ثم إن غانما نهض لينصرف، فخرج همام معه، وانطلق فؤاد مع سعيد يتنزهان في حديقة الأزبكية.
وكانت الليلة مقمرة، ينجلي في سمائها البدر في تمامه مرسلا أشعته الفضية على سندس خضرة الحديقة؛ فيتلألأ بهاء وإشراقا، وكأن البحيرة لجين نقي تتموج فيها أشعة القمر الساطعة، وتتحرك الأغصان بمرور النسيم اللطيف المحيي القلوب المنعش الأجسام.
وكان حول البحيرة جماعة المتنزهين والنساء يتمايسن بالقدود اللطيفة، فيخجلن البدور السوافر والأنجم الزهرية، وكانت الموسيقى العسكرية تصدح بألحانها الشجية فتأخذ أصواتها بمجامع القلوب، والمغنون في القهاوي يوقعون على الآلات الأدوار الجديدة، والناس حولهم جلوس يرددون أصوات الاستحسان، وغير ذلك من المطارف التي جمعتها حديقة الأزبكية، وكان سعيد في تلك الليلة قد أكثر من الشراب فجعل يعربد ويمزح ويقهقه كالسكارى.
وبعد أن قضى فؤاد برهة من الزمان يتنزه في الحديقة دائرا حول البركة، استأذن لينصرف فمنعه سعيد بقوله: أنت الليلة معي، لن أفارقك، ولن أدعك تذهب في هذا الوقت، والمكان زاهي الحظ جميل، فلنغتنم الصفو ولنمتع القلوب بسماع الآلات، وإن شئت نمتع النواظر بمشاهدة النساء الحسان المتنزهات، فلعلنا نجد بينهن صيدا شهيا نتفكه به بعد الطعام الفاخر الذي أكلناه في دعوة خالك، فأنت الآن في رفقتي، فلا تخف إنما قد استغربت أمرك إذ رأيتك تأكل أكل الأطفال وتشرب شربهم، وأنت حيي خجول كالبنات العذارى، وهذا ليس من شأن الشبان، وجئت الآن تطلب الانصراف كأنك تخشى طارقا إن غبت عن منزلك فلم ترجع إليه في ميقاتك، فما الذي يعكر عليك؟ أيكون السبب في انشغال بالك وحبك العزلة عن الناس عشقك لأختي سعدى التي ستكون قريبا زوجتك؟ وإن شاء الله كان اسمها مقارنا مسماها، فتجد في قربها السعود، فإنها سترث من أبيها أملاكا واسعة تتمتع بها، وقد بلغني أنك محب للمال راغب في تعجيل اقترانك بها، ولأجل مرضاة خاطرها تحرم نفسك من الطيبات، وتمتنع عن الحضور في مجامع الناس ومجالس أنسهم وطربهم لتحسن خطيبتك فيك الظن، فلا تنسب إليك شيئا من الباطل والعيب.
قال فؤاد: أخطأ ظنك يا صاحبي، فلا عتب عليك فيما تقول، إنما العتب على الخمرة التي أنطقتك بالقول السخيف، فأنت معذور.
قال سعيد: تستعمل المصانعة في حضوري، فبالله دع ذلك إلى مجلس شقيقتي وخاطبني بحرية، فإن التكلف يقبض الصدور، ويدفع أسباب المباسطة والانشراح، ولك العهد علي أني لا أخبر أختي بشيء.
قال فؤاد: الرأي عندي أنك تنصرف إلى منزلك، فالنوم أنفع لك، وهو الدواء الشافي لسكرك، ومتى صحوت غدا تكلمني على هدى، وتذاكرني الحديث الذي تبتغيه.
قال سعيد: رأيتني أكثرت شرب الخمر، فزعمت أني سكرت وما أنا بسكران، فإني وحقك معتاد على شرب أضعاف ما شربته في هذه الليلة، فلا يحصل لي أقل انزعاج، ولا خرجت البتة عن صوابي ورشدي، وأنا الآن أكلمك على انتباه، فلا تسلك معي سبيل المكاتمة، ودع التقوى والتصاون إلى وقت آخر، وتظاهر بما شئت أن تتظاهر من الورع والفضيلة في مجلس أختي؛ لاستجلاب خاطرها ورضاها.
قال فؤاد: وهمت يا صاحبي، فأفعالي منطبقة على أقوالي، فلا أقول شيئا إلا ومصداقه في قلبي ويقيني، ولك أن تحكم في طباع أختك، فأنت أعلم بها مني، وليس لك أن تعلم طباعي وتحكم لي أو علي في أمر تجهله.
قال سعيد: أؤكد لك يا فؤاد أني أعزك فوق ما أعز أختي وأفضلك بالتهذيب والأدب والرقة حالة كونها على الأخلاق المنافية لذلك.
Página desconocida