وأشار بيده إلى جهة مشرق الشمس، ثم قال لنا: «هناك تجدون على الأرض حبا يشبه القمح، فاطحنوه واعجنوه بالزيت وكلوا منه.»
ثم أشار إلى السماء وقال: «انظروا إلى هذه الطيور الكثيرة التي تأتي من البحر، إنها رزق طيب، فكلوا من لحومها تغنكم عن فول مصر.»
ولكن السلوى والمن لم يكونا مثل الفول والعدس، والحرية كانت تكلفنا أن نسعى وأن نفكر. كانت الحرية ثقيلة على أكتافنا؛ لأن الذين اطمأنوا إلى العبودية يفزعون من التفكير لأنفسهم.
وأخيرا وصلنا في سيرنا إلى الجبال العالية التي تغطيها الثلوج في الشتاء، وألقينا رحالنا في «ريفيديم»، وكان البرد شديدا لم نقو على تحمله بعد السير الطويل، فتساءل الناس: «هل هذه هي الحرية التي خرجنا نطلبها؟» ولكن موسى كان رجلا مهيبا لم يجرؤ أحد على الصياح في وجهه.
فما كاد يصعد إلى الجبل العالي ليناجي ربه حتى اجتمعنا وجعلنا نوقد النيران ونرقص، وصنعنا بعض الشراب من بلح واحة «ريفيديم»، وصنعنا لأبيس تمثالا من الذهب الخالص وأقمنا لأنفسنا عيدا. نعم، فإن العبيد ينسون ذل العبودية وهم يرقصون. ولا أستطيع أن أصف ما كان من موسى عندما عاد إلينا ورآنا على تلك الحال. لقد غضب وحطم التمثال وأوقع بالرؤساء وجثا هرون على ركبتيه يعتذر ويتنصل من ذنبنا.
وأمرنا موسى بالتأهب لغزو أرض «موآب»، كأنه أراد أن يعاقبنا على خطئنا. فوقع علينا ذلك الأمر مثل الصاعقة، وصاح الناس: «هل خرجنا من مصر لكي نحارب؟ هل معنى الحرية أن نحارب ونموت؟»
فانفجر موسى غاضبا، وقال: «إن الحرية أغلى ما يملك الإنسان في الحياة، فحاربوا لكي تكونوا أهلا لها.»
ولكنا لم نفهم أقواله، وقعدنا على الأرض عازمين على العصيان، وقال بعضنا له في وقاحة: «اذهب أنت وربك فقاتلا.»
فغضب موسى غضبا لم يسبق له مثله، وصاح بنا: «أيها العبيد، إنكم قد نشأتم في الذل فلا تعرفون الكرامة، وعشتم في الخسف فلا ترون في الحياة ظلما تأبونه. إن دمكم لا يحمى ولا يعنيكم إلا الطعام. فعودوا إلى مصر وارجعوا إلى فولها وبصلها وعدسها وإلى عبوديتكم فيها. لن يفهم جيلكم هذا للحرية معنى؛ لأنه لا يعبأ إلا بالطعام. فها أنا ذا سائر إلى الأمام، ولمن شاء منكم أن يرجع إلى مصر. ستبقون حيارى حتى ينقرض هذا الجيل وينشأ جيل من بعده يستطيع أن يدرك قيمة الحياة الحرة، وعند ذلك يستطيع الأحرار غزو أرض موآب.»
ولما انتهى موسى من قوله سار مسرعا وأمر بالرحيل ضاربا في البرية على غير هدى.
Página desconocida