على العكس من مذهب المادية - القائل بأن المادة أصل كل الأشياء من حياة وفكر وشعور ومظاهر عقلية - مذهب الروحانية، وقد أخطأ بعض الناس فهم «الروحانية» فلقبوها «مذهب المثال»
Idealism ، مع أن مذهب المثال هذا إنما يقابله «مذهب الواقع» لا «مذهب الماديين» كما ستعلم ذلك عند الكلام على «نظرية المعرفة». وقد نشأ من عدم تحديد معاني الكلمات أن بعض الناس فهموا خطأ كذلك أن المادية تدعو إلى الأنانية (الأثرة) والأميال السافلة حتى استعملوا كلمة «الماديين» للذم والتعيير؛ لهذا كان من المستحسن أن نميز بين المادية والروحانية تمييزا صحيحا، فمذهب المادية يرى أن أساس كل الأشياء هو المادة، وهي في أول أمرها تكون مادة لا حراك بها ولا شعور لها، ثم ترتقي حتى تصل إلى مادة حية شاعرة، وتصدر عنها الأعمال النفسية في أرقى مظاهرها، وأما مذهب الروحانية فيرى أن أساس هذا الوجود الذي يعمل وراء هذه المظاهر إنما هي الروح التي لا مادة لها.
ولسنا نحاول هنا شرح المذاهب المختلفة للروحانية، وإنما يكفينا أن نقول: إن هذا المذهب يرى أن «الفكر» وإن كان له ارتباط بالمخ ليس نتيجة المخ، وبعبارة فلسفية نقول: إن العلاقة بين المخ والفكر ليست علاقة علة بمعلول. نعم، إن المخ آلة لا بد منها للتفكير، ولكنها ليست نتيجة للتفكير؛ إذ ليس يمكن أن يكون فكر الإنسان الذي يشعر بشخصيته وبحرية إرادته نتيجة لمادة جامدة لا تحس ولا تشعر مهما كانت حالتها من رقي تركيبها وحسن نظامها.
المادة لا يمكن أن تفكر ولا أن تشعر؛ لأن ما يفكر فيه أو يشعر به (وهو المادة ) لا يمكن أن يكون هو بعينه المفكر الشاعر في الوقت نفسه، وفي ذلك يقول شاعر فرنسي ما معناه: «لا أظن أن الفكر وهو ذلك الشعاع الساطع ينبعث من مادة كثيفة مظلمة.»
فماهية الأشياء على هذا المذهب ليست قوة مادية، بل روحا تشعر بنفسها وتحس بشخصيتها؛ ذلك لأنه ليس في استطاعتنا أن ندرك حقائق الأشياء بحواسنا، بل بعقلنا المجرد، فكان لا بد إذن أن تكون حقيقة الأشياء المدركة بالعقل المجرد شيئا روحيا مجردا.
وقد ظهر المذهب الروحاني بعد المذهب المادي، فالعقل البشري الشغوف بالغيب وبالأسرار وبما لا تعرف له علة، وبعبارة أخرى بكل ما لا يصل إليه علمنا، لا يقنع طويلا بمذهب المادية الذي يجرد الحياة من الأسرار، وهذا هو السر في أن الإنسان من حين لآخر يعدل عن العلم إلى الدين، بعدما عدل عن الدين إلى العلم.
وقد كانت المادية والروحانية في جميع أدوار تاريخ الفكر الإنساني - ولا تزالان إلى اليوم - في حرب عوان، كل يطلب الغلبة والسيادة في عالم الفلسفة؛ فقد أوضح أفلاطون نظرية الروحانية وقرر أن «المثل» لها وجود حقيقي، وأنها هي النماذج التي تحتذيها الظواهر، وفي العصور الحديثة جاء «رينه ديكارت» فأحيا عقيدة الروحانية، ثم جاء ليبنتز 1646-1716 وإليه يرجع الفضل في ضبطها وإحكامها، ومذهبه أن أساس الموجودات شيء وهو الروح، وهي تنقسم إلى نقط روحية لا عداد لها، وكل نقطة من هذه النقط تسمى «الذرة الروحية»،
3
وهذه الذرة يخلقها الله، وكل جوهر فرد مركب من مجموعة من هذه الذرات، وعدم قبول الجواهر الفردة للانقسام ليس إلا في الظاهر فقط، أما في الواقع فهي قابلة للانقسام؛ إذ إنها مركبة من ذرات روحية، وكل جسم مركب من جواهر فردة فهو إذن مركب من ذرات روحية، وما يرى للجسم من الامتداد فليس حقيقيا، بل هو ناشئ من اجتماع ذرات روحية بعضها مع بعض.
وحقائق الأشياء ليست المادة، بل القوة أو الذرات الروحية، وقد خلق الله تلك الذرات وجعلها مراكز للقوة، ومنحها قوة إدراك، وفاوت فيما بينها في ذلك، فالذرة الروحية قوة روحية تتجلى فيما تتخذه من الأشكال المتغيرة على الدوام، وهذه الذرات «هي مرآة العالم الحية الباقية»، وفيها قوة تحاول التحول من حالة اللاشعور إلى حالة الشعور، والشعور هو تيار من الأفكار والإحساسات يتدفق من حقيقة الذرة الروحية، والمادة هي مجموعة من الذرات الروحية، وقد تكون تلك الذرات في حالة اللاشعور فتكون منها المادة الميتة.
Página desconocida