المقدمة
العرب ومواطنهم ولغتهم
جزيرة العرب
المقدمة
العرب ومواطنهم ولغتهم
جزيرة العرب
مهد العرب
مهد العرب
تأليف
عبد الوهاب عزام
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه كلمات قصدت بها إلى التعريف بالجزيرة العظيمة، جزيرة العرب؛ فبينت مجملا وصفها الطبيعي، وأقسامها وأعلام بلدانها ومحالها، ووصلت هذا بطرف مما يتصل به من الأشعار والأخبار والأساطير في غير توسع ولا تعمق، وذكرت فيها أمهات القبائل ومواطنها.
وهي مقدمة للتعريف بالجزيرة العربية، يكتفي بها من يكفيه الإلمام بأوصافها، ويبتدئ بها من يريد المزيد.
ولا بد من هذه المقدمة لطلبة الأدب العربي عامة، والجاهلي خاصة؛ فكثير من الشعر والنثر لا يدرك معناه إلا بمعرفة ما يتصل به من مكان أو قبيلة أو حيوان أو قصة، أو بمعرفة طبيعة بلاد العرب إجمالا.
وقد نالت هذه الجزيرة من أسلافنا عناية مشكورة، فكتبوا في أوصافها وأخبارها، وبقينا عالة عليهم ولم نقتف آثارهم؛ فرجعنا إلى الكتب القديمة التي تركوها لنا، وأخذنا عن الأوروبيين، ونحن أولى بمعرفة أرضنا، وأقدر على التجول فيها ومخالطة أهلها، وأعرف بلغتها وتاريخها وعاداتها.
على أن العناية بالكتابة عن الجزيرة قد ظهرت في هذا العصر، فأخرج «سعادة» الشيخ حافظ وهبة كتابه «جزيرة العرب»، و«سعادة» فؤاد حمزة «بك» كتابه «قلب جزيرة العرب»، وهما بداية مبشرة باطراد البحث والاستقصاء في الدرس إن شاء الله.
وقد اقترحت، وما زلت أقترح، على جامعتنا «جامعة فؤاد الأول» أن تبعث إلى الجزيرة بعثا فيه من المؤرخين والأدباء والجغرافيين والمهندسين؛ ليضعوا مصورات للجزيرة، ويبينوا المواضع التي ذكرت في التاريخ والأدب، ويحققوا أمكنة الوقائع التاريخية، ومنازل القبائل القديمة، وهلم جرا.
وهذا ميسور، وقد عم الأمن أرجاء الجزيرة، ويسرت الوسائل الحديثة السفر والبحث والاستقراء.
ولعل رجاءنا يتحقق قريبا بعد أن تنبهت الأمم العربية، ونشأت لهم هذه الجامعة المباركة، فيكون من أول ما يعنى به مكتب الثقافة في هذه الجامعة تحقيق هذا الرجاء، والقيام بهذا الواجب.
والله ييسر لنا كل صعب، ويهيئ لنا من أمرنا رشدا.
عبد الوهاب عزام
18 من ربيع الأول سنة 1365ه
20 من فبراير 1946م
العرب ومواطنهم ولغتهم
تخلد الأمم على وجه الأرض، وتحيا على مر الدهور، وتثبت في صفحات التاريخ، بأسباب وقوانين، ويختلف حظها من الخلود ومن المجد باختلاف هذه الأسباب المواتية والقوانين السارية، قوة وضعفا، وإبطاء وإسراعا، وضيقا واتساعا، وهي أسباب متصلة متشابكة يؤدي بعضها إلى بعض ويمسك بعضها بعضا، من هذه الأسباب صلاحية الموطن، والقوة الحسية والمعنوية، والثبات للحادثات، والاحتفاظ بالخصائص، والاعتداد بالنفس والثقة بها، وحضارة الأمة وأثرها في العالم، وقدرتها على الأخذ والإعطاء في معترك الأمم، والمكانة بين الناس، وعظم التاريخ على مر الدهور.
فأما الوطن فقد منح الله العرب موطنا فسيحا وسطا بين المواطن، فياضا بالخيرات، بعيدا من الآفات المدمرة.
موطن العرب جزيرتهم التي ولد فيها تاريخهم، ثم مثواهم القديم الذي عرفهم فيه التاريخ منذ تحدث عن البشر، بين هضب إيران وجبال طوروس والبحر الأبيض، ثم متقلبهم الذي نشرهم فيه الإسلام إلى بحر الظلمات وأواسط إفريقية. وهو موطن شاسع الأرجاء يقع معظمه في الإقليم المعتدل، وقليل منه في الإقليم الحار، وتجري فيه ثلاثة من أعظم أنهار العالم: النيل ودجلة والفرات، وتتقسمه السهول الخصبة والبراري والصحارى والجبال، وتمتد سواحله على بحر العرب والبحرين الأحمر والأبيض. هذا الموطن العظيم يكفل الحياة القوية، والعيشة الغنية، والثبات على الخطوب، والبقاء على الزمان، وقد جعل الله مهد العرب جزيرة ممتازة محدودة بالبحار من معظم جهاتها، فحفظت هذا الجنس القوي بمعزل من تقلب الجماعات، بعيدا من طرق المهاجرات، فبقي يطبع الأجسام القوية والطباع السليمة والفطر الخالصة، ثم يمد بها أجزاء الموطن العربي الكبير كلما نالت الخطوب من أهله أو أترفتهم الحضارة، ما زال يقذف بهم موجة بعد موجة كالنهر العظيم المتدفق من قنن الجبال، بعد ينبوعه من الشوائب، واطرد مجراه إلى الغاية المقدرة له، ونبتت على عبريه الزروع والأشجار، وحييت الأمم.
وما تزال جزيرة العرب خلاقة ولادة فياضة ممدة لأقطار العرب بالقبيل بعد القبيل، فإن بليت الأمم فهذه الأمة لا تبلى، وإن أفنت الأقوام الحوادث فالعرب لا تفنى، وإن نضب معين الأمم فلن يغيض الدم العربي الخالص ما دامت أنهار الله جارية في أرض الله، وما دامت شمسه وهواؤه ينميان الأجسام، ويطبعان الأقوام.
ما تزال هذه الجزيرة المحتجزة ببحارها وصحاراها، المتمنعة بحزونتها وشدتها، البعيدة عن سبل المشرق والمغرب، المتأبية على الاختلاط والامتزاج، تحفظ الجنس العربي خالصا بين حدودها، وتمد به العرب المهاجرين نقيا قويا يرد إليهم ما أوهنت الحضارة من أبدانهم ونفوسهم.
وسيبقى هذا الموطن الأفيح فياضا مدادا يطبع العربي على غرار أرضه وشمسه وهوائه ومائه، ويربيه على قوته وشجاعته وفروسيته، ثم يمد به إخوته في أقطار الأرض؛ فلن يبيد هذا الجنس ولن يهن على مر الزمان.
وكم عرف التاريخ وكم جهل من هجرة بعد هجرة من الجنوب إلى الشمال، من عرب اليمن وحضرموت وعمان إلى نجد والحجاز فالبلقاء وبادية الشام، ثم من الجزيرة كلها إلى العراق والشام ومصر والمغرب والسودان وشرق إفريقية وجزائر المحيط الهندي (بحر العرب).
ولا تزال القبائل البادية في هذه الأقطار تحفظ سننها، وتعرف صلتها بمواطنها وأصولها في الجزيرة، وتعتز بهذه الصلة وتحرص على ذكرها وحفظها.
هذا المصنع مصنع البشر لن يزال مددا للعرب وردءا.
وأما الثبات للحوادث الطبيعية والإنسانية، فما دام هذا الوطن العظيم يعرف بعضه بعضا ويتصل بعضه ببعض، فستجد كل ناحية في النواحي الأخرى ما يسعفها بمطالبها إن قحطت، وما يدرأ عنها الأحداث إن طغت عليها، ومحال أن تعمها كلها الحوادث إلا أن يكون حادث القيامة حين يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما احتفاظ الأمة بخصائصها فعلى قدر ما في أجسامها وعقولها من قوة، وعلى قدر ما فيها من اعتداد بالنفس وثقة بها. والعرب من أقوى الأمم أجساما وعقولا، وأكثرها أنفة وإباء وعجبا وفخارا، والعربي منذ العصور الأولى يغلو في الاعتداد بنفسه، ويأبى أن يسويها بالأمم، ويربأ عن مصاهرتها، وقديما أبى النعمان أن يزوج كسرى، وحديثا قال أحد مجاهدي العرب في طرابلس الغرب، وقد عقد صلح بين أهل طرابلس والطليان، وامتن هؤلاء على العرب بأن سووهم بأنفسهم في الحقوق؛ قال هذا العربي المجاهد، وهو ليس رئيسا ولا زعيما: «وا سوأتاه، أأسوى أنا بالرومي! إنه لظلم عظيم!» بل كان من آفات العرب الغلو في هذه الكبرياء، فصعب أن ينقادوا ويسلسوا القياد، فبهذا الشعور بالعلاء والعظمة جعل العرب يعتزون بأنفسهم، ويمتازون بخصائصهم، ويتمسكون بأخلاقهم، وقديما قال شاعرهم:
وإني لمن قوم كأن نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
وقديما رهن حاجب بن زرارة التميمي قوسه لملك الفرس ضمانا لما التزم من خراج، وحارب بنو شيبان الفرس إباء أن يسلموا سلاح النعمان بعد أن قتله كسرى، وقال أبو تمام يمدح بني شيبان:
إذا افتخرت يوما تميم بقوسها
وزادت على ما وطدت من مناقب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم
عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
والمثل أكثر من أن تذكر في هذا المقام، وأبين من أن تبين.
إذا أحاطت الأمة القوية أنفسها وخصائصها بأخلاق قوية، كفلت دفع الخطوب عن حوزتها، ولا سيما الأخلاق الإنسانية العزيزة التي تأبى للأمة أن تخضع فتذل فتفنى، والعربي في جاهليته وإسلامه أبي حر، يأنف أن يستعبد أو يستعبد، وقد أمده الإسلام بفضائل سيرته على وجه الأرض كالنجم لا يضل ولا يكل، وجعلته قانونا من قوانين الله يسير إلى غايته مسير الشمس والقمر في حبك السماء.
وكلما أخرجت الأمة من عمل أيديها، وأظهرت من نتاج عقولها، ونشرت من ثمرات أخلاقها وآدابها، زادتها صناعتها وعلومها وآدابها رسوخا على الأرض، وثباتا على مجرى الخطوب. ولا يعرف التاريخ أمة أثرت في وجه الأرض، وشادت في الآفاق وفي الأنفس أكثر من العرب، لا يعرف التاريخ أمة جملته أكثر مما حملوا، أو حملته أحسن مما جملوا، أو سيطرت عليه أعظم مما سيطروا، أو سطرت على صفحاته أجل مما سطروا، فإذا تركنا التاريخ القديم من معين وسبأ وحمير، ومن بابل وأشور، فهل يحدثنا التاريخ عن أمة طلعت على العالم بمثل ما طلع العرب؟ همة ذللت المشرق والمغرب في سنين، ونية تريد الخير للناس أجمعين، وعدلا يسوي بين الجبارين والمستضعفين، بل يمحو من الأرض كل جبار ومستضعف، ويقف الناس جميعا إخوة على سنن من العدل المطلق، والمساواة الكاملة، والأخوة الشاملة.
هل يعرف التاريخ أمة جمعت في سلطانها ما جمع العرب من أمم وأقطار، ثم آخت بينهم وحفزتهم إلى الفضائل والآداب والعلوم والصناعات، فإذا معظم العالم المتحضر متعاون على نسج حضارة واحدة عظيمة، كل أمة قدر مواهبها وقواها، فوصلت ما انقطع من سير الحضارة، وقطعت ما اتصل من سير الجبروت والاستعباد، والشر والفساد، وما فعلوا هذا كله إلا ابتغاء وجه الله، وقصدا إلى إصلاح الناس، وعمران الأرض. وقد ربط التاريخ ذكر العرب وتاريخ العرب بهذه المآثر وتلك الفضائل والأخلاق والمكارم، وضمن لهم الخلود ما بقي للناس سيرة في الفضائل والمعالي.
لا أقول إن الإسلام صنع العرب؛ فالإسلام صنع الله، ولكن العرب كانوا أول من حملوا هذه الأمانة فحملوها، ودعوا إلى هذه المعالي ففقهوها، وكلفوا نشرها فنشروها، فكأنما خلقت لهم أو خلقوا لها، وكانوا أحق بها وأهلها؛ وللأمم الإسلامية الأخرى بعد هذا فضل لا ينكر.
ثم أدب العرب، هل يعرف العالم أعظم منه سعة رقعة، وطول مدة، وجمالا وجلالا؟
إذا ثبتت الأمم بنيانها على كر العصور بالسير المجيدة، والمثل العالية، فعند العرب سير رجف بها الزمان، وأقر لها الحدثان، وإن مكنت الأمم لأنفسها بالصناعات والعلوم والآداب، فعند العرب ما يكفل لهم التمكن في الأرض والخلود في سجل التاريخ، وحسب المجادل أن يسير فكرة بين هضب إيران وبحر الظلمات وجبال البرانس وغابات إفريقية، ويعبر التاريخ في هذه المواطن كلها أربعة عشر قرنا ليرى مجد العرب، ويبصر حجة العرب.
ولا نقول: إن العرب خلقوا ولم يقلدوا، وابتدعوا ولم يتبعوا، وأعطوا ولم يأخذوا، وأعاروا ولم يستعيروا؛ ولكنا نقول: إنهم أحسنوا الخلق والتقليد، وأجادوا الابتداع والاتباع، والأخذ والعطاء، والإعارة والاستعارة، والأمم تدل على فضلها بالأخذ كما تدل عليه بالعطاء، وتثبت حياتها بالمحاكاة كما تثبتها بالخلق، وإنما حياة الأحياء على قدر ما تؤثر في غيرها وتتأثر. الذي لا يأخذ ولا يعطي جماد، والنبات يأخذ ويعطي قليلا، وانظر بعد هذا الحيوان الأعجم والإنسان، ثم اعتبر هذا في تاريخ الأمم، يصح الاعتبار، ويطرد القياس .
تخلد الأمم بأفعالها وآثارها، ويقينها في أنفسها، ويزيدها مكانة وتمكينا في الخلود أن يزيد على مر العصور مجدها، وتعظم على كر الدهور بين الأمم مكانتها، حتى تعلو على أحداث الزمان، ومطامع الإنسان، فتقر لها الأمم بالفضل، وتخلي لها سبيلها في الحياة، وللعرب من هذا كله نصيب موفور، وسعي بين الأمم مشكور، لا ينكره إلا من ضل به الهوى، أو جار به الحسد.
وهم جديرون اليوم بتاريخهم، حقيقون بسيرتهم، ولن يكونوا إلا كما كانوا من قبل، دعاة حرية وأخوة، وهداة مدنية وعمران، وأئمة أخلاق وآداب، وأنصار فضيلة وحق، ولن يكون نهوضهم اليوم إلا خيرا للبشر، وسلاما للناس أجمعين.
ولهذه الأمة الكريمة الخالدة لغة كريمة خالدة، أنضجها الزمان المتطاول في البقاع الشاسعة من الجزيرة، وأخرجتها الفطرة السليمة والإحساس المرهف والإدراك النافذ لغة كاملة معجبة عجيبة، تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس، تكاد تتجلى معانيها في أجراس الألفاظ، وتتمثل في نبرات الحروف، كأنما كلماتها خطرات الضمير ونبضات القلوب ونبرات الحياة، فالمعاني المحسة والمعقولة مبينة في ألفاظ تدرك الفروق الدقيقة بين الأشياء المتشابهة، فتضع للشبيه لفظا غير ما وضعته لشبيهه، إدراكا للفرق الدقيق بينهما. فإذا وضعت بعض اللغات للضرب مثلا كلمة واحدة، وضعت العربية كلمات تختلف باختلاف آلة الضرب وموضعه من الجسم، وإذا دلت اللغات على صفات الوجه الإنساني مثلا بكلمات مركبة لكل صفة، دلت العربية على كل حلية في الإنسان، وكل صفة في عينيه وحاجبه وأنفه وفمه وأسنانه وغيرها بأسماء خاصة، وليس هذا مقام التمثيل والتفصيل.
ثم هذا الإحساس الدقيق المتمثل في المفردات يتجلى في التركيب مدهشا؛ فكل كلمة لها في الجملة مكانة يحس بها المتكلم، أو تحس بها الكلمة نفسها، فتعطي أو تأخذ صوتا مكافئا لهذه المكانة، فالكلمة الأصيلة لها أقوى الأصوات وهو الضم، والأخريات لها الفتح والجر. وما أرى هذا إلا ضربا من الحياة في الألفاظ والتركيب، يبين عن أدق الإحساس وألطفه.
وإذا اشتملت اللغات على كلمات هي مادتها، ففي اللغة العربية مادة وقوالب يستعملها صاحبها حين الحاجة ، فيها مادة ووزن، فخذ المادة أو اخلقها أو استعرها من لغة أخرى، ثم صبها في قالب من قوالب الأسماء والأفعال، وصورها بالقوالب أو الأوزان ما تشاء، فلغتنا تدل بالمادة والوزن، وبالصيغة والهيئة، فمن سمع فاعلا أو مفعولا أدرك أن هذا الوزن في حركاته وسكناته له معنى يلازمه في المواد كلها. وبهذا امتازت اللغة واستبانت خصائصها، حتى نفت عن نفسها كل كلمة أجنبية ما لم تخضع لأوزانها وقوانينها؛ للأسماء أوزان وللأفعال أوزان، فما لا تزنه هذه الأوزان فهو أجنبي؛ وبهذا بقيت على الدهر المتطاول خالصة نقية، صحيحة قوية.
قيل: إن لغتنا صعبة بهذه المفردات وبهذه التراكيب والأوزان، وإنها تكاد تأبى على دارسها وتعجز طالبها، وهذا حق لا ندفعه، وإن عد عيبا فلا ننكره، ولكنه ليس من نقصان في خلقها، أو اختلال في بنيتها، أو عجز في موادها وأوزانها، ولكنه نتيجة التطور الكامل والنمو التام، فأدنى الأشياء في هذا العالم أيسرها وأقلها تركيبا، والكمال يصحبه التركيب والتفصيل والإشكال والإعضال، اعتبر هذا في النبات والحيوان، وفي الحيوان ذي الخلية الواحدة والإنسان، ثم انظر المراتب بينهما، واعتبر هذا في البداوة والحضارة، وفي أنواع الحضارات، تجد النقص بساطة ويسرا، والكمال تركيبا وصعوبة. الكمال في هذا العالم لا ينال إلا بتطور تلده الأحقاب بعد الأحقاب، وتنوء به العزائم بعد العزائم، فلغتنا صعبة، ولكنها كاملة دقيقة مواتية، حية حساسة، موسيقية متلائمة.
وقد امتحنت هذه اللغة الحضارة الواسعة، واختبرها التاريخ الطويل، فلم تعجز ولم تعي ولم تضق بكل ما أدركه الإنسان من علم، وثقفه من صناعة؛ بل وسعت حضارة القرون المتطاولة، والأمم المختلفة، غير كارهة ولا مكرهة.
وقد أراد الله لها أن تكون لغة كتابه، وترجمان وحيه، وبلاغ رسالته، فاشتملت على العالم الحسي والعقلي مصورا في كلمات وآيات، وجوزيت على هذا خلودا ما خلد للإنسان عقل وقلب، وما استقام له إحساس وإدراك.
وتقلب الزمن، وتوالت المحن، وثارت الفتن، وهي ثابتة ناضرة رائعة، ثبات قوانين الله وروعة كواكبه. خمسة عشر قرنا محت لغات وخلقت لغات وبدلت لغات، وحرفت لغات ، والعربية هي العربية، لم تمح ولم تغير ولم تبدل، ما آية الخلود بعد هذا؟
ولم تبق هذه العربية لغة العرب وحدهم، بل ثقفتها الأمم الأخرى، وأولتها من الحفاوة والعناية أكثر مما أولت لغاتها أحيانا، فصارت لغة العلوم والآداب للعرب وغير العرب حقبا طويلة، ما بين أقصى المغرب وأقصى المشرق، ولا تزال على تبدل الأحوال وتوالي الغير لغة أدب وعلم في الأمم الإسلامية غير العربية، وما تزال لغات هذه الأمم مترعة بألفاظها، وما تزال تستمد العربية.
وقد حوت على مر العصور أدبا لا تحويه لغة أخرى، أدبا موطنه ما بين الصين إلى بحر الظلمات، وزمانه أربعة عشر قرنا، ولا نعرف في آداب العالم قديمها وحديثها أدبا اتسعت به المواطن هذا الاتساع، وامتدت به الأعصار هذا الامتداد.
فالعربية بأهلها وموطنها وخصائصها وآدابها وتاريخها، العربية بقرآنها، خالدة باقية على الخطوب والعصور، لغة دين وعلم وأدب وحضارة وإنسانية، فهل تنصرها همم أبنائها، وتستجيب لها عزائمهم؟
جزيرة العرب
عرفت بلاد العرب منذ الجاهلية باسم جزيرة العرب، وقد روي في بعض الأحاديث النبوية أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب.
وما أحسب العرب في الجاهلية وصدر الإسلام نظروا إلى المعنى الاصطلاحي التام لكلمة جزيرة، بل أرادوا الأرض يدور الماء على نواح منها.
قال المقدسي: إن العرب يسمون شبه الجزيرة جزيرة، ونجد تصديق هذا في تسميتهم جزيرة الأندلس، وجزيرة أقور بين الفرات ودجلة، وجزيرة ابن عمر هناك، والجزيرة الخضراء في الأندلس.
ثم أراد جغرافيو العرب من بعد أن يفسروا هذا الاسم بالمعنى الخاص للجزيرة في الاصطلاح الجغرافي، فقالوا: إنما سميت جزيرة لإحاطة المياه بها. ونقل صاحب لسان العرب عن التهذيب:
سميت جزيرة لأن البحرين بحر فارس وبحر السودان أحاطا بناحيتيها، وأحاط بجانب الشمال دجلة والفرات.
وأجمع ما قيل في هذا ما رواه الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب:
وإنما سميت جزيرة لإحاطة الأنهار والبحار بها من جميع أقطارها وأطرافها، فصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر، وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم، فظهر بناحية قنسرين ، ثم انحط على أطراف الجزيرة وسواد العراق، حتى دفع في البحر في ناحية البصرة والأبلة، وامتد إلى عبادان، وأخذ البحر في ذلك الموضع مغربا مطيفا ببلاد العرب منعطفا عليها، فأتى منها على سفوان وكاظمة إلى القطيف وهجر وأسياف البحرين وقطر وعمان والشحر، ومال منه عنق إلى حضرموت وناحية أبين وعدن، وانصب مغربا نصبا إلى دهلك، واستطال ذلك العنق فطعن في تهائم اليمن إلى بلاد فرسان وحكم والأشعريين وعك، ومضى إلى جدة ساحل مكة، والجار ساحل المدينة، ثم ساحل الطور وخليج أيلة وساحل راية، حتى بلغ قلزم مصر وخالط بلادها.
وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلا معارضا للبحر معه، حتى دفع في بحر مصر والشام، ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فسلطين، فمر بعسقلان وسواحلها، وأتى على صور ساحل الأردن، وعلى بيروت وذواتها من سواحل دمشق، ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحل قنسرين حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات، منحطا على أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق.
وقد حاول هذا الواصف أن يحكم الدائرة، فأدخل النيل في المياه المحيطة بالجزيرة، ولم يرد أن يغفل المسافة بين خليج السويس وبحر الروم الذي سماه بحر مصر والشام، فاستعان بفرع النيل الشرقي على إحكام هذه الدائرة من المياه المحيطة بالجزيرة.
وهذا التحديد يدخل بلاد الشام كلها والبادية التي بين الشام والعراق وبادية سيناء، في جزيرة العرب، والحد الشمالي يختلف فيه الجغرافيون، منهم من يجعل الحد الشمالي صحراء النفود، فيخرجون بادية الشام من الجزيرة، ومن هؤلاء المقدسي.
والتحديد المساير لطبيعة الأرض يدخل بادية الشام وسيناء في الجزيرة، فحدها على هذا من الشرق بحر عمان وخليج البصرة (خليج فارس) ونهر الفرات، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الغرب البحر الأحمر وقناة السويس، ومن الشمال البحر الأبيض، وخط يبتدئ من العريش مسايرا حدود فلسطين الجنوبية، ومنعطفا إلى الشمال مع حدود الشام الشرقية حتى يقارب تدمر، ثم ييمم الشرق إلى الفرات، ثم يسير صوب الجنوب الشرقي إلى ملتقى شط العرب وخليج البصرة.
وأبعاد الجزيرة من بور سعيد إلى عدن
1500 ميل
ومن باب المندب إلى رأس الحد في عمان
1300 ميل
ومن بور سعيد إلى الفرات
600 ميل
ومتوسط عرضها من الشرق إلى الغرب 700 ميل، ومتوسط طولها 1200 ميل، ومساحتها 1200000 ميل، ثلثها صحارى رملية. (1) طبيعة الجزيرة
والجزيرة في جملتها نجد أقصى ارتفاعه في الجنوب والغرب، وانحداره نحو الشمال والشرق إلى وادي الفرات وساحل الخليج الفارسي.
والسفح الغربي يرتفع من البحر صاعدا حتى يبلغ علوا يختلف من أربعة آلاف قدم إلى ثمانية آلاف.
وبينه وبين البحر ساحل ضيق لا يتجاوز عرضه ثلاثين ميلا، وهي قاحلة في كثير من جهاتها، قليلة المياه، ليس بها مجرى ماء دائم، ولا تنهمر عليها أمطار غزيرة كالتي تسقط على جبال الحبشة لقلة الجبال بها، وأن جبالها لا تعلو إلى مستوى الجبال العالية في الأقطار الأخرى.
وليس بها بحيرات ولا غابات كثيفة.
ومجاري المياه فيها أودية يسيل أكثرها عقب المطر، ثم يغيض ويترك المطر بها غدرانا ورياضا وقيعانا وأحساء وعيونا.
فالغدران جمع غدير وهو بركة يملؤها المطر.
والرياض جمع روضة وهي مجتمع ماء في مطمئن من الأرض، وربما تبلغ سعة الروضة في الجزيرة ميلا في ميل، وكثيرا ما ينبت عليها ضروب من العشب والبقول لا يسرع إليها الذبول.
وإذا كثر عشب الروضة والتف فهي حديقة.
وقد عد ياقوت من رياض العرب المعروفة زهاء مائة وأربعين، وقال:
والرياض المجهولة كثيرة جدا، إنما نذكر ههنا الأعلام منها، وما أضيف إلى قوم أو موضع تجاوره، أو واد أو رجل بعينه.
والقيعان جمع قاع، وهي أرض واسعة مستوية يستقر بها الماء أحيانا عقب المطر.
والأحساء جمع حسي، وهو حفرة ينكشف فيها الرمل عن ماء تسرب فيه إلى أرض صلبة تمنعه أن يغيض في الأرض؛ وسيأتي ذكرها في بلاد الأحساء. (1-1) الرياح والمطر
أكثر الرياح هبوبا في الشمال الريح الغربية، وعلى السواحل الجنوبية الريح الشرقية.
والصبا وهي ريح الشرق محمودة جدا في نجد، وقد أكثر الشعراء من ذكرها، وريح الشمال في الوسط والشمال باردة جدا . وقد تمدح العرب بالجود حين تهب هذه الريح:
لقد علم الضيف والمرملون
إذا اغبر أفق وهبت شمالا
بأنك ربيع وغيث مريع
وأنك هناك تكون الثمالا
وتهب في الصيف السموم، وهي ريح شديدة الحر مهلكة.
وقد أكثر العرب من تسمية الرياح، بين الرخاء والعاصف والهوجاء. وسموا الشمال والجنوب والصبا والدبور والريح النكباء، وهي التي تهب بين مهب ريحين أصليتين، كالتي تهب بين الصبا والجنوب مثلا.
وقالوا للريح التي لا تثبت على وجهة: الريح المتذائبة، كأنها تفعل معهم فعل الذئب، تأتيهم من جهات مختلفة.
ويضيق المجال عن توسعة الكلام عن الرياح وأثرها في معيشة العرب، وذكرها في كلامهم.
وأما المطر فهو حياة البادية، وفي انقطاعه هلاكها. من المطر تجري الأودية وتمتلئ الغدران، فيشربون ويسقون حيوانهم، ومن المطر ينبت المرعى للحيوان، فإذا حبس المطر في مكان، انتجعوا مكانا يلتمسون مواقع القطر، فإذا عم القحط هلك الناس أو أشرفوا.
ومن أجل ذلك سمي المطر رحمة وغيثا. وعني العرب بمعرفة الرياح الممطرة والرياح العقيمة، وعرفوا أوصاف الغمام الممطر والغمام الجهام، وافتنوا في تسمية السحب باختلاف ألوانها وأشكالها، وعددوا أسماء المطر باختلاف مقداره ومدته، فقالوا: الرذاذ، والطش، والطل، والوابل، والديمة، وهكذا.
وللعرب في المطر وأوصافه وأخباره شعر كثير ونثر.
ويغزر المطر على جبال اليمن والجبل الأخضر في عمان. وأغزر أمطار اليمن ما ينزل على الحافة الغربية ويمتد مائة ميل إلى الشرق، ويقل كلما اتجه إلى الشرق، والمطر الجود هناك يكفي لزراعة الصيف ولإمداد الجداول الدائمة الجريان التي تروي زرع الشتاء، وربما يستمر المطر شهرين في الجهات العالية مثل جهات صنعاء، وينزل في تهامة اليمن مطر في الشتاء أحيانا.
وفي شمالي الجزيرة ووسطها ينزل المطر في الشتاء بين تشرين الأول ونيسان (أكتوبر وأبريل) وهو قليل غير موقوت، وينقطع بعض السنين، وهي السنوات الشهب، وهذه السنوات تعد مصائب، فيقال: أصابتهم سنة. وفي القرآن الكريم:
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات
وفي بعض أرجاء نجد ينزل المطر في ميعاد معلوم كل سنة.
وفي الطائف يهطل المطر في أواخر آب (أغسطس) ويدوم شهرا أو شهرا ونصفا، وكأن هذا منتهى الرياح الموسمية التي تهب من الجنوب الغربي، وتمطر على اليمن من حزيران إلى أيلول (يونيو إلى سبتمبر).
وينزل البرد على الحرار وجبال تهامة في الشمال، وينزل أحيانا في صحراء النفود، وعلى الجبل الأخضر بعمان، وهو نادر في جبال اليمن. (1-2) الزرع والشجر
جزيرة العرب ليس بها أنهار، ومطرها لا يروي غلتها، فزرعها قليل لا يفي بحاجات أهلها.
تزرع الذرة في جهات قليلة، والشعير كثير في أنحاء مختلفة، والقمح في اليمن واليمامة وبعض الواحات، وهو في الجملة قليل.
ويزرع الأرز في عمان والأحساء.
والقت ينبت في البادية، ويسمى اليوم السمح، وهو يشبه الدخن المعروف في السودان، ودقيقه أجود من دقيق الشعير. ويطحن الناس حب الحنظل أيام الجدب.
والكرم في جهات كثيرة مثل المدينة المنورة والطائف، والموز والتفاح والرمان والبرتقال في جهات قليلة.
وأعظم ثمار الجزيرة التمر، والنخل في عمان واليمامة والحجاز كثير، ومما يدل على كثرة التمر بالقياس إلى القمح أن زكاة الفطر قدرت نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير.
وفي المدينة زهاء مئة صنف من التمر.
ومن الأشجار البرية: الدوم، والسدر، والحناء، والضال، والسلم، والأثل، والغضى، والسمر. (1-3) الحيوان
لا حاجة إلى ذكر الإبل والخيل والضأن والمعز، فهي كثيرة في كل الجزيرة، وعليها عماد معيشتهم. والفرس العربي أجمل خيل العالم وصيته ذائع، وقد فاض الشعر العربي بذكر الإبل في أسفار العرب وقراهم، وتذكر الخيل في الحرب والصيد وبيان كرمها عليهم وإيثارها بالقوت أحيانا. ومن أجمل ما في الشعر العربي هذه الألفة المتينة بين الفارس والفرس، والصحبة الطويلة بين الجمل وصاحبه في الأسفار البعيدة.
وقارئ الشعر الجاهلي لا يحتاج إلى من يدله على مواضع وصف الإبل والخيل فيه، فقلما تخلو قصيدة طويلة من وصف الناقة. وفي كثير من القصائد ذكر الخيل ولكنه أقل من وصف الإبل، وحسب القارئ أن يقرأ معلقة طرفة أو قصيدة المثقب العبدي التي يصف فيها ناقته ثم يقول:
إذا ما قمت أرحلها بليل
تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا درأت لها وضيني
أهذا دينه أبدا وديني؟
أكل الدهر حل وارتحال
أما يبقي علي وما يقيني؟
وكثيرا ما يذكر الشاعر كرامة الفرس عليه وتقريبه إلى مجلسه، حتى سميت الخيل المقربات، ويتحدث عن إيثار الفرس باللبن، ولوم امرأته إياه على هذا كما قال بعضهم:
تلوم علي أن أمنح الورد لقحة
وما تستوي والورد ساعة تفزع
وأحيانا يذكر لوم امرأته إياه على اقتناء فرس يكلفه ما لا يطيق، ومطالبتها ببيعه، كما قال حاجب بن حبيب الأسدي من شعراء المفضليات:
باتت تلوم على ثادق
1
ليشري
2
فقد جد عصيانها
ألا إن نجواك في ثادق
سواء علي وإعانها
وقالت: أغثنا به إنني
أرى الخيل قد ثابت أثمانها
فقلت ألم تعلمي أنه
كريم المكبة مبدانها
3
كميت أمر على زفرة
طويل القوائم عريانها
تراه على الخيل ذا جرأة
إذا ما تقطع أقرانها
طويل العنان قليل العثار
خاظي الطريقة
4
ريانها
والحمار في اليمن والحجاز والأحساء، والبدو يأنفون من ركوبه؛ والبقر قليل.
ومن الوحش الأسد، وللأسد في اللغة أسماء وأوصاف كثيرة، تدل على ما ملأ نفوس العرب من هيبته وخشيته. وقد عد الهمداني في كتابه «صفة جزيرة العرب» أربع عشرة مأسدة، وقد أضيفت الأسود إلى بعض هذه المآسد في الشعر العربي، فقيل: أسود بيشة، وأسود خفان، وأسود الشرى، وأسود ترج. والأسد نادر في الجزيرة اليوم.
والفهد والنمر معروفان في الجزيرة، وأما الضبع فقد كثر حديثهم عنها، وضربوا الأمثال لها ورووا الأساطير.
والذئب نال من عناية الشعراء في الجاهلية والإسلام ما لم ينله وحش آخر إلا الأسد. والقرد في اليمن.
والغزال في كل الأرجاء؛ وقد افتن الشعر العربي في وصفه وتشبيه النساء به، ومنه نوع كبير يرى في النفود اليوم، وهو في كبر الحمار، أبيض له قرون مستقيمة، ويسميه العرب بقر الوحش، والأنثى مهاة. وكم شبه العرب المرأة بالمهاة في سعة عينها وفي مشيها، كما تحدثوا كثيرا عن الثور الوحشي، ووصفوا ما يقع بينه وبين الصيادين وكلاب الصيد، كما في معلقة لبيد وغيرها.
وحمار الوحش وصفوه كثيرا وشبهوا به الإبل في سرعتها، واهتموا بصيده، وفصلوا الكلام في وقائعه وجعلوه أعظم الصيد، فقالوا: «كل الصيد في جوف الفراء»، انظر قصيدة أبي ذؤيب الهذلي التي مطلعها:
أمن المنون وريبه تتوجع
والدهر ليس بمعتب من يجزع
ثم اقرأ شعر الشماخ بن ضرار، تعرف كيف أولع شعراء العرب بوصف هذا الحيوان.
والنعام يعيش في النفود في الشمال، ووادي الدواسر إلى الجنوب الغربي من نجد، وقد فتن العرب بسرعته، فوصفوه وشبهوا به الإبل في سرعتها، كما شبهوها بثور الوحش وحماره، ووصفوا بيضه وشبهوا المرأة به في بياضه وصفائه، وجاء في القرآن الكريم:
كأنهن بيض مكنون .
والأوعال في بلاد اليمن وغيرها، وهي المعز الجبلية، وقد ذكرت في الشعر كثيرا، وجعلت مثلا في قول الشاعر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
والأرنب كثير في الجهات كلها.
ومن الطير الحمام والقطا، وقد ردد ذكر القطا شعراء العرب، وسموه الكدري للونه، وذكروه في طيرانه وفي وروده المناهل البعيدة، وقالوا: أصدق من قطاة؛ لأن صوت القطا يحكي اسمه، فكأنه يدل على نفسه.
والسماني كثيرة أيضا.
ومن الطير الجارحة: النسر، والصقر، والحدأة، والغراب.
وفي الجزيرة الثعبان والعقرب والورل والضب، وقد ضرب المثل بالضب في إلف القفر والصبر على الماء، وفي عقد ذنبه، فقالوا: أعقد من ذنب الضب. وضربوا الأمثال وحكوا الأساطير عنه.
والجراد كثير جدا يأكله الناس. والنحل لا يتخذ في الدور كثيرا، ولكن يتخذ البيوت في الجبال والشجر، وقد افتن العرب في تسمية جماعة النحل وذكورها وجني العسل وآلاته؛ وهكذا تصور هذا اللغة وتحكيه الأخبار والأشعار، وفي اليمن وحضرموت عسل طيب جدا. (2) أقسام الجزيرة
قسم العرب جزيرتهم تقسيما مسايرا لطبيعتها إلى خمسة الأقسام الآتية: وزاد ابن حوقل ثلاثة أصقاع: بادية العراق، وبادية الجزيرة، وبادية الشام.
وهذا ما قاله الجغرافيون في هذا التقسيم كما رواه الهمداني:
فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزلوها وتوالدوا فيها على خمسة أقسام عند العرب، في أشعارها وأخبارها:
تهامة، والحجاز، ونجد، والعروض، واليمن.
وذلك أن جبل السراة ، وهو أعظم جبال العرب وأذكرها أقبل من قعرة اليمن حتى بلغ أطراف بوادي الشام، فسمته العرب حجازا؛ لأنه حجز بين الغور وهو تهامة وهو هابط، وبين نجد وهو ظاهر.
فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيه إلى أسياف البحر من بلاد الأشعريين وعك وكنانة وغيرها ودونها إلى ذات عرق والجحفة وما صاقبها وغار من أرضها: الغور غور تهامة، وتهامة تجمع ذلك كله.
وصار ما دون ذلك الجبل في شرقيه من صحارى نجد إلى أطراف العراق والسماوة وما يليها: نجدا، ونجد تجمع ذلك كله.
وصار الجبل نفسه سراته وهو الحجاز وما احتجز به في شرقيه من الجبال وانحاز إلى ناحية فيد والجبلين إلى المدينة، وراجعا إلى أرض مذحج من تثليث وما دونها: حجازا، والحجاز يجمع ذلك كله.
وصارت بلاد اليمامة والبحرين وما والاهما العروض، وفيها نجد وغور لقربها من البحر وانخفاض مواضع منها ومسايل أودية فيها، والعروض يجمع ذلك كله.
وصار ما خلف تثليث وما قاربها إلى صنعاء، وما والاها من البلاد إلى حضرموت والشحر وعمان وما يلي ذلك: اليمن، وفيها التهائم والنجد، واليمن تجمع ذلك كله.
وهذا تقسيم - كما يرى - يجعل جنوبي الجزيرة كله من اليمن، والشائع غير هذا.
ويمكن أن تقسم الجزيرة تقسيما طبيعيا إلى ثلاثة أقسام: الشمال والوسط والجنوب؛ فالشمال ما بين شاطئ مدين ورأس الخليج الفارسي وما يتصل به شمالا، وهو صحراء حجرية في الشمال، رملية في الجنوب، ولكنها بعد المطر تنبت مراعي واسعة، وأكثر سكان هذا القسم بداة رعاة.
والوسط الحجاز ونجد والأحساء، وكثير من جهاته قاحل فيه آبار وغدران، وكثير من بقاعه تجري فيه أودية كبيرة، فتنبت المراعي والزرع والشجر، وفيه كثير من القرى والمدن.
وأما القسم الجنوبي ففيه هضبة عسير واليمن في الغرب، والجبل الأخضر في الشرق، والهواء فيها معتدل بارتفاعها وقربها من البحر، والأمطار كثيرة، والأرض مغلة، وأكثر الناس حضر.
وسيول اليمن تجري في أودية دائمة وبعضها يهبط إلى تهامة، فينبت بها واحات كثيرة في الغرب والجنوب، ولكن خصب اليمن لا يمتد إلى الشرق طويلا ؛ فوراء الهضب الصحراء الكبيرة أو الربع الخالي.
وفي حضرموت قرى كثيرة غنية.
هذا إجمال تقسيم الجزيرة تقسيما طبيعيا، وفيما يلي تفصيل القول قليلا في هذه الأقسام. (2-1) القسم الشمالي
البادية الشمالية قسمان: الشمالي منها أرض صلبة تسمى اليوم الحماد، وينتهي هذا القسم إلى قرية الجوف (دومة الجندل) جنوبا.
وفي هذ القسم أودية تسيل من الغرب إلى الفرات، أعظمها وادي حوران، وفيه كذلك واد كبير يسمى وادي السرحان، وهو يسيل من جبل حوران صوب الجنوب والشرق، حتى ينتهي إلى قرية الجوف، وينبت على جانبيه واحات خصبة.
وفي هذا الجانب طريق السيارات بين دمشق وبغداد اليوم، وهو زهاء ثمانمائة وستين كيلا، تقطعها السيارات في عشرين ساعة مع الاستراحة. وهي البادية التي اخترقها سيدنا خالد بن الوليد بجيشه في السنة الثانية عشرة من الهجرة، إذ سار من العراق مددا لجيوش العرب في الشام، فرمى بنفسه وجيشه في بادية لا ماء فيها، وأتى الروم من مأمنهم وفجأهم بما لم يحتسبوا، وقد قطعها في خمسة أيام.
وهذه البادية تسمى اليوم بادية الشام، وبادية الشام - على التحقيق - كانت اسما للقسم الغربي منها، وقسمها الشرقي كان يسمى في الجنوب بادية العراق أو السماوة، وفي الشمال بادية الجزيرة أو خساف.
والسماوة عند العرب أرض مستوية لا حجارة فيها، والسماوة أمكنة متعددة، وقد ذكرت في شعر المتنبي وغيره.
قال جرير:
صبحت عمان الخيل وهي كأنها
قطا هاج من فوق السماوة ناهل
وقال عدي بن الرقاع يصف الظباء:
فترددن بالسماوة حتى
كذبتهن غدرها والنهاء
وفي خساف يقول الأعشى:
أخلفتني به قتيلة ميعا
دي وكانت للوعد غير كذوب
ظبية من ظباء بطن خساف
أم طفل بالجو غير ربيب
كنت أوصيتها بألا تطيعي
في قول الوشاة والتخبيب
والقسم الثاني من الصحراء الشمالية، وهو الجنوبي، يبتدئ من خط ثلاثين من العرض ممتدا شطر الجنوب، وهو صحراء تملؤها كثبان من الرمل الأحمر، وهذه الكثبان تسمى اليوم في لغة البادية بالنفود، وبها سميت الصحراء.
وهي على قلة مائها أكثر نباتا وأخصب مرعى من القسم الشمالي. وواحة الجوف في نهاية هذا القسم من جهة الشمال، ينتهي إليها وادي السرحان، وفيها زروع كثيرة، وعلى مقربة منها واحات أخرى صغيرة.
أمراء الحيرة والغساسنة
على حدود بادية الشام في الشرق والغرب نشأت إمارتان عربيتان، وقفت إحداهما من دولة الفرس موقف الثانية من دولة الروم؛ الفرس اتخذوا إمارة الحيرة عونا على حرب الروم، وسدا بين العراق وغارات الأعراب، وكذلك اتخذ الروم أمراء غسان أعوانا على الفرس، ووسيلة إلى إخضاع قبائل البادية.
إمارة الحيرة:
الحيرة مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على بحيرة النجف، وعلى حدود البادية، وكانت في أرض خصبة، تسقيها فروع من نهر الفرات تسير إلى البحيرة، وكانت معروفة بجودة الهواء، وكان قصر الخورنق على نحو ميل منها إلى المشرق، والسدير في البادية مما يلي الشام.
وكان أهلها منذ القرن الثالث الميلادي ثلاثة أصناف: تنوخ، وهم العرب أصحاب المظال وبيوت الشعر، ينزلون غربي الفرات. والصنف الثاني العباد، هم الذين سكنوا المدنية وابتنوا فيها، وهم قبائل شتى. والثالث الأحلاف، وهم الذين نزلوا فيها من غير تنوخ والعباد، واسم المدينة يدل على أنها كانت مضارب خيام، فهو كلمة آرامية، معناها مضرب الخيم.
وكان للحيرة أثر في الجزيرة العربية، كان أهلها يجوبون الأقطار، يتاجرون ويعلمون القراءة والكتابة، ويدعون إلى النصرانية، وكان الشعراء يقصدون المناذرة بالمدائح، وكانت الحيرة كذلك واسطة للتقريب بين الفرس والعرب. وأما تاريخها فمضطرب الروايات؛ ويقال إنه توالى عليها 25 ملكا في 623 سنة، ولكن هذا غير صحيح، فإن الأمراء الذين يذكرون حكموا ما بين أوائل القرن الثالث الميلادي إلى الفتح الإسلامي، وذلك زهاء أربعمائة سنة.
وأول من تأمر في هذه النواحي مالك بن فهم الأزدي، وخلفه ابنه جذيمة الأبرش، صاحب القصة المعروفة مع الزباء ملكة الجزيرة، ولما قتل جذيمة خلفه ابن أخته عمرو بن عدي، وهو أول الأمراء اللخميين آل نصر، وأول من اتخذ الحيرة منزلا، وأول ملك يعده أهل الحيرة من ملوك العرب بالعراق، وقد دان لأردشير بن بابك مقيم الدولة الساسانية الفارسية (226-241م)، ثم توالى الأمراء من بعد عمرو، فكان خامسهم النعمان بن امرئ القيس.
وكان حكمه في أوائل القرن الخامس الميلادي، وهو النعمان الأعور السائح، باني الخورنق والسدير، وكان ملكا عظيما مهيبا شديد الوطأة على العرب، وكان من آثار قوته ومكانته أنه لما اضطرب أمر الفرس بعد موت يزدجرد الأول، واختلف أمرهم على الملك، تعصب النعمان لبهرام جور بن يزدجرد، حتى تسنى له الملك، وكان بهرام نشأ في كنف النعمان بالحيرة. ويظهر أن النعمان تنصر وتنسك في آخر عهده.
قال حمزة الأصفهاني في تاريخه: فلما أتى على الملك النعمان ثلاثون سنة، علا مجلسه على الخورنق، وأشرف منه على النجف وما يليه من النخل والبساتين والجنان والأنهار مما يلي المغرب، وعلى الفرات مما يلي المشرق، فأعجبه ما رأى في البر من الخضرة والنور والأنهار الجارية ولقاط الكمأة، ورعي الإبل، وصيد الظباء والأرانب، وفي الفرات من الملاحين والغواصين وصيادي السمك، وفي الحيرة من الأموال والخيول ومن يموج فيها من رعيته. ففكر وقال: أي درك في هذا الذي قد ملكته اليوم ويملكه غدا غيري؟ فبعث إلى حجابه، ونحاهم عن بابه، فلما جن عليه الليل التحف بكساء، وساح في الأرض، فلم يره أحد.
وفيه يقول عدي بن زيد يخاطب النعمان بن المنذر:
وتدبر رب الخورنق إذ أش
رف يوما وللهدى تفكير
سره حاله وكثرة ما يم
لك والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه وقال: وما غب
طة حي إلى الممات يصير؟
والرابع عشر من أمراء الحيرة كان:
المنذر بن امرئ القيس، وهو المنذر بن ماء السماء، ملك 32 سنة من 524، ثم قتله الحارث الأعرج الغساني يوم عين أباغ، وبعده استولت كندة على الحيرة؛ وذلك أن الدولة الفارسية اضطرب حبلها بحرب الترك وفتنة مزدك، فاستولى الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار جد امرئ القيس الشاعر، فلما اجتمع أمر الفرس لكسرى أنو شروان (529-578م) رد ملك الحيرة إلى المنذر بن امرئ القيس.
والسادس عشر منهم كان:
عمرو بن المنذر: وهو عمرو بن هند، ملك في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي ست عشرة سنة، وأمه هند بنت عمرو بن حجر عمة أبي امرئ القيس الشاعر، وقد بنت ديرا في الحيرة.
وآخر الأمراء من لخم كان النعمان بن المندر أبو قابوس: ملك زهاء عشرين سنة، ثم قتله كسرى أبرويز سنة 602. وهو قاتل عبيد بن الأبرص الشاعر، وعدي بن زيد العبادي، والذي مدحه النابغة الذبياني.
قال حمزة الأصفهاني في تاريخه: ويزعم بعض أهل الأخبار أنه دخل في النصرانية، وكان عابد وثن، وأن عدي بن زيد الذي نصره. قالوا: وسبب ذلك أنه خرج ذات يوم راكبا ومعه عدي بن زيد، فوقف بظهر الحيرة على مقابل مما يلي النهر، فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر؟ قال: لا. قال: إنها تقول:
أيها الركب المخبون
على الأرض المجدون
مثل ما أنتم حيينا
وكما نحن تكونون
قال له: أعد. فقال: إنها تقول:
رب ركب قد أناخوا حولنا
يشربون الخمر بالماء الزلال
ثم أضحوا لعب الدهر بهم
وكذاك الدهر حالا بعد حال
فارعوى وتنصر.
وقد وقع بينه وبين كسرى أبرويز، فقتله كسرى، فثارت حرب ذي قار بين الفرس والعرب؛ وذلك أن كسرى ولى إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة، وأمره أن يأتيه بودائع النعمان المقتول، وكانت عند هانئ بن مسعود الشيباني، فأبى بنو شيبان، وثارت معهم قبائل بكر وبعض القبائل، وكانت وقائع انتهت بهزيمة الفرس.
وهي الحرب التي أشاد بها شعراء العرب عصورا طويلة. قال أبو تمام في مدح بني مزيد من شيبان:
أولاك بنو الأفضال لولا فعالهم
هلكن فلم يوجد لمكرمة عقب
لهم يوم ذي قار مضى وهو مفرد
وحيد من الأيام ليس له عقب
به علمت صهب الأعاجم أنه
به أعربت عن ذات أنفسها العرب
وقال:
إذا افتخرت يوما تميم بقوسها
وزادت على ما وطدت من مناقب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم
عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
وبعد إياس ولي الحيرة ولاة من الفرس، ثم ملك المنذر بن النعمان، وهو الملقب بالمغرور، وقتل في حروب الردة بالبحرين؛ ثم كان الفتح الإسلامي.
الغساسنة:
ينسبون إلى الأزد من قبائل اليمن، ويقال إنهم فارقوا ديارهم بعد سيل العرم، وانتهى بهم السير إلى ماء اسمه غسان بالشام، فنسبوا إليه. والروايات مختلفة في تاريخهم، فحمزة الأصفهاني وأبو الفداء يذكران واحدا وثلاثين أميرا، والمسعودي وابن قتيبة لا يذكران إلا عشرة، وكذلك يختلف الرواة في سني الملوك ونسقهم.
ويروى عن تأمرهم بالشام أنهم نزلوا هناك مجاورين الضجاعمة، وهم من ولد سليح بن عمرو بن حلوان من قضاعة، ورئيس غسان يومئذ ثعلبة بن عمرو، فطالبهم الضجاعمة بالإتاوة، فأبوا، ثم أدوها كارهين.
ثم أديل لهم من بعد، فغلبوا الضجاعمة، وتفردوا بالسلطان، واحتاج الروم إلى معونتهم فيما بينهم وبين الفرس من حروب، فحالفوهم على أن يمدهم الروم بأربعين ألفا إذا دهمهم العرب، وأن يمدوا هم الروم بعشرين ألفا إذا حاربهم الفرس.
فهذا كان مبدأ إمارتهم وثبات سلطانهم، فمتى كان ذلك؟ في رواية حمزة الأصفهاني وغيره أن الغساسنة حكموا زهاء 600 سنة، وهذا يقتضي أن تكون إمارتهم بدأت في القرن الأول الميلادي، وهو غلط بين، ويظهر من تاريخهم ومما يرويه مؤرخو الروم، أن إمارتهم بدأت في أواخر القرن الخامس الميلادي.
ولم يكن للغساسنة مدينة يتخذونها دارا للملك، بل كانوا يتنقلون من البلقاء إلى جهات دمشق وتدمر، وكانت أكثر إقامتهم في الجولان جنوبي دمشق، وكان سلطانهم يمتد على حوران والبلقاء ونواح من فلسطين ولبنان، والشعراء يذكرون في مدحهم الجولان والجابية في فلسطين، وجلق قرب دمشق، ومواضع أخرى. فلينظر شعر حسان والنابغة الذبياني.
ومن شعر النابغة فيهم القصيدة التي مطلعها:
كليني لهم يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
يقول فيها:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم
من الناس والأحلام غير عوازب
على عارفات للطعان عوابس
بهن كلوم بين دام وجالب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا
إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
حبوت بها غسان إذ كنت لاحقا
بقوم وإذ أعيت علي مذاهبي
وأول من عظم أمره منهم الحارث بن جبلة الملقب بالأعرج، والمعروف بابن أبي شمر (529-569) وهو الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، وجفنة الجد الذي تنسب إليه الأسرة.
ويعرف من أخبار الحارث هذا أن جستنيان قيصر الروم ملكه سنة 529م؛ ليحارب المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة، وجعله رئيس كل القبائل التي بالشام، ولقبه بأعظم الألقاب في الدولة الرومية بعد لقب الملك، وكان بينه وبين المنذر عدة وقائع، وأسر المنذر أحد أبناء الحارث وقربه إلى العزى سنة 544م، ثم انتصر الحارث على المنذر في قنسرين وقتل المنذر في الموقعة، وهو اليوم الذي يعرف في الروايات العربية باسم يوم حليمة. وذهب الحارث إلى القسطنطينية سنة 563م ليتفق مع الروم على من يخلفه في الإمارة، فراع أهل المدينة منظره، حتى إن الإمبراطور جستينوس حينما كبر وخرف كان يخوف بالحارث. ومات الحارث حوالي سنة 570م، فخلفه ابنه المنذر بن الحارث.
فسار سيرة أبيه في معونة الروم ومحاربة أمراء الحيرة، وقد هزم أمير الحيرة قابوس بن المنذر سنة 570 في موقعة يحتمل أنها المعروفة باسم يوم عين أباغ، ثم لم يمده الروم بالمال، وكانت بينه وبين الروم ريبة، فعصى ثلاث سنين، ثم احتاج الروم إلى مصالحته حينما أغار الفرس والعرب على سورية، فأرسل قيصر رسولا، فحالفه على قبر سرجيوس بالرصافة، ثم دعاه الإمبراطور جستنيان بعد سنين إلى القسطنطينية، ونفاه إلى صقلية.
وبعد موت جستنيان سار المنذر هو واثنان من أبنائه إلى القسطنطينية، فاحتفى به الإمبراطور، وأعطاه الإكليل بدل التاج، ثم رجع فأغار على الحيرة وحرقها، ولكن الروم ارتابوا في أمره كما ارتابوا في أبيه من قبل، فلما بنيت كنيسة في حوارين، بين دمشق وتدمر، دعي المنذر ليشهد الاحتفال، ثم أخذ غدرا إلى القسطنطينية سنة 586م، وقطعت الوظائف التي كانت تعطى للغساسنة، فثار بنو المنذر الأربعة يقودهم النعمان أكبرهم، وأغاروا على أرض الدولة الرومية، ونهبوا وخربوا، فكانت حروب أسر فيها النعمان، وأرسل إلى القسطنطينية كذلك، فعمت الفوضى بادية الشام، واتخذت القبائل رؤساء من أنفسها، وانحاز بعضها إلى الفرس.
ولا تعرف أخبار الغساسنة بعد هذا، ولكن يظهر أن سلطانهم ضعف حينما استولى الفرس على الشام سنة 614م في عهد كسرى أبرويز، ولكنا نجد ذكرهم في وقعة اليرموك وفتوح الشام وفي شعر حسان، فقد بقيت لهم إمارة إلى الفتح الإسلامي، ولعل هرقل أعادهم إلى الإمرة حينما أخرج الفرس من الشام سنة 629.
وآخرهم جبلة بن الأيهم الذي يقال إنه أسلم ثم تنصر في عهد عمر ولحق بالروم. وكان الغساسنة أطوع لحضارة الروم ودينهم من المناذرة لحضارة الفرس، وقد تنصروا وتحمسوا في النصرانية، وقد أراد المنذر حينما ذهب إلى القسطنطينية أن يدعو أبناء مذهبه إلى مجمع ليزيل ما بينهم من خلاف. وكان لهم أثر في الأدب العربي ومدحهم النابغة وحسان، ولكنه دون أثر أمراء الحيرة فيهم؛ لأن أمراء الحيرة كانوا أقرب إلى بداوة العرب ودينهم، ويتبين من شعر حسان بعض أبهتهم وترفهم. هذا والروايات العربية متناقضة في تاريخ أمراء الغساسنة وبيان ملوكهم، كما تقدم، وأقصر الروايات وأجدرها بالثقة ما رواه ابن قتيبة.
وكان للعرب إمارات أخرى، كإمارة تدمر في بادية الشام التي بلغت أوجها في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، وكإمارة النبط في بطرة التي ترعرعت قبل الميلاد. (2-2) القسم الوسط
وأما القسم الوسط من الجزيرة فيشمل الحجاز ونجدا وما يتصل بهما شرقا.
الحجاز
مولد الإسلام، ومبعث النور، ومصدر الهدى، تتجه إليه القلوب والأوجه كل حين، ويملأ كل قلب إليه حنين.
مدرج الإسلام ومرباه، تقتفى هنالك خطاه، في كل مكان أثر مشهور، وفي كل بقعة قول مأثور، كأن أحجاره ورماله وسهوله وجباله، ألواح فيها سيرة الرسول وأقواله، ومشاهده وأفعاله.
وفيه صدى القرآن، وآيات الوحي والفرقان، هناك منازل القرآن ومدارس سوره، ومهبط بشائره ونذره.
وفي الحجاز كتبت بسملة التاريخ الإسلامي وفاتحته، وعنوان الحضارة العربية وطغراؤها، وما تزال الذكر المجيدة توحى من الحجاز، وما تزال السير المجيدة تذكر به.
وفي الحجاز نشئت الجماعة الأولى على هدي القرآن وآدابه، ورشحت لتسيطر على العالم بأحكامه، وربي خلفاء العالم وولاته وقواده وقضاته؛ ليحكموا بعدل الله بين خلقه، ويقسموا رزق الله بين عياله.
وما يزال الحجاز ولن يزال، قطبا تتجه إليه القلوب والوجوه اتجاه المغناطيس إلى قطبه ، وموردا تهفو إليه الأفئدة كما تهفو الطير إلى المناهل، استجابة للدعوة:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون .
وفي الحجاز ذكرى الأخلاق العربية، والشمائل الحجازية، وقصص الشعر، أقوالا وأفعالا، وقصائد ووقائع يدوي بها الشمال، حيث بنو عذرة وجيرانهم، إلى الجنوب حيث هذيل وأوطانهم.
وفتوة العرب في المواسم، وأمثالهم في المكارم، ترددها مجامع الحجيج منذ الجاهلية في مكة ومنى وعرفات، وتصدى بها محافل الأسواق في عكاظ ومجنة وذي المجاز.
أسفار من التاريخ للدنيا وللدين، وصفحات من السير والعبر للمعتبرين.
يقول جغرافيو العرب: إن الحجاز هو الجبال الحاجزة بين الأرض العالية نجد، وبين الساحل الواطئ تهامة؛ فهو إذا الجبال الممتدة بين نجد وتهامة من خليج العقبة إلى عسير، ولكن اسم الحجاز في العرف يشمل تهامة أيضا. وقد قدمنا تقسيم بلاد العرب كما رواه ياقوت.
وطول الحجاز من الشمال إلى الجنوب سبعمائة ميل، وعرضه مائتان وسبعون ميلا.
وجبال تهامة تقسم هذا الإقليم قسمين: ساحل ضيق هو تهامة، وهضب أوسع يمتد شرقا إلى نجد وهو الحجاز.
وتمتد شرقي الحجاز سلسلة من أرض بركانية ذات حجارة سود نخرة، كأنها أحرقت بالنار، وأكثرها بين المدينة والشام، ومنها حرة سليم إلى الجنوب الشرقي من المدينة، وحرتا المدينة: الحرة الشرقية والحرة الغربية، وحرة خيبر.
وفي حرة بني سليم يقول النابغة في قصيدته التي مطلعها:
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار
ماذا تحيون من نؤي وأحجار؟
فموضع البيت من صماء مظلمة
بعيدة القمر لا يجري بها الجاري
تدافع الناس عنا يوم نركبها
من المظالم تدعى أم صبار
ومن جبال الحجاز: جبل كرا في الطريق بين مكة والطائف يبلغ علوه مائتي متر، وجبال الطائف وتبلغ علوها ستمائة متر، وجبل رضوى بين المدينة وينبع، ويرتفع إلى مائتي متر أيضا، قال ياقوت في معجمه:
وقال أبو زيد: وقرب ينبع جبل رضوى، وهو جبل منيف ذو شعاب وأودية، ورأيته من ينبع أخضر، وأخبرني من طاف في شعابه أن به مياها كثيرة وأشجارا.
وكان الكيسانية من الشيعة يزعمون أن محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحنفية حي مقيم في رضوى، وأنه سيهبط يوما ليملأ العالم عدلا، وفي هذا يقول كثير:
ألا قل للوصي فدتك نفسي
أطلت بذلك الجبل المقاما
إلى أن يقول:
وما ذاق ابن خولة طعم موت
ولا وارت له أرض عظاما
لقد أوفى بمورق شعب رضوى
تراجعه الملائكة الكلاما
وإن له به لمقيل صدق
وأندية تحدثه كراما
ويقول في أبيات، وتروى عن السيد الحميري أيضا:
وسبط لا تراه العين حتى
يقود الخيل يقدمها اللواء
تغيب لا يرى فيهم زمانا
برضوى عنده عسل وماء
وقد ضربت العرب رضوى مثلا للعزة والرسوخ؛ قال حسان:
لنا حاضر فعم وماض كأنه
شماريخ رضوى عزة وتكرما
وقال المعري:
وقد نطحت بالجيش رضوى فلم تبل
ولزت برايات الخميس قباء
وساحل الحجاز كثير الجزائر والصخور والضحاضح، فالمرافئ فيه قليلة والملاحة شاقة، وأعظم المرافئ جدة مرفأ مكة، وينبع مرفأ المدينة، ومن مرافئه الوجه والجار، وكان الجار مرفأ المدينة قبل ينبع.
وفي الحجاز أودية تسيل من الحرار صوب الشرق والغرب، إلى نجد وتهامة فبحر القلزم.
وأعظم أودية الحجاز وادي إضم الذي يسيل من حرة خيبر جنوبها الشرقي، ويسير نحو الجنوب الغربي حتى يقارب المدينة ثم يدور صوب الشمال والغرب، ثم يستقيم مغربا حتى ينصب في بحر القلزم.
وهو لا يجري إلا غب مطر كثير، ويظن أنه كان نهرا كبيرا في العصور الخالية.
ويسمى اليوم وادي الحمض، وينصب فيه واديان: وادي خيبر، ووادي المدينة.
وقال سلامة بن جندل:
يا دار أسماء بالعلياء من إضم
بين الدكادك من قو فمعصوب
كانت لها مرة دارا فغيرها
مر الرياح بسافي الترب مجلوب
وقال البوصيري في البردة:
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة
وأومض البرق في الظلماء من إضم
ومن أودية الحجاز وادي الصفراء، قال ياقوت: وهو واد كثير النخل والزرع والخير في طريق الحاج، وسلكه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
غير مرة، وبينه وبين بدر مرحلة.
وروى ياقوت أيضا أن الصفراء قرية كثيرة النخل والمزارع، وماؤها عيون كلها، وهي فوق ينبع مما يلي المدينة، وماؤها يجري إلى ينبع.
وفي الحجاز واحات متفرقة، منها: الحائط، والحويط، وفدك، وخيبر، ووادي فاطمة (مر الظهران)، والصفراء، والطائف.
والقسم الشمالي من الحجاز وهو ما يلي أيلة إلى الجنوب، يسمى حسمى، واختلف الجغرافيون في أنها من الحجاز أو بادية الشام، وقد ذكرها كثير في قوله:
سيأتي أمير المؤمنين ودونه
جماهير حسمى غورها وحزونها
تجاوب أصدائي بكل قصيدة
من الشعر مهداة إلى من يزينها
وقال أبو الطيب المتنبي في القصيدة التي وصف بها خروجه من مصر إلى العراق:
وهبت بحسمى هبوب الدبو
ر مستقبلات مهب الصبا
وقال في أخبار هذه الرحلة:
وحسمى هذه تؤدي أثر النحلة من لينها، وتنبت سائر النبات، مملوءة جبالا في كبد السماء متناوحة ملس الجوانب، إذا أراد الناظر النظر إلى قلة أحدها فتل عنقه حتى يراها، بشدة، ومنها ما لا يقدر أحد أن يصعده، ولا يكاد القتام يفارقها، وذلك معنى قول النابغة:
وأصبح عاقلا بجبال حسمى
دقاق الترب محتزم القتام
وقد اختلف الناس في تفسير هذا البيت ولم يعلموا ما أراد.
تكون «حسمى» مسيرة ثلاثة أيام في يومين، يعرفها من رآها من حيث رآها؛ لأنها لا مثيل لها في الدنيا.
ومن جبالها جبل يعرف بأرم عظيم العلو، تزعم البادية أن فيه كروما وصنوبرا.
مدن الحجاز وقراه:
مكة:
لست في حاجة إلى الكلام على أم القرى، وصفها وتاريخها ومكانتها في الإسلام وفي الجاهلية، فهذا لا يحتاج إلى بيان ولا تتسع لبيانه هذه الفصول الضيقة، ولكن أذكر طرفا من وصفها الطبيعي:
هي في واد ضيق يتجه من الشمال إلى الجنوب، تحيط به جبال شاهقة. وهي عند درجة 21 من درجات العرض الشمالي، ودرجة 37 من درجات الطول الشرقي، وعلى 100 كيل من البحر، وليس فيها إلا ماء زمزم.
وقال ياقوت، ومثله في كتاب الهمداني:
وأما صفتها فهي مدينة في واد، والجبال مشرفة عليها من جميع النواحي، محيطة حول الكعبة، حارة في الصيف إلا أن ليلها طيب.
وكل ما نزل عن المسجد الحرام يسمونه المسفلة، وما ارتفع عنه يسمونه المعلاة، وعرضها سعة الوادي، والمسجد في ثلثي البلد إلى المسفلة، والكعبة في وسط المسجد، وليس بمكة ماء جار، ومياهها من السماء، وليس لهم آبار يشربون منها، وأطيبها بئر زمزم، ولا يمكن الإدمان على شربها، وليس بجميع مكة شجر مثمر إلا شجر البادية، فإذا جزت الحرم، فهناك عيون وآبار وحوائط كثيرة، وأودية ذات خضر ومزارع ونخيل، وأما الحرم فليس به شجر مثمر إلا نخيل يسيرة متفرقة.
وسكان مكة اليوم زهاء مائة ألف.
المدينة:
المدينة المنورة التي آوت الدعوة الإسلامية ناشئة، وربت أولى الجماعات على هدي الإسلام وفضائله، واتخذها الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - دار هجرته، وأقام به حتى لحق بالرفيق الأعلى، وبها مزاره الكريم، إليه تهوي أفئدة المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، ومنه يقتبسون كل ذكرى عظيمة، ويذكرون كل سنة كريمة. هذه المدينة لا تحتاج إلى التعريف في هذا القول المجمل.
فإنما أذكر كلمة تعرف بعض التعريف بمكانها وطبيعتها: هي على الخط الخامس والعشرين من العرض الشمالي، والخط الأربعين من الطول الشرقي، وعلى ثلاثمائة ميل من مكة، ومائة وثلاثين ميلا من ينبع.
وهي في سهل ينحدر الهوينى نحو الشمال، يحده من جهة الشمال جبل أحد، ومن الجنوب الشرقي جبل عير، وهو على أربعة أكيال منها، ويحده في الشرق والغرب الحرتان الشرقية والغربية، والشرقية أبعد عن المدينة، بينهما سهل فسيح خصب، وتسمى حرة واقم، وعندها كانت وقعة الحرة المعروفة في عهد يزيد بن معاوية سنة 63ه؛ وقال عبد الله بن قيس الرقيات:
تذكرني قتلى بحرة واقم
أصبن وأرحاما قطعن شوابكا
ويمتد سهل المدينة شطر الجنوب على مدى البصر.
والحرة تسمى اللابة أيضا؛ ومن أجل هذا يقال: ما بين اللابتين، أو ما بين لابتيها، أي: المدينة كلها. وقد جاء في الحديث: «والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي يا رسول الله»، وأن رسول الله حرم ما بين لابتيها، أي: جعل المدينة حرما.
وشمالي المدينة جبل صغير يسمى سلعا، وعلى ثلاثة أميال منهما شطر الشمال جبل أحد، وعنده كانت الوقعة المعروفة في العام الثالث من الهجرة، وقد جاء في الأثر: «أحد جبل يحبنا ونحبه، وهو على باب من أبواب الجنة.»
وقد ذكره الشعراء في حنينهم إلى المدينة؛ قال محمد بن عبد الملك الفقعسي وهو في بغداد:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بسلع ولم تغلق علي دروب
وهل أحد باد لنا وكأنه
حصان أمام المقربات جنيب
يخب السراب الضحل بيني وبينه
فيبدو لعيني تارة ويغيب
فإن شفائي نظرة إن نظرتها
إلى أحد والحرتان قريب
وغير الذي تقدم ذكره جبلان أحمران متقاربان، يسمى أحدهما عيرا الوارد، والآخر عيرا الصادر، وروي في حديث أن الرسول حرم ما بين عير إلى أحد.
وفي سهل المدينة أودية كثيرة تسيل من جنوبيه ومن الحرتين صوب الشمال، فتجتمع في مجتمع الأسيال، ثم تسيل في وادي إضم مغربة إلى الساحل.
ولا تجري هذه الأودية إلا غب مطر غزير، ولكنها تمد الأرض بعيون وآبار. وأعظم الأودية في الشرق: قناة، ومهزور، ومذينب. وفي الغرب: بطحان، ورنونا، والعقيق.
والعقيق واد واسع به عيون وزرع وشجر، وفيه قرى وقصور لأغنياء المدينة، وقد ذكره الشعراء كثيرا وحنوا إليه.
قال سعيد بن سليمان في بغداد يتشوق العقيق:
وبعد المصلى والعقيق وأهله
وبعد البلاط حيث يحلو التزاور
إذا أعشبت قرياته وتزينت
عراص بها نبت أنيق وزاهر
وغنى بها الذبان تغزو نباتها
كما واقعت أيدي القيان المزاهر
وقالت أعرابية من العقيق تزوجت في نجد:
إذا الريح من نحو العقيق تنسمت
تجدد لي شوق يضاعف من وجدي
إذا رحلوا بي نحو نجد وأهله
فحسبي من الدنيا رجوعي إلى نجدي
وقد أكثر الشعراء من ذكر العقيق والتشوق إليه والحنين، حتى صار في الشعر من البقاع الشعرية التي يرمز بها إلى ديار الأحباء. ولله البحتري حين يقول:
وقفة بالعقيق نطرح ثقلا
من دموع بوقفة في العقيق
وقال علي بن الجهم:
هذا العقيق فعد أي
دي العيس عن غلوائها
وإذا أطفت ببئر عر
وة فاسقني من مائها
إنا وعيشك ما ذمم
نا العيش في أفنائها
وبئر عروة هذه هي بئر عروة بن الزبير، وفيها يقول السري بن عبد الرحمن الأنصاري:
كفنوني إن مت في درع أروى
واجعلوا لي من بئر عروة مائي
سخنة في الشتاء باردة الصيف
سراج في الليلة الظلماء
وفي العقيق أيضا بئر رومة، ويقول مصعب بن عبد الله الزبيري وهو بالعراق:
أقول لثابت والعين تهمي
دموعا ما أكفكفها انحدارا
أعرني نظرة بقرى دجيل
تحايلها ظلاما أو نهارا
فقال: أرى برومة أو بسلع
منازلنا معطلة قفارا
الطائف:
ومن مدن الحجاز الطائف على جبل غزوان في إقليم جبلي مرتفع، ارتفاعه خمسة آلاف قدم، يمتاز بطبيعته عن أرض الحجاز، وهو أشبه باليمن في هوائه وزروعه وثماره، حتى قيل في الأساطير: إن إبراهيم - عليه السلام - لما دعا الله أن يرزق أهل مكة من الثمرات، نقل إليهم الطائف وكانت قرية بالشام. وهي مصيف الأغنياء من أهل مكة؛ قال محمد بن عبد الله النميري:
تشتو بمكة نعمة
ومصيفها بالطائف
وفي الطائف أودية ومياه جارية، وبها أصناف كثيرة من الفاكهة.
وهي بوادي وج، وقد ذكر في الشعر كثيرا؛ يروى عن عروة بن حزام:
أحقا يا حمامة بطن وج
بهذا النوح أنك تصدقينا
وقال كعب بن مالك الأنصاري:
قضينا من تهامة كل إرب
بخيبر ثم أغمدنا السيوفا
وننتزع العروش عروش وج
وتصبح دوركم منا خلوفا
وكانت الطائف تقرن بمكة في الجاهلية لعظمها، فتسميان القريتين؛ جاء في القرآن الكريم حكاية قول قريش:
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم .
والطائف كانت مسكن ثقيف من قبائل العرب كما يأتي، وكان لهم بها صنم كبير يسمى اللات، جاء ذكره في القرآن:
أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى .
وسكان الطائف اليوم خمسة آلاف نسمة، أكثرهم من ثقيف وعتيبة.
جدة:
ومن مدن الحجاز وقراه: جدة، وهي اليوم مرفأ مكة، وأكبر مرافئ الحجاز، ومنها في الشمال تبوك، وهي على المحجة القديمة بين دمشق والمدينة، ومحطة على سكة حديد الحجاز، وإليها كانت غزوة الرسول في السنة التاسعة من الهجرة، وسكانها اليوم نحو ألف نسمة.
والحجر في وادي القرى على أربع مراحل من تبوك، وكانت بها ديار ثمود، وقد ذكر في القرآن:
كذب أصحاب الحجر المرسلين .
وإلى الشرق من تبوك على حافة الصحراء التي تسمى اليوم صحراء النفود، قرية تيماء، وكانت تسمى تيماء اليهود، قال بعض الأعراب:
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني
بتيماء تيماء اليهود غريب
وكان بها الأبلق الفرد قصر السموءل بن عاديا الشاعر المعروف. وتيماء اليوم قرية صغيرة في دارة تيماء إلى الجنوب الغربي من صحراء النفود.
وعلى الواحة حائط من الطين، وبها أبراج من اللبن لدفع الغزاة، وفيها عين كبيرة واسعة جدا، وفيها نخل وزرع من القمح والشعير والذرة.
وسكانها نحو ألفين وخمسمائة إنسان.
وأما خيبر التي كان بها زروع ونخيل وحصون، فهي اليوم ضيقة العمران، وكانت من منازل اليهود في جزيرة العرب قبل الإسلام.
وسكانها اليوم ثلاثة آلاف أكثرهم مولدون، والعرب ينفرون من الإقامة بها خوفا من الحمى، وهي واحة فيها قرى قليلة على ستين ميلا شمالي المدينة، وهناك أودية وعيون كثيرة.
نجد
أقول لصاحبي والعيس تهوي
بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجد
وريا روضه بعد القطار
وأهلك إذ يحل الحي نجدا
وأنت على زمانك غير زاري
ليال ينقضين وما شعرنا
بأنصاف لهن ولا سرار
نجد الفيحاء الخضراء، ذات الأودية والمروج، والقرى والحدائق، وذات الجبال والسهول، والمدر والوبر، متقلب القبائل الكبيرة، ومسرح الجياد العربية الأصيلة.
نجد ملعب الصبا والنعامى،
5
ومنبت العرار والخزامى، ومرتع الشعراء، تجاوبت أرجاؤها بأشعارهم، وروت غدرانها ورياضها أخبارهم، بلاد امرئ القيس، وطرفة، والحارث بن حلزة، وأوس بن حجر، وزهير، وعنترة، ومنشأ جرير والفرزدق، التي حفظ الشعر العربي ذكراها، وردد خارج الجزيرة صداها، وحن إلى صباها.
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
لقد زادني مسراك وجدا على وجد
نجد التي أثارت الهوى والفتون، ونشأت ليلى والمجنون.
نجد حيث الجبال أجأ وسلمى وأبانان ، وحيث سهل القصيم والصمان، وحيث اليمامة ذات النخيل والزروع، والأودية والعيون.
مسارح الجلال والجمال، ومشاهد البداوة والحضارة، مجالي النشاط والقوة، والمروءة والفتوة. •••
نجد أوسع أقاليم الجزيرة، يمتد بين صحراء النفود في الشمال، إلى الصحراء الكبرى أو الربع الخالي في الجنوب، وما بين الحجاز والأحساء غربا وشرقا. وطول نجد من الشمال إلى الجنوب زهاء ثمانمائة ميل، وعرضها من الشرق إلى الغرب زهاء مائتين وعشرين، وارتفاعه بين خمسة آلاف قدم في الغرب وألفين وخمسمائة في الشرق، ومعظمه سهل رملي في جهات، بركاني في جهات أخرى.
وفي شمال نجد أرض شمر يفصل بينها وبين النفود جبال شمر، وهي جبال طيئ المعروفة في تاريخ العرب، وهناك جبل أجأ وسلمى، وهما الجبلان اللذان اعتصمت بهما طيئ منذ العصور القديمة، واعتزت بهما وافتخرت، وردد ذكرهما الشعر.
قال عارق الطائي:
من مبلغ عمرو بن هند رسالة
إذا استحقبتهما العيس تنضى من البعد
أيوعدني والرمل بيني وبينه
تأمل رويدا ما أمامة من هند
ومن أجأ حولي رعان كأنها
قنابل خيل من كميت ومن ورد
وقال زيد بن مهلهل الطائي:
جلبنا الخيل من أجأ وسلمى
تخب نزائعا خبب الركاب
جلبنا كل طرف أعوجي
وسلهبة كخافية الغراب
وقال لبيد يصف كتيبة النعمان:
كأركان سلمى إذ بدت أو كأنها
هضاب أجأ إذ لاح فيه مواسل
6
ومما يروى من الأساطير، أن رجلا من العماليق يقال له أجأ، هوى امرأة من قومه يقال لها سلمى، وكان لها حاضنة اسمها العوجاء، فأتمر إخوة سلمى بهما، وهم الغميم والمضل وفدك وفائد والحدثان، وانحاز إليهم زوج سلمى، فهربت سلمى وأجأ والعوجاء، فأدركوا سلمى فقتلوها على الجبل الذي سمي باسمها، وأدركوا أجأ فقتلوه على الجبل الذي سمي أجأ، وأدركوا العوجاء فقتلوها على هضبة بين الجبلين، فسميت العوجاء، أنف هؤلاء القوم أن يرجعوا إلى قومهم، فتفرقوا في البلاد وسار كل واحد إلى مكان سمي باسمه؛ فهذه الأسماء: الغميم والمضل ... إلخ أسماء هؤلاء الرجال.
7
ومن الأساطير التي تدل على شهرة جبلي طيئ بالخصب بين العرب أن طيئا - أبا القبيلة - نزح من اليمن بعد سيل العرم مع عمومته، ثم فارقهم وسار إلى الحجاز وأوغل فيه، وكان له بعير يشرد في كل سنة عن إبله ويغيب ثلاثة أشهر، ثم يعود إليه وقد عبل وسمن، وآثار الخضرة بادية في شدقيه، فقال لابنه عمرو: تفقد يا بني هذا البعير، فإذا شرد فاتبع أثره حتى تنظر إلى أين ينتهي.
فلما كانت أيام الربيع وشرد البعير، تبعه على ناقة له، فلم يزل يقفو أثره حتى صار إلى جبل طيئ فأقام هناك.
ونظر عمرو إلى بلاد واسعة، كثيرة المياه والشجر والنخيل والريف، فرجع إلى أبيه وأخبره بذلك، فسار طيئ بإبله وولده حتى نزل الجبلين، فرآهما أرضا لها شأن.
ورأى فيها شيخا عظيما مديد القامة على خلق العاديين، يقال له أجأ، ومعه امرأة على خلقه يقال لها سلمى وهي امرأته، وقد اقتسما الجبلين بينهما نصفين، فأجأ في أحد النصفين وسلمى في الآخر، فسألهما طيئ عن أمرهما، فقال الشيخ: نحن من بقايا صحار، غنينا بهذين الجبلين عصرا بعد عصر، أفنانا كر الليل والنهار. فقال له طيئ: هل لك في مشاركتي إياك في هذا المكان، فأكون لك مؤانسا وخلا؟
فقال الشيخ: إن لي في ذلك رأيا، فأقم فإن المكان واسع، والشجر يانع، والماء ظاهر، والكلأ غامر. فأقام معه طيئ بإبله وولده بالجبلين، فلم يلبث الشيخ والعجوز إلا قليلا حتى هلكا، وخلص المكان لطيئ، فولده به إلى هذه الغاية. وقالوا: وسألت العجوز طيئا ممن هو؟ فقال:
إنا من القوم اليمانينا
إن كنت عن ذلك تسألينا
وقد ضربنا في البلاد حينا
ثمت أقبلنا مهاجرينا
إذ سامنا الضيم بنو أبينا
وقد وقعنا اليوم فيما شينا
ريفا وماء واسعا معينا
ولهذه الأسطورة روايات أخرى ممتعة، وليس بعيدا أن تكون بقية مشوبة بالخرافة من أخبار احتلال طيئ الجبلين، وغلبة أهلهما عليهما.
وارتفاع أجأ يبلغ خمسة آلاف وخمسمائة قدم، وساحته نحو مائة ميل في عشرين، وسلمى يساميه علوا ولكنه أصغر منه.
وفي حضيض جبل أجأ مدينة حائل.
ويحيط بمعظمها جدار من الطين عال عليه أبراج ، وداخل السور بقاع مزروعة قمحا وبها أشجار التين، وسكان حائل خمسة آلاف، وشرقي حائل بساتين ومزارع مسورة، وهناك النخل والتفاح والنارنج والبرتقال والبرقوق وغيرها.
وعلى خمسة وأربعين ميلا إلى الجنوب والشرق من حائل، على سفح جبل سلمى فيد، وحولها بساتين ومزارع كثيرة، وسكانها نحو ألف وخمسمائة من تميم وشمر، وفيد مذكورة معروفة في طريق حاج العراق، وقد ذكرها الحريري في المقامة الكوفية، وقال ياقوت:
وفيد بليدة في نصف طريق مكة من الكوفة عامرة إلى الآن (القرن السابع)، يودع الحاج فيها أزوادهم وما يثقل من أمتعتهم عند أهلها، فإذا رجعوا أخذوا أزوادهم، ووهبوا لمن أودعوها شيئا من ذلك، وهم معونة للحاج في مثل ذلك الموضع المنقطع، ومعيشة أهلها من ادخار العلوفة طول العام إلى أن يقدم الحجاج فيبيعونه عليهم.
وفي هذا الإقليم قرى أخرى صغيرة.
والظاهر أن شمر اليوم هي طيئ العصور الغابرة. وقد رحل كثير من بطون شمر إلى العراق منذ أكثر من مائة سنة، وهم اليوم أكبر قبائل العراق. وقد سألت شيخ مشايخ شمر الشيخ عجيلا الياور - رحمه الله - ونحن ضيوفه في مضارب شمر في الجزيرة الفراتية غربي تلعفر في صيف سنة 1354ه (1936م) سألته: هل شمر هي طيئ القديمة؟ فقال: لا أدري، ولكن في شمال العراق اليوم قبيلة طيئ باسمها القديم، وبين شمر وبينهم أخوة ومودة، ولا يبعد أن يكون بيننا وبينهم قربى.
والقسم الشرقي من نجد يسمى الوشوم، وقد عده ياقوت من اليمامة، وفيه جبال كثيرة، وفيه من القرى ثرمداء والشقراء، وثرمداء تنتهي إليها أودية في الوشوم، وقال جرير:
انظر خليلي بأعلى ثرمداء ضحى
والعيس جائلة أغراضها جنف
وقال حميد بن ثور الهلالي:
ما بال بردك لم يمسس حواشيه
من ثرمداء ولا صنعاء تحبير
وهذا يدل على أن ثرمداء كانت معروفة بنسج البرود.
وسهل نجد الفسيح الذي يمتد بين الوشوم في الشرق، وحرة خيبر في الغرب، وجبال شمر في الشمال، يسمى القصيم، والقصيم في اللغة الرمل الذي ينبت الغضى.
قال زيد الخيل الطائي:
ونحن الجالبون سباء عبس
إلى الجبلين من أرض القصيم
وروى ياقوت أن القصيم بلد قريب من النباج، فيه أودية، وفيه شجر الفاكهة من التين والخوخ والعنب والرمان.
وهذه الأسماء أسماء البلدان والأرض لا تبقى محدودة المسمى، فقد يسمى الإقليم بقرية فيه، أو تسمى القرية باسم الإقليم، أو تتغير الحدود بتوالي العصور.
وفي غربي القصيم جبلا أبان: الأسود والأحمر (وكان يسمى الأبيض)، وبينهما ثلاثة أميال، وفي أبان يقول امرؤ القيس في معلقته:
كأن أبانا في أفانين وبله
كبير أناس في بجاد مزمل
وقال أعرابي قد حبس في اليمامة يحن إلى أبان:
أقول لبوابي والسجن مغلق
وقد لاح برق: ما الذي تريان؟
فقالا: نرى برقا يلوح وما الذي
يشوقك من برق يلوح يمان
فقلت: افتحا لي الباب أنظر ساعة
لعلي أرى البرق الذي تريان
فقالا: أمرنا بالوثاق وما لنا
بمعصية السلطان فيك يدان
فلا تحسبا سجن اليمامة دائما
كما لم يدم عيش لنا بأبان
وقد ذكر أبانان معا في الشعر في مثل قول بشر بن أبي خازم:
ألا بان الخليط ولم يزاروا
وقلبك في الظعائن مستعار
أسائل صاحبي ولقد أراني
بصيرا بالظعائن حيث صاروا
يؤم بها الحداة مياه نخل
وفيها عن أبانين ازورار
ومن قرى القصيم عنيزة وبريدة، وهي على مقربة منها نحو الشرق والشمال، وهاتان القريتان أكبر القرى التجارية في قلب الجزيرة، وفي القصيم غير هاتين نحو خمسين بلدة كبيرة وصغيرة، وسكان بريدة ثلاثون ألفا أكثرهم من بني تميم؛ وسكان عنيزة عشرون ألفا. •••
وفي نجد أودية كثيرة، أعظمها وادي الرمة، وهو يسيل من حرة خيبر في الغرب، فيتوسط القصيم مارا بين أبانين، ويخترق نجدا كلها حتى يقارب البصرة، ويسمى أسماء مختلفة في البقاع التي يمر بها.
نقل ياقوت عن الهيثم بن عدي:
الوادي الذي في بلاد بني تميم ببادية البصرة في أرض بني سعد يسمونه الدهناء، يمر في بلاد بني أسد فيسمونه منعجا، ثم في غطفان فيسمونه الرمة، ثم في بلاد طيئ فيسمونه حائلا .
ونحن لا نقبل هذا القول الذي يجعل كل هذه الأودية واديا واحدا، ولكن لا يبعد أن تصل السيول بعض هذه الأودية ببعض؛ ومهما يكن فلا شك أن مياها متقاربة تسيل من غربي نجد، ميممة الشمال الشرقي حتى تقارب البصرة، ولا شك أن هذا المجرى الطويل تدفع فيه أودية أخرى.
وقد عد وادي الجريب أعظم الأودية التي تمد الرمة، وقيل عن الرمة:
كل بني يسقين
حسية فيهنين
إلا الجريب يروين
كل بني فإنه يحسيني
إلا الجريب إنه يرويني
ويشبه أن يكون وادي الرمة نهرا قديما؛ ولكنه على طوله وسعته التي تكون في بعض البقاع مسيرة يوم، وعلى كثرة ما يدفع إليه من الأودية، لا يجري ماؤه إلا قليلا، وهو يغيض في الرمال. وينبجس في أرجاء كثيرة ينابيع تنشأ حولها الأشجار والزروع والقرى.
ومن أودية نجد وادي حنيفة في الجنوب الشرقي منها، وتمتد حفافيه جنات النخيل وعليه مدينة الرياض.
ووادي الدواسر، وهو يسيل من جبال اليمن صوب الشمال والشرق حتى يدخل نجدا، وكان يسمى فلجا أو الأفلاج، وقد ذكر بهذا الاسم كثيرا في الشعر.
وعلى الوادي واحات كثيرة تنبت الزرع والنخل وأشجار الفاكهة، وفيها قرى صغيرة متفرقة.
ومما قال الشعراء في هذه الأودية قول جرير:
لعمرك لا أنسى ليالي منعج
ولا عاقلا إذ منزل الحي عاقل
وعاقل واد آخر يحاذي منعجا.
وقال بعض الأعراب:
أحب بلاد الله ما بين منعج
إلي وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها حل الشباب تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
وقال المهدي بن الملوح:
إذا الريح من نحو الجريب تنسمت
وجدت لرياها على كبدي بردا
على كبد قد كاد يبدي بها الجوى
ندوبا وبعض القوم يحسبني جلدا
ودخل أعرابي الحضر فاشتاق إلى بلاده، فقال:
لعمري لنور الأقحوان بحائل
ونور الخزامى في ألاء وعرفج
أحب إلينا يا حميد بن مالك
من الورد والخيرى ودهن البنفسج
وأكل يرابيع وضب وأرنب
أحب إلينا من سماني وتدرج
ونص القلاص الصهب تدمى أنوفها
يجبن بنا ما بين قو ومنعج
أحب إلينا من سفين بدجلة
ودرب متى ما يظلم الليل يرتج
ثم القسم الجنوبي الشرقي من نجد يسمى اليمامة، وكانت تسمى جوا والعروض، وكانت قاعدتها مدينة حجر.
وكانت اليمامة معروفة في بلاد العرب بالخصب، كان بها البر والتمر، وقد ضرب المثل بكثرة نخيلها، كما قال أبو العلاء المعري: ووجدت العلم ببغداد أكثر من الجريد باليمامة ... إلخ.
وتسمى اليوم العارض، وهو القسم الأوسط من جبل طويق، وفيه عمران يتسع مائة ميل مربع، ووادي حنيفة وسطه، وفي الجنوب الغربي منه إقليم الخرج، وهو من أخصب بقاع نجد، وقد عنى به الملك عبد العزيز آل سعود، فاستخرج مياهه بآلات عظيمة، ووسع زرعه وغرسه، ويرجى له مستقبل عظيم، وهو يمتد ثمانين ميلا في خمسين، وفيه كثير من العيون الجارية.
وفيه مدينة الرياض حاضرة نجد كلها والمملكة السعودية بعد مكة، وهي في وطأة من الأرض يحيط بها جنات النخيل، ويمتد عمرانها نحو ميلين، وسكانها قرابة خمسة وعشرين ألفا.
وكانت في اليمامة منازل طسم وجديس من قبائل العرب البائدة، ولهما أساطير شائقة، تمثل احتراب القبيلتين، وانتصار تبابعة اليمن لإحداهما، وإجلاء القبيلتين عن اليمامة.
وتتصل بها قصة زرقاء اليمامة التي كانت ترى من مسافة ثلاثة أيام، وقد ضرب بها المثل في الأشعار والأخبار:
سبحان من قسم الحظو
ظ فلا عتاب ولا ملامه
أعمى وأعشى ثم ذو
بصر وزرقاء اليمامه
وقال المتنبي:
وأبصر من زرقاء جو؛ لأنني
متى نظرت عيناي شاءهما علمي
وتسمى اليمامة جوا، والجو في اللغة الوادي الواسع، وفي اليمامة جواء كثيرة ذات زرع ونخيل.
وللعرب أساطير في استيلاء القبائل عليها تشبه خرافة استيلاء طيئ على الجبلين، وطبيعي أن تكون البقاع الخصبة في الجزيرة مطمع القبائل ومثار تنافسهم ومسرح خيالهم.
روي أن بني حنيفة ساروا يرتادون الكلأ حتى قاربوا اليمامة، وأن عبيد بن ثعلبة الحنفي خرج منتجعا بأهله وماله يتتبع مواقع القطر حتى هجم على اليمامة، فنزل على يوم وليلة من حجر، ثم خرج راعي عبيد حتى رأى قصور حجر ونخلها، فرجع إلى سيده فقال: والله إني رأيت آطاما طوالا، وأشجارا حسانا، هذا حملها. وأعطاه من التمر الذي وجده تحت النخل، فلما أكل منه عبيد قال: هذا طعام طيب. ثم أصبح فركب فرسه وأردف غلامه حتى أتى حجرا، فوضع رمحه في الأرض، ثم دفع فرسه واحتجر ثلاثين قصرا وثلاثين حديقة، وسماها حجرا، وكانت تسمى اليمامة، ثم ركز رمحه في وسطها ورجع إلى أهله، فاحتملهم حتى أنزلهم بها.
وفي اليمامة قرية منفوحة، وكان يسكنها الأعشى الشاعر، وكان بها قبره، وقد سألت سعادة الشيخ يوسف في هذا قال: إن بيت الأعشى معروف في منفوحة اليوم.
وفي اليمامة نشأ مسيلمة الحنفي، وكانت بينه وبين جيوش خالد بن الوليد معركة عقرباء التي حطمت جيوش مسيلمة وقتلته. •••
وفي شرقي نجد إلى الشمال صحراء الدهناء.
قال ياقوت:
قال أبو منصور: الدهناء من ديار بني تميم ... وهي سبعة أجبل من الرمل، في عرضها بين كل جبلين شقيقة.
وهي من أكثر بلاد الله كلأ مع قلة أعذاء ومياه، وإذا أخصبت الدهناء ربعت العرب جميعا، لسعتها وكثرة شجرها، وهي عذاة
8
مكرمة نزهة، من سكنها لا يعرف الحمى لطيب تربتها وهوائها.
وهي من أكثر بلاد الله كلأ مع قلة أعذاء ومياه، وإذا أخصبت الدهناء ربعت العرب جميعا، لسعتها وكثرة شجرها، وهي عذاة
9
مكرمة نزهة، من سكنها لا يعرف الحمى لطيب تربتها وهوائها.»
وقال أعرابي حبس بحجر اليمامة:
هل الباب مفروج فأنظر نظرة
بعين قلت حجرا فطال احتمامها
ألا حبذا الدهنا وطيب ترابها
وأرض خلاء يصدح الليل هامها
ونص المهاري بالعشيات والضحى
إلى بقر وحي العيون كلامها
وقالت العيوف بنت مسعود أخي ذي الرمة الشاعر المعروف:
خليلي قوما فارفعا الطرف وانظرا
لصاحب شوق منظرا متراخيا
عسى أن ترى، والله ما شاء فاعل
بأكثبة الدهنا من الحي باديا
وإن حال عرض الرمل والبعد دونهم
فقد يطلب الإنسان ما ليس رائيا
يرى الله أن القلب أضحى ضميره
لما قابل الروحاء والعرج قاليا
والروحاء والعرج موضعان بالحجاز.
وقال الشيخ حافظ وهبة في كتابه «جزيرة العرب»:
وقد اخترقنا الدهناء بضع مرار من الشمال، فقطعناها في ثلاث عشرة ساعة على الإبل، ومن جهة الأحساء فقطعناها في ست ساعات ... وقد قطعت الدهناء في رحلتي الأخيرة إلى نجد في ثلاث ساعات بالسيارة.
وسكان نجد اليوم نحو ألف ألف بين حاضر وباد.
وأكبر قبائل نجد في عصرنا: آل مرة وبنو خالد والعجمان في الشرق، وقحطان في الجنوب والجنوب الغربي، والدواسر في الجنوب الغربي، وسبيع والسهول في الغرب، ومطير وعتيبة في الشمال الغربي.
وشمر في الشمال حيث جبال شمر (جبال طيئ).
وحرب وعنزة في الشمال الشرقي.
وتميم في الوسط وفي الشمال.
وترى أن بعض هذه القبائل حفظت أسماءها القديمة.
الأحساء
يلي نجدا إلى الشرق إقليم رملي عرضه خمسون ميلا، ثم تلال حجرية متوالية، وبين هذه التلال والبحر إقليم الأحساء، وهو ساحل واطئ حار يمتد من البصرة إلى عمان، وقد تغير اسمه على الزمان، فسمي حينا هجر، وحينا البحرين، وهو اليوم يسمى الأحساء، وليس بهذا الساحل مرفأ عميق إلا الكويت.
والبلاد شمالي القطيف بيداء سكانها بداة، وفي القطيف وما يليه نحو الجنوب مياه كثيرة تنكشف عنها الرمال، وهي الأحساء على الحقيقة.
والأحساء جمع حسي، وهو:
الماء الذي تنشفه الأرض من الرمل، فإذا صار إلى صلابة أمسكته»، ونقل ياقوت عن الأزهري: «الحسي الرمل المتراكم أسفله جبل صلد، فإذا مطر الرمل نشف ماء المطر، فإذا انتهى إلى الجبل الذي تحته أمسك الماء، ومنع الرمل حر الشمس أن ينشف الماء، فإذا اشتد الحر نبث وجه الرمل، فنبع باردا عذبا يتبرض تبرضا. وقد رأيت بالبادية أحساء كثيرة على هذه الصفة.
10
والإقليم فيه مياه كثيرة وبقاع خصبة فيها الزروع والثمار.
وسكانها نحو ربع مليون من بادية وحاضرة، والبادية أكثر، وأكبر القبائل اليوم العجمان، وآل مرة، وبنو خالد، والعوازم، والرشايدة. وإلى الشرق من الهفوف تمتد بقعة خصبة اثني عشر ميلا، وهناك بقاع أخرى متفرقة خضراء خضلة ترويها العيون.
ويزرع هناك الأرز وحبوب أخرى كالحنطة والشعير، وأكثر غلاتهم التمر، وأنواعه كثيرة.
ومن الفواكه: الأترج، والليمون، والرمان، والمشمش، والعنب، والتين.
وفي الإقليم الخيل العربية الجياد، وفيه حمر فارهة ، والحمر البيضاء العالية تسمى في مصر الحساوي (الحصاوي)، والظاهر أنها جلبت من الحسا .
وفي الأحساء، إلى الإبل والغنم، بقر جيد، ويطعم البقر أحيانا ضربا من السمك الصغير، كما يطعم بعض الحيوان التمر القديم.
واسم البحرين مقصور اليوم على جزيرة أوال وما يتبعها من الجزائر، لا يشمل هذا الإقليم كله كما شمله في بعض العصور.
وأول هذا الساحل المديد من ناحية عمان يسمى الجو باسم قبيلة هناك، ويليه إلى الشمال شبه جزيرة قطر، والظاهر أنها كانت معروفة بنسج ضرب من الثياب يسمى القطرية، وقد ذكرت في شعر العرب.
وقد نسب إليها جرير إبلا نجائب في قوله:
خليلي لولا أن تظنا بي الهوى
لقلت: سمعنا من سكينة داعيا
قفا واسمعا صوت المنادي فإنه
قريب وما دانيت بالود دانيا
ألا طرقت أسماء لا حين مطرق
أحم عمانيا وأشعث ماضيا
لدي قطريات إذا ما تغولت
بها البيد غاولن الحزوم الفيافيا
وكان في قطر سوق للنجائب.
وأهل قطر صيادو لؤلؤ منذ العصور القديمة.
ويلي قطر إلى الشمال مدينة الحسا، وتسمى اليوم الهفوف، والهفوف قاعدة إقليم الحسا.
وهي ثلاثة أقسام: الكوت والرفعة والنعائل.
والكوت هي قاعدة الولاية، عليها سور رفيع، عليه أبراج من آثار إبراهيم باشا المصري.
وسكان الهفوف زهاء ثلاثين ألفا، وفيهم من غير العرب كالفرس والترك والكرد.
وعلى مقربة من الهفوف شطر الشمال مدينة المبرز في بقعة خصبة، وسكانها نحو عشرة آلاف.
وللهفوف والمبرز مكانة علمية في الإقليم، ولعلمائها وأدبائها حرمة هناك، وفيهما أسر قديمة توارثت العلم والأدب، وحفظت سنتها في التعلم والتعليم.
وعلى مقربة من الهفوف مرفأ عقير، ثم الساحل إلى الشمال من الهفوف يسمى القطيف.
والقطيف واحة طولها ثمانية عشر ميلا، وعرضها ثلاثة أميال، وسكانها ثلاثون ألفا.
والمدينة وسطها، وتمتد على الساحل مسافة طويلة، وسكانها اثنا عشر ألفا.
وكانت القطيف قاعدة الإقليم إقليم البحرين، وأعظم مدنه في القرن السابع الهجري.
وكان بين الخوارج أيام نجدة الخارجي، وبين عبد القيس وقائع هناك، انتصر فيها الخوارج، فقال حمل بن المعني العبدي، من عبد القيس :
نصحت لعبد القيس يوم قطيفها
فما خير نصح قبل لم يتقبل
فقد كان في أهل القطيف فوارس
حماة إذا ما الحرب ألقت بكلكل
وكان هذا الساحل قبل أن يغلب عليه اسم القطيف يسمى الخط، وهو الذي نسبت إليه الرماح الخطية، إذ كانت تصنع هنالك. ونقل ياقوت عن الأزهري: «وهذا السيف كله يسمى الخط، ومن قرى الخط القطيف والعقير وقطر.» ثم قال ياقوت: «قلت أنا: وجميع هذا في سيف البحرين وعمان، وهي مواضع كانت تجلب إليها الرماح القنا من الهند، فتقوم فيها وتباع على العرب.»
ولا شك أن اسم هذا الساحل تغير بغلبة أسماء بعض البلاد عليه كما تقدم.
ومن القطيف إلى الكويت ساحل رملي منخفض.
وعلى خليج الكويت مدينة بهذا الاسم، ويتبعها إقليم فيه اليوم إمارة عربية لآل الصباح، ومساحة الإقليم عشرون ألف ميل، وسكانه سبعة وثلاثون ألفا، معظمهم في مدينة الكويت.
والكويت كالقصير تصغير كوت بمعنى القصر، وكوت في العراق اسم لمدينة، وتسمى كوت الإمارة.
وفي الكويت تروج تجارة اللؤلؤ.
وغربي خليج الكويت كاظمة، وهي أعظم منازل الطريق من البصرة إلى الأحساء فاليمامة، على مرحلتين من البصرة، وبها مياه قريبة يستسقي منها المسافرون، وقد ذكرها الفرزدق كثيرا، وافتخر بقبر جده غالب هناك، وأكثر الشعراء من ذكرها.
قال بعضهم:
يا حبذا البرق من أكناف كاظمة
يسعى على قصرات المرخ والعشر
لله در بيوت كان يعشقها
قلبي ويألفها أن طيبت بصري
فقدتها فقد ظمآن إداوته
والقيظ يحذف وجه الأرض بالشرر
أمنية النفس أن تزدار ثانية
رحالنا والأماني حلوة الثمر
ولا أدري لماذا أكثر الشعراء من ذكرها؛ إلا أن يكون هذا لأنها أول المنازل من العراق في طريق مكة والمدينة.
وأحسبها التي ذكرها البوصيري في البردة إذ قال:
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة
وأومض البرق في الظلماء من إضم
وقال أعرابي من بني يربوع من تميم:
ضمنت لكن أن تهجرن نجدا
وأن تسكن كاظمة البحور
وقال امرؤ القيس:
إذ هن أقساط كرجل الدبى
أو كقطا كاظمة الناهل
وجمعها الفرزدق في قوله :
فيا ليت داري بالمدينة أصبحت
بأعقار فلج أو بسيف الكواظم
إمارة البحرين
كانت البحرين تقال على ساحل الأحساء، وما يتصل به من الجزائر.
وهي اليوم مقصورة على جزائر في الخليج الفارسي، على حذاء ساحل قطر والقطيف، وهي جزيرة البحرين (أوال)، والمحرق، وأم نعسان، وسترة، وجزائر أخرى صغيرة.
وعاصمة البحرين المنامة في جزيرة أوال، وسكانها 25 ألفا، وسكان البحرين كلها نحو مائة وعشرين ألفا.
وأعظم العشائر بها العتوب (بنو عتيبة) والسادة والدواسر، وأمراء الجزيرة آل خليفة.
وأشيع المكاسب في البحرين استخراج اللؤلؤ، فلا يقل المشتغلون به عن عشرين ألفا، يستعملون نحو ألف سفينة.
ويرسل إليها اللؤلؤ المستخرج من السواحل فتروج سوقه هناك، حتى يصدر منه أحيانا ما قيمته مليونان من الجنيهات.
وكثير من أهل البحرين زراع، وأكثر زرعهم وثمارهم البطيخ والتمر والتين والليمون والأترج. (2-3) القسم الجنوبي
اليمن
بلاد العرب السعيدة - كما سماها قدماء الأوروبيين - ذات الحضارة العتيقة، والآثار العادية، وذات المياه والأشجار والزروع.
الإقليم الذي يمتد جنوبي الحجاز إلى بحر العرب ومضيق باب المندب، فيه أقسام طبيعية ثلاثة: (1)
ساحل ضيق قل أن يعدو عرضه عشرين ميلا. (2)
وجبال موازية للساحل تمتد من الطائف إلى أن تكون على خمسين ميلا شمالي عدن، وهي امتداد جبال السراة الضاربة في الجزيرة إلى شمالي الحجاز. (3)
وهضب وراء هذه الجبال جهة المشرق يهبط الهويني صوب الشمال الشرقي، حتى يفضي إلى رمال الدهناء أو سهوب نجد.
تهامة اليمن:
فأما القسم الأول فهو تهامة اليمن، وهو سهل خصب جدا تنحدر إليه أودية من الجبال، فتسقي فيه أرضا خصبة تغل ثلاث غلات في العام، وتكثر فيها الأشجار والزروع، وتعالج هنالك مياه الأودية بالسدود والقنوات فتسقى بها الأرض، لا يذهب منها شيء سدى.
وفي هذا الساحل قرى ومدن، وهو كساحل الحجاز كثير الجزائر والضحاضح، والحديدة أعظم مرافئه منذ بدأ عصر البخار، ومخا وقنفذة من المرافئ الصغيرة. والساحل الجنوبي فيه عدن، وهي المرفأ الطبيعي الملائم فيما بين السويس والهند.
ومن مدن تهامة اليمن: زبيد، وبيت الفقيه.
جبال اليمن:
والقسم الجبلي هو اليمن على الحقيقة، وهو كثير الأمطار، تجلب إليه المطر الرياح الموسمية، وفيه أودية دائمة الجريان ، ولأهله عناية بتصريف المياه والانتفاع بها، لا يدخرون وسعا في زرع سفوح الجبال، يسوونها مستويات متوالية على السفح.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ما كان في اليمن من حضارة وعمران وخصب ورخاء، فقال في سورة سبأ:
لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل .
عسير:
والقسم الشمالي من اليمن المجاور للحجاز يسمى اليوم «عسيرا»، وهي تسمية لم تعرف في القديم.
وقبيلة عسير التي يسمى بها الإقليم هي بجيلة، إحدى قبائل اليمن المعروفة، وكانت تسمى باسمها القديم إلى القرن السابع الهجري على الأقل.
وفيه أودية وزروع وقرى كثيرة، منها بيشة وتربة وهي مدينة مسورة كبيرة، تحيط بها المزارع والنخيل، وفيها مبان كثيرة ومنها أبها، ومرفؤها القنفذة على مائتي ميل جنوبي جدة.
وصبيا، وكانت حاضرة الأدارسة أمراء عسير.
الدول القديمة باليمن:
ليس من غرضي في هذا الكتيب الكلام في التاريخ إلا لمحات يسوق إليها ذكر بلد أو مكان، ولكني أثبت هنا كلمة مجملة في دول اليمن القديمة للدلالة على حضارة اليمن الأولى، وما يرجى لها في مستقبلها إن شاء الله.
اليمن من أقدم مواطن الحضارة السامية، وهي تمتاز في طبيعتها عن سائر الجزيرة، وقد نشأت دولا في الأعصر الخالية، بقيت أخبارها في روايات مختلفة، هي كما يأتي: (1)
المصادر العبرية، تعدد التوراة أسماء قبائل اليمن، ويعرف من أخبار اليهود أن التجارة بينهم وبين سبأ كانت متصلة في القرن العاشر إلى القرن الخامس ق.م. (2)
وكتب اليونان والرومان، وهي تخلط بالحقائق خرافات كثيرة. (3)
والآثار اليمنية، ويرجع أقدمها إلى القرن 18ق.م. (4)
والكتب العربية، وأعظمها كتاب الإكليل للهمداني، وشرح القصيدة الحميرية التي نظمها نشوان بن سعيد الحميري.
وهذه خلاصة موجزة عن هذه الدول.
معين:
أول دول اليمن، دولة معين التي يظن أنها عاشت في الألف الثاني قبل الميلاد، وقد بقيت إلى القرن الثامن ق.م، ولم تذكر في الكتب العربية، ولكن ذكرها بعض مؤرخي اليونان والرومان، ودلت الآبار التي كشفت في اليمن على طرف من تاريخها، وعرف كثير من أسماء ملوكها. ويظن أن سلطانها امتد على الجزيرة إلى خليج فارس والبحر الأبيض المتوسط. وكانت تصدر الطيب والمر إلى الآفاق، وتتلقى تجارة الهند وما جاورها، فترسلها إلى الشام ومصر وما يليهما، وقد ظهرت سبأ ونازعتها السلطان حتى قضت عليها حول القرن الثامن ق.م.
سبأ:
أقدم الآثار المؤرخة التي ذكرت فيها سبأ آثار أشور، حيث يقول الملك سرجون (741-715ق.م) الذي توغل في بلاد العرب محاربا: «قد أخذت الجزية من فرعون ملك مصر، ومن شمسية ملكة بلاد العرب، ومن أتهمارة السبئي ذهبا، وتوابل، ورقيقا، وخيلا، وإبلا.»
وأتهمارة تحريف يتا أمر، وهو اسم كثير من ملوك سبأ.
وقد ازدهرت سبأ بمكانها على طريق التجارة بين الشرق والغرب، فكانت تجارة الهند تنقل في البحر إلى عمان، ثم تحمل في البر إلى البحر الأحمر، حيث تسير في السفن إلى مصر، ولكن صعوبة السير في البحر الأحمر عدلت بالتجارة إلى البر، فصارت التجارة تنقل من شبوت في حضرموت إلى مأرب حاضرة مملكة سبأ (مريابة)، ثم إلى مكة (مكرابة)، ثم بطرا فغزة.
فلما تغير طريق التجارة، وكان هذا في القرن الأول الميلادي فيما يظن، اضمحلت سبأ وتفرق سكانها. وفي القرآن الكريم ذكر سبأ، وعمران بلادهم، وسيرهم بالتجارة إلى الشام، ثم خراب ديارهم:
لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عل يهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور * وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين .
والقرى التي بورك فيها هي الشام، فقد كانت القرى ومظاهر العمران متصلة بين اليمن والشام.
حمير :
كانت حمير وإمارات أخرى في اليمن تحارب سبأ بين الحين والحين، فاستطاعت سبأ أن تقضي على بعضها، وثبتت حمير حتى اضمحلت سبأ، فخلفتها في القسم الجنوبي الغربي من اليمن، بين أرض سبأ والبحر، وقد امتد سلطانهم على قبائل العرب في الشمال إلى القرن الخامس، ولكن حمير لم تبلغ من الغنى وبسطة السلطان مبلغ سبأ، وقد عرضها مكانها على البحر لهجوم الحبش؛ حاول بعض ملوك الحبش أن يملك اليمن في القرن الثاني، وتمكن ملك آخر من أخذ بعض مدائنها في أواخر القرن الثالث، ثم أخرج الحميرون عدوهم من ديارهم، حتى إذا كان القرن الرابع تنصر الحبش وأيدهم الرومان على حمير، فملكوا اليمن إلى سنة 374، ثم أديل للحميريين مرة أخرى. وفي القرن السادس تهود تبع ذو نواس، وأراد إكراه نصارى اليمن على التهود، فلما أبوا أوقع بهم تقتيلا وتحريقا، ويقال إنها الواقعة التي ذكرت في القرآن في سورة البروج:
قتل أصحاب الأخدود
الآية. فحمي الحبش لإخوانهم نصارى اليمن، وأرسلوا جيوشهم، فاستولت على البلاد، وتولاها أبرهة قائد الحبش، وهو صاحب قصة الفيل المذكورة في القرآن، وكانت حول سنة 570م. ثم استنصر سيف بن ذي يزن كسرى أنوشروان ملك الفرس (531-579)، فأمده بجيش فارسي حملته السفن إلى عمان، ثم سار في البر حتى لقي جند الحبش، فتعاون العرب والفرس، وأزالوا سلطان الأحباش عن اليمن، وجاء الإسلام واليمن في حوزة الفرس.
وفي الكتب العربية خلط ملوك سبأ وحمير وشوب تاريخهم بكثير من الخرافات.
وهذا ذكر بعض ما يروى عن ملوك حمير على علاته.
تختلف الكتب في عددهم وسنيهم اختلافا كثيرا؛ فحمزة الأصفهاني مثلا يذكر 26 ملكا في ألفين وعشرين سنة، ويذكر ابن خلدون أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
وأول من ملك من أولاد قحطان حمير بن سبأ، وتوارث بنوه الملك من بعده، حتى صار الأمر إلى الحارث الرائش، فاجتمع له ملك اليمن كله، وهو تبع الأول، وقد بلغ في غزواته الهند، ثم غزا بعدهم الترك في أذربيجان.
وكان الرابع من التبابعة: إفريقيس بن أبرهة، ويقال إنه غزا أرض المغرب، وبنى بها مدينة إفريقية وسماها باسمه، وأبعد المغار في تلك البلاد إلى أقاصي العمران .
وكان السابع من التبابعة: بلقيس بنت هدهاد، فبقيت في اليمن عشرين سنة، ثم تزوجت سليمان بن داود - عليه السلام - فنقلها إلى فلسطين.
والتاسع من التبابعة: شمر يرعش، ويقال إنه الذي كان يسمى ذا القرنين، وأنه بلغ من بعد مغازيه أنه غزا المشرق فدوخ بلاد خراسان، وهدم سور مدينة الصغد (سمرقند)، فسميت شمرقند، أي شمر هدم، ثم عربت الكلمة فقيل سمرقند.
وكان الخامس عشر منهم يقال له: أسعد أبو كرب، وكان شديدا على حمير فقتلته، وولي بعده ابنه حسان بن تبع، وهو الذي غزا اليمامة وأباد جديس، وقد تتبع قتلة أبيه بالقتل حتى مالأ الناس عليه أخاه عمرا فقتله، وولي مكانه، وقد نهاه عن قتله ذو رعين الحميري الذي تذكر قصته في كتب الأدب.
ولا تزال ذكرى حسان اليماني في قصص العامة.
والتاسع عشر يقال له: تبع بن حسان، وهو الذي غزا المدينة، وأخذ معه حبرين من اليهود إلى اليمن فتهود، وهو الذي عقد الحلف بين اليمن وربيعة.
السادس والعشرون منهم: ذو نواس، وهو الذي غزا نصارى نجران، وشق لهم أخاديد في الأرض، فأحرقهم فيها، ويقال إن الآية في سورة البروج:
قتل أصحاب الأخدود
إلخ إشارة إلى هذا. ثم استغاث نصارى اليمن بملك الحبشة، وكان الحبش قد تنصروا، فكتب ملكهم إلى قيصر فأعانه على غزو اليمن، وانهزم ذو نواس، وألجأه الطلب إلى البحر فاقتحمه، فغرق وتسلط الحبش على اليمن، وليها أبرهة صاحب الفيل، واستقل بحكمها، ثم خلفه ابنه يكسوم، ثم ابنه الثاني مسروق، وفي عهده (حول سنة 570م) خرج سيف بن ذي يزن مستصرخا كسرى أنوشروان، فأرسل معه جندا وأسطولا فأخرجوا الحبش من اليمن بعد أن تسلطوا عليها زهاء سبعين سنة. ويقال إن قدوم الفرس إلى اليمن كان بعد حرب الفجار بعشر سنين وعمر الرسول
صلى الله عليه وسلم
إذ ذاك 30 سنة، فقد جاءوها إذا حوالي سنة 600م، وهذا غير صحيح.
وقد تتابع على اليمن ولاة من الفرس حتى انتشر الإسلام فيها، فدانت للرسول صلوات الله عليه، والوالي من الفرس حينئذ باذان.
وقصة سيف بن ذي يزن أثرت في القصص العربي أثرا قويا، ولا تزال قصص سيف شائعة بين العامة، وقد حرصت كتب الأدب على روايتها ورواية ما قيل فيها من الشعر، وما اخترعه لها القصاص.
ومما روي في هذا أبيات أمية بن أبي الصلت.
وقصتها كما رواها صاحب الأغاني أنه لما ظفر ابن ذي يزن على الحبش وأخرجهم من اليمن، وذلك حوالي سنة 571، أتته وفود العرب من كل صوب، وقصده الشعراء يهنئونه، ويشيدون بظفره، وكان في وفد قريش عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وخويلد بن أسد.
قال: «فأتوه بصنعاء وهو في رأس قصر له يقال له غمدان، فأخبره الآذن بمكانهم، فأذن لهم، فدخلوا عليه وهو على شرابه، وعلى رأسه غلام واقف ينثر في مفرقه المسك، وعن يمينه ويساره الملوك والمقاول، وبين يديه أمية بن أبي الصلت الثقفي ينشده هذه الأبيات:
لا يطلب الوتر إلا كابن ذي يزن
في البحر خيم للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامته
فلم يجد عنده النصر الذي سالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد عاشرة
من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم
تخالهم فوق متن الأرض أجبالا
لله درهم من فتية صبروا
ما إن رأيت لهم في الناس أمثالا
بيض مرازبة غلب أساورة
11
أسد تربت في الغيضات أشبالا
فالقط من المسك إذ شالت نعامتهم
وأسبل اليوم في برديك إسبالا
واشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا
في رأس غمدان دارا منك محلالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ويؤخذ من الأبيات أن هرقل لم ينجد سيفا على الحبش، وكان الحبش قد تنصروا ولم يكن يرجى أن ينصر عليهم الروم أحدا؛ والفرس كانوا أعداء الروم وأعداء الحبش لصلتهم بالروم، فأمد كسرى أنوشروان سيفا بجيش حملته السفن إلى عمان، وساروا إلى اليمن، فأعانوا العرب على الحبش حتى أجلوهم من اليمن، كما تقدم.
مدائن اليمن:
الطريق من الحجاز إلى اليمن تدور حول الجبال التي عليها مدينة الطائف، ثم تجتاز الحدود حدود اليمن حتى تمر بتبالة، وهي في واد خصيب يضرب المثل بخصبها، قال لبيد:
فالصيف والجار الجنيب كأنما
هبطا تبالة مخصبا أهضابها
وقال القتال:
وما مغزل ترعى بأرض تبالة
أراكا وسدرا ناعما ما ينالها
وترعى بها البردين ثم مقيلها
غياطل ملتف عليها ظلالها
بأحسن من ليلى وليلى لشبهها
إذا هتكت في يوم عيد حجالها
ومن أمثال العرب: «أهون من تبالة على الحجاج.» يروى أن الحجاج ولي تبالة، وكانت أول عمل تولاه، فلما قرب منها قال للدليل: «أين تبالة؟ وعلى أي سمت هي؟» فقال: «ما يسترها عنك إلا هذه الأكمة.» فقال: «لا أراني أميرا على موضع تستره عني هذه الأكمة، أهون بها ولاية!» وكر راجعا.
وبعد مسيرة يوم من تبالة شطر الجنوب يمر السائر بوادي بيشة، وهو واد خصيب آهل، به نخيل كثير، على بعد 240 ميلا إلى الجنوب الشرقي من مكة، وفيه عدة قرى أكبرها بيشة، وكان به مأسدة، فقال العرب: أسود بيشة، كما قالوا: أسود خفان، وأسود الشرى.
قال حسان:
كأنهم في الوغى والموت مكتنع
أسود بيشة في أوضاعها فدع
وقال السمهري:
وأنبئت ليلى بالغريين سلمت
علي ودوني طخفة ورجامها
فإن التي أهدت على نأي دارها
سلاما لمردود عليها سلامها
عديد الحصى والأثل من بطن بيشة
وطرفائها ما دام فيها حمامها
ووادي بيشة هذا ينصب إلى نجد، ثم تستقيم الطريق إلى الجنوب حتى صعدة، قال ياقوت:
صعدة مخلاف باليمن، بينه وبين صنعاء ستون فرسخا، وبينه وبين خيوان ستة عشر فرسخا. قال الحسن بن محمد المهلبي: صعدة مدينة عامرة آهلة، يقصدها التجار من كل بلد، وبها مدابغ الأدم، وجلود البقر التي للنعال، وهي خصبة كثيرة الخير، وهي في الإقليم الثاني، عرضها ست عشرة درجة.
وصعدة اليوم أقل عمرانا مما كانت.
وتنشعب من المحجة الكبرى عند صعدة طريق نحو الشرق إلى نجران.
ونجران مدينة في مخلاف نجران، وتاريخها قبل الإسلام متصل بتاريخ النصرانية في بلاد العرب الجنوبية، فقد كانت موئل النصرانية هناك، وللعرب روايات مختلفة في ابتداء هذا الدين بها.
وقد بنيت بها كنيسة كبيرة سميت كعبة نجران؛ مضاهاة للكعبة المكرمة التي كانت لها المكانة الأولى في أديان العرب الجاهليين، روي أن الذين بنوها بنو عبد المدان الحارثي، وروى ابن الكلبي أنها كانت قبة من أدم من ثلاثمائة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن، أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفد رفد، وكانت لعظمها عندهم يسمونها كعبة نجران، وكانت على نهر بنجران. ويقول الأعشى:
وكعبة نجران حتم علي
ك حتى تناخي بأبوابها
نزور يزيد وعبد المسيح
وقيسا وهم خير أربابها
وشاهدنا الجل والياسمو
ن والمسمعات بقصابها
12
ويربطنا دائم معمل
فأي الثلاثة أزرى بها
ولما غلب الحبش على اليمن في القرن السادس الهجري - كما قدمنا - اعتز بهم النصارى، وراجت الدعوة إلى النصرانية، وأراد الحبش أن يجعلوا لدينهم الكلمة العليا في بلاد العرب، فسيروا جيشا لهدم الكعبة، وكان في الجيش فيل، ولم يبلغ الحبش مأربهم، ورجعوا خائبين مقهورين، وسمي هذا العام عام الفيل، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الوقعة في سورة من سور القرآن عرفت بسورة الفيل:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول .
وقدم وفد نصارى نجران على الرسول صلوات الله عليه في السنة التاسعة من الهجرة، فأنزلهم في المسجد، وضيفهم وكتب لهم أمانا ...
وتستقيم المحجة من صعدة إلى الجنوب حتى صنعاء مدينة اليمن، وهي حاضرة اليمن اليوم وفي معظم العصور الإسلامية، ومن أقدم المدن العربية، نزهة كثيرة المياه والأشجار والفواكه، طيبة الهواء، ولا يتسع المقصود في هذا الكتيب للكتابة عن صنعاء، ولا هي في حاجة إليها.
ويذهب طريق من صنعاء إلى الشرق حتى مأرب حاضرة ملك سبأ، وهي اليوم أطلال تحدث عن تاريخ قديم وعلوم وفنون، وكان بها السد الذي يسمى سد العرم، وقصة انهدام السد وتفرق العرب ومهاجرتهم إلى الشمال من أسير القصص في تاريخ العرب وأدبهم وأساطيرهم، وأكتفي هنا بقول الأعشى:
ففي ذاك للمؤتسي أسوة
ومأرب عفى عليها العرم
فأروى الحروث وأغنامها
على ساعة ماؤهم إن قسم
فكانوا بذلكم حقبة
فمال به جارف منهدم
وهناك اليوم قرى صغيرة وزروع.
وتسير الطريق بعد صنعاء إلى الجنوب حتى ذمار وتريم، وكانت على هذه الطريق ظفار، دار ملك حمير، وقد قيل فيها: من دخل ظفار حمر، أي: تكلم باللغة الحميرية.
وعلى هذه الطريق سحول، وكانت معروفة في القديم بنسج القطن، وكانت تحمل منها ثياب بيض تسمى السحولية، وقد روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كفن في ثوبين سحوليين، وقال طرفة بن العبد:
لهند بحزان الشريف طلول
تلوح وأدنى عهدهن محيل
وبالسفح آيات كأن رسومها
يمان وشته ريدة وسحول
وريدة قرية باليمن كذلك، وكانت على مقربة من سحول قلعة المذيخيرة، وكانت معتصم القرامطة في اليمن حينا، وهي قلعة حصينة في رأس جبل فيه عيون يسيل منها نهر يسقي بعض القرى.
وتسير الطريق من بعد إلى الجند، وكانت مدينة اليمن الثانية بعد صنعاء، وإليها ذهب معاذ بن جبل - رضي الله عنه - حينما بعثه الرسول صلوات الله عليه ليعلم أهل اليمن. وبالجند مسجد معاذ، يقصده الناس من كل الأرجاء، وليس بها اليوم ما يذكر إلا المسجد. وكانت أعمال اليمن في العصور الإسلامية الأولى مقسمة على ثلاث ولايات: الجند ومخاليفها وهي أكبرها، وصنعاء ومخاليفها وهي الوسطى، والثالثة حضرموت ومخاليفها.
وآخر مدينة يمنية إلى الجنوب مدينة تعز، وكانت حاضرة الدولة الرسولية التي قامت في اليمن بين سنة 626 وسنة 858ه.
حضرموت ومهرة وعمان:
حضرموت:
شرقي اليمن على الساحل، ساحل بحر العرب، وهي أرض جبلية تحدها أودية كثيرة، ويقطعها من الغرب إلى الشرق وادي القصر، يجري فيه الماء طول السنة، وعليه تقوم أكبر المدن: شبام وتريم، وقد ذكر الأعشى تريم، ولست أدري أهي تريم حضرموت أم غيرها. قال:
طال الثواء على تري
م وقد نأت بكر بن وائل
ويقال: إن قبر هود النبي - عليه السلام - إلى الجنوب والشرق من تريم.
وأحسن مرافئ حضرموت المكلا.
وحضرموت متصلة باليمن تاريخا، فالدول القديمة التي قامت باليمن امتد سلطانها على حضرموت أكثر العصور، وفي العصور الإسلامية كانت حضرموت تعد إحدى ولايات اليمن، وعدها ابن الفقيه مخلافا من اليمن، وفي حضرموت كثير من الآثار القديمة والنقوش المتصلة بآثار اليمن.
مهرة:
ويمتد إلى الشرق من حضرموت ساحل يسمى مهرة أو الشحر، والشحر في اللغة العربية الجنوبية معناه الساحل.
وحد هذا الساحل من الشرق قرية حاسك، وإلى القرب منها مرباط، وكانت مرباط مرفأ مدينة ظفار، وهي غير ظفار التي باليمن، وكانت عامرة إلى القرن السابع الهجري، وهي اليوم خربة.
ويقول ياقوت عن مرباط:
وهي مدينة مفردة بين حضرموت وعمان على ساحل البحر، لها سلطان برأسه، ليس لأحد عليه طاعة، وقرب مدينته جبل نحو ثلاثة أيام في مثلها، فيها شجر ينبت اللبان، وهو صمغ يخرج منه ويلتقط ويحمل إلى سائر الدنيا، وهو غلة الملك، يشارك فيه لاقطيه.
وأهلها عرب، وزيهم زي العرب القدماء، وفيهم صلاح مع شراسة في خلقهم وزعارة وتعصب.
وظفار كانت عامرة مشهورة في القرن السابع، يقول ياقوت:
فأما ظفار المشهورة اليوم فليست إلا مدينة على ساحل بحر الهند، بينها وبين مرباط خمسة فراسخ، وهي من أعمال الشحر، وقريبة من صحار، بينها وبين مرباط.
ومهرة قبيلة عربية سمي بها الإقليم، وإليها تنسب الإبل المهرية التي ردد الشعر العربي أوصافها، وهي النجائب التي تتخذ للأسفار، قال أبو تمام:
يقول في قومس قومي وقد أخذت
منا السرى وخطا المهرية القود
ويقول المتنبي:
تعس المهاري غير مهري غدا
بمصور لبس الحرير مصورا
وأهل اليمن وحضرموت والشحر هم تجار العرب، وأولو السفر والاغتراب منذ العصور الأولى، وهم الذين نشروا اللغة العربية والإسلام في سواحل إفريقية الشرقية وجزائر بحر العرب، وعربوا كثيرا من أقطارها، وقد امتدت أسفارهم إلى الهند وجاوة وما يتصل بها، وأقاموا في تلك الأصقاع منذ عصور بعيدة، وكانوا صلة بينها وبين الجزيرة العربية.
عمان:
المنتهى الجنوبي الشرقي لجزيرة العرب، وهو في شرقيها كاليمن في غربيها، إقليم جبلي حصيب، وساحلها شديد الحرارة كثير المرافئ، وأهلها ملاحون مهرة، خبروا البحار وعرفوا أسفارها منذ قرون متطاولة، ويصطادون السمك كثيرا، وسمك خليج عمان وافر.
وأعظم جبال عمان الجبل الأخضر، يعلو ألف قدم، وفيه ينابيع كثيرة، يحسن الناس تصريف مياهها والانتفاع بها.
ومسقط حاضرة البلاد اليوم، وهي على أحسن مرافئ الخليج الفارسي، وحرها شديد جدا، يصطاف أهلها على الجبل، ومن مدن الجبل نزوة، وهي مصطاف أمير عمان، ولها شهرة بالنسج.
وإلى الشمال من مسقط مدينة صحار وهي الحاضرة القديمة، وكانت تسمى عمان باسم الإقليم كله.
وإلى الشمال مدينة دبا في شبه الجزيرة، الذي ينتهي برأس مسندام.
وكانت صحار حاضرة عمان في القرن السابع الهجري، قال ياقوت:
وصحار قصبة عمان مما يلي الجبل، وتؤام قصبتها مما يلي الساحل، وصحار مدينة طيبة الهواء والخيرات والفواكه، مبنية بالآجر والساج، كبيرة ليس في تلك النواحي مثلها.
وقال البشاري:
ليس على بحر الصين بلد أجل منه، عامر آهل حسن طيب، نزه ذو يسار وتجارة وفواكه، أجل من زبيد وصنعاء، وأسواق عجيبة وبلدة ظريفة ممتدة على البحر، دورهم من الآجر والساج شاهقة نفيسة، والجامع على الساحل له منارة حسنة طويلة في آخر الأسواق، ولهم آبار عذبة، وقناة حلوة، وهم في سعة من كل شيء. وهو دهليز الصين، وخزانة الشرق والعراق، ومعونة اليمن. ا.ه.
وفي هذا بيان لعظم شأنها في التجارة بين جزيرة العرب والمشرق.
وإلى صحار ينسب محمد بن زوزان الصحارى العماني الشاعر، وكان قد نكب فخرج إلى بغداد، فقال يتشوق إلى أهله:
لحى الله دهرا شردتني صروفه
عن الأهل حتى صرت مغتربا فردا
ألا أيها الركب اليمانون بلغوا
تحية نائي الدار، لقيتم رشدا
إذا ما حللتم في صحار فألمموا
بمسجد بشار وجوزوا به قصدا
إلى سوق أصحاب الطعام فإنه
يقابلكم بابان لم يوثقا شدا
ولم يرددا من دون صاحب حاجة
ولا مرتج فضلا ولا آمل رفدا
فعوجوا على داري هناك فسلموا
على والدي زوزان وقيتم جهدا
وأما دبا فسوق للعرب مشهورة، ذكرت في أخبارهم وأشعارهم، وكان فيها وقعة في حروب الردة.
الصحراء الكبرى أو الربع الخالي:
تمتد شرقي اليمن، وشمالي حضرموت والشحر، وغربي عمان، وجنوبي نجد، صحراء واسعة مترامية الأرجاء تفصل بين العمران في جنوبي الجزيرة في وجهاتها الأخرى.
وهي إلى اليوم مجهل لم يعرف داخلها إلا قليلا، وليس بها ماء إلا آبار بعيدة الغور في بعض أطرافها، ولكنها تنبت بعد الأمطار مراعي أثيثة، فينتجع الأعراب مراعيها موغلين في جوفها مسافات بعيدة، فيبقون ثلاثة أشهر أو أربعة يشربون لبن الإبل ويأكلون لحمها، وتجتزئ الإبل والغنم بالعشب.
ولم يسم العرب هذه الصحراء باسم جامع، ولكن سمى أهل كل قطر ما يليهم منها باسم خاص.
فطرفها الذي يمتد شرقي اليمن إلى الشمال والغرب من حضرموت يسمى صهيد.
والذي شمالي حضرموت وشرقيه يسمى الأحقاف، وهي في أخبار العرب مواطن قوم عاد، وقد ذكرها القرآن الكريم في الآية:
واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف .
والجانب الذي شمالي مهرة يسمى وبار، وفي أساطير العرب أن وبار أرض خصبة ولكن سكانها الجن، لا يدخلها أحد إلا أهلكوه. قال ياقوت:
ويزعم علماء العرب أن الله تعالى لما أهلك عادا أسكن الجن في منازلهم، وهي أرض وبار، فحمتها من كل من يريدها، وأنها أخصب بلاد الله وأكثرها شجرا ونخلا وخيرا، وأعذبها عنبا وتمرا وموزا، فإن دنا رجل منها عامدا أو غالطا حثا الجن في وجهه التراب، وإن أبى إلا الدخول خبلوه وربما قتلوه.
وهذه خرافة تمثل خوف العرب من هذه الصحراء، وهلاك من يضل فيها، وروي أنه في هذا الإقليم الإبل الحوشية، والعرب تزعم أنها من نسل الجن، ولا يبعد أن يكون العرب قد عرفوا في هذه الصقع إبلا وحشية لم تستأنس، وأنهم عرضوا إبلهم لها لتلقح منها.
قال شاعر:
كأن على حوشية أو نعامة
لها نسب في الطير أو هي طائر
وقال الجاحظ في كتاب الحيوان:
وزعم ناس أن من الإبل وحشية، وكذا الخيل، وقاسوا ذلك على الحمير والسنانير والحمام وغير ذلك، فزعموا أن تلك الإبل تسكن أرض وبار لأنها غير مسكونة؛ ولأن الحيوان كلما اشتدت وحشيته كان للخلاء أطلب. قالوا: وربما خرج الجمل منها لبعض ما يعرض، فيضرب في أدنى هجمة
13
من الإبل الأهلية. قالوا: فالمهرية من هذا النتاج.
وقال آخرون: هذه الإبل الوحشية هي الحوش، وهي التي من بقايا إبل وبار، فلما أهلكهم الله تعالى كما أهلك الأمم مثل عاد وثمود والعمالقة وطسم وجديس وجاسم، بقيت إبلهم في أماكنهم التي لا يطورها
14
إنسي.
فإن سقط إلى تلك الجيزة بعض الخلعاء أو بعض من أضل الطريق، حثت الجن في وجهه، فإن ألح خبلته.
فضربت هذه الحوش في العمانية، فجاءت هذه المهرية، وهذه العسجدية التي تسمى الذهبية، وأنشدني سعدان المكفوف عن أبي العميل قول الراجز:
ما ذم إبلي عجم ولا عرب
جلودها مثل طواويس الذهب
وقال ابن منظور في لسان العرب:
الحوش بلاد الجن من وراء رمل يبرين، لا يمر بها أحد من الناس. وقيل هم حي من الجن، وأنشد لرؤبة:
إليك سارت من بلاد الحوش
والحوش والحوشية إبل الجن، وقيل الإبل المتوحشة ... ويقال: إن فحلا من فحولها ضرب في إبل لمهرة بن حيدان، فنتجت النجائب المهرية من تلك الفحول الوحشية، فهي لا تكاد يدركها التعب. ا.ه.
وليس بعيدا أن تكون في تلك البقاع إبل وحشية قوية، تؤخذ وتذلل وتتخذ منها فحول الإبل، أو تخالط هي إبلا مستأنسة تلاقيها.
وأما خرافة الجن فمسايرة لخيال العرب الذي ينسب كل عجيب إلى الجن، كما جعلوا للشعراء جنا، وسموا الشيء العجيب عبقريا، وقالوا: إن عبقر أرض الجن.
وقد جعل الفرزدق وبار مثلا في غموض طرقها على السابلة، قال:
ولقد ضللت أباك يطلب دارما
كضلال ملتمس طريق وبار
وتسمى صحراء وبار الدهناء أيضا لحمرة رمالها، كما سميت الصحراء التي شرقي نجد. وقد روي أن هذه الصحراء صحراء وبار كانت مسلوكة، وكان تجار العرب يخترقونها إلى مرباط وظفار في مهرة، وقد عرف هذا إلى القرن السابع العربي.
وقسم الصحراء الكبرى الشمالي الشرقي يسمى يبرين، وفي يبرين واحة خصبة تمر بها طريق الحج من عمان، واشتهرت يبرين في الكلام العربي بكثرة رمالها.
وقد جاءت في شعر جرير:
لما تذكرت بالديرين أرقني
صوت الدجاج وضرب بالنواقيس
فقلت للركب إذ جد الرحيل بنا:
يا بعد يبرين من أرض الفراديس
وقال أبو زياد الكلابي:
أراك إلى كثبان يبرين صبة
وهذا لعمري لو قنعت كثيب
والجانب الممتد بين البحرين واليمامة يسمى عالجا، وهو معروف بكثرة رماله أيضا.
قال عبيد بن أيوب:
انظر فرنق جزاك الله صالحة
رأد الضحى اليوم هل ترتاد أظعانا
يعلون من عالج رملا ويعسفه
أخو رمال بها قد طال ما كانا
إذا حبا عقد نكبن أصعبه
واجتبن منه جماهيرا وغيطانا
وقال آخر:
فيا راشقات العين من رمل عالج
متى منكم سرب إلى الماء وارد
فما القلب عن ذكرى أميمة نازع
ولا الدمع مما أضمر القلب جامد (3) سكان الجزيرة
تختلف الأقوال في تقدير سكان الجزيرة؛ إذ لم يتناولهم إحصاء دقيق، والتقدير الذي كان في عهد الحكومة العثمانية:
الحجاز
300000
اليمن وعسير
1800000
نجد
1000000
حضرموت
150000
عمان
1000000
الحسا
300000
بادية الشام
275000
وذلك كله
4825000
وهذا تقدير لا يعول عليه.
ومن الناس من يقدر سكان الجزيرة بخمسة عشر مليونا، وفي هذا التقدير غلو.
وأقرب تقدير إلى القصد أن في الجزيرة، ما عدا البادية الشمالية، نحو سبعة ملايين.
ثلاثة ملايين في الحجاز وتهامة وعسير، أي: الإقليم الممتد على البحر الأحمر من العقبة إلى اليمن.
ومليونان ونصف في اليمن والسواحل الجنوبية.
ومليون ونصف في وسط الجزيرة ونجد وما يتصل بها شرقا.
ولا بد من إحصاء دقيق يركن إليه الباحث، ثم لا بد من درس شامل لأحوال القبائل الحاضرة، وصلاتها بالقبائل القديمة؛ ليعرف كيف رحلت قبائل من ديارها واستقرت أخرى، وكيف انقسمت قبائل وتجمعت قبائل من أصول مختلفة، وكيف تغيرت أسماء بعض القبائل بغلبة عشيرة منها وتسمية القبيلة باسمها، وهكذا.
إن جزيرة العرب نالت من عناية السلف نصيبا موفورا، ونحن الآن أقدر على التجوال فيها وتقدير مساحتها وسكانها، ودرس حيوانها ونباتها ومواتها، ووضع المصورات الشاملة المفصلة، فمتى نؤدي هذا الواجب؟ ومتى نتعرف الأمكنة التي جاءت في التاريخ والسيرة النبوية، والتي ذكرت في أخبار العرب وأشعارهم، ونستعين بهذا على درس أدبنا وتاريخنا درسا قد أعدت عدده، وهيئت وسائله من الحقائق التي لا يمارى فيها؟
وفيما يلي كلمة موجزة عن القبائل كما عرفت في أواخر الجاهلية وصدر الإسلام، مع بيان ما يتصل بها من القبائل الحاضرة.
طبيعة الجزيرة العربية اضطرت جمهرة أهلها إلى التبدي؛ فهم ينتجعون المراعي، ويتتبعون مواقع القطر، فلا تستقر بهم معيشة، وهم يتزاحمون أحيانا على منابت العشب وموارد المياه، فيتقاتلون عليها، وربما غلبت قبيلة على ديار أخرى، فهم كثيرو الرحيل والمهاجرة، ولكن معظم القبائل لها منازل تنتقل فيها ولا تعدوها. ولما عني الرواة والمؤرخون بقبائل العرب وديارها، عرفوا لكل قبيلة بقاعا عاشت فيها واختصت بها.
وربما تغير قبيلة على أخرى طمعا في أموالها، لا طمعا في مراعيها، وكم شنت لذلك الغارات، واستبيحت الحرمات.
ومن أجل هذا وذاك احتاج البدوي إلى قرابة يعتز بها، وعصبية ينضوي إليها، وقبيلة يمتنع ببأسها، فالتحمت القرابات، واشتدت العصبيات، وحفظت الأنساب.
وكما اختلفت طبيعة الجزيرة بين الجنوب والشمال، اختلفت معايش القبائل في الشمال والجنوب، وامتاز أهل اليمن وما يتصل بها بضروب من الحضارة والمعيشة، حتى ذهب بعض الباحثين إلى أن عرب الجنوب أمة وحدهم، لا يمتون إلى عرب الشمال بقرابة الأصل.
ومهما يكن فقد هاجر كثير من عرب الجنوب إلى الشمال واختلطوا بقبائله، واستوطنوا مواطن بينها في نجد والحجاز والبلقاء وغيرها.
وأذكر هنا قبائل الجزيرة كما عرفت في أواخر الجاهلية، وأوائل العصور الإسلامية، وأكثر القبائل هاجر منها مهاجرون، ولكنها بقيت في ديارها، وكثير من القبائل حفظت أسماءها الأولى، وكثير منها تغيرت أسماؤها بانقسامها، وغلبة بطون منها تبسط سيطرتها وأسماءها على القبيلة كلها، ومهما يكن فلا بد من اتخاذ أسماء القبائل القديمة وديارها وسيلة إلى معرفة القبائل الحاضرة وأنسابها.
وقد قال رواتنا ومؤرخونا في العرب البائدة، وهي التي لم يكن في الجزيرة إلا أخبارها حينما جاء الإسلام، وبعض هؤلاء عرف التاريخ أخبارهم ودلت عليهم آثارهم، مثل عرب اليمن وثمود في شمالي الحجاز.
1
وأخبار القبائل البادية وأساطيرها جديرة بعناية المؤرخ والأديب، وبعضها موضوع لقصص ممتع.
وأعظم البائدة شأنا في الروايات: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وعبيل، وعبد ضخم، وجرهم.
فأما عاد فكانت بالأحقاف ، وهي الرمال التي شرقي اليمن، وشمالي حضرموت، وقد ذكرهم القرآن، وبين طرفا من أخبارهم حينما جاءهم النبي هود - عليه السلام - وفي حضرموت اليوم قبر يقال إنه قبر هود، وسميت سورة من القرآن باسم «الأحقاف».
وقد كشفت آثار عليها خط سبئي فيه أسماء ومواطن لقبيلة عاد.
وأما ثمود فكانوا بالحجر ووادي القرى شمالي الحجاز، وفي القرآن خبرهم مع النبي صالح، ويذكر سرجون الثامن ملك أشور قبيلة ثمود بين القبائل التي أخضعها، وذكرها تيودور وبطليموس في منازلها المعروفة شمالي الحجاز.
ويؤخذ من الكتابات النبطية أن ثمود في القرن الثاني الميلادي كانت تملك حرة العويرض، وقد ذكرهم بعض مؤرخي اليونان والرومان، وكان منهم فرقة في الجيش الروماني، وعرفت أخبارهم إلى القرن الخامس الميلادي.
ودلت عليهم آثارهم في مدائن صالح، وقرئت كتابتهم، وعرفت بين الباحثين باسم الخط الثمودي، ولا يزال البحث يكشف عن أخبارهم.
وكانت ثمود سببا في انتشار الخط بين القبائل، فانتشر ما بين الحبشة والشام.
وأما طسم وجديس فكانت باليمامة، وكان السلطان لطسم، فعسف ملوكها بجديس، فثارت عليها وأوقعت بها، فاستصرخ بقيتها حسان بن تبع اليماني، فسار إلى اليمامة وأهلك جديس، ولهم في الأساطير العربية قصص ممتعة.
وأما عبيل فيقال إنهم إخوان عاد، وإن منازلهم كانت بالجحفة، بين مكة والمدينة. ويقال إنهم الذين اختطوا يثرب، وقد أهلكهم السيل.
وعبد ضخم كانوا بالطائف، وكانت جرهم باليمن، ثم انتقلت إلى الحجاز، ووليت أمر الكعبة إلى أن أخرجتها خزاغة وكنانة، فرجعت إلى اليمن وبادت هناك. ويروى أن إسماعيل بن إبراهيم أبا العرب المستعربة تعلم العربية من هذه القبيلة في مكة.
2
وأما العرب الباقون، فقد قسمهم الرواة إلى القحطانيين والعدنانين.
ومن الأولين شعبان: حمير وكهلان. ومن الآخرين: ربيعة ومضر. ويتشعب كل شعب قبائل كثيرة.
وأما ديارهم التي كانوا بها حينما جاء الإسلام، ولا يزال كثير منهم فيها باسمه القديم أو اسم حديث، فهذا إجمال القول فيها، وذكرت طرفا منها عند ذكر أقاليم الجزيرة أيضا.
قبائل قحطان:
يقسمها النسابون إلى حمير وكهلان.
ولا يزال قحطان اسما لقبيلة قوية ديارها إلى الغرب والشمال الغربي من الصحراء الكبيرة التي تسمى اليوم الربع الخالي، وبين نجران وعسير أيضا، وهي شديدة الحفاظ على العادات.
وإلى الجنوب منها أرض كهلان.
ومن كهلان:
طيئ، وهمدان، ومذحج، والأزد، وعاملة، وجذام، ولخم.
فأما طيئ فقد عرفت منذ عصور متطاولة قبل الإسلام في جبليها أجأ وسلمى المذكورين في نجد. وقد سمى الفرس والسريان العرب كلهم «تازي»، ويظن أنها تحريف كلمة طائي.
ويسكن جبال طيئ اليوم قبيلة شمر، وقد رحل كثير من شمر إلى العراق منذ قرن أو أكثر، وهم اليوم أعظم قبائل العراق.
وأما همدان ومذحج، فقد بقي أكثرهم في اليمن ولا يزالون بها اليوم. ومن مذحج بلحارث، وهم اليوم إلى الجنوب الشرقي من الطائف، ومنهم عشيرة صغيرة على الساحل بين جيزان وميدي.
وأما الأزد فهم قبائل قوية نزلوا عمان والسراة، ومنهم غسان الذين كانت لهم إمارة في الشام، والأوس والخزرج في المدينة.
ومنهم خزاعة، ويتصل قصصها بتاريخ مكة، ومنهم اليوم جماعة في وادي فاطمة في الحجاز وفي تهامة قرب القنفذة على البحر الأحمر.
قبائل حمير:
هي قضاعة على اختلاف الأقوال في أنها يمنية أو عدنانية، ومنها بهراء وتنوخ في الشام، وقد عرفتا في شمالي الشام قبل الإسلام وفي مواطن أخرى، وإلى تنوخ ينتسب أبو العلاء المعري. ومنها جهينة في وادي إضم على مقربة من المدينة، وقد انتشرت في صدر الإسلام واستوطن فريق منها مصر، ولا تزال جهينة الحجاز في ديارها.
وقبيلة عذرة جيرانهم، ولهم في الأدب ذكر جميل، وينسب إليهم الهوى العذري، وهو الحب العفيف، وبطلهم في هذا جميل بن معمر صاحب بثينة، وهم في مواطنهم إلى اليوم.
ومن قضاعة بلي شمالي الحجاز، ولا يزالون هناك.
وقد هاجر إلى مصر كثير من جهينة وبلي بعد الفتح الإسلامي.
ومن قبائل حمير أيضا كلب في شمالي الحجاز وبادية الشام، وكانوا أقوى القبائل هناك، ولهم شأن في أخبار العرب في صدر الإسلام والدولة الأموية.
قبائل عدنان:
ربيعة:
كانت لربيعة ديار على دجلة عرفت باسمها، وكان لمضر منازل على الفرات عرفت بها كذلك، ثم انتشرت قبائل ربيعة، فنزلت تغلب والنمر منازل مضر، وأوغلت بكر إلى الشمال حتى الأرض التي سميت باسمها ديار بكر، ومن بكر بنو حنيفة في اليمامة، وكان منهم مسيلمة المتنبئ، ولا تزال ديارهم في نجد، وهناك وادي حنيفة، وعليه مدينة الرياض.
ومنهم عبد القيس في البحرين وما يتصل بها.
ووائل الذي يجمع بكرا وتغلب اسم لبطن من عنزة اليوم، ومن ربيعة عنزة وأسد كانتا متجاورتين في نجد شمالي وادي الرمة، يمر بهما طريق الحاج من البصرة إلى المدينة، ويروى أنهم دفعوا قضاعة إلى الشمال في عصر بعيد قبل الإسلام. وفي القرون الأخيرة استولت عنزة على معظم بادية الشام، ومنهم اليوم سباعة في الشمال الشرقي من البادية، والرولة في الغرب، وتمتد ديار عنزة اليوم من نجد إلى الحجاز، فوادي السرحان، فبادية الشام إلى حلب.
وأسد إحدى قبائل العراق اليوم، وكانوا هناك في القرن الرابع الهجري، وهم الذين اتهموا بقتل المتنبي في طريقه إلى بغداد عند دير العاقول.
ومما يتفكه به هنا أنه لما احتفلت البلاد العربية بذكرى أبي الطيب المتنبي في دمشق سنة 1354ه (1936م) جمعنا مجلس ببعض الأدباء، ومنهم الرصافي الشاعر العراقي - رحمه الله - فقال: أقترح أن يطالب الشيخ سالم الخيون (شيخ بني أسد) بدية المتنبي وتعطى لفلان الشاعر. وسمى شاعرا من شعراء العراق.
ومنهم بنو حنيفة أصحاب اليمامة، وشيبان، وقد امتدت ديار شيبان شمالا إلى العراق، وكان لهم مع الفرس وقائع منها وقعة ذي قار، وقد اتصلت هذه الوقائع بحوادث الفتح الإسلامي بقيادة المثنى بن حارثة الشيباني.
قبائل مضر:
أعظم قبائل مضر في القديم قيس عيلان، ويحمل اسم قيس اليوم قبيلة صغيرة على الفرات تؤدي خوة (أتاوة) لشمر، وشرقيهم عدوان وهم في سيطرة شمر، وكانت عدوان من قبل جنوبي الحجاز قريبة من فهم وهذيل.
ومن قيس: هوازن وسليم، وكانت منازلهم غربي نجد إلى شرقي المدينة ومكة .
وفي أوائل القرن الرابع الهجري تمردت سليم وجيرانها من هلال، فحوربوا فهاجروا إلى مصر، وأقاموا في الدلتا، ثم انتقلوا إلى الصعيد .
وفي القرن الخامس سنة 444ه أغراهم الفاطميون بالرحيل إلى المغرب، فرحلوا ووقعت بينهم وبين القبائل الضاربة هنالك وقائع لا تزال ترددها القصص العامية الذائعة، قصص أبي زيد الهلالي وما يتصل بها.
ومن قيس ثم من بني عامر: كلاب وقشير وعقيل.
ولعقيل اليوم موطن في نجد، ومنهم المنتفك، ولا يزالون ذوي قوة في العراق على الفرات الأدنى، ويسمى باسمهم لواء من ألوية العراق.
ومن قيس غطفان، ومن غطفان عبس وذبيان، ومن ذبيان فزارة، وكان لغطفان وفروعها شأن في الأدب الجاهلي، ولا تزال حروب عبس وذبيان وما قاله فيها زهير، وبطولة عنترة وما حيك حولها من قصص، لها مكانة واضحة في الأدب العربي.
ومن مضر ضبة وتميم، وتميم من أعظم قبائل العرب في الجاهلية والإسلام، وأخرجت كثيرا من الشعراء والخطباء، وحسبنا أوس بن حجر وجرير والفرزدق من الشعراء، وبنو الأهتم من الخطباء.
وقد حلت تميم في نجد قبل الإسلام في بعض منازل بكر وتغلب في شرقي نجد، ثم امتدت إلى أرجاء كثيرة، ولا يسمى اليوم تميما إلا قبيلة في العراق على الفرات الأدنى، ولكن كثيرا من حاضرة نجد ينتمون إلى تميم، ومنهم جماعات في جبال شمر شمالي نجد.
ومن مضر كذلك: مزينة (وتسمى اليوم حربا)، وهي في الحجاز وغربي نجد، وإلى الشرق منهم اليوم في نجد بعد وادي الرمة قبيلة عتيبة من قبائل نجد، وشرقي هؤلاء مطير. ومن القبائل المضرية الحاضرة بنو خالد في اليمامة، أي: الجنوب الشرقي من نجد.
ومن قبائل مضر: هذيل، ولا يزالون في الجبال التي إلى الجنوب من مكة، وكان منهم في الجاهلية وصدر الإسلام شعراء. وقد جمع شعر جماعة منهم في «ديوان شعراء هذيل». وعلى مقربة من هذيل ثقيف، وهم أكثر سكان الطائف في هذا العصر.
ومن مضر: كنانة وقريش، وهما في غنى عن التعريف، ولا تحمل اسم قريش اليوم إلا قبيلة صغيرة من الرعاة يعرفون بصنع الجبن في منى وأطرافها.
ومنها فهم، وهم إلى الجنوب من ثقيف، وهم هناك حتى اليوم. وبنو سعد من الطائف إلى الجنوب الشرقي، وهم أصل قسم كبير من عتيبة.
ويضيق المجال عن استقصاء أسماء القبائل وبطونها، وذكر طرف من أخبارهم وأحوالهم في القديم والحديث، وهذا كله جدير بالعناية والبحث الواسع المفصل.
وألحق بهذا الفصل أبياتا للأخنس بن شهاب التغلبي، يذكر بعض قبائل العرب وأوطانهم.
لكل أناس من معد عمارة
عروض إليها يلجئون وجانب
لكيز
15
لها البحران والسيف كله
وإن يأتها بأس من الهند كارب
تطاير عن أعجاز حوش كأنها
جهام أراق ماءه فهو آئب
وبكر لها ظهر العراق وإن تخف
يحل دونها من اليمامة حاجب
16
وصارت تميم بين قف ورملة
لها من حبال منتأى ومذاهب
وكلب لها خبت
17
فرملة عالج
إلى الحرة الرجلاء حيث تحارب
وغسان حي عزهم في سواهم
يجالد عنهم مقنب وكتائب
18
وبهراء حي قد علمنا مكانهم
لهم شرك حول الرصافة لاحب
وغارت إياد في السواء ودونها
برازيق عجم تبتغي من تضارب
ولخم ملوك الناس يجبى إليهم
إذا قال منهم قائل فهو واجب
ونحن أناس لا حجاز بأرضنا
19
من الغيث ما نلقى ومن هو غالب
ترى رائدات الخيل حول بيوتنا
لمعزى الحجاز أعجزتها الزرائب
وفي كتاب الهمداني منظومات تكلفها الشعراء لبيان المواطن والقبائل، منعني طولها من إثباتها هنا، فليرجع إليها من يشاء.
Página desconocida