ولما طاردت الحكومة المستبدة صاحب المشير وجدت في طلبه بما في ذرعها من وسائل الشر، وخاف ذاك العثماني الحر على نفسه بغيها؛ لم يجد أمامه من يستصرخ بعد له مثل اللورد كرومر. وإني لأقتبس من آخر عدد للمشير صدر بعد إعلان الدستور ما جاء بقلم صاحبه في حكاية واقعة، قال: دخلت ووقفت بحضرة الرجل الجليل فقال: ما هو مذهبك؟ - بروتستاني. - من عادة البروتستانت أن يعلموا أولادهم الكتاب المقدس ، فأنت عارف حافظ لآياته. - نعم. - ألا تذكر قول الكتاب والأنبياء: «لا تقل شيئا في رئيس شعبك.» و«يد الله على قلب الملك» ... إلخ؟ - نعم، أذكر ذلك. - ولكنك تطعن على حكومتك طعنا جارحا؛ فإنني قرأت بعض مقالاتك (وكان المشير يومئذ يصدر باللغتين العربية والإنكليزية). - لو علم الرسل والأنبياء بمثل هذه الحكومة ما قالوا قولهم.
فتبسم، فقلت: جنابك تقرأ عن مصائبنا في الجرائد ثم تنسى. وأما نحن فنشعر بها كل حين. وترقرقت الدموع في عيني. فسكن روعي وصرفني قائلا: إذا طلبوك فأنت لا تزايل مصر إن شاء الله.
فانصرفت مسرورا، حتى إذا كان المساء دعيت ثانية، وأنبئوني أن قد وردت تعليمات من إنكلترا بعدم تسليم المجرمين السياسيين.
وما عضد اللورد كرومر أحرار العثمانيين وأخذ بناصرهم في هذه الواقعة وحدها، ولا اكتفى من الجميل وتأييد الحق بمثل ولا مثلين، بل أخذ يواصل أعماله فيما هو ميسر له من المعروف. ولما لجت المعية في إبادة الجماهير العثمانية الحرة وأبلت في ذلك بلاءها؛ رأت أن تتم الفتح المبين بأخذ المطبعة العثمانية من صاحبها المرحوم صالح جمال. فدست له يومئذ من ساومه عليها عند أشد حاجته إليها، فلما أخذ ثمنها أو بعضه أقبل أناس من قبل المعية فعمدوا إلى أبواب المطبعة فحموها، وإلى دفاترها فختموها، وإلى رسائلها فجمعوها. وبينا هم في شغلهم بأعمالهم هذه إذا باللورد كرومر وقد طلع عليهم طلوع البدر على ركب ضل عن الطريق، فاستخلص تلك الدفاتر والأوراق وأخذها إلى دار الوكالة البريطانية، وهي لا تزال محفوظة فيها إلى يومنا هذا، وكان ممن شهد هذه الملحمة التي استعرت نارها بين الحق والباطل شقيقي يوسف حمدي يكن أحد الذين جاهدوا مع الأحرار إذ ذاك.
ولو فازت المعية بتلك الدفاتر والكتب لاستخرجت منها أسماء كثيرين من المجاهدين العثمانيين القاطنين تحت سيطرة عبد الحميد؛ فمنهم من كان مشتركا في جريدة القانون الأساسي التي كانت تطبع في المطبعة العثمانية، ومنهم من كان يوافيها بمقالاته وما يبلغه من أعمال الحكومة المستبدة. ولو عرف عبد الحميد أحدا من هؤلاء وهو يطاردهم في ليله ونهاره؛ لأنزل به نقمته ولأدلاه إلى أسماك البوسفور أو كبله بالحديد حتى تفيض نفسه ولخسرت الأمة العثمانية من أبنائها من هم عدتها ليوم شدتها.
وإن بهذه الصنائع تمكن ود اللورد من قلوب المجاهدين العثمانيين، وبها سيخلد له الثناء في كتبهم كما خلد للأمة الإنكليزية العظيمة التي منها نشأته ومنها أخلاقه. غير أن كثيرا من أهل المعرفة ومصطنعي الجميل بلوا بقوم يعادونهم حين لا داعية للعداء، كذا كان اللورد كرومر مع جماعة من المصريين، حاولوا أن يكذبوا بأقوالهم فعاله وأن يغطوا بباطلهم على حقه. وما ذلك بضائره أبدا. غدا تشهد كتب التاريخ بفضله على من ينكرونه، ويستغفر أبناء العصر الآتي لذنوب أبناء هذا العصر، وإنما حدا بي إلى كتابة سطوري هذه ما يحدو بكل ذي كلف بالحق، وما باللورد من حاجة إلى من يستنصف بكلامه؛ فقد استنصف لنفسه بكتابه الذي سماه «مصر الحديثة»؛ فهو الكتاب لا ينسيه القدم ولا تمحو سطوره الحقب. هكذا يظل منقوشا على القلوب. وإذا لم تبلغ قصيدة من الشهرة مبلغ «قفا نبك»، فلن يبلغ كتاب من الشهرة مبلغ «مصر الحديثة». وكم كتاب وكم كاتب! ما قلت العظات ولا أقصرت الحوادث في الإنذار، ولكن بعض الأفئدة لا تهتدي الحكمة إليها السبيل.
بين التابع والمتبوع
هذا العنوان يذكرني قول شاعر الأمير في مطلع قصيدة له كان قالها بعد سنة 1892 على وجه التقريب؛ وهو قوله:
جددت عهد تواصل وتلاق
وعطفت مشتاقا على مشتاق
Página desconocida