها لن تستمر طويلا.
قد تظن أنه لم يكن لدينا عمل كثير يشغلنا نحن الثلاثة في السفينة، يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد أسبوع. ولكن ذلك خطأ مؤكد، فلم تكن تمر علينا لحظة هدوء طيلة النهار، وكان لدي دائما ما يشغلني: طي الشراع، وإنزاله بالرافعة، وإرخاء الحبال، وقيامي بنوبتي عند عجلة القيادة، وهو ما كنت مولعا به، أو مساعدة والدي في أعمال الإصلاح والترقيع التي لا تنتهي، فكان كثيرا ما يحتاج إلى مساعد له حتى يقبض على الخشبة مثلا أثناء الحفر أو دق المسامير أو إدخال البراغي أو النشر، وكنت دائما أقوم بالمسح والتنظيف، أو بإعداد الشاي، أو غسيل الأطباق، أو أعمال التجفيف. ولن أكون صادقا إن قلت إنني كنت أحب ذلك كله، ولكن العمل الدائب لم يدع للملل لحظة واحدة!
لم يكن مسموحا بالبطالة إلا لعضو واحد من أعضاء طاقم السفينة - ستلا أرتوا - وكانت دائما دون عمل. ولما لم تكن تجد ما يستحق النباح في صفحة البحر العريض، كانت تقضي الأيام العاصفة متكورة على نفسها في سريري في غرفتي أسفل السفينة. لكنه عندما يصفو الجو وتشرق الشمس كانت عادة ما تقوم بالمراقبة في مقدمة السفينة، منتبهة لأي شيء؛ أي شيء آخر سوى البحر. والمؤكد أنه إذا بدا أي شيء فلا بد لها أن تلمحه بسرعة: مجموعة من خنازير البحر مثلا، تغطس في الأمواج وتخرج منها، أو أسرة من الدلافين التي تسبح بجوار بعضها البعض، وقد اقتربت من السفينة إلى الحد الذي يوحي بأنك تستطيع مد يدك ولمسها! وحيتان، وأسماك القرش، بل والسلاحف البحرية؛ رأيناها جميعا. وكانت والدتي تلتقط صورها بالفيديو والكاميرا العادية، وكنت ووالدتي نتشاجر حتى نستخدم المنظار المقرب. ولكن ستلا أرتوا كانت في جوها الطبيعي، وعاد لها طبع كلبة الرعي، فأخذت تصدر أوامرها بالنباح على كائنات البحر، حتى تجمعها في قطيع واحد من أعماق البحر.
وعلى الرغم مما كانت تسببه لنا من ضيق - إذ كانت تشيع رائحة بللها في كل مكان - فإننا لم نندم يوما على اصطحابها معنا في هذه الرحلة، فقد كانت مصدر تسرية وسلوى لنا. فعندما كان البحر يضطرب بنا ويخضخضنا، وتشعر والدتي بدوار البحر حتى يكاد يغشى عليها، كانت تهبط إلى أسفل السفينة وتجلس ممتقعة اللون شاحبة، وعلى حجرها ستلا تلاطفها وتتلقى ملاطفتها. وعندما كنت أشعر بالرعب من الأمواج العالية كالجبال وصرخات الريح الداوية، كنت أتكور مع ستلا في مرقدي بالسفينة، وأدفن رأسي في عنقها وأحتضنها بشدة. وفي مثل تلك الأوقات - ولا أظن أنها كانت كثيرة، لكنني أذكرها بدقة شديدة وحسب - كنت دائما أضع كرة إدي بالقرب مني أيضا.
Página desconocida
أصبحت كرة القدم بمثابة تعويذة أو تميمة تجلب الحظ، وبدا لي أنها تجلبه فعلا، فالواقع أن كل عاصفة كانت تهدأ في النهاية، وكنا لا نزال بعدها أحياء، سالمين، ونطفو فوق صفحة الماء.
كنت أتمنى أن ينسى والدي ووالدتي مسألة الواجبات الدراسية، وكان يبدو في البداية أنهما نسيا الموضوع كله، لكننا ما إن تغلبنا على عدة عواصف، وما إن استقر بنا الحال وانطلقنا في طريق رحلتنا، حتى أجلساني وأخبراني الخبر المزعج، وهو أنني شئت أم أبيت، لا بد أن أواصل دراستي، ولم تكن والدتي تقبل المناقشة في هذا الأمر.
كنت أدرك أن استنجادي بوالدي لن يأتي بنتيجة. فلم يفعل سوى أن هز كتفيه قائلا: «ماما هي الربان»، وبهذا انتهى الموضوع. عندما كنا في المنزل كانت أمي هي أمي وحسب وكنت أستطيع أن أجادلها، وكان ذلك على الأقل من المزايا التي حرمت منها على ظهر السفينة بيجي سو حيث لا مناقشة ولا جدال.
كانت تلك مؤامرة، إذ اشترك أبي وأمي في وضع برنامج كامل للعمل. كان علي أن أستذكر كتب الرياضيات، وقال أبي إنه سوف يساعدني إذا صادفتني عقبة. وأما منهج الجغرافيا والتاريخ، فكان يقضي بأن أكتشف وأسجل كل ما يخص كل بلد نزوره أثناء طوافنا بالعالم، وكان منهج دراسات البيئة ومنهج الرسم يفرضان علي أن أسجل وأرسم صورا لجميع الطيور التي نراها، وجميع المخلوقات والنباتات التي نصادفها .
وحرصت والدتي أيضا على تعليمي الملاحة البحرية أيضا، قائلة: «لقد علمني بارناكل بيل، وسوف أتولى تعليمك. أعرف أنها ليست من المقررات الدراسية ولكن لم لا؟ ومن يدري؟ ربما عادت عليك بالفائدة.» وهكذا علمتني كيف أستخدم السدسية، وهي آلة المساحة الملاحية، وكيف أسجل قراءات البوصلة، وأحدد مسار السفينة على الخريطة. وكان من واجبي تسجيل خطوط الطول والعرض في سجل السفينة كل صباح، وكل مساء، وبانتظام دائم.
لا أظن أنني كنت انتبهت حقا لوجود النجوم من قبل. وأما الآن فكنت كلما أتولى نوبة المراقبة في غرفة القيادة ليلا، بعد تشغيل جهاز التوجيه الذاتي للسفينة بيجي سو بدوارة الريح، والآخرون نائمون في أسفل السفينة، لم يكن لي رفيق سوى النجوم. وكنت أثناء تحديقي فيها أشعر أحيانا أننا آخر الأحياء في كوكب الأرض كله، لم يكن هناك سوانا، والبحر المظلم من حولنا وملايين النجوم من فوقنا.
وكانت نوبة المراقبة الليلية هي الوقت الذي كثيرا ما استذكرت فيه دروس اللغة، وكانت تتخذ صورة وضع ملاحظاتي الخاصة في سجل السفينة. لم يكن مفروضا علي أن أعرضها على والدي، لكنهما كانا يشجعانني على الكتابة في السجل مرة كل عدة أسابيع، وقالا إنها سوف تمثل سجلي الخاص والشخصي لرحلتنا.
لم أكن أجيد الكتابة إجادة كبيرة في المدرسة، فلم أكن أستطيع قط أن أجد الأفكار اللازمة للكتابة أو أن أعرف كيف أبدأ، وأما على متن بيجي سو فقد اكتشفت أنني أستطيع أن أفتح السجل وأكتب بيسر، كانت لدي دائما أفكار كثيرة أريد التعبير عنها. وهذا لب الموضوع. إذ اكتشفت أنني لم أكن أكتبها على الإطلاق بل أقولها وحسب. كنت أنطق بها كما تخطر ببالي، وتنطلق في ذراعي حتى تصل إلى أصابعي وقلمي فتتخذ شكلها على الصفحة، وهذه هي الصورة التي تبدو لي فيها الآن بعد مرور كل هذه السنوات، أي صورة الكلام الذي تفوهت به.
إنني أنظر الآن إلى السجل الخاص بي. لقد تجعدت أوراقه قليلا واصفر لون الصفحات بمضي الزمن، وخطي الرديء شحب لونه قليلا لكنني أستطيع قراءته بسهولة في معظم الأحيان، والملاحظات المسجلة قصيرة، ولكنها تقص القصة كاملة، وفيما يلي أروي كيف سجلت أحداث رحلتنا العظيمة، وكيف بدت لعين غلام في الحادية عشرة، ونحن نركب متن المحيطات الشاسعة في هذا العالم على ظهر السفينة بيجي سو.
الفصل الثالث
Página desconocida
سجل السفينة
20 سبتمبر
الساعة الآن الخامسة صباحا. وأنا أقوم بنوبة المراقبة في غرفة القيادة، والجميع نائمون. تركنا ساوثامتون منذ عشرة أيام، وكان القنال الإنجليزي مليئا بناقلات النفط. كانت عشرات الناقلات تغدو وتروح. وهكذا كان أبي وأمي يتبادلان المراقبة في الليلتين الأوليين، ولم يسمحا لي بذلك. لا أدري لم لا، لم يكن في الجو أي ضباب، وقدرتي على الرؤية لا تقل عن قدرتهما.
كنا نعتزم أن نقطع مسافة 320 كيلو مترا في اليوم، أي أن نسير بسرعة ثماني عقد، ولكننا لم نستطع تجاوز 80 كيلو مترا يوميا في الأسبوع الأول.
كان بارناكل بيل قد حذرنا من خليج بسكاي، ما بين فرنسا وإسبانيا، وهكذا توقعنا سوء الأحوال الجوية فيه، وصدقت توقعاتنا. كانت قوة الريح فيه تصل إلى 9 وأحيانا إلى 10 عقد، وكانت الريح تتقاذفنا هنا وهناك. وظننت أننا سوف نغرق. بل كنت أعتقد ذلك حقا، وذات يوم عندما حملتنا موجة عالية رأيت مقدم السفينة بيجي سو يشير إلى أعلى، نحو القمر، فكأنما كانت سوف تنطلق إليه، وإذا بنا ننحدر إلى الجانب الآخر بسرعة خارقة حتى تصورت أننا سنغوص إلى القاع. كان الموقف سيئا. أقصد أنه كان رهيبا، رهيبا حقا. ولكن بيجي سو لم تتفتت، ونجحنا في الوصول إلى إسبانيا.
أحيانا يضيق صدر والدتي فتبهرنا عندما نرتكب خطأ ما، ولا يبدو أن والدي كان يغضب من ذلك، أقصد هنا - في البحر - بل يكتفي بأن يغمز لي بعينه فنستمر في العمل. كانا يلعبان الشطرنج كثيرا عندما يسمح صفاء الجو بذلك. ووالدي متقدم على والدتي بخمسة أشواط مقابل ثلاثة. وتقول والدتي إنها لا تهتم، ولكنها مهتمة، وأستطيع أن أرى الدلائل.
لم نقض في ميناء لاكورونيا، شمالي إسبانيا، سوى يومين. كانت والدتي تنام كثيرا، فهي مرهقة حقا. قام والدي بعمل بعض الإصلاحات في حبل الدفة عندما كنا هناك. ومع ذلك فلا يزال غير راض عنه. وبدأنا الإبحار نحو جزر الأزور منذ يومين.
كان أمس أفضل يوم للإبحار حتى الآن. فالنسائم قوية، والسماء زرقاء، ودفء الشمس الساطعة يكفي لتجفيف الأشياء. كنت علقت الشورت الأزرق الخاص بي على حبل الغسيل لكنه طار ووقع في البحر. غير مهم. لم أكن أحبه كثيرا على أية حال. شاهدنا طيور الأطيش البحرية وهي تغطس في البحر في كل مكان لالتقاط الأسماك عصر هذا اليوم. رائع حقا. وأخذت ستلا أرتوا تنبح بجنون.
مللت أكل الفاصوليا المعلبة، ولا يزال لدينا مخزون كبير أسفل السفينة.
11 أكتوبر
Página desconocida
شاهدت أفريقيا اليوم! كان الساحل بعيدا ولكن والدتي قالت إنها أفريقيا حقا. ونحن نبحر بحذاء الساحل الغربي. وبينت والدتي ذلك على الخريطة. وسوف تدفعنا الريح بجانب الساحل لعدة مئات من الكيلو مترات ثم نعبر المحيط الأطلسي إلى أمريكا الجنوبية. يجب ألا نخرج عن المسار المحدد، وإلا دخلنا نطاق الرهو الاستوائي، وهو نطاق سكون وخمود، لا تهب الريح فيه على الإطلاق، وقد تسكن فيه حركة السفينة أسابيع متوالية، أو حتى إلى الأبد.
هذا أشد الأيام حرارة. واكتسى وجه والدي حمرة قانية، وبدأت بشرته عند أطراف أذنيه تتقشر، أما أنا فقد اكتسيت لونا أسمر كالبندق، مثل والدتي.
شاهدت الأسماك الطيارة هذا الصباح، وكانت ستلا معي، ثم لمحت والدتي سمكة من أسماك القرش بالقرب من مقدم السفينة، وقالت إنها تستمتع بدفء الشمس. وأتيت بالمنظار المقرب، لكنني لم أستطع أن أراها قط. وقالت والدتي إن علي أن أكتب عنها في مذاكرتي ولو لم أكن شاهدتها، ثم أرسم صورتها. وهكذا اضطررت إلى قراءة ما كتب عنها. إنها أسماك بالغة الضخامة، لكنها لا تأكل البشر، بل تقتصر على الأسماك وكائنات البلانكتون الدقيقة. أحب الرسم، وأفضل صورة رسمتها صورة سمكة طيارة.
أرسلت بطاقة بريدية إلى إدي من جزر الرأس الأخضر. ليته كان معي هنا، إذن لسعدنا وضحكنا معا.
ستلا تحب الجري وراء كرة القدم في الغرفة ثم تثب فوقها. لسوف تخرقها بأنيابها يوما ما. أنا واثق من هذا.
كان والدي متجهما قليلا في الآونة الأخيرة، وذهبت والدتي لترقد وحدها، فلديها صداع. أظن أنهما تشاجرا قليلا. لا أعرف سبب المشاجرة، لكنني أظن أنه الشطرنج.
16 نوفمبر
غادرنا لتونا ميناء ريسيفي. وهو في البرازيل. مكثنا فيه أربعة أيام. كان علينا القيام بإصلاحات كثيرة في السفينة. كان جهاز توليد الريح يحتاج إلى إصلاح، وحبل الدفة لا يزال يلتصق بالبكرة أثناء الدوران.
لعبت كرة القدم في البرازيل! هل سمعت بذلك يا إدي؟ لعبت كرة القدم في البرازيل وبكرتك ذات السعد! كان والدي يشاركني تقاذف الكرة وحسب على الشاطئ، وفجأة وجدنا عشرة أطفال ينضمون إلينا. ولعبنا مباراة حقيقية قام والدي بتنظيمها، وانقسمنا إلى فريقين، أطلقت على فريقي اسم «مدلاركس» وأطلق والدي على فريقه اسم «البرازيل»، وهكذا كان الجميع يريدون أن يلعبوا في فريقه - بطبيعة الحال! - ولكن والدتي انضمت إلى فريقنا وفزنا! كانت النتيجة «مدلاركس» 5 والبرازيل 3، وبعد ذلك دعت والدتي الأولاد لشرب الكوكاكولا في السفينة. وأخذت ستلا تزمجر في وجوههم وتكشف عن أنيابها، فاضطررنا إلى حبسها في الغرفة. وحاولوا مخاطبتنا بالإنجليزية، غير أنهم لم يكونوا يعرفون سوى كلمتين «جول» و«مانشستر يونايتد». إذن فهذه ثلاث كلمات!
وجاءت والدتي بالصور بعد تحميض الأفلام وطبعها، ومن بينها صورة دلافين تقفز في الهواء، وصورة لي بجوار الرافعة، وأخرى لوالدتي وهي تدير عجلة القيادة، ورابعة لوالدي وهو يقوم بإنزال الشراع الرئيسي بأسلوب بالغ السوء. وكانت من بينها صورة لي وأنا أقذف بقطعة من الصخر في البحر عندما توقفنا في جزر الكناري، وصورة أخرى لوالدي وهو مستغرق في النوم على ظهر السفينة يستمتع بالشمس ووالدتي تقهقه. كانت على وشك أن تضع قطرات الزيت الذي يحمي من الشمس على بطنه (أنا الذي التقطت هذه الصورة، وهي أفضل صورة صورتها). وكان من بين الصور أيضا صورة لي وأنا أستذكر درس الرياضيات، وقد عبس وجهي وأخرجت لساني.
Página desconocida
25 ديسمبر
يوم عيد الميلاد في البحر. وجد والدي محطة إذاعة تذيع أناشيد عيد الميلاد. وتناولنا البسكويت «المقرمش» لكنه كان قد ابتل قليلا فلم يصبح «مقرمشا»، وتناولنا وجبة حلوى عيد الميلاد التي أعدتها جدتي لنا. وأهديت كلا منهما صورة رسمتها، فأهديت والدي صورة السمكة الطيارة وأهديت والدتي صورة الربان، أي صورتها وهي تدير عجلة القيادة وترتدي قبعتها. وأهداني والدي ووالدتي مدية جميلة حقا اشترياها لي في مدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل. وهكذا رددت إليهما قطعة نقود. هذا هو المفترض أن تفعله. فهو يجلب الحظ الحسن.
عندما كنا في ريو دي جانيرو قمنا بتنظيف السفينة بيجي سو تنظيفا متقنا. كانت تبدو متسخة قليلا من الداخل ومن الخارج، لكنها لم تعد كذلك. واشترينا مقادير كبيرة من المؤن والماء استعدادا لقطع المسافة الطويلة إلى جنوب أفريقيا. وقالت والدتي إننا نسير سيرا حسنا، ما دمنا نحافظ على اتجاه السير جنوبا، وما دمنا نلتزم بالإبحار في تيار جنوب الأطلسي المتجه من الغرب إلى الشرق.
مررنا جنوب جزيرة تسمى سانت هيلانة منذ عدة أيام. لم نكن نحتاج إلى التوقف، فليس فيها الكثير. كل ما هناك أنها كانت المكان الذي نفي إليه نابليون بونابرت. وقد توفي فيها. من المؤلم أن يموت الإنسان في هذا المكان الموحش. وهكذا كان علي بطبيعة الحال، أن أكتب موضوعا دراسيا عن نابليون في منهج التاريخ. كان علي أن أقرأ ما كتب عنه في دائرة المعارف وأن أكتب عنه. وقد وجدت الموضوع طريفا لكنني لم أقل لهما ذلك.
الكلبة ستلا تقبع متجهمة في سريري. ربما حزنت لأنها لم تتلق هدية عيد الميلاد من أحد. عرضت عليها أن تذوق حلوى عيد الميلاد التي أعدتها جدتي، ولكنها لم تلتفت إليها تقريبا أو تشمها. وأنا لا ألومها على ذلك!
رأيت اليوم شراعا، يختا آخر. وهتفنا: عيد ميلاد سعيدا ولوحنا بأيدينا، ونبحت ستلا نباحا شديدا، ولكن من فيه لم يردوا بسبب بعدهم الشاسع عنا. وعندما اختفى الشراع بدا البحر فجأة خاويا فارغا.
فازت والدتي في الشطرنج هذا المساء. أصبحت تتقدم على والدي، بواحد وعشرين مقابل عشرين. وقال والدي إنه تركها تفوز بسبب عيد الميلاد . كانا فيما يبدو لا يأخذان الموضوع مأخذ الجد، ولكن كلا منهما يريد أن يفوز.
1 يناير
أفريقيا من جديد. مدينة كيب تاون في جنوب أفريقيا، وجبل تيبل. ولن نمر بها أثناء إبحارنا وحسب هذه المرة بل سوف نرسو بالميناء. هذا ما قالاه لي هذا المساء. لم يكونا يريدان أن يقولا لي ذلك من قبل خشية ألا نقدر على ذلك ماليا، ولكن لدينا ما يكفي. سوف نمكث هنا أسبوعين، وربما فترة أطول. سوف نرى الأفيال والأسود على طبيعتها في البرية، لا أستطيع أن أصدق ذلك. ولا أظن أنهما يستطيعان التصديق أيضا. وعندما أخبراني كانا مثل طفلين، ضاحكين وسعيدين، لم يكن ذلك عهدي بهما في المنزل من قبل قط، إنهما يبتسمان لبعضهما البعض حقا هذه الأيام.
تعاني والدتي من تقلصات في المعدة. ويريد والدي أن يعرضها على طبيب في كيب تاون، لكنها ترفض ذلك. لا بد أن ذلك بسبب الفاصوليا المعلبة. أما الخبر السعيد فهو أن علب الفاصوليا قد نفدت أخيرا. وأما الخبر السيئ فهو أننا تناولنا عشاءنا من السردين المعلب، أعوذ بالله!
Página desconocida
7 فبراير
كنا قطعنا مئات الكيلو مترات في المحيط الهندي، وإذا بهذا يحدث! فالواقع أن ستلا نادرا ما تصعد إلى سطح السفينة إلا إذا كان البحر ساجيا كالحصير. لا أعرف سبب صعودها ولا أعرف لماذا أتت، ربما كنا جميعا مشغولين وحسب. فوالدي كان يعد الشاي في الطابق السفلي، ووالدتي تدير عجلة القيادة، وكنت أنا أمارس تدريبا عمليا في الملاحة بتحديد موقعنا بجهاز السدسية؛ آلة المساحة، وكانت السفينة بيجي سو ترتفع وتنخفض وتتأرجح قليلا، وكان علي أن أثبت في مكاني. ورفعت بصري فشاهدت ستلا واقفة في مقدم السفينة. كانت واقفة وفجأة اختفت.
كنا تدربنا عشرات المرات على عملية إنقاذ من يسقط في الماء من السفينة، في مضيق سولنت. مع بارناكل بيل. لا بد من الصياح وتحديد مكان السقوط، وتكرار الصياح، وتكرار الإشارة إلى المكان. ثم نلتفت إلى مهب الريح، ونقوم بخفض الأشرعة بسرعة، وندير محرك السفينة. وهكذا، فعندما انتهى والدي من إنزال الشراع الرئيسي والشراع المثلث الصغير في مقدم السفينة، كنا قد بدأنا التحرك إلى الخلف ناحية ستلا. كنت أنا أتولى الإشارة إلى المكان الذي سقطت فيه، والصياح المستمر أيضا. كانت تضرب الماء بقوائمها حتى تنجو من موجة خضراء مقبلة عليها، وكان والدي قد انحنى على جانب السفينة، وأخذ يمد يده حتى يصل إليها، لكنه لم يكن يرتدي سترة الأمان، وكانت والدتي في شبه جنون. كانت تحاول أن تجعل السفينة تقترب إلى أقصى حد ممكن وبأبطأ سرعة من ستلا، ولكن موجة عارمة أبعدتها عنا في آخر لحظة وكان علينا أن نستدير ثم نعود من جديد. وكنت أنا أصيح وأشير بيدي إلى ستلا طول الوقت.
اقتربنا منها ثلاث مرات، ولكننا كنا نتخطاها في كل مرة. أحيانا كنا نسير بسرعة أكبر مما ينبغي وأحيانا لم نكن نقترب منها إلى الحد الكافي. كانت بدأت تفقد قوتها، ولا تكاد تضرب الماء بقوائمها، وبدأت تغوص. كانت أمامنا فرصة أخيرة. اقتربنا منها من جديد، على النحو الصحيح هذه المرة، واقتربنا منها اقترابا يمكن والدي أن يمد يده ويمسك بها. وتعاون ثلاثتنا في إخراج ستلا من الماء، قابضين على طوقها الجلدي حول رقبتها وعلى ذيلها. وقال لي والدي: «أحسنت أيها القرد!» وجعلت والدتي تسخر وتضحك من والدي لعدم ارتدائه سترة الأمان. ولم يفعل والدي سوى أن احتضنها فاندفعت تبكي. ونفضت ستلا عن نفسها ماء البحر ثم هبطت إلى أسفل السفينة كأنما لم يحدث شيء على الإطلاق.
ووضعت والدتي قاعدة صارمة، وهي عدم السماح مطلقا للكلبة ستلا أرتوا بالصعود إلى ظهر السفينة، مهما تكن الأحوال الجوية، دون أن نلبسها سترة الأمان، مثلي ومثل والدي ووالدتي. وبدأ والدي يصنع لها سترة أمان خاصة.
ما زلت أحلم بالفيلة في جنوب أفريقيا. أحببت مشيها في تمهل وتأمل، وعيونها الدامعة الحكيمة. وما زلت أذكر تلك الزرافات المتعالية التي تطل من عليائها علي، وشبل الأسد الذي يرقد وقد وضع ذيل أمه في فمه. ورسمت صورا كثيرة ولا أزال أنظر إليها حتى تذكرني بما شاهدت. والشمس في أفريقيا كبيرة جدا، حمراء قانية.
أستراليا هي المحطة التالية، بحيواناتها ذات الجراب مثل الكنغر والبوسوم والومبات. وسوف يستقبلنا العم جون في ميناء بيرث. سبق أن شاهدته في الصور لكنني لم أقابله حتى الآن. وقال والدي هذا المساء إننا لا نرتبط إلا بنسب بعيد، وقالت والدتي: «وهو بعيد جدا»، وضحك الاثنان. ولم أدرك الفكاهة المقصودة حتى عدت للتفكير في الأمر عندما حلت نوبة مراقبتي.
تبدو النجوم أشد لمعانا، ونجت ستلا من الغرق. أعتقد أنني أسعد مما كنت عليه في أي يوم من قبل.
3 إبريل
اقتربنا من بيرث، في أستراليا، لم أكن أرى حتى اليوم إلا المحيط الخالي الخاوي منذ أن غادرنا أفريقيا. يزيد استمتاعي حين تقتصر صحبتنا علينا وعلى السفينة بيجي سو والبحر. وأظن أننا نحس جميعا هذا الإحساس، ومع ذلك فحين نلمح اليابسة دائما ما نحس بالفرحة الغامرة. وعندما لمحنا أستراليا للمرة الأولى تبادلنا الأحضان وجعلنا نتواثب، فكأننا كنا أول ملاحين يكتشفون قارة أستراليا في التاريخ. وأخذت ستلا أرتوا تنبحنا كأنما جن جنوننا! وربما كنا كذلك، لكننا نجحنا! لقد قطعنا مسافة شاسعة من إنجلترا إلى أستراليا بحرا! أي نصف الطريق حول العالم! وفعلنا ذلك وحدنا.
Página desconocida
عادت إلى والدتي تقلصات المعدة، سوف تعرض نفسها قطعا على طبيب في أستراليا. وعدتنا بذلك وسوف نجعلها تفي بوعدها.
28 مايو
نحن في البحر من جديد بعدما يقرب من ستة أسابيع مع العم جون. كنا نظن أننا سوف نمكث في بيرث عدة أيام فقط، ولكنه قال إن علينا أن نشاهد أستراليا كما ينبغي أثناء وجودنا فيها. وهكذا اصطحبنا للإقامة مع أسرته في مزرعة ضخمة. آلاف الأغنام. لديه أعداد كبيرة من الخيول، وهكذا قضيت وقتا طويلا في ركوب الخيل مع ابنتي عمي الصغيرتين: بيث وليزا، ورغم أنهما لم تتجاوزا السابعة والثامنة، فهما تجيدان ركوب الخيل. كانتا تدعوانني «مايكي»، وعندما حان رحيلنا كانت كلمنهما تريد أن تتزوجني. لكننا سوف نصبح أصدقاء بالمراسلة بدلا من ذلك.
رأيت حية تسمى ذات الرأس النحاسي. وقال العم جون إنني لو وطأتها بقدمي لقتلتني. وقال لي أن آخذ حذري من العناكب ذات الظهر الأحمر في دورة المياه. وبعدها لم أكن أتردد كثيرا على دورة المياه.
كانوا يسموننا أبناء عمومتهم البريطانيين، وكنا نقيم حفلا للشواء في الهواء الطلق كل مساء. وقضينا معهم أوقاتا ممتعة. ولكنني كنت سعيدا بالعودة إلى السفينة بيجي سو. والحق أنني اشتقت إليها أثناء مقامنا في أستراليا، مثلما أشتاق إلى صديقي الصغير إدي. كنت أرسل له بطاقات بريدية، وأحيانا بطاقات عليها صور حيوانات غريبة إذا عثرت عليها. أرسلت إليه صورة دبة الومبات. ولقد رأيت هذه الحيوانات فعلا، ومئات من حيوان البوسوم، والكثير من الكناغر. ولديهم في أستراليا أعداد كبيرة من الببغاوات البيضاء ذوات العرف، بل إنها تعد بالملايين مثل العصافير لدينا في الوطن.
ولكن طيور النورس هنا أيضا. وأينما ذهبنا في هذا العالم وجدنا دائما طيور النورس. والخطة الموضوعة هي أن نرسو في ميناء سيدني على الساحل الشرقي لأستراليا فترة من الوقت، ونستكشف الحاجز المرجاني قليلا، ثم نبحر عبر بحر المرجان وشمالا نحو بابوا غينيا الجديدة.
تحسنت حالة والدتي كثيرا بعد تقلصات المعدة. وقال الطبيب في أستراليا إن السبب يمكن أن يكون طعاما تناولته. وقد شفيت الآن على أية حال.
الجو حار وخانق حقا، لكنه ساكن أيضا، ولا توجد رياح، ولا نكاد نتحرك. لا أستطيع أن أرى أية سحب، لكنني واثق أن عاصفة ما سوف تهب. هذا ما أحسه.
28 يوليو
أنظر حولي. إنها ليلة حالكة الظلمة. لا قمر ولا نجوم. ولكن السكون قد عاد أخيرا. سوف أتم عامي الثاني عشر غدا، لكنني لا أظن أن أحدا غيري سوف يتذكر ذلك.
Página desconocida
مر بنا وقت عصيب، أسوأ مما مر بنا في خليج بسكاي. فمنذ أن غادرنا سيدني توالت العواصف علينا دون انقطاع، وكانت كلمنها تدفعنا شمالا عبر بحر المرجان. انقطع حبل الدفة. فعل والدي ما يستطيع ولكن الحبل لا يزال يحتاج إلى إصلاح. جهاز القيادة الذاتية لم يعد يعمل، وهكذا لا بد من وجود أحدنا عند عجلة القيادة طول الوقت، وهذا معناه إما والدي وإما أنا؛ لأن والدتي عاودها المرض، تقلصات المعدة من جديد، ولكنها ازدادت الآن سوءا، وهي لا تريد أن تتناول أي طعام، وكل ما تتناوله هو الماء المحلى بالسكر. لم تستطع أن تنظر إلى الخرائط لمدة ثلاثة أيام. يريد والدي أن يرسل إشارة استغاثة ولكن والدتي تمنعه. وتقول إن معنى هذا هو الاستسلام. شاركني أبي في العمليات الملاحية، وبذلنا قصارى جهدنا، ولكنني أعتقد أننا لم نعد نعرف مكاننا.
إنهما الآن نائمان في أسفل السفينة. والدي يعاني من الإرهاق الشديد. وأنا أدير عجلة القيادة في غرفة القائد، ومعي كرة القدم التي أهداني إدي إياها، لقد جلبت لنا الحظ الحسن حتى الآن، وهو أشد ما نحتاج إليه الآن حقا. نحتاج إلى شفاء والدتي، وإلا أصبحنا في مشكلة حقيقية. لا أعرف إن كنا نستطيع احتمال هبوب عاصفة أخرى.
الحمد لله على سكون الجو. سوف يساعد ذلك والدتي على النوم. فالنوم يتعذر حين تتقاذفك الأمواج طول الوقت.
الظلام دامس في البحر وستلا تنبح، وتقف على مقدم السفينة. وهي لا ترتدي سترة الأمان.
كانت هذه آخر كلمات كتبتها في سجل السفينة والصفحات التالية بيضاء.
حاولت أن أنادي ستلا أولا لكنها لم تأت. وهكذا تركت عجلة القيادة تقدمت لإعادة ستلا. وأخذت الكرة معي لإرضائها وإغرائها بالعودة من مقدم السفينة.
وقبعت في مكاني وقلت: «تعالي يا ستلا!» وأنا أنقل الكرة من يد إلى يد، وناديتها «تعالي خذي الكرة.» وأحسست بالسفينة تميل قليلا بسبب الريح، وعرفت حينذاك أنني أخطأت حين تركت عجلة القيادة. وأفلتت الكرة من يدي فجأة وتدحرجت فارتميت خلفها؛ لكنها كانت قد وصلت للجانب الآخر قبل أن أمسكها. كنت مستلقيا على ظهر السفينة أتابع الكرة بنظراتي وهي تختفي في الظلام. كنت غاضبا أشد الغضب من نفسي بسبب حماقتي الشديدة.
كنت لا أزال ألوم نفسي عندما تصورت أنني أسمع صوت غناء. كان أحدهم يغني في مكان ما وسط الظلام. ناديت ولكنني لم أتلق ردا. إذن، فذلك ما كانت ستلا تنبحه.
بحثت مرة أخرى عن كرتي لكنها كانت قد اختفت. كانت الكرة ثمينة جدا بالنسبة لي، وثمينة لنا جميعا. وأدركت عندها أنني فقدت لتوي ما يزيد كثيرا عن مجرد كرة قدم.
كنت غاضبا من ستلا، إذ كانت السبب في هذا كله. كانت لا تزال تنبح. ولم أعد أستطيع سماع الغناء. ناديتها من جديد، ودعوتها بالصفير للعودة، لكنها لم تأت. نهضت واقفا وتقدمت، وأمسكت بطوقها الجلدي وشددتها ولكنها رفضت أن تتحرك. لم أكن أستطيع أن أجرها للعودة بها هذه المسافة كلها فانحنيت حتى أحملها. كانت لا تزال رافضة. ثم احتضنتها بين ذراعي وهي تجاهد للتحرر من قبضتي.
Página desconocida
وسمعت زفيف الريح من فوقي في الأشرعة، وما زلت أذكر أنني قلت في نفسي: هذا حمق! إنك لا ترتدي سترة الأمان ولا سترة النجاة وعليك أن تتوقف عما تفعله. ثم إذا بالسفينة تميل بعنف وتلقي بي جانبا. ولما كنت أقبض بذراعي على ستلا لم أجد الوقت اللازم لأمسك بسور السفينة الحديدي. وقبل أن أستطيع حتى أن أفتح فمي لأصرخ أصبحنا في وسط مياه البحر الباردة.
الفصل الرابع
قرود وأشباح
تتابعت أهوال الرعب بسرعة. وابتعدت أضواء السفينة بيجي سو ثم اختفت في ظلام الليل، تاركة إياي وحيدا في المحيط، وحيدا مع ثقتي بأن الأضواء قد بعدت بعدا شديدا وأن صرخات استغاثتي من المحال أن يسمعها أحد. وخطر ببالي وجود أسماك القرش السابحة في المياه السوداء من تحتي، تتشمم رائحتي وتتعقبني وتشق طريقها إلي، وعرفت أنه لا أمل. سوف تأكلني حيا. إما ذاك أو أن أغرق ببطء. لا يمكن أن ينقذني الآن شيء.
وضربت الماء بأقدامي فطفوت، وأنا أبحث بجنون في الظلمة الصماء من حولي عن شيء؛ عن أي شيء يمكن أن أسبح لأصل إليه. لكنه لم يكن هناك شيء.
ثم لمحت فجأة شيئا أبيض في الماء، ربما كان زبد موجة. لكنه لا توجد أمواج، ستلا! لا بد أن تكون ستلا، حمدت الله كثيرا وشعرت براحة عميقة لأنني لم أكن وحدي، وناديتها وسبحت تجاهها، لكنها كانت دائما بعيدة، تختفي وتعود للظهور ثم تختفي من جديد. كانت تبدو قريبة جدا، لكنني اضطررت إلى السباحة بشدة عدة دقائق قبل أن أقترب منها اقترابا يكفي لمد يدي ولمسها. وعند ذلك فقط أدركت خطئي. رأس ستلا يغلب عليه السواد، وأما هذه فبيضاء. كانت كرة القدم. أمسكتها وتعلقت بها وقد أحسست بقدرتها الرائعة وغير المتوقعة على الطفو، وثابرت وأنا أضرب الماء بقدمي وأنادي ستلا، لكنني لم ألق جوابا. ناديت وناديت، لكنني كلما فتحت فمي الآن دخلت فيه مياه البحر. كان علي أن أكف عن النداء، فالواجب أن أنقذ نفسي إذا استطعت.
لم يكن هناك جدوى من إهدار الطاقة بمحاولة السباحة. وعلى أية حال، لم يكن هناك مكان أسبح نحوه. وقررت بدلا من ذلك أن أطفو وحسب. ومن ثم قررت أن أتعلق بكرة القدم، وأن أضرب الماء بقدمي ضربا خفيفا وأن أنتظر عودة السفينة بيجي سو. لا بد أن والدي سوف يكتشفان عاجلا أو آجلا أنني وقعت في البحر، وأن يأتيا للبحث عني عاجلا أو آجلا. يجب ألا أرفس الماء بشدة، بل بما يكفي فقط للطفو، لإبقاء ذقني فوق سطح الماء. فكثرة الحركة سوف تجتذب أسماك القرش، ولا بد أن الصبح قريب، لا بد أن أثابر إذن حتى يطلع الصبح، لا مفر من ذلك. لم تكن برودة المياه قارسة، وكانت معي كرة القدم، والفرصة لا تزال قائمة.
ظللت أقول ذلك لنفسي المرة بعد المرة. ولكن الدنيا ظلت سوداء لا تريد التخفيف من سوادها من حولي، كما بدأت أشعر أن برودة الماء تجمدني حتى الموت. حاولت أن أغني حتى أتوقف عن الارتجاف وحتى أبعد صور أسماك القرش عن بالي، غنيت جميع الأغاني التي أذكرها، لكنني كنت بعد قليل أنسى كلمات الأغنية، ودائما كنت أعود إلى الأنشودة التي كنت واثقا من إتمامها وهي «عشر زجاجات خضراء». غنيتها بأعلى صوتي مرات كثيرة. كنت أستمد الاطمئنان من رنين صوتي، الأمر الذي جعلني أحس بوحشة أقل في البحر، وكنت دائما أبحث عن لمعة الفجر الخضراء، لكنها تأبى أن تأتي وتأبى أن تأتي.
وسكت آخر الأمر ولم تعد رجلاي تضربان الماء. وتعلقت بكرة القدم، ورأسي ينساق إلى النوم. كنت أعرف أنني يجب ألا أنام، لكنني لم أستطع المقاومة. وكانت يدي كثيرا ما تنزلق من الكرة. كنت أفقد بسرعة آخر ما لدي من قوة، وهكذا كنت سأهبط، وأهبط إلى قاع البحر وأرقد في قبري وسط الطحالب البحرية وعظام الملاحين الغرقى وحطام السفن.
والغريب أنني لم آبه لذلك حقا. لم أكن أكترث، أو لم أعد أكترث. وجعلت أطفو حتى غلبني النعاس، وجاءت الأحلام. ورأيت في حلمي سفينة تتقدم نحوي ساكنة فوق صفحة البحر. إنها بيجي سو! بيجي سو العزيزة الحبيبة! لقد عادا يبحثان عني، كنت أعرف أنهما سيعودان، وأمسكتني أذرع قوية، وحملتني إلى أعلى خارج الماء، ورقدت هناك فوق ظهر السفينة أنشق الهواء بصعوبة مثل سمكة حطت على اليابسة.
Página desconocida
كان شخص ما قد انحنى فوقي، وأخذ يهزني ويحادثني. لم أفهم كلمة واحدة مما قاله، لكن ذلك لم يهمني. شعرت بأنفاس ستلا على وجهي، وأحسست بلسانها يلعق أذني. لقد كتبت لها السلامة. وكتبت لي السلامة. كل شيء على ما يرام.
استيقظت على صوت عواء يشبه صوت عصف الريح الشديدة من خلال سواري السفينة. ونظرت حولي فلم أجد سارية واحدة فوقي، ولا شراعا واحدا، ولم أشعر بحركة تحتي أيضا، ولا بأي نسيم يهب، كانت ستلا أرتوا تنبح، ولكنها على مبعدة ما مني، لم أكن فوق ظهر أية سفينة على الإطلاق، بل راقدا ممددا على الرمال، وتحول صوت العواء إلى صياح، بل إلى صراخ حاد متصاعد ومخيف يخبو صوته فيما يحدثه من أصداء.
وجلست. كنت على شاطئ البحر، منطقة رملية بيضاء عريضة، ومن خلفي أشجار كثيفة وكثة حتى الشاطئ. ثم رأيت ستلا تتواثب في المياه الضحلة. ناديتها فجاءت قفزا من البحر لتحيتي، وذيلها يدور في الهواء بعنف. وبعد أن انتهت من التنطيط ولعقي بلسانها واحتضاني، اجتهدت حتى وقفت على قدمي.
كنت أشعر بضعف في جسمي كله. ونظرت حولي. كان البحر الأزرق الواسع خاويا مثل السماء الصافية الخالية من السحب من فوقي. لم تكن هناك بيجي سو. لم تكن هناك أية سفن. لا شيء. لا أحد. ناديت وناديت مرات على أمي وأبي، وظللت أنادي حتى اغرورقت عيناي بالدموع ولم أعد أستطيع النداء، وحتى أدركت أنه لا فائدة في النداء، ووقفت هنالك بعض الوقت أحاول أن أفهم كيف انتهيت إلى هذا المكان، وكيف تسنى لي أن أنجو، وقد اختلطت الذكريات في رأسي، بعضها يقول إنهما أنقذاني، وبعضها يقول إنني على متن السفينة بيجي سو، لكنني الآن واثق أن هذا محال، لا بد أنني رأيت ذلك في المنام، وحلمت بكل ذلك. لا بد أنني تعلقت بكرة القدم فظللت طافيا حتى ألقتني الأمواج على الشاطئ. وخطرت ببالي كرة القدم عندها، لكنني لم أستطع رؤيتها في أي مكان.
ولم يكن يعني ستلا، بطبيعة الحال، تساؤلي عن الأسباب والعلل، بل ظلت تأتي لي ببعض العصي حتى أقذفها فتجري خلفها ركضا لتحضرها من البحر دون أن يقلقها شيء في الدنيا.
ثم عادت أصوات العواء القادمة من جهة الأشجار، فاستفزت ستلا حتى وقف شعر رقبتها، وانطلقت تجري على الشاطئ وهي تنبح وتنبح حتى تأكدت أنها قد أسكتت آخر الأصداء. ولكن العواء هذه المرة كان موسيقيا يشبه النواح ولا يوحي بأي تهديد على الإطلاق. وقلت في نفسي إنني أعرف مصدر هذه الأصوات. فلقد سمعت أصواتا تشبهها ذات يوم في زيارة إلى حديقة الحيوان في لندن. إنها أصوات قردة «الجيبون»، وكان والدي يسميها «الجيبون الجبانة». ولا أزال أجهل سر هذه التسمية، وإن كان جرس الألفاظ يستهويني. وربما كان ذلك هو السبب الذي جعلني أتذكرها، وقلت لستلا: «ليست سوى قردة الجيبون! الجيبون الجبانة! وهي لن تؤذينا.» ولكنني لم أكن واثقا أنني كنت على صواب.
وكنت أستطيع من الموقع الذي وقفت فيه أن أرى أن الغابة تخف كثافة أشجارها على جانب تل عظيم يقع على مبعدة من الشاطئ، وخطر لي عندها أنني لو استطعت الوصول إلى الصخور الناتئة الجرداء عند القمة فسوف أتمكن من مد بصري إلى مسافة أبعد في البحر. أو ربما كان هناك منزل أو مزرعة إذا ابتعدنا أكثر عن الشاطئ، وقد يكون هناك طريق من الطرق، وعندها أجد من يمد لي يد المساعدة. لكنني قلت في نفسي: لنفرض أنني غادرت الشاطئ فعادا للبحث عني، فماذا يكون حالي؟ وقررت أن من واجبي أن أغتنم تلك الفرصة.
وانطلقت أجري، وستلا أرتوا في أعقابي، وسرعان ما وجدت نفسي في ظل الغابة الرطيب. واكتشفت مسلكا ضيقا صاعدا في التل، ورأيت أنه يمثل الوجهة الصحيحة. وهكذا سرت فيه جريا ثم أبطأت السرعة عندما أصبح التل شديد الانحدار. كانت الغابة عامرة بالكائنات الحية. كنت أسمع وقوقة الطيور وصرخاتها عند ذوائب الأشجار العالية من فوقي، وأصوات العواء القديم ينقلها الهواء كأنها النواح من خلال الأشجار، وإن بدا أنني ابتعدت عنها الآن.
ولكن مصدر قلقي لم يكن أصوات الغابة، بل العيون! إذ شعرت بأن ألف عين مستطلعة تراقبني. وأظن أن ستلا شعرت بذلك أيضا، إذ إنها التزمت بصمت غريب منذ أن دخلنا الغابة، وكانت دائما ما تتطلع إلي طلبا للاطمئنان والراحة. وبذلت قصارى جهدي في ذلك، ولكنها كانت تشعر أيضا أنني كنت خائفا.
ولكن مسيرتي التي كنت أظنها جولة قصيرة بدت لي الآن رحلة كبيرة في داخل تلك الأرض، فبعد أن خرجنا منهكين من وسط الأشجار، صعدنا بصعوبة وجهد جهيد ركاما صخريا حتى استطعنا أخيرا أن نقف فوق القمة.
Página desconocida