Malatiyya Sufiyya Ahl Futuwwa
الملامتية والصوفية وأهل الفتوة
Géneros
89
هذا فيما يتعلق بالأفعال التي تصدر عن الملامتية أنفسهم وهذا هو موقفهم منها، وهو موقف يدعو إلى الدهشة وإلى الألم أيضا لأنه موقف بلغ فيه التشاؤم أقصى حدوده، وذهب بكل جميل وجليل يمكن صدوره عن الإنسان، وقضى أو حاول أن يقضي على تلك السعادة الروحية التي يتذوقها الصوفي في حال قربه من الله عندما يدرك في عباداته ومجاهداته حضرة الربوبية ويعرف معنى التوحيد. وهي السعادة التي يرى الغزالي أنها وليدة هذه المعرفة، والمعرفة عنده هي «معرفة حضرة الربوبية المحيطة بكل الموجودات: إذ ليس في الوجود سوى الله تعالى وأفعاله، والكون من أفعاله، فما يتجلى من ذلك في القلب هو الجنة عند قوم وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق. وتكون سعة نصيب الإنسان من الجنة بحسب سعة معرفته، وبمقدار ما يتجلى له من الله وصفاته وأفعاله.»
90
ولكنهم كانوا أكثر تسامحا وأقل تشاؤما في نظرتهم إلى أفعال غيرهم من الناس؛ وهذا ما يجعل نظرتهم إلى أفعالهم نظرة خاصة يراد بها تأديب النفس وتطهيرها. وفي هذا أيضا تظهر فتوتهم، فبينا نراهم يقولون برؤية التقصير في أعمالهم، نراهم يلتمسون المعاذير لغيرهم فيما وقعوا فيه من المخالفات، ولا ينظرون إلى أحد بعين التحقير والنقص؛ لأنهم - كما يقولون - إما أن ينظروا إلى الخلق بعين الخلق فيلوموهم على تقصيرهم، وهذا يؤدي بهم إلى الخصومة والنزاع وهو ما لا يرضونه لأنهم يريدون أن يعيشوا في أمان مع غيرهم، أو ينظروا إليه بعين الحق، وهذا يؤدي بهم إلى التماس العذر لهم لأنهم يدركون أنهم مجبرون على فعل ما يفعلون، وإذن فهم لا يرون لوم الغير على كل حال.
91
وأما القسم الثاني من الأفعال التي تصدر عن الملامتية فهو المعاصي والمخالفات، وهذه أولى بألا يدعى فيها أو يعتز بها لأنها صادرة عن رعونات النفس وشهواتها التي تجب محاربتها بكل وسيلة ممكنة. ولكن الملامتي قد يتعمد - كما قلنا - الظهور بين الناس بما يخالف ظاهره ظاهر الشرع استجلابا للومهم وتنفيرا لهم منه كيلا يفتتنوا أو يغتروا به، وغيرة على ما يعتبرونه سرا خاصا بينهم وبين الحق لا يجب أن يطلع عليه سواه.
الرياء في الأحوال
وإذا كان إسقاط الملامتية لرؤية أفعالهم جزءا من نظريتهم في الإخلاص، فإسقاطهم لرؤية الأحوال جزء آخر لا يتم الإخلاص إلا به، فإذا صحت لأحدهم حال لم يظهر بها، بل حاول إخفاءها وحقر من أمرها ونظر إليها نظرة ريبة وخوف، وعدها محل استدراج أو امتحان من الله، لا محل ظهور ومباهاة؛ ولهذا كان الملامتية كلما صفت لهم الأحوال زادوا تواضعا وخوفا، ولأنفسهم ازدراء.
92
وكما أنهم عدوا الظهور بالأعمال رياء، كذلك عدوا الظهور بالأحوال دعاوى، والدعاوى تنافي مقام العبودية الخالصة، إذ العبد لا يدعي لنفسه شيئا، وإنما ينسب كل فضل إلى سيده. قال أبو عمرو إسماعيل بن نجيد الملامتي: «لا يبلغ الرجل شيئا من مقام القوم حتى تكون أفعاله كلها عنده رياء وأحواله كلها دعاوى.»
Página desconocida