El enigma de Ishtar: la deidad femenina y el origen de la religión y el mito
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
Géneros
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
عشتار تتحدث عن نفسها
فاتحة
1 - البؤرة الحضارية والأسطورة الأولى
2 - عشتار الأم الكبرى
3 - عشتار القمر
4 - عشتار الخضراء
5 - عشتار العذراء
6 - عشتار البغي المقدسة
Página desconocida
7 - عشتار السوداء
8 - عشتار سيدة الأسرار
9 - تموز الخضر
10 - عشتار المخلصة
رؤيا
مراجع البحث
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
عشتار تتحدث عن نفسها
فاتحة
Página desconocida
1 - البؤرة الحضارية والأسطورة الأولى
2 - عشتار الأم الكبرى
3 - عشتار القمر
4 - عشتار الخضراء
5 - عشتار العذراء
6 - عشتار البغي المقدسة
7 - عشتار السوداء
8 - عشتار سيدة الأسرار
9 - تموز الخضر
10 - عشتار المخلصة
Página desconocida
رؤيا
مراجع البحث
لغز عشتار
لغز عشتار
الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
تأليف
فراس السواح
الكتب الإلكترونية، هبة العصر
في عام 1970م بدأت الأفكار العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تتشكل في ذهني، وعندما بذلت المحاولات الأولى لكتابتها، شعرت بحاجة إلى مراجع أكثر من المراجع القليلة التي في حوزتي، فرحت أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مراجع باللغة الإنجليزية فلم أجد ضالتي، فتأكدت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفت عن الكتابة.
وفي عام 1971م قمت برحلة طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رحت خلالها أشتري ما يلزمني من مراجع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدت شرعت في الكتابة وأنجزت الكتاب في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رحت أستعين بأصدقائي المقيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مراجع، وكانت مهمة شاقة وطويلة تستنفد المال والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملا بطوليا، إن لم يكن مهمة مستحيلة.
Página desconocida
بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسست شبكة الإنترنت التي لعبت دورا مهما في وضع الثقافة في متناول الجميع، ووفرت للباحثين ما يلزمهم من مراجع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحت هم تأمين المراجع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصلته بالثقافة العالمية من خلال كبسة زر على حاسوبه الشخصي.
لقد صار حاسوبي اليوم قطعة من يدي لا أقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردت لطبعة الأعمال الكاملة لمؤلفاتي التي صدرت في 20 مجلدا، أن توضع على الشبكة تحت تصرف عامة القراء والباحثين، واخترت «مؤسسة هنداوي» لحمل هذه المهمة؛ لأنها مؤسسة رائدة في النشر الإلكتروني، سواء من جهة جودة الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوعة التي تثري الثقافة العربية.
جزيل الشكر ل «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
مقدمة طبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعت أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومة مؤلفاتي الاثنين والعشرين ومخطوط كتاب لم يطبع بعد، لنبحث في إجراءات إصدارها في طبعة جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنت وأنا أتأملها كمن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عاما تفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتاب الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تكامل تدريجيا دون خطة مسبقة في ثلاث وعشرين مغامرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببت أن أشرك به قرائي. وفي كل مغامرة كنت كمن يرتاد أرضا بكرا غير مطروقة ويكتشف مجاهلها، وتقودني نهاية كل مغامرة إلى بداية أخرى على طريقة سندباد الليالي العربية. ها هو طرف كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمله، إنه في غلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام 1988، التي عاد ناشرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام 1976، الذي صممه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتت حتى بدت وكأنها بلون واحد لعدم عناية الناشر بتجديد بلاكاتها المتآكلة من تعدد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يخطر لي أن هذا الكتاب قد رسم مسار حياتي ووضعني على سكة ذات اتجاه واحد؛ فقد ولد نتيجة ولع شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكباب على دراسة ما أنتجته هذه الثقافة من معتقدات وأساطير وآداب، في زمن لم تكن فيه هذه الأمور موضع اهتمام عام، ولكني لم أكن أخطط لأن أغدو متخصصا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاو عاكف بجد على هوايته . إلا أن النجاح المدوي للكتاب - الذي نفدت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تتابعت طبعاته في بيروت - أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يتوقعون مني عملا آخر ويتلهفون إليه.
إن النجاح الكبير الذي يلقاه الكتاب الأول للمؤلف يضعه في ورطة ويفرض عليه التزامات لا فكاك منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاح أكبر، أو يسقط ويئول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسه في الكتاب الثاني. وقد كنت واعيا لهذه الورطة، ومدركا لأبعادها، فلم أتعجل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعت مسيرتي المعرفية التي صارت وقفا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعاما بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يتكامل في ذهني وأعد له كل عدة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبته في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام 1986؛ أي بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحا مدويا آخر فاق النجاح الأول، فقد نفدت طبعته الأولى، 2000 نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات.
كان العمل الدءوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصص، فتفرغت للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئا آخر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجت خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام 2012 للعمل محاضرا فيها، وعهدت إلي بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزت كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضل أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقة الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مرشحة دوما لاستقبال أعضاء جدد ما زالوا الآن في طي الغيب.
وعلى الرغم من أنني كنت أخاطب العقل العربي، فإني فعلت ذلك بأدوات البحث الغربي ومناهجه، ولم أكن حريصا على إضافة الجديد إلى مساحة البحث في الثقافة العربية، قدر حرصي على الإضافة إلى مساحة البحث على المستوى العالمي، وهذا ما ساعدني على اختراق حلقة البحث الأكاديمي الغربي المغلقة، فدعاني الباحث الأميركي الكبير «توماس تومبسون» المتخصص في تاريخ فلسطين القديم والدراسات التوراتية إلى المشاركة في كتاب من تحريره صدر عام 2003 عن دار
T & T Clark
في بريطانيا تحت عنوان:
Página desconocida
Jerusalem in History and Tradition
ونشرت فيه فصلا بعنوان:
Jerusalem During the Age of Judah Kingdom
كنت قد تعرفت على «تومبسون» في ندوة دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عام 2001، شاركت فيها إلى جانب عدد من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطت بيننا صداقة متينة استمرت بعد ذلك من خلال المراسلات، إلى أن جمعتنا مرة ثانية ندوة دولية أخرى انعقدت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية، وكانت لنا حوارات طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائل عديدة أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «كيث وايتلام» قد دعا كلينا إلى المشاركة في كتاب من تحريره بعنوان:
The Politics of Israel’s Past
فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستينا اللتين ستنشران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام 2013 عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسة لي عن نشوء الديانة اليهودية بعنوان:
The Faithful Remnent and the Invention of Religious Identity
خصصت آخرها لمناقشة أفكار «تومبسون»، ول «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان:
What We Do And Do Not Know About Pre-Hellenistic Al-Quds
والثانية خصصها للرد علي بعنوان:
Página desconocida
The Literary Trope of Return - A Reply to Firas Sawah
أي: العودة من السبي كمجاز أدبي - رد على فراس السواح.
الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يولد ويعيش مدة ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يتحول إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القراء في عمر مؤلفاتي حتى الآن، ولم يختف أحدها من رفوف باعة الكتب، أما تحول بعضها إلى كلاسيكيات فأمر في حكم الغيب.
فإلى قرائي في كل مكان، أهدي هذه الأعمال غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح
بكين، كانون الثاني (يناير) 2016
عشتار تتحدث عن نفسها
أنا الأول، وأنا الآخر،
أنا البغي، وأنا القديسة ،
أنا الزوجة، وأنا العذراء،
Página desconocida
أنا الأم، وأنا الابنة،
أنا العاقر، وكثر هم أبنائي،
أنا في عرس كبير ولم أتخذ زوجا،
أنا القابلة ولم أنجب أحدا،
وأنا سلوة أتعاب حملي،
أنا العروس وأنا العريس،
وزوجي من أنجبني،
أنا أم أبي، وأخت زوجي،
وهو من نسلي.
فاتحة
Página desconocida
عندما يشرع المؤلف في الكتابة بعد فترة تحضير طويلة، يقبل على عمله معتقدا أن جملة الأفكار التي غدت جاهزة في ذهنه، والخطوط العامة التي بعثرها على الأوراق والدفاتر والبطاقات، هي كل ما سيقدمه كتابه إلى القراء، وأن جهده المقبل سوف ينصب على توضيح تلك الأفكار وصقلها وتفصيلها من خلال المنهج الذي رسمه. إنه يريد من خلال عمله مشاركة الآخرين له في معارف توصل إليها وحقائق أضناه الكدح في سبيلها. ولكنه ما إن يسير شوطا قصيرا في طريق ظنه ممهدا سهلا، حتى تتكشف له جسامة المهمة وقصور العدة التي تزود بها؛ فكل مرحلة من الطريق ترمي به إلى أخرى أشق وأكثر وعورة، فيجد نفسه يرتاد مفازات لم يحلم بارتيادها، وتتكشف أمام ناظريه آفاق لم تخطر ببال. فإذا وصل غايته سالما غانما بعد أن حدثته نفسه مرارا بالنكوص والعودة من حيث أتى، استدار ببصره إلى الوراء البعيد، إلى نقطة البداية، وقارن حصيلته الراهنة بأهدافه الأولى، عرف مقدار ما علمته الرحلة مقاسا بما كان عنده. ثم يخامره شعور غامض وخفي، حقيقي بمقدار ما هو غير مفهوم، شعور بأنه لم يكن إلا قناة مرت من خلالها حقائق كامنة في الظل، منتظرة أن تعبر عن نفسها من خلال أحد ما مستعد لبذل الوقت والجهد وأرق النفس. ولعل أهم ما علمني إياه العمل في هذا المؤلف، هو وحدة التجربة الروحية للإنسان عبر الزمان واختلاف المكان، وأن كل دين ونظام ميثولوجي ليس إلا قطعة ملونة صغيرة في فسيفساء بديعة زاخرة بالأجزاء التي تبدو مستقلة عن قرب، متوحدة عن بعد، في نظام متكامل يعطي معنى لكل جزء من أجزائه، ويستمد معناه من هذه الأجزاء ذاتها.
في البداية، كنت أطمح إلى تقديم بحث واف عن شخصية الإلهة الأم، أو الأم الكبرى، في النسق الميثولوجي السوري-البابلي، ومتوازياتها في الثقافات الكبرى المجاورة. ثم اكتشفت تدريجيا أن الحيز المكاني الثقافي، والمدى الزمني اللذين حددتهما إطارا للبحث قاصران عن الإحاطة بالموضوع. كان تتبع الأم الكبرى يوغل بي زمنيا إلى ما وراء حدود التاريخ، حيث وجدت نفسي أودع النصوص المكتوبة مجتازا عتبة ما قبل التاريخ، حيث لا شواهد وعلامات سوى الأدوات الحجرية وأعمال الإنسان الفنية الأولى. وكان اقتفاء أثر قدميها على الأرض يأخذني في الاتجاهات الأربعة حتى درت الكرة المعمورة، راجعا إلى نقطة المبتدى. وشيئا فشيئا كنت أتبين أن البحث في ميثولوجيا الأم الكبرى ليس بحثا في موضوع محدد، بل هو بحث في جوهر الأسطورة ومبدئها وغاياتها؛ لأنها المحور الأساسي الذي دارت حوله أساطير الثقافات البشرية، وعنه شعت وتفرقت. ومن خلال البحث تكونت النظرية التي تلم شتات الملاحظات في كل واحد فتفسرها وتعطيها المعنى. وكما تكونت النظرية من خضم البحث، لا سابقة عليه، ولا موجهة له، كذلك جعلتها تتفتح تلقائيا عبر صفحات الكتاب دون أن أعمد إلى بسطها ثم أنفق الجهد في إثباتها. فأنا لا أطمح إلى وضع تفسير شامل لا يأتيه الباطل من أمام أو وراء، بل أطمح لإثارة الأسئلة عند من سيحاورهم هذا الكتاب ويحاورونه لا لإعطاء الأجوبة.
ورغم أني قد قدمت الملامح العامة للنظرية في الفصل الأول، فإن الفصول الباقية يجب ألا تعتبر بحال من الأحوال جهدا منصبا على إثبات الأطروحات الأولى؛ لأنني في الحقيقة قد كتبت الفصل الأول آخر ما كتبت لا أوله، فكان بالنسبة لي نتيجة لا افتراضا مسبقا موجها للبحث. من هنا، يستطيع أي قارئ أن يصرف النظر عنه إذا شاء دون أن يفقد البحث مضمونه ووحدته وتماسكه.
أخيرا، لقد كان من الأهداف الأساسية لمنهجي في البحث، تقديم كتاب سهل التناول للقارئ غير المتخصص، وإقامة حوار على المستوى العالمي مع الحلقات المهتمة والمتخصصة بهذا الموضوع. كل ما أرجوه ألا أكون قد ضحيت بأحد هذين الهدفين لحساب الآخر.
الفصل الأول
البؤرة الحضارية والأسطورة الأولى
منذ أن انبثق الإنسان من المملكة الحيوانية، كان في صراع مع عوامل البيئة من أجل إثبات نفسه كجنس متميز يبتكر تاريخه الخاص، مبتعدا عن الأجناس الأخرى التي خلفها وراءه بلا تاريخ مستسلمة لآلية الطبيعة. وقد جاءت حضارتنا الحديثة ثمرة لذلك السعي الدائب الذي استمر مئات الألوف من الأعوام وتتويجا له. إلا أن السؤال الذي طرح نفسه منذ أمد طويل على العقل الإنساني، لم يجد جوابه إلا في العقود الثلاثة الأخيرة، ومن خلال البحث الأركيولوجي الحديث: فمتى بدأت حضارتنا الحديثة، وما هي العوامل الحاسمة التي أدت إلى ظهورها؟ أين ابتدأت هذه الحضارة؟ وكيف تم تعميمها على جهات العالم الأربع؟ هل نشأت في بؤرة أساسية فشعت منها نحو الأطراف، أم صدرت عن مراكز متباعدة وسارت في خطوط متوازية قبل أن تلتقي وتتمازج؟
تميز التاريخ الإنساني بأربعة تحولات أساسية؛ كان كل تحول منها يحدث انقلابا شاملا في شتى مناحي الحياة، ويعطي للحضارة نقلة حاسمة في شتى مظاهرها ومضامينها: (أ)
أقدم هذه التحولات حدث في مطلع العصر البليستوسيني الأعلى الذي امتد من عام 100000ق.م. إلى عام 10000 قبل الميلاد. فهنا تشير الدلائل إلى أن الإنسان قد أحس انفصاله الفعلي عن عالم الحيوان، وأخذ في إدراك إمكانيات بيئته الطبيعية وتكييف نفسه تجاهها، وتنظيم جهوده من أجل استغلالها وتوجيهها لمصلحته. وقد اصطلح على تسمية جملة التغييرات التي حدثت خلال هذه الفترة بالثقافة بالباليوليتية
أي ثقافة العصر الحجري القديم، والتي تم تقسيمها إلى ثلاثة عصور فرعية هي: الباليوليتي الأدنى، والمتوسط، والأعلى. (ب)
Página desconocida
التحول الثاني حدث في سياق الألف التاسع وأوائل الألف الثامن قبل الميلاد؛ وذلك بتأثير ثلاثة عوامل حاسمة هي: (1) الاستقرار في الأرض وبناء المستوطنات الثابتة الأولى. (2) اكتشاف الزراعة والبداية المنظمة لإنتاج الغذاء. (3) تدجين الماشية. ولقد أحدث هذا التحول هزة كبرى في بنية المجتمعات البشرية أعطتها الدفعة الأولى الحاسمة لبناء الحضارة، والخروج من رقدتها المستكينة في حضن الطبيعة، وامتلاك مصيرها بنفسها. فخرج الإنسان من كهوفه وبدأ ببناء القرى المستقرة الأولى في السهول المفتوحة ، منهيا بذلك تاريخا طويلا من التجوال في الأرض بحثا عن الغذاء. ثم تعلم زراعة الحبوب بعد أن قضى زمنا في جمعها من حقولها البرية، وسيطر على بعض الأنواع الحيوانية فدجنها وأخذ يستفيد من منتجاتها. ولقد أطلق على هذا التحول الهام اسم «الثورة النيوليتية» التي فتحت الطريق لثقافة العصر النيوليتي
Neolithic
الذي امتد بين 8500ق.م. و4500ق.م. وانتهى بظهور أول المدن في تاريخ البشرية. (ج)
حدث التحول الثالث مع تكون المدن الأولى في وادي الرافدين الأدنى بتنظيماتها المدنية والسياسية والدينية المتطورة، وهو التحول الذي أطلق عليه اسم «الثورة المدينية»
Urban Revolution
والذي كان بداية لعصر ما زلنا نعيش فيه حتى الآن. (د)
أما التحول الرابع فهو آخر التحولات وأقربها إلينا، وهو التحول المعروف باسم «الثورة الصناعية» في القرن التاسع عشر، والذي أحدث انقلابا جذريا في كل أساليب الإنتاج.
1
وأعتقد أننا الآن في خضم ثورة رابعة هي الثورة المعلوماتية.
وفي الواقع، فإن الثورة النيوليتية التي أدت إلى الاستقرار واكتشاف الزراعة وتدجين الماشية، هي البداية الحقيقية لحضارتنا القائمة الآن. أما الثورة المدينية فهي التي أعطت هذه الحضارة أطرها الأولى التي ما زالت قائمة في أساسات مجتمعات العصر الحديث. ورغم أن كل الحضارات، القائمة منها والمندثرة، قد حققت هاتين الثورتين في زمن ما من تاريخها، فإن علم الآثار الحديث يقرر اليوم أن الثورة النيوليتية والثورة المدينية قد حدثتا لأول مرة في تاريخ الشرية في منطقة الشرق الأدنى القديم، وهي المنطقة الوحيدة التي حققت ثورتيها في معزل عن كل تأثير خارجي، جاعلة من نفسها نموذجا أول للتحولات التالية في المناطق الأخرى.
Página desconocida
2
فالثورة المدينية وظهور المدن الأولى، قد تم في سومر بوادي الرافدين، ومنها انتقلت جنوبا نحو مصر، وشرقا نحو الهند.
3
أما البشائر الأولى للثورة النيوليتية، البداية الحقيقية للحضارة، فقد انطلقت من سوريا، حيث أثبتت الحفريات الأثرية التي ما زالت قائمة اليوم على قدم وساق، أن أولى التجمعات البشرية المستقرة، وأولى القرى المبنية في السهول المفتوحة قد قامت في سوريا الجنوبية في منطقة فلسطين ووادي الأردن خلال الألف العاشر والألف التاسع ق.م.
4
وأن أولى التجارب الزراعية قد تمت في المناطق الداخلية من سوريا على طول الشريط الممتد من جنوب حلب إلى صحراء سيناء، ويعتقد أن قصب السبق في هذا المضمار كان لموقعين رئيسين هما موقع تل المريبط في الشمال عند شاطئ الفرات، وموقع أريحا في الجنوب بوادي الأردن، وذلك نحو نهاية الألف التاسع وبداية الألف الثامن قبل الميلاد.
5
وخلال الألفين التاليين تم انتشار الزراعة انطلاقا من مراكزها الأولى نحو جميع الاتجاهات، فلم يأت الألف السادس قبل الميلاد حتى كانت الثورة النيوليتية قد آتت ثمارها في جميع أنحاء الشرق القديم، وانطلقت منها نحو آسيا وجنوب أوروبا.
6
وهكذا يأتي علم الآثار ليدعم نظرية البؤرة الحضارية الأولى وانتشار الحضارة من مركز واحد، في مقابل نظرية التطور المتوازي، ويشير إلى منطقة الهلال الخصيب كموطن لهذه البؤرة، حيث بدأ الاستقرار في الأرض وتبعته الزراعة في قرن الهلال الغربي، وظهرت المدينة الأولى نواة مدنية اليوم في قرنه الشرقي. ولسوف نأتي فيما يلي على سرد الخطوط العريضة لهذا التحول الكبير؛ وذلك لأهميته القصوى لموضوع هذا الكتاب.
Página desconocida
لقد شكلت المرحلة الممتدة بين الألف العاشر والألف السادس قبل الميلاد، مرحلة حاسمة في تاريخ الإنسانية؛ فالتحولات الجذرية التي تمت هنا قد نقلت الإنسانية من مرحلة الصيد والالتقاط إلى مرحلة الاستقرار والزراعة وتربية المواشي. وإن الدلائل تشير حتى الآن إلى أن هذه التحولات التي شكلت القاعدة المكينة لحضارتنا المدنية قد تمت في الشرق الأدنى قبل أن تتم في أي مكان آخر على سطح الكرة الأرضية.
7
ولقد كانت نقطة انطلاق هذه التحولات مجموعة من الصيادين واللاقطين التي بدأت تدريجيا بالخروج من كهوفها والتجمع في وحدات قروية صغيرة شبه مستقرة، أخذت شكلها الثابت مع مطلع الألف التاسع قبل الميلاد في منطقة فلسطين وغور الأردن، حيث ظهرت أولى القرى ذات البنية الحضرية المكينة، فيما يدعى بالحضارة النطوفية التي نشأت وتطورت مستوطناتها المستقرة الأولى قبل ظهور أية دلالات واضحة على إنتاج الغذاء.
8
ولقد كان اقتصاد هذه المستوطنات استمرارا بطريقة جديدة لاقتصاد العصر الباليوليتي، إلا أنها قد أخذت بالاعتماد أكثر فأكثر على الاغتذاء بالقمح البري الذي كانت الشروط المناخية في المنطقة قد ساعدت على انتشاره بكثرة. فكانت المستوطنات في شكلها المتواضع البدئي تقام بصورة مؤقتة قرب حقول القمح البري على شكل مستوطنة، أم تدعمها معسكرات تابعة تبعد عنها مسافة ليست بالقصيرة، يقيم فيها رجال المجموعة خلال تطوافهم بحثا عن الغذاء، ليعودوا من ثم إلى مستوطنتهم الأصلية التي كانت تنتقل من مكانها كل فترة سعيا وراء حقوق قمح أغنى وقطعان صيد أوفر.
9
وقد استمدت هذه الحضارة النطوفية اسمها من وادي نطوف حيث تم العثور على أولى مواقعها، وبعد ذلك تابع الكشف الأثري البحث عن امتدادات هذه الثقافة حتى تم اكتشاف ثلاثة عشر موقعا رئيسيا من مواقعها، وذلك في الشريط الضيق الذي يمتد بعرض ثمانين كيلومترا على محاذاة البحر المتوسط بين خط عرض بيروت وخط عرض القاهرة؛ أي من جنوب دمشق في الشمال حتى نهايات صحراء النقب باتجاه سيناء، فكانت هذه المنطقة من أكثر المناطق كثافة سكانية بمعايير ذلك الزمن. وفي الألف التاسع، أخذت المستوطنات النطوفية تأخذ شكل القرى المستقرة وبعضها كان يسكن لمدة تصل عدة مئات من السنين، أما تعداد سكانها فيتراوح بين الخمسين والمئتين والخمسين فردا، وهو تعداد كبير إذا ما قورن بتعداد التجمعات الباليوليتية السابقة التي لم تكن تزيد عن الخمسة والعشرين فردا. في هذه القرى ظهرت العمارة لأول مرة، وبنيت البيوت ذات الأساسات والجدران الصلبة والثابتة والأرضيات المرصوفة، فكان عدد بيوت القرية الواحدة يصل في بعض الأحيان إلى خمسين بيتا. ورغم أن الزراعة لم تكن قد اكتشفت بعد، إلا أن الاستفادة المكثفة من القمح البري وبعض الحبوب الأخرى كانت على ما يبدو المرحلة المنطقية الممهدة للمرحلة الزراعية، حيث تم في المواقع النطوفية العثور على أدوات الاستفادة من الحبوب وتحضيرها للغذاء، وذلك كالمناجل الصوانية وأحجار الطاحون وما إليها، ومخازن الحبوب، دون العثور على أية بينة تشير إلى توصل هذه الحضارة إلى تقنيات الزراعة أو البداية المنظمة لتدجين الماشية.
10
وإضافة إلى النشاطات شبه الزراعية والصيد، فإن التبادل التجاري الإقليمي ، قد بدأ في شكله المتواضع البدئي خلال الفترة النطوفية، ولعب دورا مكملا في اقتصاد تلك القرى الأولى؛ فقد تم العثور في المواقع النطوفية على بعض أنواع أصداف الزينة التي يرجع مصدرها إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر؛ مما يدل على وقوع تبادل تجاري مع تلك المواقع. كما تشير الدلائل إلى حصول تبادلات تتعلق بأنواع أخرى من بضائع الرفاهية وبضائع الاستهلاك؛ مثل الأحجار، وقطع العظم المحفورة، والجلود، والملح.
11
Página desconocida
نحو نهاية الألف التاسع انتهت الثقافة النطوفية، وهجرت قراها دون سبب واضح، مفسحة المجال لظهور القرى الزراعية الأولى.
أثبت علم الآثار الحديث بالتعاون الوثيق مع علم الحياة النباتية لما قبل التاريخ، أن الزراعة لم تظهر لأول مرة في وديان الأنهار الخصبة، كما جرى الاعتقاد لفترة طويلة، بل في السهول والوديان الداخلية التي ترويها مياه الأمطار، وفي المناطق التي شهدت لفترة طويلة النمو الحر لحقول الحبوب البرية، وعلى الخصوص سهول سوريا الداخلية وسفوح زاغروس الغربية شرقي وادي الرافدين.
12
فمع مطلع الألف الثامن قبل الميلاد تظهر البينات على بداية التجارب الزراعية الأولى في سوريا في أريحا جنوبا، وفي تل المريبط شمالا، وبذلك يبتدئ العصر النيوليتي الأول، الذي اصطلح على تسميته بنيوليتي ما قبل الفخار، والذي استمر حتى الألف السادس قبل الميلاد.
13
كما تظهر البينات بعد ذلك بوقت قصير على تدجين الماشية لأول مرة في الشرق القديم في موقع «الخيام» غربي البحر الميت.
14
تظهر أريحا كقرية مكتملة منذ عام 8350ق.م. فوق موقع نطوفي قديم، وتستمر آهلة بالسكان مدة ألف عام كاملة حتى 7350ق.م. وذلك على ما أعطته تواريخ الفحم 14. وفي الحقيقة فإن إطلاق اسم قرية على هذا الموقع ليس إلا انسجاما مع التسمية السائدة لمواقع ذلك العصر؛ ذلك أن أريحا كانت الموقع الرائد لسلسلة أعقبتها خلال الألفين التاليين من مواقع أشباه المدن. فعدد السكان يقفز هنا من تعداد المواقع النطوفية الذي لم يتجاوز الثلاثمائة بأية حال، إلى الألفي نسمة وربما أكثر، في مساحة تزيد عن خمسة الهكتارات، كما أن البنية المدنية والسياسية والاقتصادية تتطور وتتعقد تاركة إلى الأبد الشكل النطوفي البسيط. فاستمرار هذا الموقع قائما لمدة ألف عام ومسكونا بالثقافة نفسها، إنما يدل على اقتصاد مستقر وثابت، وعلى بنية مدنية وسياسية متطورة. كما أن السور الحجري الذي تم الكشف عن بعض أجزائه، والذي يعتقد أنه يحيط بالمدينة من شتى جهاتها بسماكة ثلاثة أمتار، وارتفاع يزيد عن أربعة، وهو أول سور في التاريخ يبنى حول مدينة، إنما يكشف عن موارد مادية وبشرية ضخمة بمقياس ذلك العصر، وعلى وجود سلطة مركزية متطورة قادرة على القيام بمثل هذا العمل الجماعي الجبار وتوجيهه والإنفاق عليه. فإلى جانب الزراعة، تظهر التجارة كعامل مكمل في دعم اقتصاد أريحا. ويبدو خلال هذه الفترة أن خطوط التجارة قد امتدت إلى مئات الكيلومترات عبر سوريا في اتجاه الشمال لتصل إلى الأناضول؛ فقد عثر في أريحا على أدوات من حجر السبج (الأوبسيدان)، وهو زجاج بركاني استعمله الأقدمون في صنع المرايا والنصال الصلبة الحادة، ولم يكن متوفرا إلا في منطقة واحدة في هضبة الأناضول. كما كانت أريحا تبادل بمواد الأسفلت والكبريت والملح المتوفر من البحر الميت، وبعض المنتجات الحرفية المصنوعة محليا. أما موقع تل المريبط (80كم جنوب شرقي حلب)، فرغم كونه أصغر قليلا من أريحا، إلا أنه يعكس خصائص مشابهة. فهنا توصل الإنسان إلى اكتشاف تقنيات الزراعة منذ مطلع الألف الثامن قبل الميلاد، واستمر في سكن هذه القرية الزراعية الأولى مدة ألف عام كاملة، كما هو الحال في أريحا. وقد تم هجر هذين الموقعين دون سبب واضح في نهاية الألف الثامن، حيث أتت إليهما بعد ذلك أقوام جديدة وحلت فيهما ثقافات أخرى. وهنا يتحول المركز الحضاري كلية من سوريا الجنوبية إلى سوريا الشمالية خلال الألف السابق قبل الميلاد؛ أي في المرحلة الثانية من العصر النيوليتي ما قبل الفخاري.
15
خلال الألف السابع قبل الميلاد، بلغت الثورة النيوليتية غايتها، حيث صارت الزراعة العامل الأساسي في اقتصاد البؤرة الحضارية، بعد أن كانت في شكلها الأولي مجرد عنصر داعم، واكتمل الشكل المدني والسياسي للقرى الكبيرة المستقرة التي تزايد عددها بشكل كثيف من غابات ساحل المتوسط غربا، إلى حوض الفرات شرقا، مرورا بالسهول الداخلية، وما يعرف الآن ببادية الشام، ومن طوروس شمالا إلى أريحا في الجنوب. من هذه القرى ما تم الكشف عنه مؤخرا في رأس شمرا على شاطئ المتوسط الشمالي، وأبو هريرة ويقرص في حوض الفرات، وتل أسود على رافد بليخ، والكوم ومواقع أخرى حول منطقة تدمر، وتل أسود وتل الرماد حول مدينة دمشق. وقد اعتمد الاقتصاد الزراعي لهذه المستوطنات على الزراعة المطرية، إلا أن تقنيات السقاية البدائية قد بدأت بالظهور في أكثر من منطقة. وبالإضافة إلى الزراعة فقد تابع إنسان المنطقة الاعتماد على الصيد، إلا أن تدجين الماشية الذي غدا نشاطا مستقرا قد حل تدريجيا محل الصيد. وقد ارتبطت هذه المستوطنات بعضها ببعض من خلالها شبكة تجارية متطورة، حيث كان تبادل السلع يتم عبر دروب تتراوح من عشرات الكيلومترات إلى مئات الأميال. كما نشطت بشكل كثيف تجارة حجر السبج من الأناضول.كل ذلك جعل من المنطقة السورية وحدة ثقافية متكاملة.
Página desconocida
16
وفي أواسط هذه الفترة حوالي 6500ق.م. ظهرت على الوجود مستوطنة شتال حيوك جنوب الأناضول، وهي أكبر مستوطنة نيوليتية تم الكشف عنها حتى الآن، وهي أقرب إلى المدن السومرية الأولى التي ظهرت بعد 3500ق.م. في وادي الرافدين، بمعابدها وكهنتها المتفرغين وعمارتها المتطورة الجدارية وتماثيلها. فكانت هذه المدن جزءا من البؤرة الحضارية الأولى أغنتها واغتنت بها.
17
مع نهاية الألف السابع وبداية الألف السادس قبل الميلاد ينتهي العصر النيوليتي ما قبل الفخاري، ليبدأ عصر الفخار الذي أبدع فيه الإنسان أرقى فنونه التشكيلية. غير أن الألف السادس تميز بالتحول التدريجي لمركز الثقل الحضاري من سوريا باتجاه وادي الرافدين. فعبر الفترة الممتدة من 5500 إلى 4500 قبل الميلاد نشأت في وادي الرافدين الأعلى، وفي القوس الممتد من نهر الخابور الذي يرفد الفرات إلى شواطئ دجلة الوسطى والجنوبية ثلاث حضارات تتابعت وتداخلت فيما بينها زمنيا وثقافيا، وهي حضارات حسونة وسامراء وتل حلف، وجميعها نشأ بتأثيرات شرقية واضحة. ولم تقتصر كل حضارة من هذه الحضارات على الموقع الأساسي الذي أعطاها اسمها ، بل انتشرت شرقا وغربا من المحيط الهندي إلى ساحل المتوسط، على طول الخطوط التجارية البعيدة المدى. وقد تميزت هذه الفترة بنهضة جمالية شاملة تجلت على وجه الخصوص في الفخاريات الرائعة التي تعد من أجمل ما أنتج العصر النيوليتي على الإطلاق، وذلك بخطوطها الجيومترية التي ظهرت لأول مرة في هذه المواقع وألوانها البديعة الغنية والمتنوعة. كما أن فنون وتكنولوجيا العصر النيوليتي من نحت وعمارة وحياكة وتقنيات زراعية، قد وصلت هنا إلى أبعد مدى في التطور. أما التعدين والصناعات المعدنية المتواضعة؛ فقد ازدهرت نسبيا في هذه الفترة تمهيدا لعصور المعادن القادمة.
18
مع انهيار حضارة حلف حوالي 4500ق.م. تنهي الثقافة النيوليتية أشواطها الأخيرة، وتفسح المجال لعصر المدينة الذي كان موقع تل العبيد جنوبي وادي الرافدين مقدمة له، مهيئا المسرح لظهور الحضارة السومرية التي ابتدأ معها تاريخ الإنسان المكتوب. وقد انتشرت تأثيرات حضارة تل العبيد من مواقعها الرئيسية لتغطي كل المناطق التي شملتها تأثيرات الحضارات الآنفة الذكر، ولم يتسن لحضارة بمفردها قبل تل العبيد أن يبلغ تأثيرها في جميع الاتجاهات مبلغ هذه الحضارة.
19
إلا أنه منذ مطلع الألف الرابع قبل الميلاد يبدأ السومريون بالتدفق على وادي الرافدين الجنوبي، آخذين ببناء حضارة جديدة على أنقاض حضارة تل العبيد التي انطفأت مراكزها واحدا إثر الآخر بتأثير الضغط الجديد. ويبدو أن الثقافة السومرية التي ازدهرت فيما بعد مدينة إلى ثقافة تل العبيد بأكثر مما اعتقده المؤرخون قبل أن يتم الكشف الكامل عن أوابد هذه الثقافة.
20
أعطى السومريون كل العناصر الأولى التي قامت عليها حضارة الإنسان المكتوبة. فإلى جانب الكتابة السومرية، وهي أول كتابة في تاريخ البشرية، قدم السومريون العجلة والمحراث وأوجدوا النظام العشري، وقسموا محيط الدائرة إلى 360 درجة، والسنة إلى 365 يوما، ووضعوا أسس الرياضيات ومبادئ الهندسة، وراقبوا الأفلاك، وبنوا المعابد، وأسسوا نظم الحكم والإدارة، وصاغوا الشرائع المكتوبة.
Página desconocida
21
وما إن نصل إلى عام 3000 قبل الميلاد، وهو العام الذي تبدأ كتب التاريخ فيه سرد قصة الحضارة، حتى تكون الثورة المدينية قد اكتملت وبدأت بالانتشار خارج البؤرة الحضارية الأولى على الدروب نفسها التي سارت عليها الثورة النيوليتية.
في الوقت الذي عبرت فيه الثقافة النيوليتية من سوريا إلى أرض الرافدين، كانت تنطلق في اتجاهات أخرى وخصوصا نحو الشمال والغرب، وذلك بتأثير الاحتكاك المباشر والتجارة والتحركات الديمغرافية. فباتجاه الشمال اجتازت الأناضول إلى بحر قزوين والبحر الأسود، وباتجاه الغرب وصلت جنوب أوروبا وقطعت البحر إلى قبرص وكريت، حيث نجد الثقافة النيوليتية تظهر فجأة في هاتين الجزيرتين دون مقدمات؛ مما يدل على وصول مهاجرين ذوي ثقافة نيوليتية مكتملة. أما الانطلاق نحو إيران والهند من جهة، ومصر، بوابة أفريقيا، من جهة ثانية؛ فقد تأخر عن موجات الانطلاق السريعة الأولى.
22
وهكذا كانت الثقافة النيوليتية تبتعد عن بؤرتها في حلقات يولد بعضها بعضا، طاردة أمامها الثقافة الباليوليتية حتى بلغت شواطئ المحيط الأطلسي الأوروبية، والمحيط الهادي عند أطراف الصين. وهناك توقفت فترة قبل أن تتمكن من العبور نحو العالم الجديد عن طريق بولونيزيا وميلانيزيا.
23
فعند حدود الأطلسي لا نعثر في تلك الأطراف الأوروبية على دلائل لإنتاج الغذاء قبل عام 4000 ق.م. وكذلك الأمر في الصين. أما في العالم الجديد فيبدو أن الزراعة لم تتوطد تماما بعد فترة التجارب الابتدائية قبل عام 2500ق.م.
24
وعندما كانت الثقافة النيوليتية تجاهد لاكتساب العالم، اكتملت الثورة المدينية في سومر، وانطلقت منها أول ما انطلقت نحو الهند ومصر،
25
Página desconocida
فكانت التأثيرات السومرية بمثابة المحرض الأول للنهضة المدينية الأولى مع مطلع عهد الأسرات في مصر عام 2800ق.م. بعد ذلك انطلقت الثورة المدينية نحو كريت غربا والهند شرقا في الوقت نفسه تقريبا عام 2600ق.م. ووصلت الصين عام 1600ق.م. وأخيرا عبرت المحيط الهادي نحو العالم الجديد فوصلت أمريكا الوسطى والجنوبية بين القرن السابع والقرن الرابع قبل الميلاد.
26
وعلى ذلك يمكن القول بحق: إن الحضارة الكونية عبارة عن شجرة واحدة ذات أصل واحد وفروع متعددة.
27
الأسطورة الأولى
إن المقدمة التي سقناها حول أصل الحضارة ونظرية البؤرة الواحدة، كانت ضرورية لتحديد منطلق هذه الدراسة . فإذا كانت البؤرة الحضارية قد قدمت الأسس التقنية والمادية الأولى التي قامت عليها الحضارة من زراعة ، وتدجين ماشية، وعمارة، وفن، وكتابة، ونظم مدينية وما إليها، فإنها بلا شك كانت الرقعة التي نضجت فيها تأملات الإنسان البدئية وتصوراته الدينية وأساطيره. ولذا فإن البحث في هذه العوامل غير المادية للحضارة يجب أن يأخذ نقطة انطلاق له من المكان الأول الذي نشأت فيه هذه العوامل، فيدرسها في بيئتها الأولى ليلاحظ فيما بعد كيفية انتشارها خارج هذه البيئة. أي إن نقطة الانطلاق يجب أن تكون من ديانة الثقافة النيوليتية وأساطير زراع القمح الأول، والشكل اللاحق لهذه الديانة والأساطير في المجتمع المديني الأول؛ ومن ثم دراسة تنوعاتها من خلال عبقريات الحضارات الأخرى ونظمها الدينية والأسطورية. إن المنهج المقارن الذي اعتمد حتى وقت قريب دراسة الثقافات البدائية القائمة أو القريبة منا زمنيا، ثم إسقاطها على الأشكال الأولى لديانات الإنسان وأساطيره، لم يعد مبررا الآن بعد أن صارت بين أيدينا الوثائق الدينية للعصر النيوليتي من تماثيل وعادات دفن وهياكل عبادة وما إليها. إلا أن هذا المنهج المقارن سيبقى مفيدا عندما يتعلق الأمر بملء بعض الفجوات الأساسية التي تعجز هذه الوثائق عن ملئها.
إن نظريتنا في هذا الكتاب تقوم على القول بنشوء ديانة مركزية واحدة وأسطورة أولى في العصر النيوليتي، كانت ذات تأثير مباشر على الأشكال الدينية والأسطورية لدى جميع الثقافات اللاحقة، بدءا من المجتمع المديني الأول في وادي الرافدين وانتهاء بالديانات الكبرى للحضارات اللاحقة. فمع انتشار الأسباب المادية للثقافة النيوليتية من بؤرتها الأولى، انتشرت معها الأفكار المرتبطة بحضارة الاستقرار والزراعة، وقام كل شعب من الشعوب التي تبنت الثقافة الجديدة بابتكار تنويعه الخاص انطلاقا من هذه المعطيات الأولى. وهذا ما يفسر لنا بحق تشابه الأساطير الأساسية لدى شعوب العالم القديم، وهو التشابه الذي سنعمل على كشف كثير من جوانبه عبر فصول هذا الكتاب. ورغم أن جهدنا لن ينصب بالدرجة الأولى على إثبات هذه النظرية في مقابل نظرية النشوء المتوازي المعاكسة؛ إلا أن البرهان سيتكامل من تلقاء ذاته تدريجيا ، وذلك من خلال المجرى الرئيسي لدراستنا وهو: الإلهة الأم.
كيف كانت ديانة الإنسان النيوليتي؟ وعلى أي شكل جاءت أساطيره؟ وما فحوى غيبياته فيما وراء المادة؟ لم يترك العصر النيوليتي لنا نصوصا مكتوبة ولكنه ترك لنا رسوما وتماثيل ومدافن ومعابد، حملها كل ما يمكن أن تحمله الرقم المخطوطة، فوصلت إلينا رسائله عبر فنونه وجمالياته وإبداعاته التشكيلية والمعمارية. ولقد صار لدينا الآن ثروة من نتاجاته كافية لفهم حياته الروحية وتصوراته الدينية وطبيعة طقوسه وعباداته. وفي الحقيقة فقد ورثت الثقافة النيوليتية الزراعية المعطيات الثقافية للعصر الباليوليتي وطورتها في اتجاهات تتلاءم وأسلوب الحياة الجديد، وذلك إضافة لإبداعاتها الخاصة التي أنشأتها من العدم.
وفي المجال الديني ورثت عن آخر حلقات العصر الباليوليتي (30000-10000ق.م.) تصورها للقوة الإلهية في شكل وماهية أنثوية، هي الأم الكبرى للكون. غير أن الإنسان النيوليتي قد بنى حول هذا الشكل الإلهي القديم بنية جديدة من التصورات والاعتقادات والأساطير، ذات فحوى ومضامين تتصل بالزراعة التي غدت جوهر حياته وأساس تنظيمه الاجتماعي والسياسي. فالديانة النيوليتية الأولى والحالة هذه هي ديانة زراعية في اعتقادها وطقسها، والأسطورة الأولى هي أسطورة زراعية تتركز حول إلهة واحدة هي سيدة الطبيعة في شكلها الوحشي، وشكلها المدجن الجديد الذي تشارك يد الإنسان في صنعه.
كانت إلهة العصر الباليوليتي ومطلع العصر النيوليتي وحيدة تتربع على عرش الكون، ولكننا مع نضوج الثقافة النيوليتية واكتمال الشكل الاقتصادي الجديد، وتزايد الدور الاجتماعي للرجل بعد أن كان المجتمع حتى ذلك الوقت أموميا في جوهره، نجد إلى جانب الإلهة الكبرى ابنها الذي دعته عصور الكتابة بتموز أو أدونيس، لا ندري بأي اسم دعاها عبادها الأولون، ولكننا نعثر على تماثيلها في كل موقع من مواقع العصر النيوليتي، هذه التماثيل التي ابتدأت طينية صغيرة على شكل دمى،
Página desconocida
28
وانتهت حجرية ضخمة تسكن المعابد الكبرى. وعندما تعلم الإنسان الكتابة أخبرنا بأسمائها، وقدمتها لنا فنونه التشكيلية في صور شتى ترمز كل منها إلى خصيصة من خصائصها أو جانب من جوانبها؛ فنراها في هيئة امرأة حبلى، أو أم تضم إلى صدرها طفلها الصغير، أو عارية الصدر تمسك ثدييها بكفيها في وضع عطاء، أو ترفع بيديها باقة من سنابل القمح، أو باسطة ذراعيها في وضع من يستعد لاحتواء العالم، أو ممسكة بزوج من الأفاعي، أو معتلية ظهور الحيوانات الكاسرة.
ولقد لعبت المكانة الاجتماعية للمرأة في تلك العصور، والصورة المرسومة لها في ضمير الجماعة، دورا كبيرا في رسم التصور الديني والغيبي الأول وفي ولادة الأسطورة الأولى. كانت المرأة بالنسبة لإنسان العصر الباليوليتي موضع حب ورغبة، وموضع خوف ورهبة في آن معا؛ فمن جسدها تنشأ حياة جديدة، ومن صدرها ينبع حليب الحياة، ودورتها الشهرية المنتظمة في ثمانية أو تسعة وعشرين يوما تتبع دورة القمر، وخصبها وما تفيض به على أطفالها هو خصب الطبيعة التي تهب العشب معاشا لقطعان الصيد، وثمار الشجر غذاء للبشر. وعندما تعلم الإنسان الزراعة وجد في الأرض صنوا للمرأة؛ فهي تحبل بالبذور وتطلق من رحمها الزرع الجديد. لقد كانت المرأة سرا أصغر مرتبطا بسر أكبر؛ سر كامن خلف كل التبديات في الطبيعة والأكوان؛ فوراء كل ذلك أنثى كونية عظمى، هي منشأ الأشياء ومردها، عنها تصدر الموجودات، وإلى رحمها يئول كل شيء كما صدر.
غير أن الأنظمة الدينية النيوليتية تتزعزع مع بزوغ عصر الكتابة، وظهور المدن الكبيرة ذات التنظيمات المدنية والسياسية والاقتصادية المعقدة، التي عكست واقعها على الحياة الدينية الجديدة. فمع انتقال السلطة في المجتمع إلى الرجل، وتكوين دولة المدينة ذات النظام المركزي، والهرم السلطوي والطبقي التسلسلي الصارم، الذي قام على أنقاض النظام الزراعي البسيط، يظهر الآلهة الذكور ويتشكل مجمع الآلهة برئاسة الإله الأكبر، ذلك المجتمع الذي يعكس تشعب الاختصاصات وتقسيم العمل في المجتمع الجديد وتمركز السلطة في يد الملك. هنا تجد الإلهة الكبرى للعصر النيوليتي نفسها وقد غدت إحدى آلهة المجمع، بعد أن كانت الإلهة الواحدة لا يشاركها في السطات سوى ابنها، الذي نشأ عنها، وكان مقدمة لظهور بقية الآلهة الذكور. غير أن هذا التحول في مكانة الأم الكبرى، لم يتم إلا على النطاق الرسمي؛ بينما بقيت مكانتها القديمة على حالها في ضمير الناس عامة ممن لم يتوجهوا إلا إليها عند الخوف واليأس وأزمنة الشدة.
ومن ناحية أخرى فإن الكتابة التي ابتكرها الإنسان في مطلع العصر المديني، وراح يدون بها أساطيره الموروثة عن أسلافه البسطاء، قد ساهمت في تظليل صورة الأم الأولى، وإسدال حجب سميكة أمام وجهها. فالكهنة المتفرغون ممن ساعد الرفاه الاقتصادي في المجتمع الجديد على تفرغهم كلية للنشاط الديني، والذين كانوا أول من استعمل الكتابة وحفظ أسرارها المقدسة، قد راحوا يدونون أساطير الأمس بلغة اليوم الشعرية، التي ابتعدت عن أصلها الطبيعي المباشر متجهة أكثر فأكثر نحو المجاز والرمز، وانتشت نفوسهم بهذه الأداة الجديدة، فأخذوا يطلقون على الأم الكبرى أسماء متعددة يشير كل منها لوظيفة من وظائفها أو خصيصة من خصائصها. ثم استقلت الأسماء فصارت ذوات منفصلة بتأثير التوجه الديني الجديد، ولكن دون أن يفقد الإنسان إحساسه بالوحدة الصميمية لهذه الذوات وتطابقها، وبكونها تنبع عن وتصب في ذات واحدة؛ فالفكر الأسطوري لا يهمه أن يعبر عن الحقيقة بطريقة مباشرة كما هو شأن الفكر الفلسفي والعلمي اللاحقين، بل إنه يسعى إلى التعبير بلغة المجاز والخيال والرمز، وإيصال رسالته إلى القلوب والمشاعر لا إلى العقول والأذهان. فالأسطورة، والحالة هذه، ليست عين شكلها وما ترويه من قصص وأحداث، بل هي كالحلم الذي يبدو غامضا متنافر الوقائع؛ ولكنه غني بكل معنى ودلالة. إن منطقها ليس أن: «آ» هو «آ» وليس «ب» كما هو الحال عند أرسطو، بل منطق أن: «آ» هو عين «ب» إذا كان الاثنان يشفان عن حقيقة واحدة، ويظهران كتبد لمبدأ واحد. إن آخر مأرب للأسطورة أن تؤخذ بحرفيتها وشكلها ونصها؛ لأنها إشارة وإيماءة، لا دوغما جامدة.
من الأسماء التي استقرت فصارت ذواتا، نجد في سومر الإلهة «نمو» الإلهة البدئية والمياه الأولى، و«إنانا» إلهة الطبيعة والخصب والدورة الزراعية. وفي بابل نجد «ننخرساج» الأم - الأرض، وعشتار المقابلة لإنانا. وفي كنعان «عناة» و«عشتارت»، وفي مصر «نوت» و«إيزيس» و«هاتور» و«سيخمت»، وعند الإغريق «ديمتر» و«جايا» و«رحيا» و«أرتميس» و «أفروديت». وفي فرجيا بآسيا الصغرى «سيبيل». وفي روما «سيريس» و«ديانا» و«فينوس». وفي جزيرة العرب «اللات » و«العزى» و«مناة»، وفي الهند «كالي»، وفي حضارة السلت الأوروبية «دانو» و«بريجيت». أسماء متنوعة لإلهة كانت واحدة قولا وفعلا في العصر النيوليتي، فصارت متعددة قولا وواحدة فعلا في عصور الكتابة. وإني لأدعوها في هذا الكتاب باسمها البابلي «عشتار»، عيش الأرض.
قد يعجب من تعود قراءة الكتب الأكاديمية في الأسطورة، مما نقول به من تطابق بين إلهات عرفهن كلا على حدة؛ إلا أن أحد أهدافنا الرئيسية في هذا الكتاب هو البحث عن التطابق في التباعد وعن الوحدة في الشتات. ولسوف يتفتح اللغز تدريجيا وبشكل تلقائي عبر الفصول القادمة. وها هي «إيزيس» تقدم لنا منذ البداية بعض المعونة؛ إذ تقول عن نفسها في أحد النصوص من الفترة الرومانية: «أنا أم الأشياء جميعا، سيدة العناصر وبادئة العوالم، حاكمة ما في السماوات من فوق وما في الجحيم من تحت، مركز القوة الربانية. أنا الحقيقة الكامنة وراء الآلهة والإلهات، عندي يجتمعون في شكل واحد وهيئة واحدة، بيدي أقدار أجرام السماء وريح البحر وصمت الجحيم، يعبدني العالم بطرق شتى وتحت أسماء شتى، أما اسمي الحقيقي فهو «إيزيس»، به توجهوا إلي بالدعاء».
29
لا يقتصر لغز عشتار على تعدد الأسماء وتنوع التجليات، بل يتعدى ذلك إلى كل ما يتعلق بها من خصائص ووظائف وطقوس وأساطير وتراتيل. ولعل في لغز عشتار البابلية نموذجا لألغاز شبيهاتها عشتارت الثقافات الأخرى؛ فكل سر من أسرارها يفضي إلى سر آخر، ولا نكاد نمسك بها في صورة حتى تنحل إلى أخرى، أو نقبض عليها في هيئة حتى تنقلب إلى نقيضها. هي ربة الحياة وخصب الطبيعة، وهي الهلاك والدمار وربة الحرب. في الليل عاشقة وفي النهار مقاتلة ترعى المواقع وتغشى المذابح. هي الأم الحانية، راعية الحوامل والمرضعات الحاضرة أبدا قرب سرير الميلاد، وهي البوابة المظلمة الفاغرة لالتهام جثث البشر. هي ربة الجنس وسرير اللذة، وهي من يسلب الرجال ذكورتهم ويخصى تحت قدميها الأبطال. هي القمر المنير ، وهي كوكب الزهرة. هي النور ورمزها الشعلة الأبدية، وهي العتم والظلمة وما يخفى. هي القاتلة، وهي الشافية . هي العذراء الأبدية، وهي الأم المنجية. هي البتول، وهي البغي المقدسة. هي ربة الحكمة، وهي سيدة الجنون. هي الإشراق بالعرفان، وهي غيبوبة الحواس وسباتها. التقت عندها المتناقضات وتصالحت المتنافرات.
إن بحثنا في لغز عشتار هو في الوقت ذاته بحث عن الأسطورة الأولى، والديانة المركزية الأولى والطقوس الأولى. إنه بحث عن أصول الديانات البشرية ومردها، عن مبدأ الحياة الروحية والغايات التي تسعى إليها. عدتنا في هذه المغامرة: أداة ... وخيال. أما الأداة فهي ما تركه لنا الأقدمون من أساطير ونصوص طقسية وصلوات، وما كشفت عنه الحفريات من رسوم ونقوش ومنحوتات. وأما الخيال، فليس خيالا جامحا فوق الحد والقيد، بل هو الخيال اللازم لأي معرفة ومغامرة فكر. سيساعدنا الخيال على تخطي صرامة الفكر الحديث، الذي يحاكم تركه الماضي بأطر العصر ومنطقه وعلومه الوضعية، فنلبس لبوس الإنسان القديم وننظر إلى العالم بعينه، ونفكر بطريقته ومن خلال منطق أسطورته. سننظر إلى الأسطورة من داخلها، ونهبط إلى مستوياتها السرانية الباطنية منحدرين من شكلها الخارجي إلى أعماقها الحقيقية، مما يظن فكرنا المنطقي العلمي الفلسفي أنها تقول إلى ما تريد فعلا أن تقول.
Página desconocida
ومن ناحية أخرى فلن يكون منهجنا تاريخيا يعتمد تسلسل المراحل وتتابعها، ولا إثنولوجيا يعتمد دراسة معتقدات كل شعب على حدة ومقارنتها، من ثم، بمعتقدات الشعوب الأخرى؛ بل سنضع أنفسنا في قلب اللغز متتبعين طريقنا في كل الاتجاهات زمنيا وجغرافيا وإثنيا لنصل إلى أطرافه. وستقدم لنا في كثير من الأحيان أعمال الإنسان الفنية التشكيلية معونة أكبر مما تقدمه لنا نصوصه المكتوبة. فالكلمة مخادعة مخاتلة، تزوغ من معنى لتلبسها معان، أما العمل التشكيلي فشاهد صامت، أسهل قراءة في رأينا وأكثر قدرة على الإيصال. غير أن الأداتين ستتعاونان تعاونا فعالا في مسار البحث، فيلقي العمل الفني ضوءا على النص، ويفك لنا النص رموز العمل الفني. إن عملا فنيا من العصر النيوليتي سيلقي ضوءا على آخر من مطلع عصر الكتابة، أو على نص من فترة الحضارات الكبرى. وبالمقابل فإن نصا مكتوبا سيعيننا على فهم عمل فني تركه صاحبه دون رسالة مكتوبة. سوف تتبادل عشتار المعابد الكبرى والتماثيل الرخامية الرائعة أسرارها مع عشتار المزارع الأول الذي صنع لها الدمى بطين حقله معجونا بعرق بدنه، وستتعاون الاثنتان على كشف كثير من جوانب الديانات الكبرى اللاحقة، التي يربطها بأول طقس قام به إنسان المستوطنات الزراعية في سوريا، وهو يزرع سنبلته الأولى، خيط مكين.
عشتار سيدة الأسرار، من يجرؤ على هتك سرها حلت عليه لعنتها المقيمة. تقول عن نفسها بلسان الأم المصرية الكبرى: «أنا ما كان، وما هو كائن، وما سيكون ... وما من إنسان بقادر على رفع برقعي»،
30
ومن حاول رفع الستر عنها لقي مصير الشاب الذي أزاح البرقع عن تمثال لإيزيس في أحد هياكلها؛ فأصابه الخبال لما رأى، وانعقد لسانه بقية حياته. وكذلك مصير الشاب الصياد الوسيم «أكيتون» الذي اقتحم على أرتميس وهي تستحم عارية في مياه البحيرة العالية عند منبع النهر، فمسخته الإلهة أيلا طاردته كلابه فمزقته إربا إربا. هذه القصص لا تشير إلى احتجاب عشتار بجسدها؛ فهي العارية أبدا، التي صور الإنسان جسدها منذ أن تعلم تشكيل المادة بيديه، ولكنها تشير إلى لغزها الكبير وحيرة الألباب في أمرها. ومع ذلك فإننا سوف نبدأ برفع براقعها واحدا تلو آخر، لنكشف عن وجهها الأخاذ؛ وجه الأنثى الخالدة الكامن في ضمير كل منا. سوف أنطلق من المشهد البانورامي لأسطورة الشرق القديم وأساطير الحضارات الكبرى، ثم أرتقي الأحراش الجبلية في طرق ضيقة وعرة نحو البحيرة الصافية حيث تستحم عشتار، وعندما أصل لن يثنيني عن الاقتحام لعناتها المقيمة؛ لأنني لا أكشف عن وجهها كشف هتك بل كشف عشق.
الفصل الثاني
عشتار الأم الكبرى
المجتمع الأمومي - فردوس الأرض
كان الاعتقاد سائدا حتى أواسط القرن التاسع عشر، أن العائلة بشكلها الأبوي القائم اليوم، قديمة قدم المجتمع الإنساني، وأن المجتمعات الأولى قد تشكلت في بداياتها نتيجة لتجمع عدد من هذه العائلات وتزايدها تدريجيا. إلا أن هذه الفرضية قد تهاوت أمام النقد الذي وجهه إليها عدد من رواد الأنثروبولوجيا والعلوم الإنسانية الأخرى، ممن قدموا في دراستهم الأدلة الكافية على وجود شكل أقدم من أشكال العائلة سبق شكلها الأبوي الحديث نسبيا. وهذا الشكل لا يقوم على قيم الذكورة وسلطة الأب، بل على قيم الأنوثة ومكانة الأم.
1
إن التجمع الإنساني الأول لم يؤسس بقيادة الرجل المحارب الصياد، بل تبلور تلقائيا حول الأم التي شدت عواطفها وحدبها ورعايتها الأبناء حولها في أول وحدة إنسانية متكاتفة هي العائلة الأمومية، خلية المجتمع الأمومي الأكبر. ذلك أن عاطفة الأم نحو أولادها وعاطفة الأولاد نحو أمهم، هي العاطفة الأصلية الوحيدة، وكل ما عداها يأتي بالاكتساب والتعلم، لا يستثنى من ذلك عاطفة الأب نحو أبنائه وعاطفة الأبناء نحو أبيهم، التي تأتي بالصقل الاجتماعي ومعرفة الواجب الأخلاقي. لقد عرفت المرأة، قبل أن يتعلم الرجل، كيف توسع دائرة ذاتها بالحب لتشمل ذاتا أخرى ومخلوقا آخر، وكيف توجه كل ما لديها من هبات الطبيعة نحو حفظ تلك الذات الأخرى وتنميتها كنفسها، وكيف تفتح هذه الدائرة بعد ذلك لتشمل أولاد أولادها وأولاد النساء الأخريات؛ لأن كل رحم ينجب إخوة وأخوات للمولودين من رحم آخر. بالولادة تزدوج المرأة جسديا ونفسيا، وتوسع آفاق كيانها الطبيعي والروحي؛ أما الرجل فبالمولود الجديد يشد أزره ويدعم وضعه الاجتماعي، ويحافظ على ممتلكه في مقابل ممتلك الآخرين، ويتمرأى أمام ذاته. فالمبدأ الأمومي يجمع ويوحد، والمبدأ الأبوي يفرق ويضع الحواجز والحدود. المبدأ الأمومي مشاعة وعدالة ومساواة، والمبدأ الأبوي تملك وتسلط وتمييز. الأمومية توحد مع الطبيعة وخضوع لقوانينها، والأبوية خروج عن مسارها وخضوع لقوانين مصنوعة.
Página desconocida
2
في المجتمع الأمومي، أسلم الرجل قياده للمرأة، لا لتفوقها الجسدي؛ بل لتقدير أصيل وعميق لخصائصها الإنسانية، وقواها الروحية، وقدراتها الخالقة، وإيقاع جسدها المتوافق مع إيقاع الطبيعة. كانت بشفافية روحها أقدر على التوسط بين عالم البشر وعالم الآلهة، فكانت الكاهنة الأولى والعرافة والساحرة الأولى. بهذه الأسلحة غير الفتاكة، مضى الجنس الأضعف قوة بدنية فتبوأ عرش الجماعة دينيا وسياسيا واجتماعيا، وأمام هذه الأسلحة أسلمت الجماعة قيادتها للأمهات.
3
ولقد عزز الدور الاقتصادي للمرأة مكانتها هذه؛ فلقد كانت المنتج الأول في الجماعة، لكونها المسئولة الأولى عن حياة الأطفال وتأمين سبل العيش لهم. كانت المرأة مسئولة عن تحضير جلود الحيوانات وتحويلها إلى ملابس ومفارش وأغطية، وكانت النساجة الأولى والخياطة، وأول من صنع الأواني الفخارية. وبسبب قضائها وقتا طويلا في البحث عن الجذور والأعشاب الصالحة للأكل تعلمت خصائص الأعشاب السحرية في شفاء الأمراض؛ فكانت الطبيبة الأولى. وكانت من يبني البيت ويصنع أثاثه، وكانت تاجرة تقايض بمنتجاتها الآخرين.
4
ومن وجود شعلة النار المقدسة في معابد الحضارات المتأخرة، وقيام عذراوات المعبد بحراستها والإبقاء عليها مشتعلة، نستطيع الاستنتاج بأن شعلة النار الأولى قد أوقدتها المرأة وكانت أول حارس عليها حافظ لأسرارها. وأخيرا توجت المرأة دورها الاقتصادي الكبير باكتشاف الزراعة، ونقل الإنسان من مجتمع الصيد والالتقاط إلى مجتمع إنتاج الغذاء؛
5
بينما حافظ الرجل طيلة هذه المرحلة على دوره التقليدي في الصيد والتنقل بحثا عن الطرائد الكبيرة.
في ذلك المجتمع القديم المتمركز حول الأم، فاضت طبائع المرأة وصفاتها لتصبغ حياة الجماعة وقيمها وعلاقاتها ونظمها وجمالياتها. فحب المرأة لأطفالها هو العاطفة التي ميزت علاقاتها بالمحيط الأوسع، وهو النموذج الأساسي للعلاقات السائدة بين أفراد ينظرون لبعضهم على أنهم إخوة في أسرة كبيرة تتسع لتشمل المجتمع الأمومي، صغيرا كان أم كبيرا. ومعاملة المرأة لأطفالها دون تمييز قائم على خصائص معينة أو قدرات وقابليات ومنجزات، هي التي أسست لروح العدالة والمساواة الاجتماعية القائمة في الجماعة الأمومية. وابتعاد سيكولوجية المرأة عن كل ميل نحو التسلط والاستبداد، هو الذي أعطى هواء الحرية الذي تنفسته الجماعات الأمومية طيلة عهدها. ونفورها من العنف الجسدي إلا عند الحاجة الحقيقية إليه، قد أشاع السلام بين أفراد الجماعة ذاتها وبين الجماعات الأمومية الأخرى. وفيضها الطبيعي على من حولها دون حساب، كان أساس المشاعة البدائية وعدالة توزيع الثروة ضمنها. مناخ أقرب إلى مناخ فردوس فقده الإنسان بحلول مجتمع الذكر الذي ضيع السلام والدعة، ربما إلى الأبد.
6
Página desconocida
ولقد جاءت بينات البحث الأركيولوجي الحديث لتثبت بعض سمات المجتمعات الأمومية القديمة؛ فالمستوطنات المستقرة الأولى في سوريا منذ الألف التاسع إلى الألف السادس قبل الميلاد، كانت تهجر بعد فترات طويلة من سكناها دون بينة على وجود تدمير أو حرائق أو حروب. ولا يشذ عن ذلك مدينة أريحا الشهيرة بسورها الكبير،
7
فرغم تأكيد البعض على الغاية الدفاعية لهذا السور، فإن البينة الموضوعية لم تؤكد ذلك، خصوصا وأن المدينة لم تكشف بكاملها بعد، ولم تظهر طبيعة الأجزاء المدفونة الباقية من ذلك السور الذي ربما كان مجرد تقنية هندسية لدعم المنازل الملاصقة له. يضاف إلى ذلك أن مستوطنات تلك الفترة لم تعرف الأسوار قط.
8
غير أنه يجب ألا يتبادر إلى الذهن أن دور الرجل في الجماعة الأمومية كان دور التابع؛ ذلك أن الرجل قد بوأ المرأة مكانتها احتراما وتقديرا لا خنوعا، ورجال العصر الأمومي كانوا أكثر عزة وأنفة وفروسية من رجال العصر البطريركي؛ فقد نقل إلينا مؤرخو اليونان ممن احتكوا بأقوام كانت تعيش آخر عصور الأمومية، أو سمعوا بأخبارها، أن رجال تلك المجتمعات كانوا من أفضل فرسان عصرهم على الإطلاق، وكانت بطولتهم وتضحيتهم في المعارك مضرب الأمثال.
9
ثم يأتي أرسطو في كتابه «السياسة» فيؤكد هذه الحقيقة ويجعل منها ظاهرة شمولية عندما يقول إن أغلب الشعوب العسكرية الميالة إلى القتال هي شعوب منقادة إلى النساء. ذلك أن المرأة رغم طبيعتها المسالمة، تسلك سلوك اللبوة الكاسرة عندما يتعرض أشبالها للخطر.
مر المجتمع الأمومي عبر تاريخه الطويل بمراحل متعددة، انتهت بالانقلاب الكبير الذي قام به الرجل متسلما دفة القيادة من المرأة ومؤسسا للمجتمع الذكري البطريركي.
ونستطيع تتبع وفهم تلك المراحل، بتتبع أشكال العائلة الأمومية ونمط العلاقة الجنسية في كل شكل. ففي البدايات السحيقة للتجمعات الإنسانية، كانت العلاقات الجنسية حرة تماما دون ضابط أو قانون، حيث كل امرأة لكل رجل، وكل رجل لكل امرأة. وهذا الطور موغل في القدم لدرجة يستحيل معها تقديم القرائن المباشرة على وجوده؛ إلا أن إثباته يتأتى من أطوار لاحقة له منبثقة منه، أطوار حل فيها نوع من التنظيم المتطور. والتنظيم عادة لا يأتي إلا لضبط حالة سابقة من الفوضى وانعدام النظام. ولعل نظام عائلة قرابة الدم هو الشكل الأول الذي ورث وضع الفوضى البدئية . فوفق هذا النظام تنقسم الجماعات الزواجية حسب الأجيال، فنجد جميع الجدود والجدات في نطاق القبيلة أزواجا فيما بينهم، وكذلك الأمر فيما يتعلق بأولادهم؛ أي الآباء والأمهات؛ بينما يشكل أولاد هؤلاء الأخيرين الحلقة الثالثة في حلقة الجماعات الزواجية. وهكذا نجد أن هذا الشكل قد حرم العلاقة الجنسية بين الآباء والأبناء، من دون الإخوة والأخوات. ثم جاءت الخطوة التالية لتحرم العلاقة الجنسية بين الإخوة والأخوات. وهذا ما أدى إلى تفتيت المشاعات القديمة وظهور عائلات زواجية أضيق، حيث كانت مجموعة من الإخوة من أم واحدة تدخل في علاقة زواج مشترك مع عدد معين من النساء لا يوجد بينهن أخوات لهم، والعكس صحيح. عن هذا الشكل الثالث للعائلة القديمة نشأت أشكال فرعية وتنويعات متعددة، وكلها تبيح العلاقة الجنسية بين شريحتين واسعتين من دون الإخوة والأخوات المباشرين، أو عبر خطوط القرابة المنحرفة. وبما أنه في كل هذه الجماعات الزواجية لا يمكن معرفة والد الطفل؛ فقد كان الأولاد ينتسبون لأمهاتهم ويعرف كل واحد بأمه لا بأبيه. وهذا ما أطلق عليه الباحثون اسم «حق الأم»، الذي يشمل انتساب الولد لأمه وما ينشأ عن ذلك من علاقات وحقوق اجتماعية واقتصادية مختلفة. أما الشكل الرابع من أشكال العائلة؛ فهو العائلة الثنائية التي بدأت بالتكون تدريجيا داخل الشكل السابق، حيث كان لكل رجل زوجة رئيسية داخل مجموعة الزوجات، يساكنها فترة تطول وتقصر، وكان بالنسبة إليها الزوج الأساسي في عداد أزواج كثيرين. وقد تحولت هذه المساكنة الطويلة إلى زواج ثنائي وعائلة صغيرة مؤلفة من زوجين وأبنائهما المباشرين. في هذا الزواج الثنائي حافظت المرأة على وضعها المتميز السابق، فكانت حرة في فصل الزواج متى شاءت، فيعود الأولاد إليها لا إلى الزوج الذي يخرج من البيت صفر اليدين. كما بقي الأولاد ينتسبون إلى أمهم وعشيرتهم، لا إلى أبيهم الذي كان ينظر إليه دوما كغريب. وبناء على «حق الأم» لم يكن الأبناء يرثون ثروة آبائهم؛ بل يرثون عن أمهاتهم على قدم المساواة مع بقية أقربائهم بالدم، أما تركة الأب وممتلكاته فكانت تذهب إلى إخوته وأقربائه بالدم. إلا أنه مع تزايد الثروات بتأثير حياة الاستقرار والزراعة، كان مركز الزوج الاقتصادي يتدعم باستمرار على حساب مركز الزوجة، وثرواته وممتلكاته تتزايد، الأمر الذي أدى بجماعة الذكور إلى التفكير جديا بقلب نظام الوراثة القديم لصالح أولادهم. وقد نجحوا في ذلك خلال المرحلة الأخيرة السابقة لظهور المدن الأولى، حيث أفلح الرجل أخيرا في القضاء على «حق الأم» وإحلال «حق الأب»، وظهرت العائلة الأحادية التي تقوم على سيادة الرجل مع الرغبة الصريحة في ولادة أولاد تكون أبوتهم ثابتة لا جدال فيها من أجل تمليكهم وتوريثهم. فكان إسقاط حق الأم هزيمة تاريخية عالمية للجنس النسائي، ابتدأ مع تاريخ استذلال المرأة واستعبادها.
10
Página desconocida