La Ciudad Ideal en los Filósofos del Siglo XVIII
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Géneros
10
ولعل أهم ما نتج عن هذا الانقلاب أننا نتطلع عبثا إلى سند من سلطان أو نحوه يشبه على وجه من الوجوه ما كان للسلف، ولكننا لا نحصل عليه ولا نجد مثل ذلك المبدأ المطلق القديم، لنثبت به أقدامنا كيما نأخذ في السير من جديد، لقد خلعوا زفس فأصبح لا يصلح لأن يتخذ منه الفكر مقدمة لاستدلال ما، ولكن هذا لا يفيد أن الإيمان بزفس قد بطل؛ إذ لا يزال هناك من يؤمن به، بل إن من العلميين والمؤرخين والفلاسفة من لا يزال يعبده وفقا لما وجدوا آباءهم عليه، ولكن عبادة زفس الآن لا تعدو أن تكون من جانب العابدين مسألة شخصية واستعمالا خاصا لحق من حقوقهم، وشأنهم في هذا شأن المواطنين الكاثوليك حينما تحولت أممهم للبروتستنتية، كان يرخص لهم أحيانا بإقامة القداس بصفة غير علنية في بيوتهم، هذا كل ما في الأمر، فلن تجد اليوم عالما جادا يجعل نقطة البدء في شرح نظرية الكوانتوم أو تاريخ الثورة الفرنسية مبدأ وجود الله أو كونه خيرا، ولو جرؤت أنا في موقفي هذا منكم - كما جرؤ مؤرخون من قبل - وعرضت عليكم فكر القرن الثامن عشر كما لو كان أمرا قضى الله أن يعاقب به جيلا فاسقا عنيدا من الناس، لو فعلت لكان في ذلك إحراج مني لكم غير قليل، ولتحركتم في مقاعدكم وأبديتم ما يدل على ارتباككم وخجلكم من أجل زميل لكم خيب ثقتكم به، فارتكب من سوء الذوق ما ارتكب.
والواقع أن ليس لدينا مبدأ أول، ومنذ أجلسنا الأعاصير على عرش الربوبية فلا بد أن تكون نقطة البدء هي الأعاصير، أو بعبارة أخرى، ذلك الخليط من كل شيء الذي نعيش فيه، وأول ما نواجه من مادة هذا الخليط هي الحقائق التي وصفناها بأنها غير ذلول وغير قابلة للترويض، وهذه لا بد من أن نقبلها كما هي، فلا يمكننا اليوم أن نتلطف بها، وأن نداهنها لتقبل الانطواء في إحدى المقولات الفكرية التي تقوم على افتراض نسق منطقي للعالم، وماذا نفعل بها إذن؟ نلاحظها، نستخدمها في الاختبارات، نحققها، ننسقها، نقيسها إن أمكن، نستخدمها في الاستدلالات العقلية أقل ما يمكن، وتكون أسئلتنا مما يبدأ بما وبكيف، كأن نسأل ما الحقائق وكيف تتصل؟ فإذا ما حدث مرة في لحظة من لحظات شرود الفكر أو لهو الفراغ أن نسأل: «لم» أعيانا الجواب، وجملة القول أن غايتنا الكبرى هي أن نقيس العالم ونسيطر عليه لا أن نفهمه.
وبما أن غايتنا الكبرى هي أن نقيس العالم ونسيطر عليه، فاللاهوت والفلسفة والمنطق القياسي لا تنفعنا كثيرا لبلوغ هذه الغاية، وبعد أن كانت هذه الدراسات العريقة أبواب مدينة العلم كما تصورها العقل في العصور الوسطى فإنها نزلت في خلال القرون الثمانية الماضية من عليائها، وأجلس المحدثون على عروشها التاريخ والعلم الطبيعي وأساليب الملاحظة والحساب، حقيقة لا يزال اللاهوت - أو ما يسمى باسم اللاهوت - حيا عند المؤمنين به، ولكنه يحيا بالتنفس الصناعي، وأما وظيفته، وأما ما كان يؤديه في عصر القديس توماس، فقد أصبح يتولاهما التاريخ لا الفلسفة كما يتوهم الناس؛ وذلك لأن موضوعه عند المحدثين هو الإنسان وعالم الإنسانية على مر الزمان، وهو بالضبط ما تكفل به اللاهوت في القرن الثالث عشر، عندما عرض رجاله صورة لتاريخ الإنسان والعالم تتفق مع ما دبر الله لنجاة عباده، وقد وجد أهل العصور الوسطى في تلك الصورة فلسفة للتاريخ جديرة حقا بهذا الاسم أغنتهم فعلا عن النظر في تجارب الأمم؛ إذ ما الداعي لهذا وهم مطمئنون كل الاطمئنان إلى ما جاءهم من علم عن العلة الأولى للأحداث التي تصيبهم وعما تدلهم عليه.
ثم حدث فيما بعد القرن الثالث عشر أن أخذوا يتحولون شيئا فشيئا عن ذلك المذهب ويوجهون عنايتهم لاستقصاء تاريخ الإنسان مسطرا في أسانيده، ويبذلون من أجل هذا جهدا كبيرا، فيحققون الوقائع مهما صغرت ولا شغل لهم إلا بها، وانبنى على هذا الجهد أن حصلنا على مادة من الحقائق التاريخية لا تقبل جحودا ولا إغفالا، وفي ضوء هذا الفيض الزاخر من الحقائق تضاءلت الصورة التي رسمها اللاهوتيون للإنسان والعالم، حتى صارت في نظرنا نسخة باهتة اللون من ذلك الأصل اللامع، وقد مرت فلسفة التاريخ في أطوار، فكانت أولا في أيدي اللاهوتيين واضحة الحدود، ثم تضاءل خطرها وخف وزنها، وأصبحت في أيدي رجال القرن الثامن عشر، ذلك الأدب المهذب الرشيق الذي عرفوه باسم «الفلسفة تعلم الناس بضرب الأمثال»، ولكن في أوائل القرن التاسع عشر عاد بعض المفكرين فاعتبروا «التاريخ المبدأ الأسمى يحقق نفسه بالفعل»، أما في أيامنا فالأمر بسيط كل البساطة، ما التاريخ إلا التاريخ؛ أي تسجيل ما حدث كما حدث، والغرض منه كما قال سانتيانا
11
لا يتجاوز «تعيين نظام لتعاقب الحوادث في الزمان والمكان»، ولا يوجد اليوم بين المؤرخين الذين يعتد بهم من يخفي تحت ستار البحث التاريخي المحدود مآرب أخرى، وإذا فرض وحاول أحد المؤرخين أن يدخل خلسة في عرضه للتاريخ الإنساني شرحا مصطبغا بصبغة تأويلية لا واقعية، استحق أن يسمى فيلسوفا، وفقد توا بناء على ذلك سمعته في عالم البحث.
وإني بالطبع أستعمل كلمة تاريخ في هذا السياق بمعناها الواسع، أستعملها على أنها تدل على منهج من مناهج البحث، فضلا عن كونها تطلق على موضوع قائم بنفسه، فالآداب واللغات ونظم الحكم والشرائع والاقتصاديات والعلوم والرياضيات، بل والحب واللعب، كل هذه وجدت من يؤرخها بحيث يمكن السؤال: أي شيء في زماننا بقي دون أن يؤرخ؟ وفي الواقع أن معظم ما يقال عنه إنه علم هو في الحقيقة تاريخ؛ إذ ما هو إلا تاريخ ظاهرات حيوية أو طبيعية، فالجيولوجي يأتينا بتاريخ الأرض، والمشتغل بعلم النبات يقص علينا قصة حياة النبات أو تاريخ فرد من أفراد مملكة النبات، وقد أنار الأستاذ وايتهد منذ عهد قريب علم الفيزيقا عموما بتتبع تاريخ النظريات الفيزيقية؛ ولهذا كله يرى المحدثون أن النظر في الأشياء متصلة بأوضاعها التاريخية إجراء مفيد، ونحن المحدثين نجري على هذا دون تكلف، بل إن عملية التفكير اليوم تكاد تكون مستحيلة إلا إذا فكرنا تاريخيا؛ ذلك لأن الجوهر الفكري الراهن جو لا نستطيع فيما يظهر أن نفهم دنيانا فيه إلا إذا تصورناها متحركة متطورة، فلا يمكننا اليوم أن نعرف ماهية الأشياء إلا إذا عرفنا «كيف صارت إلى ما هي عليه.»
على أن هذه المعرفة لا تنحصر في استقصاء مجرد التعاقب للأحداث، فالتعاقب في ذاته ليس أهم ما في الموضوع، وهو أيضا لم يجهله الأقدمون، فالقديس توماس - مثلا كان يدرك تماما بلا شك أن الأشياء تتعاقب، أما الذي يختص به العقل الحديث فهو توجهه إلى اعتبار الأفكار والتصورات لا الأغراض الخارجية فحسب - كائنات تتغير بحيث لا تفهم طبيعتها ولا معناها في وقت ما إلا إذا حسبناها نقطا في عملية تفرق ونشر وتلاش وتكون لا تنتهي، فعلى هذا لو فرض وطلب منا توماس أن نعرف له شيئا ما، وليكن مثلا القانون الطبيعي، لو فرض وسألنا: «ما هو؟» لما أمكننا أن نعرفه، ولكننا نستطيع أن نقص عليه تاريخ القانون الطبيعي، هذا إذا سمح لنا بالوقت الذي يكفي لذلك، فإذا ما قبل عرضنا عليه جميع الأطوار والصور التي اتخذها القانون الطبيعي حتى الآن؛ ذلك أن الفكر الحديث قد ملكه منهج التفكير التاريخي، بحيث لم يعد في استطاعتنا أن نتحقق من هوية شيء ما إلا إذا تتبعنا الأشياء المتعددة التي كانها بالتعاقب قبل أن يصير الشيء الذي هو كائن الآن، والذي سيكف توا عن أن يكونه.
وإلى جانب التاريخ يوجد لدينا طريق آخر لاكتساب المعرفة هو طريق العلم الطبيعي، ونحن أكثر التزاما له من طريق التاريخ، وكما أن التاريخ قد حل شيئا فشيئا محل اللاهوت، فقد فعل العلم الطبيعي ذلك بالنسبة للفلسفة، بيد أن الفلسفة اختلف حظها عن حظ اللاهوت بعض الشيء، فتجلدت وأظهرت أنها لم تتضعضع كما فعل صاحبها اللاهوت، وهناك من العلائم ما يدل على جهد يبذل الآن في عمارة بيتها القديم الخرب بعض الشيء، ومهما يكن من أمر هذا الجهد فواضح أن ما كان للفلسفة في الماضي من سلطان غير منازع قد غصبه العلم الطبيعي منذ زمن طويل، وبعد أن كانت الفلسفة وآلتها للضبط الدقيق المنطق القياسي عند القديس توماس الوسيلة لتكوين نسق عقلي للعالم من أجل التوفيق بين الواقع المجرب والحق الذي أظهره الوحي الإلهي، فإن المؤثرات التي وجهت بني الإنسان جيلا بعد جيل، إلى تحري حقائق التاريخ الإنساني، وجهتهم أيضا نحو تفحص حقائق الظاهرات الطبيعية، وعلى هذا كان ظهور التاريخ، وظهور العلم الطبيعي نتيجتين لدافع واحد أو - بعبارة أخرى - مظهرين لاتجاه واحد للفكر الحديث، وهو الإعراض عن إغراق العصور الوسطى في طبع الحقائق بالطابع العقلي والإقبال على تفحص الحقائق في ذاتها تفحصا نزيها.
Página desconocida