El enigma de Ishtar: la deidad femenina y el origen de la religión y el mito
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
Géneros
من الأعلى العظيم، تاقت الربة إلى الأسفل العظيم،
من الأعلى العظيم تاقت «إنانا» إلى الأسفل العظيم،
هجرت سيدتي السماء، وتركت الأرض، «إنانا» هجرت السماء والأرض،
إلى العالم الأسفل قد هبطت.
بهذه الفاتحة الجميلة، يبدأ نص الأسطورة السومرية «هبوط إنانا إلى العالم الأسفل»،
4
وهو النص الذي يعد من أجمل ما أنتجه الأدب المشرقي القديم. تبدو الأم السومرية في هذه الأسطورة تواقة إلى ترك كرسيها السماوي وهجرة الأرض التي ترعاها، في رحلة إلى العالم الأسفل، عالم الظلمات الذي تهبط إليه أرواح الموتى، والذي تحكمه أختها الإلهة «إريشكيجال». وهي إذ تشرع في هبوطها عبر بوابات الموت السبع، توصي تابعها «ننشوبار» أن ينتظر عودتها ثلاثة أيام وثلاث ليال، فإن لم ترجع عليه أن يمضي إلى مجمع الآلهة طلبا لعونهم في استرجاعها إلى العالم الأعلى. تنزل إنانا درجات العالم الأسفل السبع بكامل حللها وزينتها السماوية، ولكن حراس البوابات يطلبون منها أن تخلع عند كل باب جزءا من ثيابها تنفيذا للشرائع المتبعة، إلى أن تعبر البوابة الأخيرة وتمثل عارية تماما أمام ملكة الموت إريشكيجال، التي تأمر بموتها حالا وشد جثتها إلى عمود خشبي. حتى إذا انقضت ثلاثة أيام وثلاث ليال، مضى تابعها ننشوبار إلى الآلهة طالبا عونهم، فيتلكئون إلا «إنكي» إله المياه العذبة الذي يصنع لتوه مخلوقين يزودهما بطعام الحياة وماء الحياة، ويرسلهما في إثرها حيث يفلحان في إعادة الحياة إليها، وتصعد من جديد درجات العالم الأسفل. ولدى صعودها تستعيد ثيابها وحليها حتى تخرج في الهيئة التي دخلت بها.
لقد حار علماء السومريات ممن تصدوا لترجمة هذا النص وحل رموزه اللغوية، في حل رموزه الأسطورية المعقدة. فلماذا اشتاقت ربة السماوات إلى زيارة عالم الظلمات؟ ما الذي دفعها إلى ترك عرشها الإلهي والشروع في رحلة مجهولة العواقب؟ إلام يشير موتها؟ وماذا يعني صعودها وتغلبها على الموت؟ في الحقيقة، إننا لا نستطيع فهم أي نص أسطوري اعتمادا على سطوره ومنطوقه ومكانه وزمانه؛ فالنص الواحد هو جزء من جماع التجربة الأسطورية، ومكانه ساحة العالم كلها، وزمانه تاريخ الإنسان. والأسطورة الواحدة ليست نتاج إبداع فني جمالي لشخص بعينه، بل هي محصلة خبرة بشرية طويلة، وتاريخ طويل يمتد إلى أغوار الماضي السحيق، وتطور بطيء. كل هذا يجعلها لذهننا العصري مثقلة بالرموز الصعبة، حافلة بكل عصي غريب. من هنا، ففهم أي أسطورة يتطلب إعادة بنائها، والكشف عن تاريخها وأشكالها السابقة المتضمنة في شكلها الأخير، وصولا إلى حلتها الأولى وباعثها الأساسي.
إن النص الذي بين أيدينا الآن قد تم تدوينه في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، إلا أن أصوله البعيدة ترجع إلى أعماق العصر الحجري، عندما كان الإنسان يتأمل حائرا في مظاهر الكون العجيبة، محاولا إيجاد التفسير لما يجري من حوله. رفع رأسه إلى السماء منذ أن انتصب على قائمتين، وراقب حركة أجرامها وسير شمسها وقمرها وتتابع ليلها ونهارها، فكان القمر أول ما رمى في نفسه الروع والرهبة بتألقه وسط الليل الغامض، وتعارضه مع القبة المعتمة التي يسبح فيها، وغلبته على جميع الأجرام المنيرة المنتشرة في أرجاء السماء، فكان أول جرم سماوي توجه إليه بالعبادة. كان الإنسان محاطا بالألغاز من كل جانب وكل ما حوله سر مكنون، لا يستطيع التمييز بين أحلامه وواقع يومه. وشعوره لم يتمايز تماما عن لا شعوره، محكوما بغرائزه وملكاته الفطرية لا بعقله، موجها بمشاعره وأحاسيسه لا بمنطقه. كان الليل يطمس له بصره ويتركه في ظلمة ورعب من نفسه ومما حوله، ينتظر القمر سيد الليل المترامي الأطراف والكون الممتد بلا نهاية، وسيد ظلمة النفس وخوافيها.
عظم الإنسان الشمس، ولكنه لم يجد فيها ندا للقمر. لم تثر في نفسه من العجب والتساؤل ما أثاره القمر. الشمس تشرق كل يوم من نفس المكان وتغرب من مكان محدد آخر، في حركة رتيبة منتظمة. أما القمر فكل يوم هو في شأن؛ يشرق اليوم من مكان، وغدا يشرق من مكان آخر، يغرب اليوم في مكان، وغدا يغرب في مكان آخر. في يومه الأول يبدأ هلالا نحيلا ثم يأخذ في الامتلاء والاكتمال والتزايد حتى يستدير محيطه ويتوسط قبة السماء بدرا شعشعا جميلا مهيبا. ولكن اكتماله مؤقت؛ إذ ما يلبث أن يبدأ في الانحدار والتناقص قطعة قطعة، حتى يختفي تماما في آخر الشهر غائصا نحو العالم الأسفل. وفي اليوم الثالث لغيابه، وبعد تسعة وعشرين يوما من شروقه السابق، تظهر قرونه عند الأفق من جديد مبشرا بميلاد آخر. حركة طبيعية كونية، أشبه ما تكون بالحركة الطبيعية الداخلية لجسد الأنثى في دورته الشهرية. فكان القمر بحق أنثى كونية عظمى، وكان هو ذاته الأم الكبرى والدة الكون، والأرض الخصبة وقد ظهرت في تجليها الجديد: القمر.
Página desconocida