قال: نعم، أعدك بذلك ، وأشهد الله على نفسي، وأجتهد في صلاح أمرها، وتزويجها برجل كفؤ لها تقيم بالراحة والسعادة عنده، وأتعهد نفقتها، وإن احتاج الأمر إلى جهاز لم أتأخر عن ذلك.
فتهلل وجه كريمة، وقالت من فرط حبورها: حفظك الله يا أخي وأنعم عليك، فسامحني واصفح عني، وتجاوز عن خطيئتي حين رجمت فيك الظنون، وأنت واسع النظر، وألتمس منك الإقالة فليست تخفى عليك أعذاري.
قال: غفر الله لك ولا بأس عليك، إنما الناس صناديق مقفلة مفاتيحها التجارب، فقد يتظاهر كثيرون بالاستقامة والكرم والعفاف وهم خبثاء ماكرون، ويظن المرء في قومه سوءا وهم صلاح مستقيمون، وينسب إليهم من المفاسد والرذائل ما هم عنه بمعزل، وربما ظهر لك مني الجفاء والغلظة والخشونة فكانت الحال بالعكس، فقري عينا وطيبي نفسا وسكني البال، واعلمي أني ما دمت حيا باذل جهدي والعناية في شأن ابنتك إن كنت ترغبين مني فوق هذا، وقد أجبت سؤالك فاصرفي عنك الأكدار، والآن فقد مضى الوقت علينا والأصحاب في انتظاري، ولا ريب أني ضايقتهم بطول الحديث معك.
فتقدمت كريمة إلى أخيها، وأقبلت على يده تقبلها ودموعها منسكبة على الخدين وقالت: إني مقصرة عن شكر جميلك، أوليتني نعمة لا أستحقها، وفرحت قلبي فرح الله قلبك، وجعل أوقاتك سعودا وسرورا، وجزاك الله خيرا، فقد أنقذت ابنتي من مخالب الجوع والعار، وفتحت لها باب السعادة والراحة، فآخر رجائي عندك يا عزيزي أنك تعجل معروفك، ولا تؤخره إلى وفاتي، وكن بي وبابنتي رءوفا، واجعلها منذ الآن في منزلك، ليهدأ بالي وتصفو أفكاري، وأقابل الموت مطمئنة محبورة.
فما فرغت كريمة من قولها حتى انقلب وجه أخيها، وتبدلت بشاشته غضبا، وتولاه الذهول والدهشة، فجعل يروغ كالثعلب في فخه، وحار في أمره كيف يفعل، فلما رأت تغيره وتبينت السخط فيه اضطربت وعلا وجهها الشحوب، قالت: إني أشعر برجوع المرض، وأخشى أن يغتالني الألم ويعجل علي الوفاة على غفلة، فتشاهد ابنتي نزاعي، فتموت جزعا على أنها لطيفة المزاج والشعور، ضعيفة الجسم، حديثة السن، لا تقوى على احتمال المشهد المحزن، فأكرر الرجاء وألتمس منك يا أخي العزيز الحنون أن تبادر إلى البر، فلا تنتظر آخر ساعة من حياتي لإنجاز وعدك وإتمام مقاصدك النبيلة، ونواياك الجميلة، فاجعل ابنتي في حرزك، واكفها الكرب والعذاب، ولا تدعها تتجرع مرارة الكأس ومكابدة ما لا تطيقه من الروعة والأسى، ودعني أموت ذاكرة فضلك داعية لك بطول البقاء والإقبال، إن أعظمي في قبرها تثني عليك، وقد شهدت أنك تحبني، فانقل محبة الوالدة إلى الابنة، واجعل عفيفة بمعزة أولادك، فتلك أعظم مجابرة وتعزية لي قبل حلول رمسي.
فاشتدت حيرة غانم وتنبه إلى غلطه، كيف قادته سماحته الموهومة إلى حيث لا يحب الوصول، فقد كان كل قصده الوعد لا الوفاء، ولكن ساقه الحديث إلى ما لا يشتهي، وغلبت عليه طبيعة البخل، فانقلبت سحنته، وأجهد قريحته ليرى كيف يتخلص من أخته وابنتها، فقال: غمض علي ما تقولين فلم أفهم مرادك، أترين أن تجبريني على فعل ما لا يليق، ولا يحتمل وقوعه من ذي لب؟ ترغبين أني أفرق الأم عن ابنتها عند قرب الوفاة؟ أفي الكون أفظع من هذا العمل الذي تشمئز منه النفوس الأبية، وتكرهه الطباع الإنسانية، وتحرمه النواميس الإلهية والطبيعية؟ وبفرض التسليم بأنك على آخر رمق من الحياة كما تدعين، أيستلزم ذلك مفارقتك ابنتك ولو دقيقة واحدة؟ إذ الواجب أن تلازمك ليلا ونهارا، وتجلس على فراشك، وتغمض بيديها عينيك، وتتلقى آخر نسمة من فيك، فهذه فروض مقدسة يقوم بها البنون، وعلى ظني فإني لو رضيت بأن أجعل ابنتك عفيفة عندي، فهي تأبى أن تفارقك لحظة ما دمت في قيد الحياة.
فسكبت كريمة الدموع الساخنة، وقالت لأخيها: أظننت يا شقيقي أني راضية بمفارقة ابنتي بخاطري؟ كلا ثم كلا ... وحبك الصادق إنها سلوتي الوحيدة في الدنيا وتعزيتي، بل حياتي وروحي، ولكن الأمر خطير والأسباب عظيمة والله يعلم مقدارها.
قال: ما تلك الأسباب؟
قالت: لا أستطيع بيانها، فأعفني من ذلك.
قال: من لي بعلم الغيب؟
Página desconocida