دخل همام وفؤاد وسعيد، فاعتذر إليهم غانم عن التأخير بسبب حديثه مع شقيقته، ثم جلسوا للطعام، وقد جاعوا فأكلوا باشتهاء.
وكان غانم على بخله أكولا يلتهم الطعام، كلما قدمت إليه صحيفة ابتلع ما فيها شاكرا فضل همام على دعوته، ولو أن الحديث الذي حصل بين غانم وبين شقيقته حصل لغيره لانقطعت قابليته، ولكن غانم كان على طبع لا تؤثر فيه الفواعل، ولا تعمل العوامل ولو بلغت ما بلغت من الشدة، غير عامل البخل وخوف النفقة، وهي الآن على همام صاحب الدعوة، فمن أجل ذلك كان ناعم البال منشرحا يتناول طعامه بكل اشتهاء، فيا ليت كان قلبه سويا كمعدته!
وكان سعيد يحذو حذو أبيه، فلا يتخلف عن الأكل على كثرة الألوان، حتى كأن معدته بئر لا تمتلئ.
وقام همام بواجبات الدعوة وإكرام المدعوين، يسكب لهم الخمر في الكاسات البلورية، ويلاطفهم بالحديث والمنادمة.
وكانت شهوة الشرب عند سعيد بقدر شهوة الأكل، فجعل يتناول الكاسات من يد همام يحسوها على عجل، ويرجع إلى أكله كأنه لم يذق طعاما منذ يومين أو ثلاثة!
وكان فؤاد صامتا غارقا في بحر الهواجس والأفكار، ولا يأكل إلا قليلا، ولا يتعاطى الخمر، فإنما قد حضر حضور افتخار لإكرام المدعوين، فلم يرق ذلك في عين همام، وقد أشار إليه خاله ونبهه ليأكل ويتكلم فلم يفعل.
ولما انتهوا من طعامهم أحضر الخادم القهوة، وأخرج همام من جيبه علبة سجائر من أفخر ما يدخن، وقدمها بين أيدي غانم وابنه سعيد، فتناول غانم أكثر من النصف وقال لهمام: تعذرني أني أخذت أكثر من واحدة، فإني مواعد على زيارة في هذه الليلة، ولا يتبشر لي الذهاب إلى دكان تاجر الدخان عميلي لأشتري منه ما يلزمني، وفضلا عن ذلك فإن سجائرك تعجبني؛ لأنك لا تشتري إلا من الصنف الأعلى، وأنا أقنع بأقل شيء؛ وذلك لأننا معشر الرجال المتزوجين نتعب ونشقى ونسعى في أثر الرزق آناء الليل وأطراف النهار، فلا نبلغه إلا بشق الأنفس، فتأكله النفقة على البيوت المعلقة بأعناقنا، ولا يعلم مقدار ما نعاني من المشاق إلا المتزوجون، وأما العازبون مثلك فيجهلون ذلك، فلا تلمني أن رأيتني مقترا على نفسي في النفقة.
ثم إن غانم التفت إلى فؤاد وقال: إني أعجب منه كيف لم يفه بكلمة طول مدة العشاء؟ ولعله تكدر من معاشرتنا، فلم يرق حضورنا في عينيه أو ضايقه حجز حريته عليه.
فجعل همام ينبه ابن أخته، ويحثه بالإشارة على ملاطفة المدعوين ومسامرتهم، فلم ينتبه فؤاد لهذه الإشارة كأنه في سبات النوم لا يسمع ولا يرى.
فتكدر من ذلك همام، وساءه عدم اكتراث ابن أخته بأهل خطيبته، فكان يصر على أسنانه، ويعض على شفتيه من الغضب فلا يتكلم.
Página desconocida