المقدمة
العرب ومواطنهم ولغتهم
جزيرة العرب
المقدمة
العرب ومواطنهم ولغتهم
جزيرة العرب
مهد العرب
مهد العرب
تأليف
عبد الوهاب عزام
Página desconocida
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه كلمات قصدت بها إلى التعريف بالجزيرة العظيمة، جزيرة العرب؛ فبينت مجملا وصفها الطبيعي، وأقسامها وأعلام بلدانها ومحالها، ووصلت هذا بطرف مما يتصل به من الأشعار والأخبار والأساطير في غير توسع ولا تعمق، وذكرت فيها أمهات القبائل ومواطنها.
وهي مقدمة للتعريف بالجزيرة العربية، يكتفي بها من يكفيه الإلمام بأوصافها، ويبتدئ بها من يريد المزيد.
ولا بد من هذه المقدمة لطلبة الأدب العربي عامة، والجاهلي خاصة؛ فكثير من الشعر والنثر لا يدرك معناه إلا بمعرفة ما يتصل به من مكان أو قبيلة أو حيوان أو قصة، أو بمعرفة طبيعة بلاد العرب إجمالا.
وقد نالت هذه الجزيرة من أسلافنا عناية مشكورة، فكتبوا في أوصافها وأخبارها، وبقينا عالة عليهم ولم نقتف آثارهم؛ فرجعنا إلى الكتب القديمة التي تركوها لنا، وأخذنا عن الأوروبيين، ونحن أولى بمعرفة أرضنا، وأقدر على التجول فيها ومخالطة أهلها، وأعرف بلغتها وتاريخها وعاداتها.
على أن العناية بالكتابة عن الجزيرة قد ظهرت في هذا العصر، فأخرج «سعادة» الشيخ حافظ وهبة كتابه «جزيرة العرب»، و«سعادة» فؤاد حمزة «بك» كتابه «قلب جزيرة العرب»، وهما بداية مبشرة باطراد البحث والاستقصاء في الدرس إن شاء الله.
وقد اقترحت، وما زلت أقترح، على جامعتنا «جامعة فؤاد الأول» أن تبعث إلى الجزيرة بعثا فيه من المؤرخين والأدباء والجغرافيين والمهندسين؛ ليضعوا مصورات للجزيرة، ويبينوا المواضع التي ذكرت في التاريخ والأدب، ويحققوا أمكنة الوقائع التاريخية، ومنازل القبائل القديمة، وهلم جرا.
وهذا ميسور، وقد عم الأمن أرجاء الجزيرة، ويسرت الوسائل الحديثة السفر والبحث والاستقراء.
ولعل رجاءنا يتحقق قريبا بعد أن تنبهت الأمم العربية، ونشأت لهم هذه الجامعة المباركة، فيكون من أول ما يعنى به مكتب الثقافة في هذه الجامعة تحقيق هذا الرجاء، والقيام بهذا الواجب.
Página desconocida
والله ييسر لنا كل صعب، ويهيئ لنا من أمرنا رشدا.
عبد الوهاب عزام
18 من ربيع الأول سنة 1365ه
20 من فبراير 1946م
العرب ومواطنهم ولغتهم
تخلد الأمم على وجه الأرض، وتحيا على مر الدهور، وتثبت في صفحات التاريخ، بأسباب وقوانين، ويختلف حظها من الخلود ومن المجد باختلاف هذه الأسباب المواتية والقوانين السارية، قوة وضعفا، وإبطاء وإسراعا، وضيقا واتساعا، وهي أسباب متصلة متشابكة يؤدي بعضها إلى بعض ويمسك بعضها بعضا، من هذه الأسباب صلاحية الموطن، والقوة الحسية والمعنوية، والثبات للحادثات، والاحتفاظ بالخصائص، والاعتداد بالنفس والثقة بها، وحضارة الأمة وأثرها في العالم، وقدرتها على الأخذ والإعطاء في معترك الأمم، والمكانة بين الناس، وعظم التاريخ على مر الدهور.
فأما الوطن فقد منح الله العرب موطنا فسيحا وسطا بين المواطن، فياضا بالخيرات، بعيدا من الآفات المدمرة.
موطن العرب جزيرتهم التي ولد فيها تاريخهم، ثم مثواهم القديم الذي عرفهم فيه التاريخ منذ تحدث عن البشر، بين هضب إيران وجبال طوروس والبحر الأبيض، ثم متقلبهم الذي نشرهم فيه الإسلام إلى بحر الظلمات وأواسط إفريقية. وهو موطن شاسع الأرجاء يقع معظمه في الإقليم المعتدل، وقليل منه في الإقليم الحار، وتجري فيه ثلاثة من أعظم أنهار العالم: النيل ودجلة والفرات، وتتقسمه السهول الخصبة والبراري والصحارى والجبال، وتمتد سواحله على بحر العرب والبحرين الأحمر والأبيض. هذا الموطن العظيم يكفل الحياة القوية، والعيشة الغنية، والثبات على الخطوب، والبقاء على الزمان، وقد جعل الله مهد العرب جزيرة ممتازة محدودة بالبحار من معظم جهاتها، فحفظت هذا الجنس القوي بمعزل من تقلب الجماعات، بعيدا من طرق المهاجرات، فبقي يطبع الأجسام القوية والطباع السليمة والفطر الخالصة، ثم يمد بها أجزاء الموطن العربي الكبير كلما نالت الخطوب من أهله أو أترفتهم الحضارة، ما زال يقذف بهم موجة بعد موجة كالنهر العظيم المتدفق من قنن الجبال، بعد ينبوعه من الشوائب، واطرد مجراه إلى الغاية المقدرة له، ونبتت على عبريه الزروع والأشجار، وحييت الأمم.
وما تزال جزيرة العرب خلاقة ولادة فياضة ممدة لأقطار العرب بالقبيل بعد القبيل، فإن بليت الأمم فهذه الأمة لا تبلى، وإن أفنت الأقوام الحوادث فالعرب لا تفنى، وإن نضب معين الأمم فلن يغيض الدم العربي الخالص ما دامت أنهار الله جارية في أرض الله، وما دامت شمسه وهواؤه ينميان الأجسام، ويطبعان الأقوام.
ما تزال هذه الجزيرة المحتجزة ببحارها وصحاراها، المتمنعة بحزونتها وشدتها، البعيدة عن سبل المشرق والمغرب، المتأبية على الاختلاط والامتزاج، تحفظ الجنس العربي خالصا بين حدودها، وتمد به العرب المهاجرين نقيا قويا يرد إليهم ما أوهنت الحضارة من أبدانهم ونفوسهم.
Página desconocida
وسيبقى هذا الموطن الأفيح فياضا مدادا يطبع العربي على غرار أرضه وشمسه وهوائه ومائه، ويربيه على قوته وشجاعته وفروسيته، ثم يمد به إخوته في أقطار الأرض؛ فلن يبيد هذا الجنس ولن يهن على مر الزمان.
وكم عرف التاريخ وكم جهل من هجرة بعد هجرة من الجنوب إلى الشمال، من عرب اليمن وحضرموت وعمان إلى نجد والحجاز فالبلقاء وبادية الشام، ثم من الجزيرة كلها إلى العراق والشام ومصر والمغرب والسودان وشرق إفريقية وجزائر المحيط الهندي (بحر العرب).
ولا تزال القبائل البادية في هذه الأقطار تحفظ سننها، وتعرف صلتها بمواطنها وأصولها في الجزيرة، وتعتز بهذه الصلة وتحرص على ذكرها وحفظها.
هذا المصنع مصنع البشر لن يزال مددا للعرب وردءا.
وأما الثبات للحوادث الطبيعية والإنسانية، فما دام هذا الوطن العظيم يعرف بعضه بعضا ويتصل بعضه ببعض، فستجد كل ناحية في النواحي الأخرى ما يسعفها بمطالبها إن قحطت، وما يدرأ عنها الأحداث إن طغت عليها، ومحال أن تعمها كلها الحوادث إلا أن يكون حادث القيامة حين يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما احتفاظ الأمة بخصائصها فعلى قدر ما في أجسامها وعقولها من قوة، وعلى قدر ما فيها من اعتداد بالنفس وثقة بها. والعرب من أقوى الأمم أجساما وعقولا، وأكثرها أنفة وإباء وعجبا وفخارا، والعربي منذ العصور الأولى يغلو في الاعتداد بنفسه، ويأبى أن يسويها بالأمم، ويربأ عن مصاهرتها، وقديما أبى النعمان أن يزوج كسرى، وحديثا قال أحد مجاهدي العرب في طرابلس الغرب، وقد عقد صلح بين أهل طرابلس والطليان، وامتن هؤلاء على العرب بأن سووهم بأنفسهم في الحقوق؛ قال هذا العربي المجاهد، وهو ليس رئيسا ولا زعيما: «وا سوأتاه، أأسوى أنا بالرومي! إنه لظلم عظيم!» بل كان من آفات العرب الغلو في هذه الكبرياء، فصعب أن ينقادوا ويسلسوا القياد، فبهذا الشعور بالعلاء والعظمة جعل العرب يعتزون بأنفسهم، ويمتازون بخصائصهم، ويتمسكون بأخلاقهم، وقديما قال شاعرهم:
وإني لمن قوم كأن نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
وقديما رهن حاجب بن زرارة التميمي قوسه لملك الفرس ضمانا لما التزم من خراج، وحارب بنو شيبان الفرس إباء أن يسلموا سلاح النعمان بعد أن قتله كسرى، وقال أبو تمام يمدح بني شيبان:
إذا افتخرت يوما تميم بقوسها
Página desconocida
وزادت على ما وطدت من مناقب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم
عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
والمثل أكثر من أن تذكر في هذا المقام، وأبين من أن تبين.
إذا أحاطت الأمة القوية أنفسها وخصائصها بأخلاق قوية، كفلت دفع الخطوب عن حوزتها، ولا سيما الأخلاق الإنسانية العزيزة التي تأبى للأمة أن تخضع فتذل فتفنى، والعربي في جاهليته وإسلامه أبي حر، يأنف أن يستعبد أو يستعبد، وقد أمده الإسلام بفضائل سيرته على وجه الأرض كالنجم لا يضل ولا يكل، وجعلته قانونا من قوانين الله يسير إلى غايته مسير الشمس والقمر في حبك السماء.
وكلما أخرجت الأمة من عمل أيديها، وأظهرت من نتاج عقولها، ونشرت من ثمرات أخلاقها وآدابها، زادتها صناعتها وعلومها وآدابها رسوخا على الأرض، وثباتا على مجرى الخطوب. ولا يعرف التاريخ أمة أثرت في وجه الأرض، وشادت في الآفاق وفي الأنفس أكثر من العرب، لا يعرف التاريخ أمة جملته أكثر مما حملوا، أو حملته أحسن مما جملوا، أو سيطرت عليه أعظم مما سيطروا، أو سطرت على صفحاته أجل مما سطروا، فإذا تركنا التاريخ القديم من معين وسبأ وحمير، ومن بابل وأشور، فهل يحدثنا التاريخ عن أمة طلعت على العالم بمثل ما طلع العرب؟ همة ذللت المشرق والمغرب في سنين، ونية تريد الخير للناس أجمعين، وعدلا يسوي بين الجبارين والمستضعفين، بل يمحو من الأرض كل جبار ومستضعف، ويقف الناس جميعا إخوة على سنن من العدل المطلق، والمساواة الكاملة، والأخوة الشاملة.
هل يعرف التاريخ أمة جمعت في سلطانها ما جمع العرب من أمم وأقطار، ثم آخت بينهم وحفزتهم إلى الفضائل والآداب والعلوم والصناعات، فإذا معظم العالم المتحضر متعاون على نسج حضارة واحدة عظيمة، كل أمة قدر مواهبها وقواها، فوصلت ما انقطع من سير الحضارة، وقطعت ما اتصل من سير الجبروت والاستعباد، والشر والفساد، وما فعلوا هذا كله إلا ابتغاء وجه الله، وقصدا إلى إصلاح الناس، وعمران الأرض. وقد ربط التاريخ ذكر العرب وتاريخ العرب بهذه المآثر وتلك الفضائل والأخلاق والمكارم، وضمن لهم الخلود ما بقي للناس سيرة في الفضائل والمعالي.
لا أقول إن الإسلام صنع العرب؛ فالإسلام صنع الله، ولكن العرب كانوا أول من حملوا هذه الأمانة فحملوها، ودعوا إلى هذه المعالي ففقهوها، وكلفوا نشرها فنشروها، فكأنما خلقت لهم أو خلقوا لها، وكانوا أحق بها وأهلها؛ وللأمم الإسلامية الأخرى بعد هذا فضل لا ينكر.
ثم أدب العرب، هل يعرف العالم أعظم منه سعة رقعة، وطول مدة، وجمالا وجلالا؟
إذا ثبتت الأمم بنيانها على كر العصور بالسير المجيدة، والمثل العالية، فعند العرب سير رجف بها الزمان، وأقر لها الحدثان، وإن مكنت الأمم لأنفسها بالصناعات والعلوم والآداب، فعند العرب ما يكفل لهم التمكن في الأرض والخلود في سجل التاريخ، وحسب المجادل أن يسير فكرة بين هضب إيران وبحر الظلمات وجبال البرانس وغابات إفريقية، ويعبر التاريخ في هذه المواطن كلها أربعة عشر قرنا ليرى مجد العرب، ويبصر حجة العرب.
Página desconocida
ولا نقول: إن العرب خلقوا ولم يقلدوا، وابتدعوا ولم يتبعوا، وأعطوا ولم يأخذوا، وأعاروا ولم يستعيروا؛ ولكنا نقول: إنهم أحسنوا الخلق والتقليد، وأجادوا الابتداع والاتباع، والأخذ والعطاء، والإعارة والاستعارة، والأمم تدل على فضلها بالأخذ كما تدل عليه بالعطاء، وتثبت حياتها بالمحاكاة كما تثبتها بالخلق، وإنما حياة الأحياء على قدر ما تؤثر في غيرها وتتأثر. الذي لا يأخذ ولا يعطي جماد، والنبات يأخذ ويعطي قليلا، وانظر بعد هذا الحيوان الأعجم والإنسان، ثم اعتبر هذا في تاريخ الأمم، يصح الاعتبار، ويطرد القياس .
تخلد الأمم بأفعالها وآثارها، ويقينها في أنفسها، ويزيدها مكانة وتمكينا في الخلود أن يزيد على مر العصور مجدها، وتعظم على كر الدهور بين الأمم مكانتها، حتى تعلو على أحداث الزمان، ومطامع الإنسان، فتقر لها الأمم بالفضل، وتخلي لها سبيلها في الحياة، وللعرب من هذا كله نصيب موفور، وسعي بين الأمم مشكور، لا ينكره إلا من ضل به الهوى، أو جار به الحسد.
وهم جديرون اليوم بتاريخهم، حقيقون بسيرتهم، ولن يكونوا إلا كما كانوا من قبل، دعاة حرية وأخوة، وهداة مدنية وعمران، وأئمة أخلاق وآداب، وأنصار فضيلة وحق، ولن يكون نهوضهم اليوم إلا خيرا للبشر، وسلاما للناس أجمعين.
ولهذه الأمة الكريمة الخالدة لغة كريمة خالدة، أنضجها الزمان المتطاول في البقاع الشاسعة من الجزيرة، وأخرجتها الفطرة السليمة والإحساس المرهف والإدراك النافذ لغة كاملة معجبة عجيبة، تكاد تصور ألفاظها مشاهد الطبيعة، وتمثل كلماتها خطرات النفوس، تكاد تتجلى معانيها في أجراس الألفاظ، وتتمثل في نبرات الحروف، كأنما كلماتها خطرات الضمير ونبضات القلوب ونبرات الحياة، فالمعاني المحسة والمعقولة مبينة في ألفاظ تدرك الفروق الدقيقة بين الأشياء المتشابهة، فتضع للشبيه لفظا غير ما وضعته لشبيهه، إدراكا للفرق الدقيق بينهما. فإذا وضعت بعض اللغات للضرب مثلا كلمة واحدة، وضعت العربية كلمات تختلف باختلاف آلة الضرب وموضعه من الجسم، وإذا دلت اللغات على صفات الوجه الإنساني مثلا بكلمات مركبة لكل صفة، دلت العربية على كل حلية في الإنسان، وكل صفة في عينيه وحاجبه وأنفه وفمه وأسنانه وغيرها بأسماء خاصة، وليس هذا مقام التمثيل والتفصيل.
ثم هذا الإحساس الدقيق المتمثل في المفردات يتجلى في التركيب مدهشا؛ فكل كلمة لها في الجملة مكانة يحس بها المتكلم، أو تحس بها الكلمة نفسها، فتعطي أو تأخذ صوتا مكافئا لهذه المكانة، فالكلمة الأصيلة لها أقوى الأصوات وهو الضم، والأخريات لها الفتح والجر. وما أرى هذا إلا ضربا من الحياة في الألفاظ والتركيب، يبين عن أدق الإحساس وألطفه.
وإذا اشتملت اللغات على كلمات هي مادتها، ففي اللغة العربية مادة وقوالب يستعملها صاحبها حين الحاجة ، فيها مادة ووزن، فخذ المادة أو اخلقها أو استعرها من لغة أخرى، ثم صبها في قالب من قوالب الأسماء والأفعال، وصورها بالقوالب أو الأوزان ما تشاء، فلغتنا تدل بالمادة والوزن، وبالصيغة والهيئة، فمن سمع فاعلا أو مفعولا أدرك أن هذا الوزن في حركاته وسكناته له معنى يلازمه في المواد كلها. وبهذا امتازت اللغة واستبانت خصائصها، حتى نفت عن نفسها كل كلمة أجنبية ما لم تخضع لأوزانها وقوانينها؛ للأسماء أوزان وللأفعال أوزان، فما لا تزنه هذه الأوزان فهو أجنبي؛ وبهذا بقيت على الدهر المتطاول خالصة نقية، صحيحة قوية.
قيل: إن لغتنا صعبة بهذه المفردات وبهذه التراكيب والأوزان، وإنها تكاد تأبى على دارسها وتعجز طالبها، وهذا حق لا ندفعه، وإن عد عيبا فلا ننكره، ولكنه ليس من نقصان في خلقها، أو اختلال في بنيتها، أو عجز في موادها وأوزانها، ولكنه نتيجة التطور الكامل والنمو التام، فأدنى الأشياء في هذا العالم أيسرها وأقلها تركيبا، والكمال يصحبه التركيب والتفصيل والإشكال والإعضال، اعتبر هذا في النبات والحيوان، وفي الحيوان ذي الخلية الواحدة والإنسان، ثم انظر المراتب بينهما، واعتبر هذا في البداوة والحضارة، وفي أنواع الحضارات، تجد النقص بساطة ويسرا، والكمال تركيبا وصعوبة. الكمال في هذا العالم لا ينال إلا بتطور تلده الأحقاب بعد الأحقاب، وتنوء به العزائم بعد العزائم، فلغتنا صعبة، ولكنها كاملة دقيقة مواتية، حية حساسة، موسيقية متلائمة.
وقد امتحنت هذه اللغة الحضارة الواسعة، واختبرها التاريخ الطويل، فلم تعجز ولم تعي ولم تضق بكل ما أدركه الإنسان من علم، وثقفه من صناعة؛ بل وسعت حضارة القرون المتطاولة، والأمم المختلفة، غير كارهة ولا مكرهة.
وقد أراد الله لها أن تكون لغة كتابه، وترجمان وحيه، وبلاغ رسالته، فاشتملت على العالم الحسي والعقلي مصورا في كلمات وآيات، وجوزيت على هذا خلودا ما خلد للإنسان عقل وقلب، وما استقام له إحساس وإدراك.
وتقلب الزمن، وتوالت المحن، وثارت الفتن، وهي ثابتة ناضرة رائعة، ثبات قوانين الله وروعة كواكبه. خمسة عشر قرنا محت لغات وخلقت لغات وبدلت لغات، وحرفت لغات ، والعربية هي العربية، لم تمح ولم تغير ولم تبدل، ما آية الخلود بعد هذا؟
Página desconocida
ولم تبق هذه العربية لغة العرب وحدهم، بل ثقفتها الأمم الأخرى، وأولتها من الحفاوة والعناية أكثر مما أولت لغاتها أحيانا، فصارت لغة العلوم والآداب للعرب وغير العرب حقبا طويلة، ما بين أقصى المغرب وأقصى المشرق، ولا تزال على تبدل الأحوال وتوالي الغير لغة أدب وعلم في الأمم الإسلامية غير العربية، وما تزال لغات هذه الأمم مترعة بألفاظها، وما تزال تستمد العربية.
وقد حوت على مر العصور أدبا لا تحويه لغة أخرى، أدبا موطنه ما بين الصين إلى بحر الظلمات، وزمانه أربعة عشر قرنا، ولا نعرف في آداب العالم قديمها وحديثها أدبا اتسعت به المواطن هذا الاتساع، وامتدت به الأعصار هذا الامتداد.
فالعربية بأهلها وموطنها وخصائصها وآدابها وتاريخها، العربية بقرآنها، خالدة باقية على الخطوب والعصور، لغة دين وعلم وأدب وحضارة وإنسانية، فهل تنصرها همم أبنائها، وتستجيب لها عزائمهم؟
جزيرة العرب
عرفت بلاد العرب منذ الجاهلية باسم جزيرة العرب، وقد روي في بعض الأحاديث النبوية أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب.
وما أحسب العرب في الجاهلية وصدر الإسلام نظروا إلى المعنى الاصطلاحي التام لكلمة جزيرة، بل أرادوا الأرض يدور الماء على نواح منها.
قال المقدسي: إن العرب يسمون شبه الجزيرة جزيرة، ونجد تصديق هذا في تسميتهم جزيرة الأندلس، وجزيرة أقور بين الفرات ودجلة، وجزيرة ابن عمر هناك، والجزيرة الخضراء في الأندلس.
ثم أراد جغرافيو العرب من بعد أن يفسروا هذا الاسم بالمعنى الخاص للجزيرة في الاصطلاح الجغرافي، فقالوا: إنما سميت جزيرة لإحاطة المياه بها. ونقل صاحب لسان العرب عن التهذيب:
سميت جزيرة لأن البحرين بحر فارس وبحر السودان أحاطا بناحيتيها، وأحاط بجانب الشمال دجلة والفرات.
وأجمع ما قيل في هذا ما رواه الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب:
Página desconocida
وإنما سميت جزيرة لإحاطة الأنهار والبحار بها من جميع أقطارها وأطرافها، فصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر، وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم، فظهر بناحية قنسرين ، ثم انحط على أطراف الجزيرة وسواد العراق، حتى دفع في البحر في ناحية البصرة والأبلة، وامتد إلى عبادان، وأخذ البحر في ذلك الموضع مغربا مطيفا ببلاد العرب منعطفا عليها، فأتى منها على سفوان وكاظمة إلى القطيف وهجر وأسياف البحرين وقطر وعمان والشحر، ومال منه عنق إلى حضرموت وناحية أبين وعدن، وانصب مغربا نصبا إلى دهلك، واستطال ذلك العنق فطعن في تهائم اليمن إلى بلاد فرسان وحكم والأشعريين وعك، ومضى إلى جدة ساحل مكة، والجار ساحل المدينة، ثم ساحل الطور وخليج أيلة وساحل راية، حتى بلغ قلزم مصر وخالط بلادها.
وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلا معارضا للبحر معه، حتى دفع في بحر مصر والشام، ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فسلطين، فمر بعسقلان وسواحلها، وأتى على صور ساحل الأردن، وعلى بيروت وذواتها من سواحل دمشق، ثم نفذ إلى سواحل حمص وسواحل قنسرين حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات، منحطا على أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق.
وقد حاول هذا الواصف أن يحكم الدائرة، فأدخل النيل في المياه المحيطة بالجزيرة، ولم يرد أن يغفل المسافة بين خليج السويس وبحر الروم الذي سماه بحر مصر والشام، فاستعان بفرع النيل الشرقي على إحكام هذه الدائرة من المياه المحيطة بالجزيرة.
وهذا التحديد يدخل بلاد الشام كلها والبادية التي بين الشام والعراق وبادية سيناء، في جزيرة العرب، والحد الشمالي يختلف فيه الجغرافيون، منهم من يجعل الحد الشمالي صحراء النفود، فيخرجون بادية الشام من الجزيرة، ومن هؤلاء المقدسي.
والتحديد المساير لطبيعة الأرض يدخل بادية الشام وسيناء في الجزيرة، فحدها على هذا من الشرق بحر عمان وخليج البصرة (خليج فارس) ونهر الفرات، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الغرب البحر الأحمر وقناة السويس، ومن الشمال البحر الأبيض، وخط يبتدئ من العريش مسايرا حدود فلسطين الجنوبية، ومنعطفا إلى الشمال مع حدود الشام الشرقية حتى يقارب تدمر، ثم ييمم الشرق إلى الفرات، ثم يسير صوب الجنوب الشرقي إلى ملتقى شط العرب وخليج البصرة.
وأبعاد الجزيرة من بور سعيد إلى عدن
1500 ميل
ومن باب المندب إلى رأس الحد في عمان
1300 ميل
ومن بور سعيد إلى الفرات
Página desconocida
600 ميل
ومتوسط عرضها من الشرق إلى الغرب 700 ميل، ومتوسط طولها 1200 ميل، ومساحتها 1200000 ميل، ثلثها صحارى رملية. (1) طبيعة الجزيرة
والجزيرة في جملتها نجد أقصى ارتفاعه في الجنوب والغرب، وانحداره نحو الشمال والشرق إلى وادي الفرات وساحل الخليج الفارسي.
والسفح الغربي يرتفع من البحر صاعدا حتى يبلغ علوا يختلف من أربعة آلاف قدم إلى ثمانية آلاف.
وبينه وبين البحر ساحل ضيق لا يتجاوز عرضه ثلاثين ميلا، وهي قاحلة في كثير من جهاتها، قليلة المياه، ليس بها مجرى ماء دائم، ولا تنهمر عليها أمطار غزيرة كالتي تسقط على جبال الحبشة لقلة الجبال بها، وأن جبالها لا تعلو إلى مستوى الجبال العالية في الأقطار الأخرى.
وليس بها بحيرات ولا غابات كثيفة.
ومجاري المياه فيها أودية يسيل أكثرها عقب المطر، ثم يغيض ويترك المطر بها غدرانا ورياضا وقيعانا وأحساء وعيونا.
فالغدران جمع غدير وهو بركة يملؤها المطر.
والرياض جمع روضة وهي مجتمع ماء في مطمئن من الأرض، وربما تبلغ سعة الروضة في الجزيرة ميلا في ميل، وكثيرا ما ينبت عليها ضروب من العشب والبقول لا يسرع إليها الذبول.
وإذا كثر عشب الروضة والتف فهي حديقة.
Página desconocida
وقد عد ياقوت من رياض العرب المعروفة زهاء مائة وأربعين، وقال:
والرياض المجهولة كثيرة جدا، إنما نذكر ههنا الأعلام منها، وما أضيف إلى قوم أو موضع تجاوره، أو واد أو رجل بعينه.
والقيعان جمع قاع، وهي أرض واسعة مستوية يستقر بها الماء أحيانا عقب المطر.
والأحساء جمع حسي، وهو حفرة ينكشف فيها الرمل عن ماء تسرب فيه إلى أرض صلبة تمنعه أن يغيض في الأرض؛ وسيأتي ذكرها في بلاد الأحساء. (1-1) الرياح والمطر
أكثر الرياح هبوبا في الشمال الريح الغربية، وعلى السواحل الجنوبية الريح الشرقية.
والصبا وهي ريح الشرق محمودة جدا في نجد، وقد أكثر الشعراء من ذكرها، وريح الشمال في الوسط والشمال باردة جدا . وقد تمدح العرب بالجود حين تهب هذه الريح:
لقد علم الضيف والمرملون
إذا اغبر أفق وهبت شمالا
بأنك ربيع وغيث مريع
وأنك هناك تكون الثمالا
Página desconocida
وتهب في الصيف السموم، وهي ريح شديدة الحر مهلكة.
وقد أكثر العرب من تسمية الرياح، بين الرخاء والعاصف والهوجاء. وسموا الشمال والجنوب والصبا والدبور والريح النكباء، وهي التي تهب بين مهب ريحين أصليتين، كالتي تهب بين الصبا والجنوب مثلا.
وقالوا للريح التي لا تثبت على وجهة: الريح المتذائبة، كأنها تفعل معهم فعل الذئب، تأتيهم من جهات مختلفة.
ويضيق المجال عن توسعة الكلام عن الرياح وأثرها في معيشة العرب، وذكرها في كلامهم.
وأما المطر فهو حياة البادية، وفي انقطاعه هلاكها. من المطر تجري الأودية وتمتلئ الغدران، فيشربون ويسقون حيوانهم، ومن المطر ينبت المرعى للحيوان، فإذا حبس المطر في مكان، انتجعوا مكانا يلتمسون مواقع القطر، فإذا عم القحط هلك الناس أو أشرفوا.
ومن أجل ذلك سمي المطر رحمة وغيثا. وعني العرب بمعرفة الرياح الممطرة والرياح العقيمة، وعرفوا أوصاف الغمام الممطر والغمام الجهام، وافتنوا في تسمية السحب باختلاف ألوانها وأشكالها، وعددوا أسماء المطر باختلاف مقداره ومدته، فقالوا: الرذاذ، والطش، والطل، والوابل، والديمة، وهكذا.
وللعرب في المطر وأوصافه وأخباره شعر كثير ونثر.
ويغزر المطر على جبال اليمن والجبل الأخضر في عمان. وأغزر أمطار اليمن ما ينزل على الحافة الغربية ويمتد مائة ميل إلى الشرق، ويقل كلما اتجه إلى الشرق، والمطر الجود هناك يكفي لزراعة الصيف ولإمداد الجداول الدائمة الجريان التي تروي زرع الشتاء، وربما يستمر المطر شهرين في الجهات العالية مثل جهات صنعاء، وينزل في تهامة اليمن مطر في الشتاء أحيانا.
وفي شمالي الجزيرة ووسطها ينزل المطر في الشتاء بين تشرين الأول ونيسان (أكتوبر وأبريل) وهو قليل غير موقوت، وينقطع بعض السنين، وهي السنوات الشهب، وهذه السنوات تعد مصائب، فيقال: أصابتهم سنة. وفي القرآن الكريم:
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات
Página desconocida
وفي بعض أرجاء نجد ينزل المطر في ميعاد معلوم كل سنة.
وفي الطائف يهطل المطر في أواخر آب (أغسطس) ويدوم شهرا أو شهرا ونصفا، وكأن هذا منتهى الرياح الموسمية التي تهب من الجنوب الغربي، وتمطر على اليمن من حزيران إلى أيلول (يونيو إلى سبتمبر).
وينزل البرد على الحرار وجبال تهامة في الشمال، وينزل أحيانا في صحراء النفود، وعلى الجبل الأخضر بعمان، وهو نادر في جبال اليمن. (1-2) الزرع والشجر
جزيرة العرب ليس بها أنهار، ومطرها لا يروي غلتها، فزرعها قليل لا يفي بحاجات أهلها.
تزرع الذرة في جهات قليلة، والشعير كثير في أنحاء مختلفة، والقمح في اليمن واليمامة وبعض الواحات، وهو في الجملة قليل.
ويزرع الأرز في عمان والأحساء.
والقت ينبت في البادية، ويسمى اليوم السمح، وهو يشبه الدخن المعروف في السودان، ودقيقه أجود من دقيق الشعير. ويطحن الناس حب الحنظل أيام الجدب.
والكرم في جهات كثيرة مثل المدينة المنورة والطائف، والموز والتفاح والرمان والبرتقال في جهات قليلة.
وأعظم ثمار الجزيرة التمر، والنخل في عمان واليمامة والحجاز كثير، ومما يدل على كثرة التمر بالقياس إلى القمح أن زكاة الفطر قدرت نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير.
وفي المدينة زهاء مئة صنف من التمر.
Página desconocida
ومن الأشجار البرية: الدوم، والسدر، والحناء، والضال، والسلم، والأثل، والغضى، والسمر. (1-3) الحيوان
لا حاجة إلى ذكر الإبل والخيل والضأن والمعز، فهي كثيرة في كل الجزيرة، وعليها عماد معيشتهم. والفرس العربي أجمل خيل العالم وصيته ذائع، وقد فاض الشعر العربي بذكر الإبل في أسفار العرب وقراهم، وتذكر الخيل في الحرب والصيد وبيان كرمها عليهم وإيثارها بالقوت أحيانا. ومن أجمل ما في الشعر العربي هذه الألفة المتينة بين الفارس والفرس، والصحبة الطويلة بين الجمل وصاحبه في الأسفار البعيدة.
وقارئ الشعر الجاهلي لا يحتاج إلى من يدله على مواضع وصف الإبل والخيل فيه، فقلما تخلو قصيدة طويلة من وصف الناقة. وفي كثير من القصائد ذكر الخيل ولكنه أقل من وصف الإبل، وحسب القارئ أن يقرأ معلقة طرفة أو قصيدة المثقب العبدي التي يصف فيها ناقته ثم يقول:
إذا ما قمت أرحلها بليل
تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا درأت لها وضيني
أهذا دينه أبدا وديني؟
أكل الدهر حل وارتحال
أما يبقي علي وما يقيني؟
وكثيرا ما يذكر الشاعر كرامة الفرس عليه وتقريبه إلى مجلسه، حتى سميت الخيل المقربات، ويتحدث عن إيثار الفرس باللبن، ولوم امرأته إياه على هذا كما قال بعضهم:
Página desconocida
تلوم علي أن أمنح الورد لقحة
وما تستوي والورد ساعة تفزع
وأحيانا يذكر لوم امرأته إياه على اقتناء فرس يكلفه ما لا يطيق، ومطالبتها ببيعه، كما قال حاجب بن حبيب الأسدي من شعراء المفضليات:
باتت تلوم على ثادق
1
ليشري
2
فقد جد عصيانها
ألا إن نجواك في ثادق
سواء علي وإعانها
Página desconocida
وقالت: أغثنا به إنني
أرى الخيل قد ثابت أثمانها
فقلت ألم تعلمي أنه
كريم المكبة مبدانها
3
كميت أمر على زفرة
طويل القوائم عريانها
تراه على الخيل ذا جرأة
إذا ما تقطع أقرانها
طويل العنان قليل العثار
Página desconocida
خاظي الطريقة
4
ريانها
والحمار في اليمن والحجاز والأحساء، والبدو يأنفون من ركوبه؛ والبقر قليل.
ومن الوحش الأسد، وللأسد في اللغة أسماء وأوصاف كثيرة، تدل على ما ملأ نفوس العرب من هيبته وخشيته. وقد عد الهمداني في كتابه «صفة جزيرة العرب» أربع عشرة مأسدة، وقد أضيفت الأسود إلى بعض هذه المآسد في الشعر العربي، فقيل: أسود بيشة، وأسود خفان، وأسود الشرى، وأسود ترج. والأسد نادر في الجزيرة اليوم.
والفهد والنمر معروفان في الجزيرة، وأما الضبع فقد كثر حديثهم عنها، وضربوا الأمثال لها ورووا الأساطير.
والذئب نال من عناية الشعراء في الجاهلية والإسلام ما لم ينله وحش آخر إلا الأسد. والقرد في اليمن.
والغزال في كل الأرجاء؛ وقد افتن الشعر العربي في وصفه وتشبيه النساء به، ومنه نوع كبير يرى في النفود اليوم، وهو في كبر الحمار، أبيض له قرون مستقيمة، ويسميه العرب بقر الوحش، والأنثى مهاة. وكم شبه العرب المرأة بالمهاة في سعة عينها وفي مشيها، كما تحدثوا كثيرا عن الثور الوحشي، ووصفوا ما يقع بينه وبين الصيادين وكلاب الصيد، كما في معلقة لبيد وغيرها.
وحمار الوحش وصفوه كثيرا وشبهوا به الإبل في سرعتها، واهتموا بصيده، وفصلوا الكلام في وقائعه وجعلوه أعظم الصيد، فقالوا: «كل الصيد في جوف الفراء»، انظر قصيدة أبي ذؤيب الهذلي التي مطلعها:
أمن المنون وريبه تتوجع
Página desconocida
والدهر ليس بمعتب من يجزع
ثم اقرأ شعر الشماخ بن ضرار، تعرف كيف أولع شعراء العرب بوصف هذا الحيوان.
والنعام يعيش في النفود في الشمال، ووادي الدواسر إلى الجنوب الغربي من نجد، وقد فتن العرب بسرعته، فوصفوه وشبهوا به الإبل في سرعتها، كما شبهوها بثور الوحش وحماره، ووصفوا بيضه وشبهوا المرأة به في بياضه وصفائه، وجاء في القرآن الكريم:
كأنهن بيض مكنون .
والأوعال في بلاد اليمن وغيرها، وهي المعز الجبلية، وقد ذكرت في الشعر كثيرا، وجعلت مثلا في قول الشاعر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
والأرنب كثير في الجهات كلها.
ومن الطير الحمام والقطا، وقد ردد ذكر القطا شعراء العرب، وسموه الكدري للونه، وذكروه في طيرانه وفي وروده المناهل البعيدة، وقالوا: أصدق من قطاة؛ لأن صوت القطا يحكي اسمه، فكأنه يدل على نفسه.
والسماني كثيرة أيضا.
Página desconocida
ومن الطير الجارحة: النسر، والصقر، والحدأة، والغراب.
وفي الجزيرة الثعبان والعقرب والورل والضب، وقد ضرب المثل بالضب في إلف القفر والصبر على الماء، وفي عقد ذنبه، فقالوا: أعقد من ذنب الضب. وضربوا الأمثال وحكوا الأساطير عنه.
والجراد كثير جدا يأكله الناس. والنحل لا يتخذ في الدور كثيرا، ولكن يتخذ البيوت في الجبال والشجر، وقد افتن العرب في تسمية جماعة النحل وذكورها وجني العسل وآلاته؛ وهكذا تصور هذا اللغة وتحكيه الأخبار والأشعار، وفي اليمن وحضرموت عسل طيب جدا. (2) أقسام الجزيرة
قسم العرب جزيرتهم تقسيما مسايرا لطبيعتها إلى خمسة الأقسام الآتية: وزاد ابن حوقل ثلاثة أصقاع: بادية العراق، وبادية الجزيرة، وبادية الشام.
وهذا ما قاله الجغرافيون في هذا التقسيم كما رواه الهمداني:
فصارت بلاد العرب من هذه الجزيرة التي نزلوها وتوالدوا فيها على خمسة أقسام عند العرب، في أشعارها وأخبارها:
تهامة، والحجاز، ونجد، والعروض، واليمن.
وذلك أن جبل السراة ، وهو أعظم جبال العرب وأذكرها أقبل من قعرة اليمن حتى بلغ أطراف بوادي الشام، فسمته العرب حجازا؛ لأنه حجز بين الغور وهو تهامة وهو هابط، وبين نجد وهو ظاهر.
فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيه إلى أسياف البحر من بلاد الأشعريين وعك وكنانة وغيرها ودونها إلى ذات عرق والجحفة وما صاقبها وغار من أرضها: الغور غور تهامة، وتهامة تجمع ذلك كله.
وصار ما دون ذلك الجبل في شرقيه من صحارى نجد إلى أطراف العراق والسماوة وما يليها: نجدا، ونجد تجمع ذلك كله.
Página desconocida
وصار الجبل نفسه سراته وهو الحجاز وما احتجز به في شرقيه من الجبال وانحاز إلى ناحية فيد والجبلين إلى المدينة، وراجعا إلى أرض مذحج من تثليث وما دونها: حجازا، والحجاز يجمع ذلك كله.
وصارت بلاد اليمامة والبحرين وما والاهما العروض، وفيها نجد وغور لقربها من البحر وانخفاض مواضع منها ومسايل أودية فيها، والعروض يجمع ذلك كله.
وصار ما خلف تثليث وما قاربها إلى صنعاء، وما والاها من البلاد إلى حضرموت والشحر وعمان وما يلي ذلك: اليمن، وفيها التهائم والنجد، واليمن تجمع ذلك كله.
وهذا تقسيم - كما يرى - يجعل جنوبي الجزيرة كله من اليمن، والشائع غير هذا.
ويمكن أن تقسم الجزيرة تقسيما طبيعيا إلى ثلاثة أقسام: الشمال والوسط والجنوب؛ فالشمال ما بين شاطئ مدين ورأس الخليج الفارسي وما يتصل به شمالا، وهو صحراء حجرية في الشمال، رملية في الجنوب، ولكنها بعد المطر تنبت مراعي واسعة، وأكثر سكان هذا القسم بداة رعاة.
والوسط الحجاز ونجد والأحساء، وكثير من جهاته قاحل فيه آبار وغدران، وكثير من بقاعه تجري فيه أودية كبيرة، فتنبت المراعي والزرع والشجر، وفيه كثير من القرى والمدن.
وأما القسم الجنوبي ففيه هضبة عسير واليمن في الغرب، والجبل الأخضر في الشرق، والهواء فيها معتدل بارتفاعها وقربها من البحر، والأمطار كثيرة، والأرض مغلة، وأكثر الناس حضر.
وسيول اليمن تجري في أودية دائمة وبعضها يهبط إلى تهامة، فينبت بها واحات كثيرة في الغرب والجنوب، ولكن خصب اليمن لا يمتد إلى الشرق طويلا ؛ فوراء الهضب الصحراء الكبيرة أو الربع الخالي.
وفي حضرموت قرى كثيرة غنية.
هذا إجمال تقسيم الجزيرة تقسيما طبيعيا، وفيما يلي تفصيل القول قليلا في هذه الأقسام. (2-1) القسم الشمالي
Página desconocida
البادية الشمالية قسمان: الشمالي منها أرض صلبة تسمى اليوم الحماد، وينتهي هذا القسم إلى قرية الجوف (دومة الجندل) جنوبا.
وفي هذ القسم أودية تسيل من الغرب إلى الفرات، أعظمها وادي حوران، وفيه كذلك واد كبير يسمى وادي السرحان، وهو يسيل من جبل حوران صوب الجنوب والشرق، حتى ينتهي إلى قرية الجوف، وينبت على جانبيه واحات خصبة.
وفي هذا الجانب طريق السيارات بين دمشق وبغداد اليوم، وهو زهاء ثمانمائة وستين كيلا، تقطعها السيارات في عشرين ساعة مع الاستراحة. وهي البادية التي اخترقها سيدنا خالد بن الوليد بجيشه في السنة الثانية عشرة من الهجرة، إذ سار من العراق مددا لجيوش العرب في الشام، فرمى بنفسه وجيشه في بادية لا ماء فيها، وأتى الروم من مأمنهم وفجأهم بما لم يحتسبوا، وقد قطعها في خمسة أيام.
وهذه البادية تسمى اليوم بادية الشام، وبادية الشام - على التحقيق - كانت اسما للقسم الغربي منها، وقسمها الشرقي كان يسمى في الجنوب بادية العراق أو السماوة، وفي الشمال بادية الجزيرة أو خساف.
والسماوة عند العرب أرض مستوية لا حجارة فيها، والسماوة أمكنة متعددة، وقد ذكرت في شعر المتنبي وغيره.
قال جرير:
صبحت عمان الخيل وهي كأنها
قطا هاج من فوق السماوة ناهل
وقال عدي بن الرقاع يصف الظباء:
فترددن بالسماوة حتى
Página desconocida