El enigma de Ishtar: la deidad femenina y el origen de la religión y el mito
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
Géneros
لم تكن عشتار السوداء فقط سيدة الهلاك الذي يعترض سير الحياة فيداهمها من الخارج، بل كانت أيضا سيدة النزعة التدميرية التي تداهم سير الحياة من الداخل، من أعماق النفس الإنسانية التي تحتوي في تركيبها على نزوع نحو الحياة ونزوع نحو الموت في آن معا؛ النزوع الأول واع يهدف إلى حفظ التعضي الحي، واكتساب المتعة واجتناب الألم، والنزوع الثاني غير واع يسعى نحو الألم وتعذيب النفس، والانحدار إلى هاوية السكون المطلق. إن جنوح الإنسان إلى الحرب منذ بداية تشكيل المجموعات البشرية إلى يومنا هذا، هو أوضح تجليات النزعة التدميرية الذاتية. فبصرف النظر عن كل التسويغات العقلانية وبراقع البطولة الرومانسية، ليست الحرب إلا اندفاعا لا شعوريا نحو الموت وتلبية لنداء داخلي بإيقاف الحياة، نداء يصدر عن عشتار السوداء التي رفعها الإنسان إلهة للحرب، وأسقط عليها ميوله التدميرية الكامنة.
وعندما لا تصل النزعة التدميرية حدها الأقصى ببلوغ الموت وإهلاك النفس، فإنها تقف به عند الألم ونفي اللذة، وهو أقصى ما يمكن للتعضي أن يعارض به جريان الحياة الحر من دون أن يتسبب في إيقافه كليا، وهنا تتحول نزعة الموت إلى نوزع مازوكي، يسعى الإنسان من خلاله إلى تعذيب نفسه وإيذائها وإيقاف بعض فاعليات الحياة في جسده. وكما سار الإنسان وراء نزعة الموت إلى الحرب تحت راية عشتار السوداء؛ فقد مارس أيضا أقسى أفعاله المازوكية تحت رايتها ومن أجل إرضائها، وذلك من خلال الطقوس الدموية التي تتم في أعيادها السنوية، تلك الطقوس التي تبلغ قمة عنفها ومعارضتها لمبدأ الحياة، بفعل الخصاء الذي يقوم به الرجال على مذبح الإلهة، واهبينها ذكورتهم وكل حياة ممكنة سوف تنشأ عنهم. إن القربان البشري هو تغذية للموت بإنسان حي ، أما الخصاء فإنه تغذية للموت بنسل لم يولد بعد، ولن يولد، إنه تعطيل لوظيفة الحياة ذاتها بتعطيل وسائلها وأسبابها. هذا ويمكننا متابعة هذه الطقوس المازوكية في أعياد الأم الكبرى في أمكنة وثقافات متعددة.
ففي بلاد الرافدين كانت أعياد عشتار السنوية تقام في الربيع احتفالا بعودة ابن الأرض، الإله تموز من العالم الأسفل، وانتعاش الطبيعة الخضراء التي ماتت بموته في الخريف، وكان اليوم الأول من الاحتفال مخصصا لندب الإله تموز الميت الغائب في العالم الأسفل، والنواح على روح النبات الهاجعة في أعماق الظلمات. ثم يتحول النحيب الهادئ إلى تفجع مأساوي وهستيريا جماعية، ويباشر المحتفلون لطم خدودهم وضرب أنفسهم وإيذاء أجسامهم بما تصل إليه أيديهم من أدوات جرح وتقطيع، وتمزيق ثيابهم وحثو التراب على رءوسهم. وفي سوريا، كانت تقام في المناسبة نفسها أعياد مشابهة احتفالا ببعث الإله أدونيس الميت، ابن الإله عستارت وحبيبها، تبدأ طقوس الدم عندما يأخذ كهان عستارت الخصيان بتجريح أجسامهم بالسكاكين الحادة، على صوت الطبول والزمور والصنوج التي تعزف إيقاعا عنيفا مجنونا، ثم تنتقل الحمى إلى بقية المحتفلين الذين يصل ببعضهم مرأى الدم وصوت الموسيقى إلى حالة من الهيجان يغدو معها مهيئا لمباشرة طقس الخصاء، الذي يشكل جزءا هاما من طقوس عستارت المشهودة في ذلك اليوم، وهنا يندفع الشباب واحدا إثر آخر إلى مكان مخصص فيه سيوف مغروسة فيستلونها ويخصون أنفسهم بأيديهم، ثم يركض أحدهم في شوارع المدينة لا يلوي على شيء، يسوقه ألمه المجنون، حاملا أجزاءه المفصولة في قبضته، إلى أن يرميها أمام أحد البيوت في نهاية جريه الأعمى، وهنا يتوجب على صاحب الدار أن يدخله ويعتني به، ويقدم له من ثم ثوبا نسائيا يرتديه بقية حياته.
88
وعندما يهدأ صخب الاحتفال، وتسكن أصوات الطبول والصنوج، تمضي السكرة ويصحو الشاب ليكتشف أن عشتار قد سلبته رجولته إلى الأبد، وألحقته بجيش الخصيان الذين يعج بهم معبدها وأطرافه. فعن معبد عشتار وخصيانه، نقرأ في أسطورة إله الطاعون البابلية وصفا لمدينة عشتار «أوروك» بأنها: مدينة البغايا المقدسة والغلمان والخصيان، وفي وسطها معبد عشتار الذي يعج بالمخنثين ممن نالت الإلهة من رجولتهم.
89
وإلى عهد قريب كانت هذه الإلهة تنال من رجولة الذكور لدى بعض القبائل البدائية، فقبائل الوينباغو الهندية في أمريكا، كانت تعتقد أن القمر هو إلهة أنثى، وأن ظهورها في حلم الرجل هو تعبير عن رغبتها في أن يقدم لها ذكورته قربانا. فإذا استفاق النائم من مثل هذا الحلم، كان عليه أن ينفذ أمر الإلهة، فينزع ثياب الرجال ويرتدي حلل النساء وينضم إلى زمرة الكينيدي، وهم فريق من الرجال قد سبقوه إلى هذا المصير فتخلوا عن عالم الرجال ولزموا بيوت النساء.
90
في روما كانت أعياد الأم الكبرى سيبيل وابنها أو حبيبها آتيس تسير على نمط مشابه للأعياد العشتارية في سوريا وبابل؛ فالإلهة سيبيل إلهة شرقية انتشرت عبادتها في روما انتشار النار في الهشيم، بعد أن تأسست عبادتها رسميا عام 204 قبل الميلاد، عقب نقل حجرها الأسود المقدس من مقره في فرجيا بآسيا الصغرى إلى عاصمة الإمبراطورية الرومانية. وقد كان لحلول الحجر الأسود في مقره الجديد تأثير مباشر على محصول تلك السنة، كما تروي المصادر الرومانية؛ إذ لم تشهد البلاد غلالا وفيرة فاضت بها الأرض كما شهدته في تلك السنة، وبالإضافة إلى ذلك فإن تلك السنة جاءت بحدث هام من أهم أحداث التاريخ الروماني، ألا وهو تراجع جيوش هانيبعل الفينيقية عن حصار روما وعودتها نحو قرطاجة، وهو حدث عزاه الرومان إلى نصرة الإلهة سيبيل. إلا أن هانيبعل وهو يلقي نظرته الأخيرة على السهول الإيطالية في لحظة وداع لحلم كبير، لم يخطر بباله أن روما المنتصرة قد استسلمت في نفس السنة إلى غزو من نوع آخر، غزو سيقيض له، خلال القرنين القادمين، أن يحقق ما لم تستطع الجيوش الفينيقية أن تفعله، إنه غزو الديانات الشرقية.
91
Página desconocida