Lessons by Sheikh Yasser Burhami
دروس للشيخ ياسر برهامي
Géneros
قوة الله لا يغلبها شيء
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﵌.
أما بعد: فختم هذا الدعاء المبارك العظيم بقوله ﵌: (لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك) فهو تأكيد على ذلك المعنى المتكرر الذي تكرر مرات في هذا الدعاء وفي غيره: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥]، (لا إله إلا أنت) تحقيق العبودية، ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٥] بمعنى (لا حول ولا قوة إلا بك)، عليك توكلت وإليك أنبت، ﴿قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ [الرعد:٣٠]، وغير ذلك كثير في آيات القرآن، ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود:٨٨]، حتى يكون العبد شاهدًا بأنه لن يحقق العبودية لله ﷾ إلا بإعانته، (لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) كما قال النبي ﷺ، وكما أوصى إبراهيم أمة محمد ﷺ بأن غرس الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فلا يتحول أحد من حال إلى حال إلا بالله ﷿، ولا قوة للعباد إلا به ﷾، وفي هذا إثبات قدر الله ﷾ وقدرته، وإثبات أن العباد يجعل الله سبحانه لهم قوة وقدرة، فهو لم يقل: لا قوة إلا لله والقوة لله جميعًا، وإنما قال في هذا الموضع: إلا لله ﷾.
والمعنى الأول ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [البقرة:١٦٥] معنى حق قد ثبت في الكتاب والسنة؛ وذلك لأن الله ﷿ هو القوي، لكن لا حول ولا قوة إلا بالله، يتضمن معنى إضافيًا، وهو: أن العباد يجعل الله لهم قوة من عنده سبحانه، وهذا عبد يقويه الله على طاعته، وذاك عبد يقويه على كسب الدنيا، وذاك عبد يقويه على ظلم الآخرين، وذاك عبد يقويه على الشرك والعياذ بالله من ذلك، وهو ﷾ لا قوة إلا به ﷿، فهو الذي قدر ذلك، وإذا أمر أن تنزع القوة -قوة أي مخلوق- نزعها ﷾، ويبقى هو المتفرد ﷾ بالقوة والعزة والقهر والجبروت، وهو: ﴿الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف:٣٩] ﷾.
وإذا شهد العبد ذلك فإنه يطلب تحول حاله من السيئ إلى الأحسن، وتحول حال قومه وأمته إلى ما يحب مستعينًا بالله ﷿، وفيما يرى من تقلب أحوال العالم من حوله، وتقلب الملك والسلطان والجاه والغنى والفقر والموت والحياة شاهد على الله ﷾، يشهد أن الأمر كله من عنده، ﴿قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ [آل عمران:١٥٤]، وكما قال ﷾: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود:١٢٣]، وإذا شهد المؤمن ذلك كان الناس في عينه وفي قلبه صغارًا، كما هي حقيقتهم في هذا الوجود زمانًا ومكانًا، لا يملكون من الأرض ولا من السماء شيئًا، وما هم بمعجزين في الأرض ولا في السماء، قال تعالى: ﴿وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا﴾ [الفرقان:٣].
يشهد المؤمن أنه لا قوة إلا بالله، فلم يشهد الحول والقوة بالناس، فلا يغتر إذًا بما عليه الذين كفروا، ﴿فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ﴾ [غافر:٤]، ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [آل عمران:١٩٦ - ١٩٧]، وكذلك لا يغتر بما رزقه الله كالذي: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا﴾ [الكهف:٣٥ - ٤٣].
وهذا المثل ضربه الله ﷿ لكل أحد اغتر بقوته أو اغتر بماله أو اغتر بسلطانه، ومآله إلى ذلك قطعًا وحتمًا، فمن الناس من يريهم الله ذلك في حياتهم كمن ضاع ملكه بعد ملك طويل وسلطان عريض، وتأله وتجبر، ثم يصير إلى الذل والهوان والانكسار والأسر وأنواع الإهانات المختلفة، وهذه آية من آيات الله العظيمة، وهذه سنة ماضية كما سئل الإمام مالك عمن خرج على الظالم فقال: دعه ينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم منهما جميعًا ﷾، فالله ﷿ يسلط بعض الظالمين على بعض، ويولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون، والله ﷾ حين يجعل بعض أهل الطغيان عبرة للناس، يريهم ﷾ آيات قدرته حتى يعلموا أن من سار على ركبهم فهو إلى مصيرهم ومآلهم، وإن كان الذي يظلمه، وإن كان الذي يهينه أشد جرمًا وكفرًا منه، فإنه أجدر بنفس المصير، وكثير من الناس لا يرى تلك اللحظات التي يرحل فيها الأغنياء والملوك والكبراء والرؤساء الذين ملئوا الدنيا بأنواع التفخيم لأنفسهم، وأنواع الفخر والاختيال على الخلق، وأنواع الكبر والغرور، لكنها تمر عليهم لحظات الرحيل أحيانًا في صمت بعيدًا عن الأضواء، بعيدًا عن أن تصور صورهم، وهم في ذل الموت وغمراته وسكراته، وما يصيبهم من هوان القبور أعظم، ولو فتحت قبورهم لرأى الناس لحومهم بالية بعد أن كانوا ملوكًا أعزة، ولرأى الناس الدود في أبدانهم وقد كانوا منعمين مترفين قد مروا بتلك اللحظات جميعها.
أين ملوك الأرض -عباد الله- منذ آلاف السنين وقد ملئوا الدنيا في زمانهم؟ أي من كان يصيح: ﴿يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف:٥١]؟ فأين هو الآن؟! أين أغنياء العالم منذ مائتي سنة؟ لا يوجد أحد منهم على ظهر الأرض، بل كما قيل: ماتوا جميعًا ومات الخبر، لا يوجد من يخبر عنهم، ماتت أخبارهم، انشغل الناس بغيرهم، فلا قوة إلا بالله! الله ﷿ هو القوي، وهو العزيز، وهو الذي يحول البشر من حال إلى حال، ولا حيلة للبشر إلا بالله ﷿، فلا تشهد قدرة نفسك، ولكن اشهد قدرة الله ﷿، وإذا فعلت شيئًا فإنما فعلته بالله ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان:٣٠]، ﴿وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [المدثر:٥٦]، فإذا وفقت لطاعة وجعل الله لك القوة في طاعتك، فاشهد أن ذلك بالله لا بنفسك، وإذا وقعت في معصية الله سبحانه فافزع إليه، وفر إليه، واسأله ألا يجعل قوتك في مخالفة أمره، وتدبر في حال من جعل الله كل حياتهم وقوتهم في محادة أمره، كإبليس وفرعون والكفرة والظلمة، وأعداء الإسلام دائمًا يحاربون الله بكل قوتهم، ويحاربون رسوله ﷺ، وقد جعل الله قوتهم في ذلك نسأل الله العافية، تأمل في ذلك لتعلم أن الأمر بيد الله، ثم يأخذهم العزيز المقتدر ﷾، إذا كان الأمر كذلك صغرت الدنيا في عينك، ولجأت إلى الله ﷾، وتضرعت وانكسرت إليه، إن هذا الدعاء العظيم المبارك الذي يبدؤه العبد بالحمد، ويختمه بالاعتراف بالحول والقوة، ويدعو فيما بين ذلك بأنواع من معاني الإيمان المختلفة؛ والله إنه لمعجزة من معجزات النبي ﷺ لمن تدبره، كيف جمع -في موقف واحد لا يستغرق أكثر من دقيقتين- بين كل هذه المعاني الرائعة، (اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد ﵌ حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).
صدق النبي ﷺ حيث قال: (أوتيت جوامع الكلم)، فاللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم ارزقنا مرافقة نبيك ﷺ في الجنة، ومرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
اللهم إنا نسألك من فضلك ورحمتك فإنه لا يملكها إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين
7 / 6