19

ثم وضعت بعد ذلك حول رقابنا أغلال العبودية، وحشرنا في البراري لنعمل اللبن من الطين لبناء مدينة بيتوم، تسوقنا سياط المقدمين ورؤساء العمل ذوي الأيدي الصلبة والقلوب التي تشبه خشب السنط.

وكانت مشقة العمل تزيد من يوم إلى يوم، وكلما مر علينا شتاء جاء شتاء آخر أشد منه بردا، حتى امتلأت قلوبنا غيظا وحقدا.

ودفعنا اليأس والألم أخيرا إلى أن نضرب ونقاوم، وأخيرا تحرك رجل امتلأ قلبه بالرحمة علينا، فكان يزورنا في الليل ويواسينا، ولكنه دافع يوما عن أحدنا فقتل رجلا مصريا واضطر إلى الهرب.

وكاد اليأس يغلب الأمل في قلوبنا، لولا أن عاد الرجل الطيب إلينا بعد غيبته، وأخذ يدعونا إلى ترك مصر والخروج معه إلى الصحراء. وكان يجمعنا في الليل خفية ويؤكد لنا أن وراء البرية أرضا فسيحة يستطيع الناس أن يعيشوا فيها أحرارا ويعبدون الإله الذي يريدون عبادته.

ولكن الناس كانوا يخافون من البرية، ولا يجرءون أن يخرجوا من أرض مصر؛ لأنهم كانوا في الحقيقة يخشون الجوع أكثر من حبهم للحرية. نعم، فالناس دائما يفضلون أن يشبعوا بطونهم على أن يعيشوا أحرارا.

وأخيرا أمرنا الرجل الحكيم بالاستعداد للرحيل، فخاطرنا وعزمنا جميعا على أن نسير وراءه إلى الصحراء.

وطلع علينا الفجر يوما من أيام الربيع ونحن نغطي وجه الأرض في قافلة لا أول لها ولا نهاية، وسرنا وراء الحمير التي حملنا فوقها كل ما كنا نملك من المتاع. ولست أنكر أننا قد خدعنا جيراننا المصريين وأخذنا نحاسهم وذهبهم مدعين أننا سنردها إليهم بعد العيد. وهذا العمل سرقة بغير شك، ولكنه كان انتقاما منهم لشدة غيظنا.

وقابلنا في هجرتنا صعابا وشدائد، وتعرضنا لأخطار جمة نجونا منها ببركة إلهنا الذي هاجرنا من أجله، وكان الرجل الطيب يصلي لله من أجلنا كل صباح وكل مساء؛ لأن موسى - وهذا هو اسمه - كان محبوبا من الله. ولكنا وجدنا بعد قليل أن زادنا قد نفد، ولم نجد حولنا زرعا ولا صيدا، وكان الماء في الآبار ملحا، فعادت الحيرة تملأ قلوبنا؛ لأن الحرية التي طلبناها كانت تهددنا بالموت جوعا وعطشا. وصرخنا إلى موسى نطلب منه أن يعطينا خبزا وماء، وأعطانا موسى كل ما بقي معه، فلم يكفنا إلا قليلا، وصرنا ننظر إلى أولادنا وهم يبكون من الجوع والعطش وتتحرق عليهم قلوبنا جزعا، حتى انتهى بنا الأمر إلى أن صحنا بموسى: «أعدنا إلى مصر؛ فالإنسان قد يحيا مع العبودية، ولكنه لا يحيا وسط الصحراء بالحرية وحدها.»

وغضب موسى وظهر عليه الاضطراب، وصاح بنا يؤنبنا، ولكن لغته كانت سقيمة؛ لأنه لا يحسن لغتنا وكنا لا نفهم منه إلا بعض ألفاظ عندما كان يتكلم بلسانه المصري.

وجعل هرون أخوه يترجم لنا أقواله؛ لأنه كان يجيد لساننا، فلم نستمع إليه لأن الجوع كان يقرص أمعاءنا وبكاء أطفالنا يوجع قلوبنا، وصحنا نطلب العودة إلى مصر لنأكل من فولها وعدسها وبصلها. وفي الصباح ذهبنا إلى موسى لنخبره بأننا سنعود إلى جاشان. فوجدناه يصلي، فانتظرنا حتى فرغ من الصلاة وأقبل علينا بوجهه متهللا، وقال: «اذهبوا إلى ذلك الوادي.»

Página desconocida