تقديم
تمهيد
اللوح الأول
اللوح الثاني
اللوح الثالث
اللوح الرابع
اللوح الخامس
اللوح السادس
اللوح السابع
اللوح الثامن
Página desconocida
اللوح التاسع
اللوح العاشر
اللوح الحادي عشر
اللوح الثاني عشر
تقديم
تمهيد
اللوح الأول
اللوح الثاني
اللوح الثالث
اللوح الرابع
Página desconocida
اللوح الخامس
اللوح السادس
اللوح السابع
اللوح الثامن
اللوح التاسع
اللوح العاشر
اللوح الحادي عشر
اللوح الثاني عشر
ملحمة جلجاميش
ملحمة جلجاميش
Página desconocida
ترجمة
عبد الغفار مكاوي
مراجعة
عوني عبد الرؤوف
تقديم
إن صلة الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي بالشعر قديمة، فقد كان يقرض الشعر وهو حدث صغير، ثم أقلع عن ذلك بعد تخرجه في كلية الآداب وانشغاله بالدراسات الفلسفية ومؤلفاته وإبداعاته في فن القصة والمسرحية، وإن لم يفقد اهتمامه بالشعر والشعراء، فكان يقدم من وقت إلى آخر ترجمة لبعض القصائد، ويقوم بدراسة لها ولمبدعها، فقدم أشعار سافو اليونانية، ولاوتس الصيني، وبرشت الألماني، كذلك قام بتقديم الكثير من شعر جوته، وهلدرلين، وغيرهما من أدباء الغرب.
ولعل صلته الحميمة بالكثير من شعراء العصر جاءت نتيجة لذلك، أو لعل هذه الصلة هي التي جعلته يهتم بهذه الدراسات والترجمات، وليس أدل على ذلك من كتابه ثورة الشعر الحديث الذي صدر في جزءين، وجاء نتيجة لاتفاقه مع صلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي على أن يقوم كل منهما بتقديم شعراء أوروبا للقارئ العربي، ثم تبين بعد فراغه من عمله بأنهما لم يوفقا إلى الوفاء بما اتفق عليه، فكان أن نشر ما قام بدراسته هو، وهذا يذكرنا بالاتفاق الذي تم بين دكتور طه حسين ودكتور عبد الحميد العبادي والأستاذ أحمد أمين على أن يقوموا بدراسة الحياة والأدب العربي في عصورهما المختلفة، ولم ينفذ الاتفاق إلا الأستاذ أحمد أمين الذي أصدر مجموعة فجر الإسلام وظهر الإسلام وضحاه.
وقد التزم الدكتور عبد الغفار مكاوي في ترجمته للشعر بما يراه من أننا لا نستطيع أن نعزل أنفسنا عن التجارب الشعرية عند الأمم المختلفة، وأننا لا يمكن أن نرجو لشعرنا العربي أن ينمو ويتجدد ويستجيب لعقولنا وأذواقنا وهمومنا إذا ظل بعيدا عن التطور الهائل في الشعر العالمي الحديث، على الرغم من اعترافه بأن الشعر لا يكاد يترجم، فالترجمة عنده ضرورة نلجأ إليها اضطرارا، مجرد جسر نعبر عليه من شاطئ لآخر، وسرعان ما ننسى الجسر ومن مده بعد أن نضع أرجلنا على بر الأمان ... (راجع مقدمة ثورة الشعر)، وهو هنا يتعرض لنص من النصوص السامية القديمة التي ترجمت إلى الكثير من اللغات الأوروبية وسبق ترجمتها أحيانا إلى العربية، وهو نص ملحمة جلجاميش التي حاول البعض ترجمتها شعرا أيضا، ولعل من أفضل هذه الترجمات ترجمة شميكل
Schmökel
وترجمة شوت
Página desconocida
schott .
وقد سعدت كثيرا حين طلب مني الأخ الصديق عبد الغفار مكاوي مراجعة ترجمته على النص الأصلي، إذ إن ملحمة جلجامش هي أكبر وأجمل شعر بابلي اكتشف بمنطقة دجلة والفرات، وهي إحدى الملاحم البطولية للعالم القديم، ولا يوجد نظير لها بأي لغة قديمة بالشرق الأوسط، سواء بالمصرية القديمة أو العربية أو غيرها، ويمكن أن يطلق عليها الأوديسة البابلية، وقد أثارت اهتماما كبيرا في العالم الغربي منذ أن اكتشفت، بل لقد تقدم أحد الدارسين الأمريكيين ويدعى
Hope Nash Wolff
برسالة دكتوراه في قسم الأدب المقارن بجامعة هارفارد قارن فيها بين ملحمة جلجامش والأوديسة وبيوفولف
A Study in the narrative structure of three epic poems Gilgamesh, the Odyssey, Beowulf . اكتشفت معظم مواد الملحمة التي تتكون من اثنتي عشرة لوحة تشتمل كل منها على ما يقرب من ثلاثمائة سطر، باستثناء اللوحة الثانية عشرة التي لا تشتمل على حوالي نصف هذا العدد، في ركام بمنطقة دجلة والفرات واكتشفها الأثريون: أوستن لايارد وراسيم وسميث
Austan H. Layard, Hormuzd Rassam, George Smith . حوالي منتصف القرن الماضي ضمن خرائب مكتبة معبد الإله نابو
Nabu (بالبابلية
Nebo ) ومكتبة قصر الملك الآشوري آشور بانيبال (668-627 تقريبا ق.م) وكلاهما كان في نينوى آخر عاصمة للإمبراطورية الآشورية.
ومنذ ذلك الوقت اكتشفت عدة لوحات أخرى تتصل بملحمة جلجامش، وفي مطلع القرن العشرين اشترى برونو مايسنر
Bruno Meissner
Página desconocida
شظايا كثيرة من تاجر في بغداد تتصل بالملحمة وجدت في خرائب سبار
Sippar
القديمة (أبو حبة الآن)، وهي تشتمل على جزء كبير من اللوحة العاشرة، وفي عام 1914م اشترت جامعة بنسلفانيا من تاجر عاديات مجموعة كبيرة من الشظايا، وهي تكون ستة ألواح تقريبا تشتمل على اللوحة الثانية البابلية، وفي الوقت نفسه اقتنت جامعة ييل
Yale
شراء من نفس التاجر لوحة تكمل ما حصلت عليه جامعة بنسلفانيا، وتكمل اللوحة الثالثة.
وفي عام 1914م وجدت البعثة الألمانية في آشور - عاصمة آشور القديمة - كمية من الشظايا للنسخة الآشورية، تشتمل على اللوحة السادسة.
وفي عام 1928-1929م اكتشف الأثريون الألمان في أوروك
Uruk
قطعتين صغيرتين يرجح أنهما تنتميان للوحة الرابعة، كما اكتشفت عدة شظايا بالسومارية لملحمة جلجامش في ركام مدينة نبور
Nippur
Página desconocida
ومدينة كيش
Kish
ومدينة أور
Ur ، وقد تبين أن القدر الذي يتصل منها باللوحة الثانية عشرة يتفق تماما مع النسخة السامية، على حين أن البعض الآخر لا ينتفع به في الترجمة الحالية للملحمة وتختلف كلية عن الترجمة السامية، وأخيرا اكتشفت في مدينة خاتوساس
Hattusas
الحيثية (بوغاز كوى الآن) عاصمة الحيثيين القديمة شظايا بابلية تشتمل على ترجمة مختصرة للوحة الخامسة والسادسة، وحوالي اثنتي عشرة شظية ونصف بالحيثية وقليل من القطع بالحوريانية
Hurrian ، وبالرغم من هذا كله فما زالت بعض المواضع غير واضحة وغير تامة.
وقد قام جورج سميث
George Smith
بأول ترتيب وترجمة للوحات التي اكتشفت في خرائب نينوى، وقدم ذلك في دراسة قرأها في 3/ 12/ 1872م أمام جمعية آثار الكتاب المقدس
Página desconocida
Society of Biblical Archaeology
بعنوان: التفسير الكلداني للطوفان
The Chaldean Account of the Deluge
وقدم ترجمة ومناقشة لعدد من الشظايا الخاصة بملحمة جلجامش - وبخاصة الجزء المتعلق بالفيضان - مما خلق اهتماما شديدا بالدراسات المسمارية بوجه عام في أوروبا
Archaeology II 1873 ، وقد أشار سير هنري راولنسون
Henry Rawlinson
أيضا إلى احتمال أن يكون ما وجد في سفر التكوين يرجع إلى أصول بابلية، وقام بالمشاركة في الترجمة والنشر أيضا فوكس تالبوت
Fox Talbot
وبسكوفن
St. Chod Boscowen
Página desconocida
ولينورمنت
François Lenormant .
وفي عام 1875م نشر هنري راولنسون وجورج سميث اللوحات السادسة إلى الحادية عشرة، ثم أعيد عام 1891م نشرها حيث حل بنش
T. G. Pinches
محل جورج سميث.
ونشر ديلتز
Delizch
في النصوص الآشورية
Assyr. Lesestücke . في طبعته الثالثة عام 1885م نص اللوحة الحادية عشرة ثم طبعه، كاملة من باول هاوبت
عام 1884-1891م ملحمة النمرود البابلية
Página desconocida
Das Babylobische Nimrodepos
وكان يطلق على جلجامش اسم النمرود (سفر التكوين 10: 8-10 دون تدليل على هذا) مع لوحة ثانية عشرة في
Beitrăge zur Assyriologie/1890 ، ونشر ياسترو
Jastrow
ترجمة في «ديانة بابل وآشور»
Religion of Babylonia and Assyria
عام 1905-1912م، وكذلك أرنولت
Muss. Arnolt
عام 1901م في مجلة
Assyr. and Babyl. Lit .
Página desconocida
ثم ظهرت بعد ذلك ترجمة بيتر ينسن
التي قدمها مع الكتابة بالحروف اللاتينية لنصوص الملحمة المعروفة آنذاك مع شرح تفصيلي وتعليق عليها في مجلة أساطير وملاحم آشورية وبابلية
Assyrisch-Babylonische Mythen und Epen/Berlin 1900
ويعد هذا العمل خطوة واسعة بالنسبة لكل الأعمال السابقة، وما زال يشتمل على معلومات يعتد بها حتى الآن.
وظهر عام 1902م النص الذي قدمه مايسنر
Meissner
للملحمة وترجمة دورم
Dhorme
عام 1907م
Choix de Textes ، وظهرت شظية جديدة من النص الآشوري نشرها كنج
Página desconocida
King
عام 1914م في
Suppt. Kauyujik Catalogue ، ومن الأعمال الهامة أيضا في هذه الأيام المبكرة التي تحل شفرة ملحمة جلجامش ما قدمه العالمان: آرثر أونجناد
Arthur Ungnad
وهوجو
Hugo
بجوتنجن عام 1911م بعنوان ملحمة جلجاميش
Das Gilgamesh Epos
وفي رسالته
Kulturfragen ، وهي تشتمل على ترجمة للملحمة ومناقشة تفصيلية لمحتوياتها.
Página desconocida
وظهر لوحان آخران (الثاني والثالث): الثاني بملحوظات بويبل
نشره لانجدون
Langdon
وأعاد ياسترو
Clay Jastrow
طبعه.
ثم ظهرت نسخة من الملحمة السومارية بواسطة تسمرن
Zimmern
تشتمل على أسماء جلجامش وعشتر وأنكيدو في
Summer. Kultlieche
Página desconocida
عام 1913م.
وثمة جزازات أخرى مشابهة عن الطوفان تحكي قصة الطوفان في البابلية القديمة لا تتصل بالطوفان، وتذكر نوح باسم أترومخاسيس
Atromhasis .
كذلك ظهر في الأناضول نصوص لملحمة جلجامش الحقيقية بالحيثية وجدت في بوغاز كيوى
Boghaz Keui ، ووجد الألمان جزازات ترجع إلى القرن الثالث قبل آشور بانيبال.
ولعل أحدث طبعة بالخط المسماري للنص هي ما قدمها كامبل تومبسون
R. Campbell Thompson
بعنوان
The Epic of Gilgamish/Oxford 1930
وهو لا يقدم النص المسماري للنسخة الآشورية فحسب، بل يقدم أيضا النص مكتوبا بالحروف اللاتينية لكل المواد السامية عن جلجامش المعروفة في وقته.
Página desconocida
وكل ما قدم بعد ذلك من ترجمات للنص إنما يعتمد على هذا النص الذي قدمه تومبسون ما لم ينص المترجم على غير ذلك.
ويقدم إيريش إيبلنج
Erich Ebeling
عام 1926م ترجمة لهذا النص في نشريات:
Gressmann, Altorientalische Texte zum Alten Testament Berlin/Leipzig 1926 .
كذلك يقدم تومبسون
Thompson :
The Epic of Gilgamish/London 1928 .
وقدم ألبرت شوت
Albert Schott
Página desconocida
ترجمة بعنوان:
Das Gilgamesh Epos/Leipzig 1934 .
كما قدم كونتينو
G. Contenau
ترجمة بعنوان:
L’Epopée de Gilgamesh/Paris 1939 .
وليونارد
W. E. Leonard
ترجمة بعنوان:
Gilgamesh Epic of old Babylonia/New York 1934 .
Página desconocida
وملحمة جلجاميش من الأعمال الأدبية الأكدية الجميلة التي أحب دائما أن أقدمها لطلاب الدراسات السامية وأن أقوم بتدريسها لهم، وبخاصة أن النص من نصوص الشعر الأكدي المتميز باعتماده على النبر، فكل بيت يشتمل على أربع نبرات مرتفعة؛ اثنان في كل شطرة وبينها من نبرة إلى ثلاث نبرات هابطة، وإلى جوار ذلك توجد أحيانا أبيات تشتمل على نبرتين وثلاثة أو ثلاثة ونبرتين مرتفعة وبينها النبرات الهابطة، وتنتهي الأسطر الشعرية - بلا استثناء - نهايات مؤنثة، وغالبا ما لا تتناسب أسماء الأعلام وافتتاحيات جمل القول مع وزن الشعر، وكثيرا ما يقابل القارئ الأسطر المقفاة.
والملحمة مقسمة إلى مقطوعات كل منها به أربعة أسطر مثل: أغنية إشتر
Ischtar ، وقد تكون من عدة أسطر بكل منها ثلاثة مقاطع منبورة يتلوها سطر من خمسة مقاطع منبورة.
وهي في هذا لا تختلف أيضا عن الشعر الحماسي الأكدي الذي يوجد بجوار القصائد ذات المقاطع الأربعة نصف مقطوعات كل منها يحتوي على سطرين فقط، أما الأبيات المفردة فلا توجد إلا نادرا، وبخاصة في الشعر القديم، وإن كان فون سودن يرى أنه لا يمكن التأكد منها؛ لأن عدد النبرات الموجودة في البيت غير مؤكدة، حيث إن الكلمات ليست منغمة، كما أن الكلمات القصيرة مثل حروف الجر والأدوات والأسماء في حالة الإضافة لم تكن بالضرورة مقاطع غير منبورة، كذلك يمكن أن نجد بصيغ الأفعال المسندة إلى الضمائر أكثر من مقطع منبور، وقد أثبت كارل هيكر
Karl Hecker - في بحثه الذي طبع عام 1974 - أن السطر في الشعر الأكدي ينقسم إلى مجموعة من النبرات المرتفعة والمنخفضة، عدد الأوائل منها محدد على حين أن الأخيرة غير محددة العدد.
وقد رجعت في مراجعتي للترجمة العربية للنص الأكدي وترجماته السامية الذي نشره كامبل تومبسون
Campbell Thompson
بعنوان
The Epic of Gilgamish
الذي صدر باكسفورد عام 1930.
Página desconocida
وأفدت من الترجمات والمؤلفات التالية مقارنا إياها بترجمة شوت التي يقدمها الأستاذ دكتور عبد الغفار مكاوي بالعربية:
Alexander Heidel: The Gilgamesh Epic and Old Testament
1965 .
Hope Nash Wolff: A Study in the Narrative Structure of Three Epic Poems Gilgamesh, The Odyssey, Beowulf New York/London 1987 .
Hartmut Schmŏkel: Das Gilgamesh Epos. Stuttgart/Berlin/Kŏln/Mainz 1966/1974 .
Karl Oberhuber: Das Gilgamesch-Epos. Wissenschaftliche Buchgesellschaft/Darmstadt 1977 .
وبخاصة عندما يكون الأصل الأكدي مطموسا أو غير واضح. (والله الموفق وبه نستعين.)
تمهيد
(1) من أصعب الأمور على الكاتب أن يحدث قارئه - الذي ينتمي مثله إلى حضارة هذه المنطقة من العالم - عن درة ساطعة في تاج هذه الحضارة، ودرة الدرر التي أعنيها هي ملحمة جلجاميش، والحضارة التي أقصدها هي حضارة وادي الرافدين القديمة، ومع أن الفجوة الزمنية التي تفصلنا عنها منذ اكتمال نسختها الأخيرة في العصر الآشوري الحديث (على عهد آخر الملوك الآشوريين العظام وهو آشور بانيبال من 668 إلى 627ق.م) تزيد عن ألفين وخمسمائة عام، ولا تقل منذ بداية تدوين أجزاء منها في العصر البابلي القديم (من 1984-1595ق.م) عما يقرب من أربعة آلاف سنة، بالإضافة إلى ما تراكم على الوعي بعد غروب شمس هذه الحضارة بانهيار الدولة الآشورية (609ق.م) والدولة البابلية مع انتهاء السلالة الكلدانية (539ق.م) من طبقات كونتها شعوب ونظم ودول أخرى مختلفة تعاقب حكمها على أرض النهرين حتى الفتح الإسلامي (من الفرس الأخيمينيين 538-331ق.م، إلى المقدونيين والسلوقيين 330-125ق.م، إلى الأزراسيين أو الفرثيين من حوالي 250ق.م إلى حوالي 228ب.م، إلى الساسانيين من 224ب.م إلى 651ب.م) فإن ذلك كله لم يمنع تلك الملحمة من التأثير على ثقافات الشرق الأدنى القديم والانتشار وراء حدوده، ولم يمنع كذلك - بعد اكتشاف نصها السابق الذكر في منتصف القرن الماضي - من أن تصبح جزءا لا يتجزأ من الأدب العالمي، وعنصرا من أهم العناصر المكونة للوعي المثقف، ومادة للبحث والدراسة والترجمة إلى كل اللغات، ومنبعا لا ينضب لإلهام المبدعين في الأدب والفن ...
1
Página desconocida
والعمل الذي بين يديك محاولة لترجمة هذه الملحمة الجليلة الجميلة ترجمة يتذوقها القارئ العصري المتطلع لاستيعاب كنوز التراث الإنساني والاغتراف من منابع تراثه الحضاري والأدبي، ولا بد قبل الكلام عنه من نبذة مختصرة بقدر الإمكان عن النص الأصلي العريق من جوانبه المختلفة: قصة تدوينه ونسخه، وشذرات ألواحه المسمارية المشتتة في متاحف العالم، وملحمة اكتشافه وترجمته إلى اللغات القديمة والحديثة، وأصوله السومرية التي يحتمل أن يكون الكاتب أو الكتاب البابليون قد اعتمدوا عليها - بجانب التراث الشفاهي القديم - في نسج ملحمتهم الخالدة، ثم مكانة جلجاميش من الأدب العالمي وأهميتها للوعي والوجدان العربي الحاضر الذي لم تصل إليه ولم يتواصل معها بالقدر الكافي ... (2) لم يكن القصيد الشعري الكبير الذي اشتهر باسم «ملحمة جلجاميش» أو باسم أول بيت فيه وهو: «هو الذي رأى كل شيء» هو التشكيل الوحيد للأساطير وقصص المغامرات والحكايات الشعبية التي دارت حول شخصية جلجاميش، وتناقلتها الأفواه قبل تدوينها بمئات السنين ؛ ذلك أن جذور هذه الملحمة البابلية الأصيلة ممتدة في عروق الثقافة السومرية،
2
ولها تاريخ سابق يقوم على عدد من القصص السومرية التي تمكن العلماء من جمع شذراتها وحل معظم ألفاظها خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، وسوف نعرض لهذه القصص بعد الحديث عن حياة جلجاميش الذي يتفق العلماء اليوم على أنه قد عاش في الحقيقة والواقع، على الرغم من تأليه الكهنوت السومري له في زمن مبكر - شأنه في ذلك شأن ملوك سومر الذين جمعوا بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية - ومن رفعه إلى مصاف الآلهة بعد موته وتنصيبه قاضيا لأرواح الموتى في العالم السفلي ...
كان جلجاميش ملكا لدولة مدينة هي «أوروك» في جنوب بابل.
3
ويذكر ثبت الملوك السومريين - المدون في بداية الألف الثانية قبل الميلاد - أنه الملك الخامس في ترتيب حكام هذه المدينة التي كانت من أهم المدن السومرية التي «نزلت عليها نظم الملكية من السماء» بعد الطوفان، وآلت إليها السيادة على سائر المدن السومرية بعد انتصارها على مدينة «كيش»، وإن لم يتوقف الصراع بعد ذلك بينهما ... وقد نسب إليه بناء سورها العظيم الذي أشادت بذكره الملحمة في بدايتها وخاتمتها بوصفه أحد أمجاده التي كفلت له نوعا من الخلود المتاح للبشر الفانين بعد إخفاقه المأسوي في التوصل للخلود الذي تمناه وسعى إليه، واقتناعه في النهاية بأن الآلهة قد استأثرت به دون البشر ... وقد رجح العلماء - بعد فحص الأطلال الباقية من هذا السور والاطلاع على المأثور الغني عن شخصية جلجاميش - أنه قد عاش بين سنتي 2750 و2600ق.م وأنه كان من أقوى الملوك السومريين في فترة حافلة بالصراعات الدامية بين دول المدينة التي أسسوها، وبالصراع بعد ذلك مع الأكديين الساميين الذين كانوا قد استقروا في شمال وادي النهرين قبل أن يتمكنوا بقيادة سرجون العظيم (من حوالي 2334 إلى حوالي 2279ق.م) وحفيده نارام سين (2254-2218ق.م) من توحيد البلاد بأسرها تحت حكمهم.
تراكم حول شخصية جلجاميش مأثور ضخم من القصص والحكايات العجيبة عن طغيانه واستبداده بشعبه، وصداقته النادرة المؤثرة ل «وحش البرية» أنكيدو، ومغامراته معه وأسفاره التي انطلق إليها بعد موته بحثا عن سر الحياة والموت والخلود، ثم رجوعه إلى موطنه ومسقط رأسه بعد أن أضاع «نبتة» الخلود الشائكة «فتطهر» واقتنع بالحدود التي لا يجوز لإنسان أن يتخطاها، مهما صورت له نفسه أو صور له الكهنوت أن «ثلثيه إلهي والثلث الباقي بشري فان» ... ويبدو أن هذا المأثور الذي اختلطت فيه العناصر الأسطورية بالتاريخية قد نشأ في عصر مبكر، وربما سبق اكتشاف السومريين للكتابة بالخط المسماري على الألواح الطينية بزمن طويل؛ ولذلك يحتمل أن يكون الناس قد تناقلوه شفاها وعمل على صياغة وجدانهم قبل البدء في تدوينه في العصر البابلي القديم خلال القرون الأولى من الألف الثانية قبل الميلاد. ولما كانت الشواهد القليلة المتبقية من الأدب السومري قبل سنة 2100ق.م شديدة الغموض والتشوه، فلا نكاد نعرف شيئا عن المأثور السابق على هذا التاريخ الأخير، غير أن هنالك ما يدل على نهضة متأخرة للثقافة السومرية في حدود هذا التاريخ؛ أي في عهد ملوك سلالة أور الثالثة (من حوالي 2112 إلى حوالي 2004ق.م)، كما يدل على نوع من الرخاء الاقتصادي الذي شجع على نمو هذه النهضة التي أثمرت معظم الأشكال الشعرية والأسطورية التي وصلتنا من أدب السومريين، وبدأ نسخها وتدوينها بلغتها الأصلية أو في ترجمتها الأكدية البابلية قبل سنة 1700 قبل الميلاد وبعدها، وقد كانت «جلجاميش» أشبه بواسطة العقد في هذا المأثور المجهول المؤلف، شأنها في ذلك شأن معظم ما وصلنا من التراث السومري والبابلي، والذي يهمنا من هذا المأثور هي القصص السومرية الخمس التي تدور حول شخصية جلجاميش،
4
واستطاع عالم السومريات صمويل كريمر - بمساعدة عدد من زملائه وتلاميذه مثل فلكنشتين وجاكوبسين - أن يجلو غوامضها ويترجم معظم شذراتها التي وضع لها هذه العناوين: جلجاميش وأرض الأحياء، جلجاميش وثور السماء، جلجاميش و«أجا» حاكم كيش، جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي، ثم موت جلجاميش ، ومع أن العبقرية البابلية قد نسجت من هذه القصص المتفرقة ومن مأثورات أخرى عملا مبدعا متكاملا كما سبق القول، فإن هذا لا يقلل من تأثيرها على كاتب الملحمة الشهيرة أو كتابها الذين أفادوا بغير شك من بعضها (وبخاصة القصص الأولى والثانية والرابعة) وأغفلوا الثالثة والخامسة إغفالا تاما، ولا بد أنهم قد أخذوا أيضا من مأثورات سومرية أخرى لا نكاد نعرف عنها شيئا أو من مأثورات وصلتنا في صورة مشوهة، كما فعلوا مع قصة الطوفان التي تؤلف اللوح الحادي عشر وأقحموها على الملحمة، ومع اللوح الثاني عشر الذي لا يخرج عن كونه ترجمة حرفية لجزء من إحدى القصص التي ذكرناها، وهي قصة جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي ... وأيا كان الأمر فقد حان وقت التعريف القصير بمضمون القصص الثلاث التي تعد من الأصول الهامة التي تقوم عليها الملحمة ... (3) تبدأ القصة الأولى - وهي جلجاميش وأرض الأحياء - بالقرار الذي اتخذه بطلنا المغامر بالسفر إلى أرض الخالدين أو أرض الأحياء «ليصنع له اسما عظيما» ويحدث «خادمه» أنكيدو - الذي أصبح في الملحمة البابلية رفيق دربه وأعز أصدقائه بل صديقه الأوحد! - برغبته التي صمم عليها، فينصحه بأن يتوجه بالصلاة والدعاء لإله تلك الأرض وهو إله الشمس أوتو (الذي سيصبح إله الشمس والعدل البابلي شمش)، ويقدم جلجاميش التضحية للإله ويتضرع إليه أن يعينه في سفره ويشد أزره في الصراع المقبل عليه، ويبتهل إليه أن يساعده على أن يصنع لنفسه اسما يخلد ذكره وينتشله من الفناء المحتوم على البشر، ويوافق «أوتو» ويعده بحبس «الأبطال السبعة» الذين يحرسون تلك البلاد النائية في الكهوف، ويختار جلجاميش خمسين رجلا من شباب مدينته المتطوعين لمرافقته في رحلته، بعد أن يشترط عليهم ألا يكونوا قد كونوا أسرا بعد ...
ويبدأ البطل مغامرته بعد التزود من الحداد بالسلاح الضروري، وبعد اجتياز سبعة جبال وعرة يطوقه النوم العميق فلا يوقظه أنكيدو إلا بعد جهد جهيد، ويقسم جلجاميش بأمه «نينسون» وبأبيه «لوجال بندا» أنه لن يرجع أدراجه قبل قتل «الرجل»، ويحذره أنكيدو من سحر ذلك الرجل وقوته الشيطانية، ويلح عليه أن يرجع إلى وطنه، لكن جلجاميش يصر على القرار الذي صمم عليه، ولا يلبث حواوا (وهو نفسه المارد خمبابا الموكل بحراسة غابة الأرز في الملحمة) أن يلمح المتطفلين على أرض الأحياء، غير أنه لا يتخذ أي خطوة جادة لمنعهم من قطع أشجاره ... ويفرغ الرجال الخمسون من قطع أشجار الأرز وإعدادها للنقل، ثم يصل جلجاميش إلى «حجرة» حواوا أو مأواه الذي يختبئ فيه ويطلق منه تضرعاته لجلجاميش بأن يبقي على حياته، ويبدي هذا استعداده - كما في الملحمة تماما - للاستجابة شفقة عليه، غير أن أنكيدو يحذره من شر «نمتار» - وهو شيطان أو إله من العالم السفلي مختص بالأوبئة - الذي يمكن أن يصيبهم أذاه، عندئذ يسب حواوا «الخادم» أنكيدو ويصفه بأنه مرتزق أجير، وأنه قد تكلم ضده بالشر: «وعندما قال هذا قطعا رأسه، وحملا جثته للإله «إنليل» الذي أقامه حارسا على أرضه ولزوجته ننليل.» (وإنليل هو إله العواصف الغضوب ورب مدينة نيبور أو نفر السومرية القديمة التي عثر فيها على بعض ألواح الملحمة ...)
Página desconocida
هنا يتوقف النص الأصلي لهذه القصة التي عبث الزمن بالألواح التي نقشت عليها وملأها بالثغرات والفجوات، والملاحظ على سبيل المقارنة أن الملحمة البابلية تروي قصة الحملة على أرض الأحياء وغابة الأرز بمزيد من التفصيل في الثالث والرابع والخامس من ألواحها التي لم يرحمها الزمن كذلك من التشوه!
ولا شك أن كاتب الملحمة قد تأثر بهذه القصة وبغيرها، وطور عناصرها في بناء محكم، وأبرز أهم هذه العناصر - وهو حرص جلجاميش على الشهرة وخلود الاسم - في أكثر من موضع، وذلك قبل أن ينتقل من الدوران حول الأنا إلى الاهتمام بالنحن، وقبل العثور على «نبتة» الخلود التي عبر عن رغبته في أن يشاركه شعب مدينته أوروك وشيوخها في الأكل منها لتجديد الشباب والحياة، حتى إذا اختطفتها منه الحية وجددت بها جلدها، صورت لنا الملحمة بأسه وضياعه الذي تحول - بعد اقترابه من مشارف مدينته ورؤية سورها وأبراجها - إلى نوع من الفرح والتصميم على مشاركة شعبه في العمل والبناء ... (4) وتأتي القصة السومرية الثانية التي يناظر مضمونها في خطوطه العريضة مضمون اللوح السادس من الملحمة البابلية، ومن المؤسف أن النص الأصلي قد وصلنا في حالة تشوه شديد، بحيث لا نملك إلا الحدس بمضمون البقية الباقية التي تبدأ سطورها بعد فجوة كبيرة يبدو من سياق النص، ومن الملحمة أيضا أنها كانت تدور حول العرض الذي تقدمت به ربة الحب والحرب إلى جلجاميش ليكون زوجها وزينة بيتها وعربتها المزدانة بالذهب واللازورد ... وما إن تشرع إينانا (وهي نفسها ربة الحب السومرية التي سماها البابليون عشتار) في وصف المنح والهدايا التي تعرضها على جلجاميش مقابل الزواج منها حتى ينقطع النص مرة أخرى ويمتلئ بالثغرات، ولا نجد شيئا يدل دلالة واضحة على رفض جلجاميش للعرض المغري، ولذلك تتجه إلى أبيها آنو إله السماء لتشكو إليه وتلح عليه أن يسلمها الثور السماوي لتنتقم من جلجاميش، ونفهم من النص أن الأب يرفض طلبها، وأنها ستلجأ لكبار الآلهة في مجمعهم الخالد إن لم يستجب لدعائها، عندئذ ينتابه الخوف (ولا نعرف من النص إن كان قد أشفق على مصير سكان أوروك من الثور الهائل كما نجد في الملحمة أم على مصير الكون كله ...) ويسمح لها بتسلم الثور والهبوط به إلى الأرض، فترسله إلى أوروك التي يلحق بها أفظع الكوارث (كالموت والقحط والجفاف التي اقترنت باسمه في تفسير بعض الباحثين) ...
وقد بقيت من النص أجزاء شحيحة، من أهمها قطعة تسجل جانبا من حديث أنكيدو مع جلجاميش، ولا شك أن القصة الأصلية قد روت مصرع الثور على يد البطلين، ولكننا لا نعلم إن كانت قد انتهت بهذا الخبر أو استمرت في رواية الأحداث التي نعرفها، والمرجح أن القصة لم تذكر الشتائم المهينة التي صبها كاتب الملحمة - على لسان جلجاميش - على رأس الربة الجميلة، كما أنها - فيما يبدو - لم تتطرق لغضب الألهة - بخاصة إنليل - على أنكيدو لتجديفه في حقهم، ولا لجرحه المهلك الذي تسبب في موته، وعبر بذلك عن عقدة الحبكة الدرامية التي أطلقت مأساة البطل المفزوع من «حظ البشر المحتوم»، ودفعته للبحث عن الخلود لنفسه ثم للبشر المساكين ... (5) ونصل إلى القصة الرابعة التي أثرت تأثيرا واضحا على اللوح الثاني عشر الذي يجمع العلماء على أنه مقحم على الملحمة ولا ينتمي إليها انتماء عضويا كما نقول اليوم، وعنوان هذه القصة هو «جلجاميش وأنكيدو والعالم السفلي» وهي تبدأ - شأنها شأن كثير من القصص الشعرية والأساطير السومرية القديمة - بالتذكير بأسطورة الخلق أو التكوين السومرية، إذ نجدها تتحدث في البداية عن فصل السماء عن الأرض بقوة إله السماء آنو وإله الرياح إنليل، كما تتطرق باختصار للصراع بين إله المياه العذبة «إنكي» وإله العالم السفلي أو وحشه المخيف كور، ثم تحكي بعد ذلك عن شجرة ضخمة هي شجرة الخولويبو، ولعلها كانت شجرة صفصاف على شاطئ الفرات، وكيف أوشك الطوفان والعواصف أن يقتلعاها من جذورها، ويتصادف مرور إلهة الحب إينانا بهذا المكان، فتشفق على الشجرة وتحملها معها لكي تغرسها في بستانها المقدس في مدينة أوروك، وتعنى الإلهة العطوف بالشجرة وتتعهدها بالرعاية، على أمل أن تصنع منها في المستقبل سريرا تنام عليه وكرسيا يليق بها. أن الأيام لم تشأ أن تحقق حلمها الجميل، إذ نمت الشجرة وصارت جذوعها مأوى لحية عظيمة لم ينفع السحر في إخراجها منه، كما أصبحت أطراف فروعها مسكنا لطائر العاصفة الإلهي «بدزو» الذي بنى عشه فوقها، وغدت ساقها القوية بيتا للشيطانة أو الروح الشريرة ليليت، تعذر إذن على إلهة الحب الرقيقة أن تقطع الشجرة فراحت تبكي بكاء مرا وتبث شقيقها إله الشمس أوتو حزنها وتروي له المصير الذي آلت إليه شجرتها، ويبدو أن جلجاميش سمع شكاتها وقرر أن يمد لها يد العون، فأمر بتجهيز درع زنته خمسون رطلا، وبلطة زنتها أربعمائة رطلا، وهجم على الحية الجبارة التي تربض في جذع الشجرة فقتلها، وكان أن طار طير العاصفة وهربت الشيطانة مذعورين، وتمكن جلجاميش وأتباعه من قطع الشجرة وتسليمها لإينانا لتصنع من خشبها الكرسي والسرير، وأرادت الإلهة المحبة أن تكافئ جلجاميش على صنيعه، فأعدت له طبلة وعصا أو عودا يدق بها عليها، (ويبدو أن البطل قد أساء استعمالهما - كما يعلمنا الكاتب البابلي - في استغلال شعب أوروك في أعمال السخرة وتأكيد سطوته عليهم، كما نرى في اللوح الثاني من ألواح الملحمة سطر 143 وبعده، وفي بداية اللوح الثاني عشر من سطر 1-20)، ثم تأتي هذه العبارة الدالة التي لا نشك في أن الشاعر البابلي قد اعتمد عليها في تصوير طغيان جلجاميش قبل أن «يتحول» بعد موت صديقه ذلك التحول الذي أدى به كما قلنا إلى «التطهر» في نهاية الملحمة: «وبسبب صراخ البنات الصغيرات سقطت الطبلة والعصا إلى العالم السفلي»، والبنات الصغيرات هن اللائي دأب جلجاميش على اختطافهن من آبائهن والدخول عليهن قبل أزواجهن ...
يتفق العلماء الذين درسوا الملحمة على أن كاتبها قد ترجم القسم الثاني من هذه القصة عن السومرية ترجمة شبه حرفية وألحقها بالنسخة الأخيرة للملحمة لتكون هي اللوح الثاني عشر فيها (وهي المعروفة بنسخة نينوى - العاصمة الآشورية الثانية - ووجدت كما سبق القول في مكتبة قصر الملك آشور بانيبال)، ويبدأ هذا القسم في نصه الأصلي بشكوى جلجاميش من ضياع الطبلة والعصا (أو البوكو والموكو ...) ومحاولته استدعاء روح أنكيدو الذي كان قد هبط إلى العالم السفلي استجابة لأمر سيده بإحضارهما له فأطلقت عليه «صرخة الأرض» أو ذلك العالم، وتخرج الروح من ثغرة في هذا العالم لتحدثه عن أهواله وظلماته وعن مصير أرواح الموتى فيه ... والمهم أن نهاية القصة السومرية لم تصل إلينا، ولم يخبرنا كاتبها بشيء عن نجاح جلجاميش أو فشله في استرداد آداتي جبروته واستبداده العزيزتين على قلبه ... لهذا لا أستبعد كما قلت من قبل أن يكون قد رجع إلى مسقط رأسه وقد تطهر من أوهام مجده وأنانيته الفردية، وعقد العزم على مشاركة شعبه في صنع الخلود الوحيد المتاح للبشر على هذه الأرض، ألا وهو بناء الحضارة وتأسيس ما ينفع الناس ويمكث في الأرض ... (6) وأخيرا فلا بد من كلمة قصيرة عن بقية القصص التي أغفلها الكاتب البابلي، فالقصة الثالثة «جلجاميش وأجا حاكم كيش»
5
تدور حول النزاع الذي ثار بين هذه المدينة وبين مدينة أوروك وأوشك أن يؤدي إلى اشتعال الحرب بينهما، وخلاصتها أن «أجا ابن أنميباراجاسي» بعث برسله إلى أوروك طالبا منها الاستسلام، وناقش جلجاميش هذا الطلب مع «مجلس» شيوخ المدينة وختم كلامه بقوله: «لا نريد الخضوع لبيت كيش، بل سنسحقه بقوة السلاح»، ولكن الشيوخ لم يوافقوه على رأيه، وأعلنوا أنهم يفضلون الإذعان للحاكم المستفز على اللجوء للحرب ... ولم يقتنع جلجاميش برأي «مجلس الشيوخ»، فاتجه إلى مجلس الشباب القادر على حمل السلاح (مما يدل على وجود نوع من الديموقراطية يستحق منا اليوم أن نتحسر عليه ونتمناه!) قائلا لهم: «لا تخضعوا لبيت كيش، فنحن نريد أن نسحقه بالسلاح»، وأقره الشباب على عزمه ففرح قلبه، وأمر أنكيدو أن يقلده أسلحته، مؤكدا أنه (أي أجا)، سيفزع منه بمجرد رؤيته، بحيث يضطرب فعله ويذهب عقله! ولم تمر عشرة أيام حتى زحف أجا بجيشه نحو أوروك التي اضطربت أمورها، فأخذ جلجاميش يبحث عن محارب يتطوع لقتال «أجا» أمام أسوار المدينة، مما يرجح أن الحروب في تلك العهود كانت تبدأ بالمبارزة بين الملوك والحكام أو من ينوب عنهم، وأعلن رجل اسمه «بيرشور نوري» عن استعداده لمواجهة «أجا» ومضى في طريقه واثقا من النصر، ولم يكد يغادر بوابة المدينة حتى أحاط به جنود العدو وأوسعوه ضربا وساقوه إلى قائدهم، وشاهد محارب آخر من فوق السور ما جرى لزميله، وسمع الكلمات التي قالها لأجا وأدت إلى تكرار ضربه ضربا مبرحا ... ويبدو أن الخبر انتشر بين جنود جلجاميش فأصابهم الذعر، مما اضطره للصعود بنفسه فوق السور، كما يبدو أن أجا قرر رفع الحصار عن المدينة إذا اعترف له جلجاميش بالتفوق والسيادة والرئاسة ... ويلهج جلجاميش بشكر المعتدي على صنيعه، وتختتم القصة بالثناء على ملك أوروك المسالم وفارسها الحكيم ...
والواضح من النص أنه يصور واقعة تاريخية مجردة من كل ثوب أسطوري، فشخصية جلجاميش فيها شخصية ملك «إنساني» عاقل، كما أن الآلهة لا تقوم فيها بأي دور، ولعل كاتب القصة أو ناسخها الذي سجل اعتراف جلجاميش بسيادة كيش قد حرص على تصوير هذه الواقعة المهينة في صورة لا تقلل من شهرة بطل أوروك ولا من مجد مدينته ذات الأسوار المنيعة ... والحقيقة أن القتال بين المدن السومرية كان أمرا معروفا، كما أن بكاء شعرائها على مدنهم المخربة بأيدي أبناء المدن المجاورة أو غيرهم من الشعوب والقبائل الغازية يعد من أهم الأنواع الأدبية في التراث السومري،
6
ومن أعمقها تأثيرا على قلب القارئ العربي المعاصر الذي يشهد خراب مدنه بأيدي العرب أنفسهم ... (7) أما القصة الخامسة - وهي «موت جلجاميش» - فقد وصلت إلينا في حالة من التشوه يرثى لها، ويبدو من بقايا النص المبتور أنه يبدأ بالكلام عن سعي جلجاميش إلى الحياة الخالدة، ثم يبين له إله لم يذكر اسمه أن إله الرياح إنليل لم يقدر له الخلود، وربما فعل ذلك تفسيرا لأحد الأحلام الكثيرة التي ظلت تعاود جلجاميش وتتدخل في تحريك الأحداث، ومع ذلك يطمئنه الإله المجهول - كما سيفعل أنكيدو في مواضع عديدة من الملحمة - أن ذلك ليس مدعاة للحزن أو اليأس، إذ ضمن له الإله الملك والمجد والانتصار على عدوه مدى الحياة، ثم لا نلبث أن نرى جلجاميش على فراش المرض الذي لن يقوم منه، ويموت الملك وترتفع أصوات النواح عليه، ثم تفغر فاها الواسع فجوة كبيرة في النص فنجد أنفسنا في العالم السفلي، كما نفهم أن جلجاميش رفع إلى صفوف الملوك الذين يحكمون ذلك العالم، وأصبح واحدا من آلهته الذين يسمون «الآنوناكي» ويقضون قضاءهم في أرواح الموتى، وأخيرا يذكر النص أسماء أتباع جلجاميش وأفراد عائلته، والهدايا التي يقدمها باسمهم لآلهة العالم السفلي، ثم يختتم النص بترتيلة تتردد فيها أصوات البكاء على جلجاميش والثناء عليه، ويبدو من الحفائر التي قام بها «ليونارد وولي» في «أور» وكشفت عن كنوز مقبرتها الشهيرة أن معظم الملوك السومريين في تلك الفترة من منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد كانوا يصطحبون حاشيتهم معهم إلى مقرهم الأخير، ولا يستبعد أن يكون أتباعهم قد تطوعوا في بعض الأحوال على الأقل بدفن أنفسهم معهم أحياء وفقا لطقوس الموت، ومع ذلك فربما تأتي الأيام بالشواهد الأثرية واللغوية التي تؤيد هذا الاحتمال المخيف - الذي لا أفتي فيه عن غير علم! - أو تنفيه ... (8) أما عن قصة الطوفان السومرية التي يستند إليها اللوح الحادي عشر من الملحمة فقد وصلت إلينا في حالة لا تسمح حتى الآن بفهم سياقها المتكامل، كما أن صيغة القصة نفسها من العهد البابلي القديم لا تساعد أيضا على ذلك، وتبدأ القطع الخمس المتبقية من النص بحديث أحد الآلهة عن الخدمات المفروضة على البشر تجاه الآلهة، ثم تستطرد إلى الكلام عن خلق البشر بواسطة الآلهة الكبار «آنو وإنليل وإنكي والإلهة الأم ننخور ساج»، وإلى نزول الملكية من السماء وتأسيس أقدم المدن في وادي الرافدين (مثل أريدو، أبو شهرين، ولاراك وسيبار بجانب مدينة الطوفان شوروباك التي تعرف باسم فارة).
ويبدو أن القصة الأصلية ذكرت قرار الآلهة بإفناء البشر بسبب إزعاجهم لهم، إذ نفهم من بعض سطورها الباقية أن بعض الآلهة قد أسفوا على اتخاذ هذا القرار، وراحوا يدبرون الحيل للوقوف بجانب البشر ... ثم يرد ذكر بطل الطوفان السومري، وهو زيوسودرا - أي الذي رأى الحياة - ملك مدينة شوروباك الذي يسر إليه أحد الآلهة (ولعله أن يكون هو إله الماء والحكمة إينكي الذي أصبح اسمه أيا عند البابليين، كما قام بنفس الدور في الملحمة) بخطة الآلهة في خطابه الهامس للجدار، ولا بد أن الفجوات الكثيرة في النص قد سردت قصة بناء الفلك وانهمار الأمطار من السماء، إذ توحي السطور التي جاءت بعدها بهبوب الأعاصير المدمرة وإغراق الطوفان للأرض سبعة أيام وسبع ليال «ثم طلع إله الشمس أوتو وغمر بنوره السماء والأرض، وفتح زيوسودرا نافذة - أو كوة - في السفينة الجبارة التي أضاءها البطل أوتو، وركع الملك زيوسودرا أمام أوتو، وذبح ثورا وخروفا» ... وبعد فجوة أخرى كبيرة نفاجأ بأن الإلهين آنو وإنليل قد ندما على ما فعلا، وأشفقا على البشر فأرسلا عليهم ريحا سماوية وأخرى أرضية بعثتا الحياة في مملكة النبات، ويلقي بطل الطوفان بنفسه أمام الإلهين اللذين يمنحانه الحياة الخالدة، ويقرران له العيش في جزيرة الخلود ديلمون (أو تيلمون)
Página desconocida