أتدرين لم أوثر الحياة على الموت يا ماجدولين وقد كان الموت أروح لي مما أكابده؟ لأني لست على يقين مما بعده، وأخشى إن حل بي أن ينتزع مني ذكرى تلك الأيام الجميلة التي تمتعت فيها بحبك وعطفك وبحلاوة الأمل فيك، والتي هي كل ما بقي في يدي بعد الذي كان، ولولا ذلك لقتلت نفسي، ثم استحالت روحي إلى طائر جميل يطيف بك ويرفرف على رأسك حيثما ذهبت، ويتناول الحب من يدك مرة، والقبلات من فمك أخرى، فأظفر منك ميتا بما عجزت عنه حيا.
إنك سلبتني سعادتي يا ماجدولين، ولكنك لم تعطيني شيئا بدلا منها أعيش به، بل تركتني وشأني كما يترك المسافر رفيقه الجريح الظامئ في الصحراء المحرقة التي لا ظل فيها ولا ماء وينجو بنفسه غير مبال بما تصنع به المقادير من بعده، فما أقساك! وما أبعد الرحمة من قلبك!
ردي علي أماني وآمالي، وليالي التي قضيتها فيك ساهرا متململا، وحياتي التي وضعتها بين يديك، ووكلت أمرها إليك، وأعيدي إلي عطفي وحناني، ورحمتي وإشفاقي، وجميع عواطف قلبي التي ضننت بها على أهلي وقومي جميعا وآثرتك بها من دونهم، وعقيدتي في الحب والهناء، وإيماني بالله وبقاء الخير في الأرض.
ماذا تقترحين علي يا ماجدولين، وأية ذخيرة من ذخائر الأرض أو كنز من كنوز السماء تحبين أن أضعه بين يديك؟ أتريدين قصرا من المرمر الأبيض؟ أم صهريجا مملوءا باللؤلؤ الرطب؟ أم بساطا مصوغا من الجوهر؟ أم حلة منسوجة من أشعة الشمس؟ أم تاجا مرصعا تتضاءل بين يديه تيجان الملوك والأقيال؟ لقد أصبح ذلك كله لك، وليس بينك وبينه إن أردته إلا أن تعيدي إلى قلبي الأمل الذي سلبتنيه فأصبح أقوى الناس جميعا وأقدرهم على امتلاك ناصية الكون بأجمعه، أرضه وسمائه.
آه، ما كان أشد سروري وفرحي يوم أعددت لك ذلك البيت الصغير في «جوتنج»، وبنيت لك فيه تلك الغرفة الزرقاء الجميلة، ووضعت فيها ذلك السرير، كنت أرجو أن يكون الدوحة الفينانة التي أنعم بك في ظلالها، وأنشأت تلك الحديقة البديعة التي لم أدع زهرة تحبينها أو يحبها أبوك إلا غرستها فيها، وكنت كلما دخلت ذلك المنزل ووقفت في فنائه لحظة خيل إلي أنه آهل بك، وأن صوتك العذب الشجي يرن في أنحائه، وأن أولادنا يلعبون بين أيدينا في حديقته، ويقطفون أزهارها ووردوها ويقدمونها هدية إلينا، بل كنت أتخيل عندما كنت أدخل غرفة زينتك أني أراك جالسة إلى مرآتك فيها تمشطين شعرك الأصفر الجميل، وأنني واقف وراءك أغمس يدي في ذلك الخليج الذهبي الرجراج وأختلس منه قبلة بعد أخرى.
أما اليوم فقد ذبل كل شيء فيه وضوي، فانقطع الماء عن حديقته، وذوت أشجاره وأزهاره، وعصفت الريح بنوافذه وأبوابه، وكست الترب أرضه وسقوفه، فأصبح كالعروس الحسناء التي نزلت بها منيتها ليلة زفافها.
أصبحت لا تكتبين إلي حرفا واحدا، ولا تجيبين عن كتاب واحد من كتبي، وما كان ذلك من شأنك قبل اليوم، فاكتبي إلي كلمة واحدة قولي لي فيها ما تشائين من خير أو شر، فقد وطنت نفسي على احتمال كل شيء. (66) من استيفن إلى ماجدولين
لم تكتبي إلي تلك الكلمة التي ضرعت إليك فيها، وعهدي بك أنك مشيت قبل اليوم على قدميك بضع ساعات كابدت فيها ما كابدت من الأهوال العظام حتى وصلت إلى صندوق البريد في قرية بعيدة عن قريتك فبعثت إلي برسالتك، فهل ذهب ذلك الماضي بأجمعه ولم يبق في نفسك منه أثر واحد؟
لا أستطيع أن أصدق ذلك، فكل ما حولك يذكرك بي وبأيامي التي قضيتها معك، فهنالك الشمس التي كنا نستقبلها معا طالعة ونودعها غاربة، والقمر الذي كان يشرف علينا من علياء سمائه، ويرسل إلينا أشعته الفضية البيضاء فتضمنا غلالتها معا، والمقعد الذي كنا نجلس عليه بين الظل والماء، ويدك في يدي ورأسك على صدري، وخدك تحت متناول لثماتي، والبحيرة التي كنا نقضي فيها كل يوم ساعة الأصيل سائرين على ضفتها صامتين تتحدث قلوبنا بما تمسك عنه ألسنتنا، ثم نعود وبودنا أن لو استمر بنا المسير أبد الدهر إلى دار الخلود، والغرفة التي التقينا فيها ليلة الوداع وبللنا تربتها بدموعنا، وأقسمنا بين سمائها وأرضها يمين الوفاء حتى الموت.
إني أناديك في اليوم مائة مرة يا ماجدولين صارخا مستغيثا، باكيا منتحبا، لا أهدأ ولا أفتر، وأنت لاهية عني بذلك الشأن الجديد الذي استحدثته لنفسك، لا تسمعين ندائي، ولا ترثين لمصابي، وما أعلم أني أذنبت إليك في حياتي ذنبا واحدا تأخذينني به، بل أعلم أني اقترفت جميع الذنوب والآثام من أجلك.
Página desconocida