ومشت بجوار الدكة رافعة رأسها في قوة وكبرياء، ونظرت شزرا إلى الكتلة الراقدة، وقالت لنفسها في سخرية: ما كان أتفه تفكيري! أكنت أجلس بجوار النيل الساحر ومعي الرجل الذي أحبه، ثم أقضي الوقت وأنا أتخيل صورة عم عثمان؟ ما كان أجهلني! أضيع اللحظات الجميلة السعيدة وأنا أخاف من شبح تلك الكتلة الغائبة عن الوعي؛ ذلك البواب الذي آمره فيطيع ثم أعطيه أجره بضعة قروش.
وأعطت ظهرها للدكة الخشبية وسارت نحو السلم سعيدة بتلك القوة التي تحس بها، وسمعت من خلف ظهرها صوت شخير غليظ خافت، وتوقفت عن المسير لحظة، ثم استدارت خلفها ورأت عم عثمان يغط في النوم العميق على الدكة، ومصمصت شفتيها في إشفاق وهي تقول لنفسها: مسكين عم عثمان! إنه يرقد في الشارع بعد المجهود الطويل الذي يقوم به طول النهار وجزءا من الليل.
وصعدت السلم بخطى ثقيلة وهي تسأل نفسها في حيرة: كيف يتحول شعورها في لحظة من الخوف من عم عثمان إلى الشفقة عليه؟! وزادها شعور الشفقة إحساسا بقوتها وكبريائها، ووضعت المفتاح في الباب ودخلت بيتها وخلعت ملابسها، واستلقت على سريرها وهي تبتسم لنفسها في سعادة وراحة بال.
ابتسامة
صحوت من نومي فوجدت الحزن يملأ قلبي ونفسي، ويجعلني أشعر أن جسدي ثقيل، ثقيل كأنه مصنوع من الحديد، لا بد له من قاطرة تجره من فوق السرير إلى الأرض. وأخذت أقلب في رأسي وقلبي عن سبب هذا الحزن الكبير، فلم أعثر على شيء، حتى رأسي وقلبي لم يكن لهما وجود في تلك اللحظة.
وأحسست أنني أكره كل شيء في حياتي؛ عملي وفني وأمومتي وبنوتي وحبي وصداقتي، كل شيء حتى نفسي ووجودي، وأخذت أتأمل أطرافي الممدودة في الفراش كأنها مشلولة، فشعرت بموجة عارمة من الاشمئزاز من ذراعي وساقي، كأنما هي أطراف صناعية، وخيل إلي لحظة أن عقلي قد نسي تماما كيف يحرك هذه الأطراف، وأنها لن تتحرك أبدا ... أبدا.
وخفق قلبي من الرعب خفقة كبيرة قوية سحبت الدم من رأسي وقدمي وصبته في صدري، فالتهب من سخونة الدم وأصبح كبركان مغلق على جمر من نار، ووجدتني أقفز من السرير دفعة واحدة كأنما مس جسدي سلك كهربائي عنيف، ووقفت على الأرض، وانتصبت واقفة على قدمي ورحت أهزهما بعنف؛ لأتأكد من أنهما يعملان كما كانا كل يوم.
ومشيت في خطوات وجلة إلى صوان الملابس، وارتديت أقدم ملابس عندي، ومشطت شعري بلا عناية، ونظرت في عيني، ولم تمتد يدي إلى القلم الأسود لأرسم به فوق رموشي ذلك الخط الأسود الذي أرسمه كل يوم، وأمسكت حقيبتي في يدي وخرجت دون أن أشرب فنجان الشاي الذي أشربه كل صباح، وسرت في الشارع، وقادتني قدماي إلى محطة الأتوبيس كما تقود الحمار أرجله من الدار إلى الحقل.
وجاء الأوتوبيس منتفخا بالناس كالعادة، واستطعت أن أصعد إليه وأدخل فيه. كيف؟ لا أدري! ولكني وجدتني فجأة داخل أتون فظيع من الأنفاس الساخنة الكئيبة؛ بعضها دخان، وبعضها مرض، وبعضها بصل، ولم تكن بي رغبة في الحياة، أية رغبة لأهرب كعادتي إلى جوار نافذة من النوافذ وأخرج رأسي منها؛ كان الحزن الغامض الذي أذاب إرادتي وفتت عقلي ونفسي قد جعلني أقف حيثما وقفت غير عابئة بما حولي، غير مكترثة بتلك الأذرع اللزجة التي تحيطني من كل جانب.
وتساقطت نظراتي الغائرة العمياء على شيء ... وجه ... وجه طفل؟ وجه فتاة؟ وجه رجل؟ لا أدري، لم تستطع عيناي الكليتان أن تتبينا صاحب الوجه، لكني رأيت وجها، ورأيت على الوجه ابتسامة.
Página desconocida