والعمل الذي بين يديك محاولة لترجمة هذه الملحمة الجليلة الجميلة ترجمة يتذوقها القارئ العصري المتطلع لاستيعاب كنوز التراث الإنساني والاغتراف من منابع تراثه الحضاري والأدبي، ولا بد قبل الكلام عنه من نبذة مختصرة بقدر الإمكان عن النص الأصلي العريق من جوانبه المختلفة: قصة تدوينه ونسخه، وشذرات ألواحه المسمارية المشتتة في متاحف العالم، وملحمة اكتشافه وترجمته إلى اللغات القديمة والحديثة، وأصوله السومرية التي يحتمل أن يكون الكاتب أو الكتاب البابليون قد اعتمدوا عليها - بجانب التراث الشفاهي القديم - في نسج ملحمتهم الخالدة، ثم مكانة جلجاميش من الأدب العالمي وأهميتها للوعي والوجدان العربي الحاضر الذي لم تصل إليه ولم يتواصل معها بالقدر الكافي ... (2) لم يكن القصيد الشعري الكبير الذي اشتهر باسم «ملحمة جلجاميش» أو باسم أول بيت فيه وهو: «هو الذي رأى كل شيء» هو التشكيل الوحيد للأساطير وقصص المغامرات والحكايات الشعبية التي دارت حول شخصية جلجاميش، وتناقلتها الأفواه قبل تدوينها بمئات السنين ؛ ذلك أن جذور هذه الملحمة البابلية الأصيلة ممتدة في عروق الثقافة السومرية،
2
ولها تاريخ سابق يقوم على عدد من القصص السومرية التي تمكن العلماء من جمع شذراتها وحل معظم ألفاظها خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، وسوف نعرض لهذه القصص بعد الحديث عن حياة جلجاميش الذي يتفق العلماء اليوم على أنه قد عاش في الحقيقة والواقع، على الرغم من تأليه الكهنوت السومري له في زمن مبكر - شأنه في ذلك شأن ملوك سومر الذين جمعوا بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية - ومن رفعه إلى مصاف الآلهة بعد موته وتنصيبه قاضيا لأرواح الموتى في العالم السفلي ...
كان جلجاميش ملكا لدولة مدينة هي «أوروك» في جنوب بابل.
3
ويذكر ثبت الملوك السومريين - المدون في بداية الألف الثانية قبل الميلاد - أنه الملك الخامس في ترتيب حكام هذه المدينة التي كانت من أهم المدن السومرية التي «نزلت عليها نظم الملكية من السماء» بعد الطوفان، وآلت إليها السيادة على سائر المدن السومرية بعد انتصارها على مدينة «كيش»، وإن لم يتوقف الصراع بعد ذلك بينهما ... وقد نسب إليه بناء سورها العظيم الذي أشادت بذكره الملحمة في بدايتها وخاتمتها بوصفه أحد أمجاده التي كفلت له نوعا من الخلود المتاح للبشر الفانين بعد إخفاقه المأسوي في التوصل للخلود الذي تمناه وسعى إليه، واقتناعه في النهاية بأن الآلهة قد استأثرت به دون البشر ... وقد رجح العلماء - بعد فحص الأطلال الباقية من هذا السور والاطلاع على المأثور الغني عن شخصية جلجاميش - أنه قد عاش بين سنتي 2750 و2600ق.م وأنه كان من أقوى الملوك السومريين في فترة حافلة بالصراعات الدامية بين دول المدينة التي أسسوها، وبالصراع بعد ذلك مع الأكديين الساميين الذين كانوا قد استقروا في شمال وادي النهرين قبل أن يتمكنوا بقيادة سرجون العظيم (من حوالي 2334 إلى حوالي 2279ق.م) وحفيده نارام سين (2254-2218ق.م) من توحيد البلاد بأسرها تحت حكمهم.
تراكم حول شخصية جلجاميش مأثور ضخم من القصص والحكايات العجيبة عن طغيانه واستبداده بشعبه، وصداقته النادرة المؤثرة ل «وحش البرية» أنكيدو، ومغامراته معه وأسفاره التي انطلق إليها بعد موته بحثا عن سر الحياة والموت والخلود، ثم رجوعه إلى موطنه ومسقط رأسه بعد أن أضاع «نبتة» الخلود الشائكة «فتطهر» واقتنع بالحدود التي لا يجوز لإنسان أن يتخطاها، مهما صورت له نفسه أو صور له الكهنوت أن «ثلثيه إلهي والثلث الباقي بشري فان» ... ويبدو أن هذا المأثور الذي اختلطت فيه العناصر الأسطورية بالتاريخية قد نشأ في عصر مبكر، وربما سبق اكتشاف السومريين للكتابة بالخط المسماري على الألواح الطينية بزمن طويل؛ ولذلك يحتمل أن يكون الناس قد تناقلوه شفاها وعمل على صياغة وجدانهم قبل البدء في تدوينه في العصر البابلي القديم خلال القرون الأولى من الألف الثانية قبل الميلاد. ولما كانت الشواهد القليلة المتبقية من الأدب السومري قبل سنة 2100ق.م شديدة الغموض والتشوه، فلا نكاد نعرف شيئا عن المأثور السابق على هذا التاريخ الأخير، غير أن هنالك ما يدل على نهضة متأخرة للثقافة السومرية في حدود هذا التاريخ؛ أي في عهد ملوك سلالة أور الثالثة (من حوالي 2112 إلى حوالي 2004ق.م)، كما يدل على نوع من الرخاء الاقتصادي الذي شجع على نمو هذه النهضة التي أثمرت معظم الأشكال الشعرية والأسطورية التي وصلتنا من أدب السومريين، وبدأ نسخها وتدوينها بلغتها الأصلية أو في ترجمتها الأكدية البابلية قبل سنة 1700 قبل الميلاد وبعدها، وقد كانت «جلجاميش» أشبه بواسطة العقد في هذا المأثور المجهول المؤلف، شأنها في ذلك شأن معظم ما وصلنا من التراث السومري والبابلي، والذي يهمنا من هذا المأثور هي القصص السومرية الخمس التي تدور حول شخصية جلجاميش،
4
واستطاع عالم السومريات صمويل كريمر - بمساعدة عدد من زملائه وتلاميذه مثل فلكنشتين وجاكوبسين - أن يجلو غوامضها ويترجم معظم شذراتها التي وضع لها هذه العناوين: جلجاميش وأرض الأحياء، جلجاميش وثور السماء، جلجاميش و«أجا» حاكم كيش، جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي، ثم موت جلجاميش ، ومع أن العبقرية البابلية قد نسجت من هذه القصص المتفرقة ومن مأثورات أخرى عملا مبدعا متكاملا كما سبق القول، فإن هذا لا يقلل من تأثيرها على كاتب الملحمة الشهيرة أو كتابها الذين أفادوا بغير شك من بعضها (وبخاصة القصص الأولى والثانية والرابعة) وأغفلوا الثالثة والخامسة إغفالا تاما، ولا بد أنهم قد أخذوا أيضا من مأثورات سومرية أخرى لا نكاد نعرف عنها شيئا أو من مأثورات وصلتنا في صورة مشوهة، كما فعلوا مع قصة الطوفان التي تؤلف اللوح الحادي عشر وأقحموها على الملحمة، ومع اللوح الثاني عشر الذي لا يخرج عن كونه ترجمة حرفية لجزء من إحدى القصص التي ذكرناها، وهي قصة جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي ... وأيا كان الأمر فقد حان وقت التعريف القصير بمضمون القصص الثلاث التي تعد من الأصول الهامة التي تقوم عليها الملحمة ... (3) تبدأ القصة الأولى - وهي جلجاميش وأرض الأحياء - بالقرار الذي اتخذه بطلنا المغامر بالسفر إلى أرض الخالدين أو أرض الأحياء «ليصنع له اسما عظيما» ويحدث «خادمه» أنكيدو - الذي أصبح في الملحمة البابلية رفيق دربه وأعز أصدقائه بل صديقه الأوحد! - برغبته التي صمم عليها، فينصحه بأن يتوجه بالصلاة والدعاء لإله تلك الأرض وهو إله الشمس أوتو (الذي سيصبح إله الشمس والعدل البابلي شمش)، ويقدم جلجاميش التضحية للإله ويتضرع إليه أن يعينه في سفره ويشد أزره في الصراع المقبل عليه، ويبتهل إليه أن يساعده على أن يصنع لنفسه اسما يخلد ذكره وينتشله من الفناء المحتوم على البشر، ويوافق «أوتو» ويعده بحبس «الأبطال السبعة» الذين يحرسون تلك البلاد النائية في الكهوف، ويختار جلجاميش خمسين رجلا من شباب مدينته المتطوعين لمرافقته في رحلته، بعد أن يشترط عليهم ألا يكونوا قد كونوا أسرا بعد ...
ويبدأ البطل مغامرته بعد التزود من الحداد بالسلاح الضروري، وبعد اجتياز سبعة جبال وعرة يطوقه النوم العميق فلا يوقظه أنكيدو إلا بعد جهد جهيد، ويقسم جلجاميش بأمه «نينسون» وبأبيه «لوجال بندا» أنه لن يرجع أدراجه قبل قتل «الرجل»، ويحذره أنكيدو من سحر ذلك الرجل وقوته الشيطانية، ويلح عليه أن يرجع إلى وطنه، لكن جلجاميش يصر على القرار الذي صمم عليه، ولا يلبث حواوا (وهو نفسه المارد خمبابا الموكل بحراسة غابة الأرز في الملحمة) أن يلمح المتطفلين على أرض الأحياء، غير أنه لا يتخذ أي خطوة جادة لمنعهم من قطع أشجاره ... ويفرغ الرجال الخمسون من قطع أشجار الأرز وإعدادها للنقل، ثم يصل جلجاميش إلى «حجرة» حواوا أو مأواه الذي يختبئ فيه ويطلق منه تضرعاته لجلجاميش بأن يبقي على حياته، ويبدي هذا استعداده - كما في الملحمة تماما - للاستجابة شفقة عليه، غير أن أنكيدو يحذره من شر «نمتار» - وهو شيطان أو إله من العالم السفلي مختص بالأوبئة - الذي يمكن أن يصيبهم أذاه، عندئذ يسب حواوا «الخادم» أنكيدو ويصفه بأنه مرتزق أجير، وأنه قد تكلم ضده بالشر: «وعندما قال هذا قطعا رأسه، وحملا جثته للإله «إنليل» الذي أقامه حارسا على أرضه ولزوجته ننليل.» (وإنليل هو إله العواصف الغضوب ورب مدينة نيبور أو نفر السومرية القديمة التي عثر فيها على بعض ألواح الملحمة ...)
Página desconocida