الجواب:
لأن الزراعة تمارس بالتقاليد وليس بالعلم، وهذا على الرغم من أنها يجب أن تكون علمية، والفلاح يعيش في قرية منعزلة لا تصطدم بأحداث العالم، والمباراة فيها محدودة، وليست كالمباراة في المدن، حيث الآفاق للذهن والقلب أرحب وأبعد، ثم أن تسلط الطبيعة بجوها المتقلب على نمو النباتات يجعل الفلاح على إحساس دائم بأنه رهن الحظ، ودرجة القراءة في القرية معدومة أو محدودة، وكذلك التساؤل والاستطلاع.
أما الوسط الصناعي فيكسب الصانع إحساس السيطرة والقوة، إذ ليس للحظ في الصناعة شأن، فهو يدير الآلة أو يصهر المعدن وهو يعرف النتيجة قبل أن يشرع في العمل.
وهو يكسب من هذه الممارسة إحساسا بالمنطق فضلا عن القوة، ولا يمكنه أن يؤمن إلا بالتجربة العلمية كما إنه كذلك يمارس النظرة الوضوعية في حياته الاجتماعية والسياسية.
ثم هو يعيش في مدينة تتحمل أعصابه منها صدمات متوالية من الأحداث المنبهة؛ لأنها، أي: المدينة، على اتصال صحفي بكوكب الأرض كله، وهو يكسب النظرة العالمية لهذا السبب في حين يقنع عامل الزراعة بالنظرة القروية.
ثم عامل الصناعة يرى ويقارن كثيرا، وليس شيء يحرك الذكاء مثل المقارنة، فهو يرى الحاكم والمحكوم، والبذخ والفاقة، والعلم والجهل، وكل هذا بعيد عن العامل في الزراعة.
ولكلمات الحرية، والمساواة، والدستور، والبرلمان، والسياسة معان عميقة مقلقة عند العامل في المدينة، أي: في الصناعة، ولكنها لا تقلق عامل الزراعة، ولذلك لا تنبهه.
ويمكن أن نقول: إن الديمقراطية كلمة تحمل معنى خطيرا عند عامل الصناعة، ولكنها لا تكاد تحمل أي معنى عند عامل الزراعة.
ونستطيع أن نقول: إن الوسط الزراعي يبعث على القناعة والطمأنينة في نفوس الفلاحين، وهذا صحيح. ولكن إلى جانب القناعة والطمأنينة نجد الذهول والركود. ثم تستطيع أن تقول: إن الوسط الصناعي، وسط المدينة، يبعث على القلق والتوتر، بل ربما الجنون والانتحار، في نفوس العمال، في المصانع، وهذا صحيح أيضا، ولكن إلى جانب القلق والتوتر نجد الاستطلاع والاستقلال بل ربما العبقرية والاختراع.
وحضارة أوروبا هي حضارة القلق والتوتر وأمراض النفس التي لا تحصى، ولكنها أيضا حضارة الاستطلاع والاستقلال والديمقراطية والعلم والاختراع، أي: حضارة المصانع، وليست حضارة المزارع. وبعد كل هذا، المدافع تصنع في المصانع ولا تزرع في الحقول.
Página desconocida