إن كنت مررت مرة في حياتك بامرأة جاثية على قبر زوجها تندبه وتبكيه أحر بكاء وأشجاه لأنها كانت تحبه حبا جما، ولأنه تركها في ريعان شبابها فقيرة معدمة، وترك لها أطفالا صغارا لا حول لهم في الحياة ولا قوة، فحزنت حزنها، وبكيت لبكائها.
أو رأيت في طريقك فتاة فقيرة هائمة على وجهها تبكي وتنتحب وتسأل الغادين والرائحين أن يمنحوها درهما واحدا تبتاع به دواء لأخيها الصغير المريض الذي لا سند له غيرها، ولا عائل له سواها، فأويت لها، وأسعفتها بطلبتها.
أو مررت بضفة نهر فرأيت امرأة واقفة به تعول وتصيح وتستصرخ الناس لوحيدها الذي يغرق في النهر أمامها فلا تجد من يعينها عليه حتى سقط سقطة لم يطف من بعدها، فجن جنونها واندفعت وراءه بثيابها، فطواهما البحر معا في لحظة واحدة، فأعظمت نكبتها، وبكيت مصيرها.
أو سمعت بقصة ذلك الشيخ المسكين الذي دخل عليه الجند منزله وهو جاث بجانب زوجته المحتضرة وابنته المريضة ليأخذوه إلى السجن؛ لأنه كان قد سرق من أجلهما بالأمس رغيفا يقيم به أودهما، فسأل الجند أن يمهلوه ساعة واحدة حتى يرى ما يصنع القضاء بعليلته، فأبوا ذلك عليه، فعظمت عليه النازلة فذهبت بعقله، فعدل به الجند عن طريق السجن إلى طريق المارستان.
أو سعمت بقصة ذلك الرجل الذي ضل في مفازة مقفرة، فاشتد به العطش، وهام على وجهه في كل مكان يطلب الماء فلا يجده حتى أعياه الجهد، وعجز عن المسير، ثم لمح على البعد صفحة ماء تترقرق، فما زال يزحف على ركبتيه إليها ويخضب الحصى بدمه المتدفق، حتى إذا داناها ولم يبق بينه وبينها إلا خطوة واحدة سقط من دونها ميتا.
أو قرأت قصة تلك المرأة التي رآها الناس في إحدى المجاعات جالسة أمام كوخها وفي حجرها كتلة لحم حمراء مختلطة، وبين يديها قدر يتصاعد بخارها، فلما دنوا منها هالهم أن رأوا في يدها سكينا مخضبة بالدم، ورأوا قدما صغيرة بارزة من القدر، فعلموا أن الجوع قد أفقدها عقلها، وأن هذه الكتلة الحمراء التي في حجرها إنما هي رضيعتها قد ذبحتها وأنشأت تقطع أوصالها بمديتها وتطبخها لتأكلها.
إن كنت سمعت بخبر هؤلاء المنكوبين، وسمعت أنين المعذبين في السجون، وصراخ المرضى في المستشفيات، وضحك المجانين في المارستانات فرثيت لهم، وأويت لمصابهم، فتعلمي أنني أشقى من هؤلاء جميعا، وأنني أولى منهم برحمتك وإشفاقك، وعطفك وحنانك.
لم تبق في بقية تحتمل أكثر مما احتملت، وربما لا أستطيع أن أكتب إليك غير هذا الكتاب، فقد بلغ بي الضعف منتهاه، وأظلم بصري فما أكاد أبصر شيئا، فالوداع يا ماجدولين وداع الحياة إن كان لا يزال في الأجل بقية، أو وداع الموت إن كانت الأخرى. (67) من ماجدولين إلى استيفن
لا أكتمك يا سيدي أني بكيت كثيرا عند قراءة رسائلك، ولكنني عدت إلى نفسي وقلت: إنها زفرة من زفرات البأس ستطفئها الأيام كما أطفأت غيرها من زفرات البائسين، وربما علمت بعد قليل من الأيام أن الله قد خار لك فيما كان، وأنه قد أعد لك من حيث لا تحتسب حياة أسعد وأهنأ من هذه الحياة التي تندبها وتبكيها.
أنت تعلم يا «استيفن» أنني فتاة فقيرة وأنك فتى لا مال لك، أو لا تملك من المال ما يقوم بشأنك زوجا ووالدا، فخير لي ولك أن نفترق وأن يسلك كل منا في حياته الطريق التي يعلم أنها تنتهي به إلى سعادة عيشه وهنائه، أحببنا ذلك أم كرهنا، فتناس كل شيء يا صديقي، وسافر إلى «كوبلانس» واستصلح عليك أباك وأهلك، وتزوج من الفتاة التي اختاروها لك، وحسبك مني أن أكون صديقتك الوفية لك ما حييت، ولا تحمل في نفسك ضغينة لصديقك «إدوار»، فقد علم الله أنه ليس له يد في شيء مما كان، وإنما هو رأي رأيته لنفسي، ولم أستشر فيه إلا عقلي وضميري؛ فأنا صاحبته والمأخوذة به إن كنت لا بد آخذا به أحدا، والسلام عليك من صديقتك التي ترجو عفوك وغفرانك. (68) من استيفن إلى ماجدولين
Página desconocida