Lessons by Sheikh Yasser Burhami
دروس للشيخ ياسر برهامي
Géneros
انكسار النبي ﷺ بين يدي الله
نبينا محمد ﷺ هو المعصوم ﵊، وذنوبه إنما هي نسيان أو فتور في الذكر عن القدر المستحب في حقنا، أو إنها خطأ في الاجتهاد أو ترك للأولى، هكذا كانت ذنوبه ﵊، ومع ذلك يقول: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت)، والعبد يشهد تقصيره مقدمًا ومؤخرًا، يشهد تقصيره في أول عمره وفي آخره، يشهد العبد المؤمن ذنوبه قد أحاطت به من قبل ومن بعد، فيقول: فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، فأنت بين ذنب وبين ذنب، إلا أن يتوب الله ﷿ عليك، وستهلك إلا أن يتوب الله ﷾ عليك، فالنبي ﷺ يشهد أن ذنوبه مقدمة ومؤخرة فيقول: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت)، فهو بين سر وعلن، ذنوب بينه وبين الله، وذنوب بينه وبين الناس، بمعنى أنه في السر أذنب وفي العلن أذنب، ثم يقول بعد ذلك: (وما أنت أعلم به مني)، هذا الانكسار العجيب الذي يحصل للمؤمن -إذا صدق في قوله- يرفعه منازل عالية عند الله ﷿، وليس مجرد ترديد باللسان كمتواضع ليس عنده التواضع، وإنما يقول ذلك وهو يرى أنه ما أذنب في الحقيقة، وأن الأمر كان من غيره، وأن التقصير كان من سواه، وربما لام بعضهم قدر الله وقال: هو الذي قدر علينا ذلك، فعلام اللوم؟! وعلام نعذب أو نعاقب؟! وكثير جدًا من الناس يقول: لماذا فعلت بنا يا ربنا هذا؟ ماذا أذنبنا حتى تفعل بنا ذلك؟! نعوذ بالله من هذا القول، وهذا كله لأنهم لم يشهدوا حقيقة العبودية بالانكسار، وأن العبد لا يزال مقصرًا في حق ربه ﷿، وقد قدر الله ﷿ على أبينا آدم الخطيئة، وكتبها عليه، ورزقه الاعتراف بالذنب والاستغفار، فقال هو وزوجه: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف:٢٣]، فقارن بين الحالين: إبليس احتج بالقدر وعاتب ربه ﷿ فقال: ﴿رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي﴾ [الحجر:٣٩]-نعوذ بالله من ذلك! وحاج ربه ﷿ فقال: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف:١٦ - ١٧]، وهذه خطة إبليسية يسير عليها كثير من الناس، ينسبون إلى الله ﷿ أنه ظلمهم، وأنه الذي قدر عليهم، ويستمرون في محادة الرب ومخالفة أمره، فتجد أحدهم يترك الطاعات ويفعل المعاصي والمحرمات وربما الشركيات، وينسى الآخرة، ويقبل على الدنيا، ولا يشكر نعمة الله، تجد هذه طريقة إبليسية يسير عليها كثير من الناس، وإذا عوتب عاتب ربه ﷿، فمن شابه إبليس فهو معه، (ومن تشبه بقوم فهو منهم)، ومن شابه أباه فما ظلم.
فإذا اعترفت بالذنب، ورأيت التقصير والنقص والعيب الذي عندك، كان ذلك من أسباب رفعتك عند الله ﷿، وإنما تكمل النفس الإنسانية برؤية تقصيرها وعيبها، وإنما تهلك وتمرض وتموت برؤية كمالها وفخرها وغرورها والعياذ بالله من ذلك! لذلك كان النبي ﷺ يكرر هذا المعنى في مجالسه كلها، وهو معنى الاستغفار الذي هو جالب لأنواع الخيرات والرزق والبركات من الله ﷾، كما قال ابن عمر ﵁: (كنا لنعد في المجلس الواحد لرسول الله ﷺ: اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم، أكثر من سبعين مرة)، وقال النبي ﷺ: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، ويقول ﵊: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني)، فأعلم الخلق بالله ﷺ وقد قال: (والله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، قال ذلك ليعلمنا منزلته الواجبة، والتي يجب علينا أن نعتقدها له ﵊، وهو مع ذلك يقول: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي)، وكلما كان الإنسان معترفًا بجهله ناظرًا إلى سعة علم الله ﷿ كان عالمًا بالله كما في قصة الخضر ﵇ مع موسى ﷺ -وهو الذي أمره الله أن يصحبه فيتعلم منه، وعلمه ثلاث مسائل في رحلة طويلة- فعندما وقف عصفور على جانب السفينة فأخذ قطرة من البحر الخضر قال: (يا موسى! أنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه، وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه، وما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر) فهذه النظرة تجعل العبد يكون صادقًا، (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري).
وعندما تنظر إلى عظمة الله ﷿ وحقه ونعمه، وما يستحقه ﷾ من الحب والخوف والرجاء وكمال كل أنواع العبودية، وتعلم ما أنت فيه مقصر عند ذلك تكون صادقًا.
قوله: (وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني)، أي: اغفر لي إسرافي في أمري، فأنا أسرفت على نفسي، وأنا قصرت تقصيرًا أنا أعترف به، فهذا الذي يرفع قدر العبد عند الله ﷿.
(فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر)، الله ﷿ يقدم من شاء، ويؤخر من شاء، هكذا شهد النبي ﷺ أن الفضل بيد الله، وأنه هو الذي يرفع درجات من يشاء، وأنه ﷾ يهب لمن يشاء الطاعات فيجعله مقدمًا عنده، ويؤخر من شاء حتى يؤخر في النار والعياذ بالله، الله يقدم من شاء في أمر الدين والدنيا، ويؤخر من شاء في أمر الدين والدنيا.
(أنت إلهي)، وهذا المعنى شمل كل ما سبق في هذا الدعاء العظيم الجامع الذي هو من جوامع كلمه ﷺ، وذكر اسم الألوهية مضافًا إلى ضمير المتكلم المفرد (أنت إلهي) لتكميل هذه الخصوصية، فهو يستشعر أنه مع ربه ﷾، ومع إلهه الذي يعبده ويحبه ويخضع له ويذل له، وقد كملت عبوديته بالاعتراف بالذنب بعد كمال الإسلام والإيمان والتوكل والإنابة: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أنت ربنا وإليك المصير، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت)، فهناك خصوصية في قضية العبودية، بمعنى أنها سر بينك وبين الله ﷿ فيما تختص به من عبادته مما لا يعرفه الناس.
وتأمل في قوله: (أنت ربنا)، وفي قوله: (أنت إلهي)، لتعلم حاجة العباد جميعًا إلى الله ﷿، وفقرهم إليه، ولكل عبد مؤمن صادق مع الله نصيب من قوله: (أنت إلهي).
7 / 4