قال «بركزاس»: دعني أنا مع مائة فارس أغار عليها، وسيروا أنتم إلى بابل.
قال «أرباسيس»: هذا رأي سديد؛ لأني أعلم أن «بركزاس» فيه الكفاية بأن يفتحها بمفرده.
قال الملك: فاختر لنفسك من شئت من الجنود.
ففرح «بركزاس»؛ لأنه يريد أن يعمل عملا يظهر به شجاعته أمام الملك، والحاصل انتخب مائة فارس تحت إمرته، وهجم على المدينة فخرج لهم عساكر العراقيين مندهشين من أين جاءت هذه الشرذمة القليلة وقابلوهم باحتقار، وعدم اعتناء، ودار الحرب بينهم، وقد أظهرت أبطال الفرس كل بسالة، وفي مقدمتهم «بركزاس» كالأسد الضرغام حتى ألجئوهم إلى أبواب المدينة، وقبل أن يتمكنوا من غلق الأبواب هجمت عساكر الفرس على الأبواب، ودخلت المدينة تأسر وتقتل إلى أن دخلوا قصر الملك، ودخل «بركزاس» بعد أسر الحاكم وجلس مكانه، ونكس الأعلام البابلية، ونصب الأعلام الفارسية، ورتب الأحكام وعزل وولى، وبعد أن رتب إدارة المملكة كتب كتابا إلى الملك يخبره بما تم، وأرسله مع أحد العيارين.
أما الملك «كورش» فإنه بعد أن أمر «بركزاس» أن يفتح «نينوى» أمر العساكر بالقيام من ساعته فنفرت في الحال، وسار بركبته قاصدين أراضي بابل، والملك يكاد أن يطير شوقا إلى تلك الربوع، وبعد بضعة أيام أدركوا المدينة وعسكروا حولها ...
فلنترك الآن «كورش» في غرامه وهيامه، ونرجع إلى «شاهزنان» ووالدها، فنقول: إنه لما رجع «فيروز» إليها - كما سلف - ودخل عليها وسلم، وسألته عما حصل، وعن قريب رجوعه فأخبرها بكل ما سمعه من «روبير»، وما حصل من اللصين، وكيف أخذا منه الكتاب، وكيف خلصه «روبير» منهما، وكيف أخبره عن «كورش» أنه ابن ملك فارس، وجده ملك «مادي» أكبر ملوك الأرض، وهو لا يعلم ذلك لدواع أخرى، والحاصل أخبرها بكل شيء يعلمه ففرحت «شاهزنان»، واشتعل قلبها بنار الغرام، فباتت تسعد بالأمل، وتشقى باليأس.
أما والدها، فإنه تعجب لما رأى «فيروز» في القصر بين الخدم كعادته، وهو يعلم أن المسافة بين حدود «مادي» وبين أرض «آشور» تستغرق مدة أيام، والرجلان اللذان بعث بهما لم يحضرا بعد، فاستحضر الجارية التي وشت بابنته، وهددها بالقتل إن لم يظهر نتيجة لقولها، وفيما هو كذلك، وإذا بالحاجب دخل عليه يخبره بحضور وفد ملك بابل، فقام الملك وخرج إلى دار الضيافة، وقابل الوفد وهو مؤلف من الوزير وخمسة من الجند، فصغر في عينه، وثارت في رأسه أنفة الملوك، وندم على خروجه لهم، وبعد أن سلم الوزير وجلسوا برهة من الزمن قام الوزير وأخرج منشورا يتضمن أنه يطلب ابنته «شاهزنان» - بصوت تهديدي - ولما اطلع الملك على ذلك التفت إلى الوزير بغاية الأنفة والعظمة، وقال: أخبر مولاك أنه ليس عندي بنات له، فليفعل ما يشاء.
فقام يتعثر بأذياله، ورجع بالخيبة إلى مولاه، وبعد أن أخذ قليلا من الراحة ركب وسار إلى أن دخل على الملك «أفراسياب»، وأخبره بما حصل، فلما سمع ذلك قامت قيامته، واشتعلت عيناه في أم رأسه يقدح منها الشرر وهدر وزمجر، وأمر في أسرع وقت بتحضير الجنود، وركب بجيشه الجرار، وهجم على «نينوى» - وكان الوقت الذي جاء فيه «روبير» - فهدم حصونها، ودك أسوارها، وفتحها عنوة، وأسر الملك «أكيا كسار»، وأخرج الحرم من القصر سبايا عرايا باكيات العيون، وبينهن «شاهزنان» كأنها القمر بين النجوم. ولما رآها تبكي وتلطم وجهها، وتستغيث نظر إليها بعين العاشق الولهان، وقرب منها، وقال: خفضي عنك أيتها الغادة، فإنك عما قريب تكونين ملكة بابل. فنزل هذا اللفظ على قلب «شاهزنان» نزول الصاعقة، وقالت: انزع من فكرك هذا أيها الملك الظالم، فوحرمة الشرف الذي هدمته والناموس الذي وطأته، إنك لو أجبرتني على ذلك لأقتلن نفسي قبل أن تضع يدك علي.
فاحتد الملك من هذا الكلام، ولكن الوزير سكن غضبه، وقال: يا ملك، فمن عادة النساء لا يملن إلى الرجال إلا باللين وحسن المعاملة، وهذه هدمت ملكها، وأنزلتها من أوج عزها، وتريد أن تسمع منها الطاعة في حينه؟! فهذا أمر بعيد.
فسكت الملك، وترك لها من يدبر أمرها، وأخذ الملك «أكيا كسار» تحت التحفظ والأغلال، وأخذوا «شاهزنان» في محفة تحيطها العساكر والحراس من كل جانب إلى أن بلغوا مدينة بابل، وقد زينت من كل صوب، وأقامت في عرصاتها الأفراح، وهم في طرب زائد، وإذا بالملك «كورش» عسكر حول المدينة - كما تقدم - بعسكره الجرار، وهو كالأسد الكاسر لما في قلبه من لهيب النار.
Página desconocida