وما كان أكثرني تعجبا من دراويشه حين يذكرون له كرامات لا يصح تصديقها في مثل هذا العصر، زاعمين أنهم رأوها رأي العين. أخبرني كمال الدين الدمشقي أن العقارب في بيت أبي الهدى لا تؤذي أحدا، وأنه نهى دراويشه عن قتلها، فقال: دعوها لن يصيبكم منها أذى، وقال: كثيرا ما ننام الليل وفي فراش الواحد منا واحدة أو ثنتان من العقارب، ولا يخطر لنا على بال أنها ستؤذينا. وحدثني أبو الخير وهو خليفة أبي الهدى قال: بينا نحن مع السيد في أحد أذكاره إذ أخذته سكرة، فعمد إلى حسام كان على الأرض فأغمده في صدر أحد الدراويش حتى لخرج النصل من ظهره شبرا، فأخذ منا الروع مأخذه، فما هو إلا أن استل الحسام وبصق على موضع الجرح فالتأم لوقته ولم يترك له أثرا.
هذا الذي أراده أبو الهدى في حياته. وقد نال منه ما نال، وبمثل كلف المتمهدي في السودان ومن ظهر باليمن، ولو طالت أيام الاستبداد ومات أبو الهدى في دولته بعد سنين لكان قبره كقبر الولي يزار وتقام فيه الصلاة، ولألف له من يسيرون على نهجه من بعده كتبا يذكرون فيها من كراماته ما فاته في أيام حياته. على أن ما بناه الباطل يهدمه الحق، وفي إقبال الحظ ورفعة الدولة ما يسهي المرء عن الصواب، ومن رأى أبا الهدى في أيام عزه وشهد مصرعه بعد إعلان الدستور علم أن الباطل مهما طال قصير. وليت هذه العظات تنفع أبناء الشرق فيقلعون عن الاستمساك بتلك الأضاليل التي خذلت السلف وأشقت الخلف، ولا يعتمدون إلا على الجد في أمورهم.
اللورد كرومر وأحرار العثمانيين
خير ما يقال عن اللورد كرومر أنه كان أبا مشفقا للمصريين وظهيرا كبيرا لأحرار العثمانيين، قدم مصر زمان أشكلت أمورها وجمت مخاوفها فشد أزرها وأنهضها وسط مخاوفها ووقف بها على حد التصافي، فكان لها كالطبيب النطاسي، كلما شكت وجعا بادرها بالدواء بما يزيله، وظل إلى يوم فارقها يتحدث بفضله من عرفوا حسن مقاصده، وأدركوا مبتدأ أمره، غير أنه بلي بقوم لا يشكرون صنيعة وإن جلت، ولا يحمدون حالا وإن صفت، فنالوا منه وسفهوا عليه، فكان حظهم من ذلك كله أن قال الناس إن هؤلاء ليسوا أهلا للحكومة. ما أصاب مصلح مصر من كيدهم سوء، بل زادت محبته تمكنا من قلوب محبيه، وزاد أهل السداد إعجابا بحلمه كما زادوا إعجابا بحكمته.
ثم قضت الضرورة أن يسلك اللورد كرومر مع بعض الجهات المصرية طريق الخشونة، ردا للشر بالشر، فلما جاء فرمان الخديوية لأمير البلاد أبى الإذن بتلاوته قبل الاطلاع عليه، ثم طلب تغيير بعض أحكامه فيما يتعلق بالحدود بين مصر والبلاد العثمانية، فأذعن لذلك الباب العالي بعد جدال طال أياما، وأصر على طلب إخراج عبد الله النديم من القطر المصري، وأسقط الوزارة الرياضية الأخيرة، ولم يشأ قبول الوزارة الفخرية، فسقطت بعد أن عاشت أربعا وعشرين ساعة. هذه أشياء يؤاخذ عليها اللورد كرومر من لم يعرف كيف وقعت. أما الذين خبروا الأمور وعرفوا أنه أحرج في حلمه واضطر إلى ركوب هذا المركب الخشن؛ يقولون إنه لم يفعل إلا بعض ما يجب عليه. وأنا ذاكر هنا ما جربته بنفسي من كرم طباعه وما عرفته يقينا من مؤازرته لأنصار الحق .
مصلح مصر «اللورد كرومر».
كانت بعض الجرائد الإنكليزية كتبت في وصف الجنس التركي فصلا هو غاية في الذم، ثم ظهرت بعض الجرائد الحرة العربية فحذت حذوها. أما الجرائد الإنكليزية، فكانت ناطقة عما في فؤاد المرحوم المستر غلادستون، فأرادت كشف الغطاء عن مساوئ الحكومة المستبدة التي انقلبت. غير أنها جعلت لومها خاصا بالترك قياسا منها بأن الترك هم أولو الأمر في تلك الحكومة. وأما الجرائد العربية الحرة فكان كلامها كلام من تجرع مرارة الظلم وعاش تحت أثقاله حتى عيل صبره؛ فهو كلام عثمانيين يشتكون عثمانيين. فآلمني كلام الفريقين وأوهمني اتفاقهما في البيان أن هنالك قصدا آخر. فشبت الحرب يومئذ بيني وبين إخواني أولئك، وبالغت في التحامل على أصدقائي الإنكليز، ولما أنشأ مراد الطاغستاني ميزانه وادعى الرئاسة على الأحرار زدت لهم بغضا وذلك لأمور نقمتها على الطاغستاني لا أذكرها في هذا الكتاب لكيلا يشوبه شيء من أشياء لم تكن إلا بين شخصين؛ وبذا خسرت ود كثير من إخواني العثمانيين مثل الفضلاء أصحاب المقطم وخلاني النجباء وفي مقدمتهم الكاتب التركي الشهير علي سعاد بك وسليم سركيس أفندي صاحب المشير وغيرهم؛ إلا أن صاحب المشير لم يشأ أن يجعل خلاف الرأي خلافا قلبيا، فكنا عدوين في مناظراتنا وأخوين في معاشراتنا. ولقد حفظ غيبتي ووفى لي بوده. وأصاب اللورد كرومر من قلمي ما أصاب إخواني العثمانيين.
هذه أشياء أذكرها مع ما أجد بذكرها من الألم لتكون عبرة لغيري فلا يقع في مثلها كما وقعت فيها. وإنما يحزنني منها أني أسأت الظن بقوم هجروا بلادهم لينقذوها من الظالم المستبد، وأني ظننت بالظالم خيرا فأخلصت له الود. كل ذلك أنفة أن يكون مثل الطاغستاني من حماة وطني وثقة مني بأن للطاغستاني آرابا يسرها بوطنيته الظاهرة. وشاء الله أن أزور وطن ميلادي الآستانة، وأشهد مصارع الشهداء من إخواني الأرمن، وأقف على حقائق كانت عني غامضة. ورجع مراد وترك زعامة الأحرار، فعدت إلى مصر وكان عبد الحميد أصدر إرادته بجعلي مراقبا للجرائد مكان عبد الله النديم بعد موته ، فاستقلت بعد أن ذكرت الجرائد في أقسامها الرسمية خبر تعييني.
ويروق لي أن أذكر هنا واقعة حال جرت لي؛ ذلك أن المعية أنفذت إلي أحد مستخدميها في عصبة لا أعلم من رجالها إلا نفرا قليلا، وأنا إذ ذاك بالإسكندرية أريد السفر إلى الآستانة لأرى عما لي كان هناك. فجاءني الرسول في عصابته ليلا وجعل يتوعدني بالضرب والتحقير إذا أنا لم أكتب له ورقة أقول فيها إن كل ما أدافع به عن عبد الحميد زور وبهتان. فكتبت له الورقة التي طلبها ودفعتها إليه، فلما كان الغد رجعت إلى القاهرة وقصدت إلى قصر الدوبارة ومعي اثنان من أصحابي، فاستقبلنا المستر «بويل» وأظهر لنا من البشاشة والظرف ما لا أنساه له إلى اليوم، وقام اللورد كرومر بمناصرتي خير قيام، وبقيت الإمارة لا تدري كيف تتحامى نبالي وكيف تخفض شماسي، ولو كان اللورد كرومر وسائر إخوانه الإنكليز ممن يسرون الأحقاد لأغضى عن شكاتي ولأخرجني من دار حكومته على أسوأ حال. هذا جميل لا أزال أذكره له وأشكره من أجله كلما هبت الشمال من بلاده تحمل أرج السلام، ولأسجلن وده في فؤاد لا يكتم ما يخجل صاحبه ولا يضيع بين مكنونه شيء من الجميل.
وما لاقاه المقطم من أعدائه أعظم؛ فكم تآمروا عليه جماعات وقصدوا إلى إدارته ليضربوا أصحابه ويلحقوا بهم كل سوء فتعجلتهم الحكومة المصرية بحماة الأمن، ففرقوا المهاجمين ودفعوا عن المقطم شرهم. وكم حاولت حكومة الاستبداد كسر تلك الأقلام التي نمقت ديباجة المقطم والانتقام ممن صرت في أناملهم، فحال اللورد كرومر بينهم وبين ما يشتهون.
Página desconocida