La Era Pre-Islámica
عصر ما قبل الإسلام
Géneros
(1) تمهيد
ليست لدينا معلومات مؤكدة عن تاريخ الحجاز القديم قبيل البعثة النبوية، وكل ما كتبه المؤرخون العرب إنما كتب في القرن الثامن الميلادي وما تلاه من القرون، وقد عمدوا إلى بعض ما أجمله القرآن، فوسعوه من عندهم معتمدين فيما كتبوا على بعض ما ورد في التوراة، ومحاولين كما يقول الأستاذ نكلسون: إن يضفوا على تاريخ مكة قبل الإسلام ثوبا إسلاميا، فنظروا إلى مكة قبل الرسول بآلاف السنين في ضوء كالذي ظهرت فيه بعد الرسول.
وقد يعجب الإنسان إذا عرف أن هذا الجزء الأوسط من جزيرة العرب قضى قرونا متطاولة لا نعلم مقدارها، وهو في شبه عزلة عن العالم المتمدين، بينا جنوب الجزيرة وشمالها قد سجل التاريخ لنا من أخبارها وتمدينها شيئا كثيرا، ولكن جدب الحجاز، وجفاف تربته، ووعورة المسالك إليه لم يجذب الفاتحين العظام - مثل تحتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، والإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، وأغسطس قيصر في القرن الأول الميلادي، وملوك الفرس في إبان عظمة دولتهم - لفتحه، بل وأرجع بعضهم فاشلا. فكانت هذه العوامل الطبيعية من الأسباب التي أبعدت الحجاز عن الاحتكاك بالدول، وجعلت نشاطه داخليا، وأبقت عليه حالة البداوة التي نشأ أهله عليها، ولم يخرج من هذه البداوة إلا مكة وبعض المدن التي هاجر إليها اليهود، وخاصة في القرون الأخيرة قبل الميلاد والأولى بعده فرارا من اضطهاد حكم الرومان، كما كان لهجرة أهل اليمن بعد سيل العرم بعض الأثر في تحويل بعض أهل الحجاز من البداوة إلى الحضارة.
ولقد عالجنا في فقرة [العرب المستعربة] ما أورده العرب في نسب العرب العدنانية، وأبدينا رأينا في صحة هذه الأنساب، ثم لخصنا قصة إسماعيل عليه السلام، وسنعالج في هذا الباب التاريخ الأسطوري لمكة وتأسيسها، حسبما ورد في كتب العرب، ثم ما يمكن أن يسمى تاريخا لها؛ لأن الأمر - من الناحية العلمية - لا يزال تحقيق نظرياته موضع جدل بين العلماء ورهن ما يمكن الكشف عنه من مستندات ووثائق تلقي على الموضوع ضوءا يجلو غوامضه ومعمياته.
وكان الأستاذ فلبي «في كتابه عن عصر ما قبل الإسلام الذي صدر أخيرا سنة 1947 والذي أشرنا إليه آنفا» آخر من ناقش أصل العرب وقصة إبراهيم عليه السلام مناقشة علمية في فصل عقده بهذا العنوان ذكر فيه أن الباحثين كشفوا عن ألواح بابلية ذكرها تدل دلالة تامة على أن أسرة من أسرها المالكة عدد ملوكها ثلاثة حكمت قرنا من الزمان، وكانوا ساميين موحدين، وأنهم استولوا على أسفل بابل حتى طردهم السومريون - وهم وثنيون غير موحدين - ثم ذكر أنه بالموازنة الدقيقة بين نصوص التوراة ونصوص الألواح البابلية وبمقارنة التواريخ في كليهما «القرن العشرين قبل الميلاد» تأكد لديه أن آخر ملوك هذه الأسرة ليس شخصا آخر غير إبراهيم نفسه، وأن اسمه كما ورد في الألواح «دمقي إيليشو»، وأن ترجمة الاسم هي «خليل الله» وهو اللقب الذي يطلق في المراجع الإسلامية على إبراهيم الخليل عليه السلام ثم ذكر أنه بسبب سقوط هذه الأسرة السامية وعقب سقوطها هاجر إبراهيم إلى فلسطين ... إلخ.
وظاهر مما ذكرناه الآن في هذا الصدد وما ذكرناه من قبل في مواضع أخرى من هذا الكتاب أن الكشوف العلمية الحديثة تؤيد روايات القرآن باستمرار، هذا وسنعالج بشيء من الإسهاب في الفقرات التالية تاريخ الإمارة في مكة، ونقفي على أثرها بشيء من تاريخ الإمارة في المدينة. (2) إسماعيل وتأسيس مكة
تقع مكة في واد منحصر بين الجبال، تربطه عدة طرق بالشمال وبالجنوب، ولا نعلم على وجه التحقيق متى أسست هذه المدينة المقدسة، ولكن الراجح أن هذا الموضع كان قبل تأسيس مكة محطا لرجال القوافل، يضربون فيه خيامهم، سواء في ذلك القادمون من اليمن قاصدين فلسطين، والقادمون من فلسطين قاصدين اليمن، ويتبادلون فيه متاجرهم، ويقيمون فيه أياما بسبب ما كان فيه من عيون الماء.
وتنسب الرواية العربية - وتؤيدها بعض آي القرآن في ذلك - تأسيس مكة إلى إبراهيم عليه السلام، ولا يذكر القرآن أكثر من الواقعة مجردة، أما الرواية العربية فإنها تقول: إن هاجر وهي تجوب الصحراء مع ولدها إسماعيل، تصل في آخر الأمر إلى مكة، ولما أدركها الظمأ هي وولدها أخذت توسع الخطى بين تلين صغيرين، هما الصفا والمروة، بحثا وراء الماء، وفيما هي تسعى بين التلين إذا بإسماعيل الذي تركته يبكي على الأرض، يضرب الأرض بقدمه فيتفجر منها ماء حلو صاف، ذلك الماء هو بئر زمزم، فيغري هذا البئر بعض العمالقة والقبائل اليمانية فتقيم إلى جواره، ويشب إسماعيل بين هذه القبائل، ويتزوج من ابنة زعيمهم، وتنفيذا لبعض الرؤى التي رآها إبراهيم نجده يهم بذبح ابنه على مرتفع من الأرض هناك، ولكن الله يفتديه بذبح عظيم، وفي زيارة أخرى لإبراهيم نسمع أنه بمعاونة أبيه يقيم بيتا لله، ويبدأ شعائر الحج الأولى، ولنفصل الآن هذه القصة معتمدين على ما ورد في كتب التاريخ العربية وتفاسير القرآن. (3) نشأة إبراهيم الأولى
نشأ إبراهيم في مدينة أور من بلاد الكلدان، لأب نجار كان ينحت الأصنام ويبيعها لقومه الذين كانوا يعبدونها، وأدرك إبراهيم أن الأصنام لا تنفع ولا تضر، فساوره الشك في أمرها، فسأل أباه كيف يعبدها وهي من صنع يده، وتحدث بذلك إلى الناس، فخشي أبوه بوار تجارته، وأدرك أنه يريد الكيد للأصنام، ولم يلبث إبراهيم أن اغتنم غفلة من الناس فكسرها إلا كبيرها، فحاكموه وحكموا عليه بالتحريق، وأشعلوا لذلك نيرانا ألقوه في وسطها، فأنجاه الله منها، ورأى أنه لا ينجح في هداية قومه، وقد فشلت كافة الوسائل لإقناعهم، فهاجر إلى فلسطين هو وزوجه سارة التي آمنت به، ومعه لوط ابن أخيه الذي آمن به أيضا، وحاول أن يهدي أهل فلسطين إلى عبادة الله، ولكنه فشل فارتحل إلى مصر وحمله على ذلك - في رواية البعض - جدب أصاب فلسطين إذ ذاك. (4) إبراهيم في مصر
دخل إبراهيم ومعه زوجه سارة أرض مصر، في القرن العشرين قبل الميلاد، إبان حكم الهكسوس، كما يستنتج من تواريخ التوراة، ومن سياق الأقصوصة التالية، وكان من شأن ملوك الهكسوس - كما تقول القصة - أن يأخذوا النساء الجميلات ممن يهبطن أرض مصر، وكانت سارة كما يقول ابن الأثير «من أحسن النساء وجها، وكانت لا تعصي إبراهيم شيئا، ولما وصفت لفرعون أرسل إلى إبراهيم، فقال: من هذه التي معك؟ فقال: أختي، خشية أن يقتله الملك ليتخذها زوجا، فقال له: زينها وأرسلها إلي، فأمر بذلك إبراهيم فتزينت وأرسلها إليه فلما دخلت عليه أهوى بيده إليها.
Página desconocida