عندما نتحاب نصلح ما أفسده عارض ما، ذلك العارض فصل نفسين عن بعضهما، كل منهما تبحث عن الأخرى، عندما تلتقيان تتعارفان وتتآلفان، تعودان كلا واحدا، كائنا واحدا وليس كائنين.
وتقول: «ما أقدم هذا الكلام وما أبقاه! هذا ما أحس به أفلاطون، أوليس هذا ما أحسسنا به نحن أيضا؟ أليس هذا ما نحس به الآن؟»
ولكن طه مشغول العقل والقلب بما يجري في البلاد.
وهو في الجامعة ينتهي من الحديث عن قادة الفكر القديم، ويسأل طلابه: والآن ... أليس للفكر قادة الآن؟ وفي أثناء المناقشة التي يثيرها هذا السؤال يلاحظ الأستاذ أن المطبعة والصحيفة، يومية وأسبوعية، سياسية وأدبية، ووسائل الاتصال الجديدة السريعة: التلغراف، التليفون، وكذلك هذه الأداة العجيبة الجديدة التي يسمونها الراديو، والتي سمع أنها استكشفت وأنها ستستعمل فعلا في أمريكا منذ أوائل هذا العام، والقطارات، والطائرات، «فقد عرف قراء الصحف في ذلك الوقت أن أول خط للطيران قد افتتح من نيويورك إلى واشنطن منذ ثلاثة أعوام.» كل ذلك يتيح لكل صاحب فكر أن ينشر فكره بسهولة بين الناس حيثما كانوا، ونتيجة لذلك يتعدد القادرون على الوصول بأفكارهم إلى الجماعات، فتتعدد قيادات الفكر ولا يعود من الممكن أن تصير قيادة الفكر في عصرنا إلى شخصية واحدة.
ويقول طالب: إذا تساوى أصحاب الأفكار في الفرصة المتاحة لكل منهم لتوصيل أفكاره للجماهير، فلا شك أن من كان منهم ممتازا نابغا يمكن أن تصبح له قيادة الفكر في موضوعه وفي إقليمه على الأقل.
ولا ينكر طه حسين ظاهرة النبوغ ويقول لتلميذه إنه على حق. •••
يسافر اللورد اللنبي إلى إنجلترا، يقال إنه مسافر ومعه مقترحاته في جيب واستقالته في جيب آخر، على أنه يعود في فبراير 1922 ومعه تصريح تصدره بريطانيا من جانب واحد بإنهاء نظام الحماية وبالاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة، وبهذا التصريح - الذي سيعرف باسم تصريح 28 فبراير - تصبح مصر قانونيا دولة حرة مستقلة، ويصبح سلطان مصر «أحمد فؤاد» ملكا عليها، وتؤلف وزارة مصرية جديدة برياسة عبد الخالق ثروت باشا، الذي يتولى إلى جانب منصب وزير الداخلية منصبا آخر هو وزير الخارجية، وهو المنصب الذي كانت بريطانيا قد ألغته عند إعلان حمايتها على مصر عام 1914. وهكذا تستعيد مصر مظهر استقلالها الخارجي، ويكون لها أن تنشئ المفوضيات والقنصليات في الخارج، هذه أهداف وطنية تتحقق. ولكن التصريح قد تضمن أيضا أربعة تحفظات خطيرة خاصة بحماية المواصلات الإمبراطورية، وبالدفاع عن مصر، وبحماية الأجانب والأقليات فيها، وبوضع السودان.
طه حسين يرى أن هذه التحفظات الأربعة توشك أن تجعل الاستقلال صوريا، ولكنه يرى أيضا أن هذا التصريح يدخل مصر مرحلة جديدة يستطيع المصريون - إن هم عملوا بجد وتصميم أثناءها - أن يحولوا هذا الاستقلال إلى حقيقة، وهم يستطيعون على كل حال، بتحملهم مسئوليات الحكم الوطني وبإنشائهم للنظام الدستوري، أن يتخلصوا من حكم الفرد، أي حكم السراي، وأن يخطوا خطوات واسعة وسريعة نحو الاستقلال التام.
ولكن سعد باشا زغلول يرى رأيا مخالفا وهو ينسف تصريح 28 فبراير نسفا، عندما يحكي قصة الأعرابي الذي كانت له ناقة ثمينة عزيزة عليه مرضت مرض الموت، فنذر الأعرابي نذرا لئن شفيت ليبيعنها بدرهم واحد، وشفيت الناقة فأسقط في يد الأعرابي، ثم اهتدى إلى حل بدا له؛ ربط نعلا قديمة بعنق الناقة ثم دفعها والنعل في عنقها إلى السوق، وجعل ينادي عليها: «ناقة بدرهم واحد ونعل بمئة دينار، ولا أبيعهما إلا معا.» فكان الناس يقولون: ما أحلاها لولا الملعونة في عنقها! والملعونة في تصوير سعد هي التحفظات الأربعة التي ربطت في عنق تصريح 28 فبراير.
ويتفاقم الخلاف بين السعديين والعدليين ويزداد الانقسام ويشتد، ويتطرف الشارع المصري في الانحياز إلى زعيمه سعد زغلول وفي معاداة عدلي وثروت وزملائهما، وتخرج الجماهير إلى الشارع لا تريد أن تسمع إلا رأيا واحدا، ولا أن تنقاد إلا إلى زعيم واحد، هتافها «لا زعيم إلا سعد.»
Página desconocida