يجب أن يشعر الفرد أنه عضو في الهيئة الإنسانية، يحب الخير للناس جميعا من أي جنس كانوا ، وبأية لغة تكلموا، وفي أى صقع سكنوا، ويشعر نفسه بالشفقة والرحمة على البائسين أيا كانوا، ليس النوع الإنساني إلا أسرة كبيرة تقوم الأمم فيها والقبائل مقام الأفراد في الأسرة، فيجب أن يكونوا جميعا متعاونين على ترقية نوعهم وتحقيق الخير للإنسانية عامة.
إن الإنسانية مصابة بمواضع ضعف كثيرة، فكثير من بقاع الأرض حرمت ضروريات الحياة، يعيش أهلها عيشة بؤس وشقاء، تفتك بهم الأمراض وتكتسحهم الأوبئة، ويفسد حياتهم الجهل، واجب علينا إزاء هؤلاء أن نرقيهم ما استطعنا وأن نرسل إليهم أشعة النور والعلم ونمدهم بوسائل العيش، كذلك تحدث كل يوم كوارث مزعجة، فإصابة عمال، وحوادث اصطدام، وغرق وحريق، ونكبات زلزال، وثوران بركان، ونحو ذلك من مصائب الحياة، فالإنسانية توجب إعانة هؤلاء المنكوبين بكل الوسائل، كالذي ترى من جمعيات الإسعاف والهلال الأحمر والصليب الأحمر والجمعيات الخيرية، كل هذه تحتاج إلى مال ينفق منه على أغراضها ومساعدات تقدم لها.
كثير من المرضى حرموا وسائل العلاج، فقر مدقع، وبيوت قذرة، ومعيشة تعين المرض على الفتك، فهؤلاء لا بد لهم من مستشفيات تنفسح لهم، وأطباء يتولون علاجهم، وهذه لا بد لها من مال ورجال.
آباء مجرمون حكم عليهم بالسجن فحرم أولادهم العائل الذى يعولهم، أو تجار أفلسوا أو قعد بهم المرض عن مواصلة السعي فحرمت أسرهم ما يقيم أودهم، وأفراد نكبوا بعمى أو صمم أو عاهة جعلتهم من العاطلين لا يجدون ما يأكلون، كل هؤلاء وهؤلاء لا بد أن ترحمهم الإنسانية فتزيل كربهم، وتأخذ بيدهم، بإنشاء المعاهد والمستشفيات وجميع المرافق، يجب أن يتساند القادرون لحمل العبء عمن ضعفوا عن مواصلة السير في الحياة، وتخفيف ويلاتهم، ولذلك وسائل كثيرة كالإشتراك في الجمعيات التي أشرنا إليها قبل، والإحسان إلى البائسين ونحو ذلك من ضروب الخير. •••
قد كانت أخلاق الناس الأولين قبلية،
3
لا يرون الخير إلا ما فيه نفع قبيلتهم، وليس عليهم حرج في أن يسلبوا مال غيرهم، ويستبيحوا دماءهم، فما يرتكب نحو قبيلة غير قبيلتهم لا يعد جريمة، وإنما الجريمة أن يتعدى أحد أفراد القبيلة على مثله، وليس للفضيلة ولا الرذيلة قيمة ذاتية أو نظر لنتائجها عامة إنما هي فضيلة أو رذيلة تبعا لمن تقع عليهم، وفي بعض القبائل إلى الآن من يعاقب بالموت من يسرق من قبيلته، ويكافئ ويشجع من يسرق من غيرها، وكثير من السائحين والمستكشفين يقتلون أو يعذبون إذا وقعوا في أيدي هذه القبائل، ولا يشعر القاتلون بحرج من ذلك لأنهم لا يرون قتلهم إثما، فلما ارتقي الناس قليلا اتسع نظرهم وكانت أحكامهم الأخلاقية أقرب إلى الصواب، فكانوا ينظرون إلى الأمة المكونة من جملة قبائل كأنها جسم واحد، ولكنهم كانوا ينظرون إلى الأمم الأخرى نظرة العداء كما كان الشأن عند اليونان قديما، كان العالم الإنساني عندهم ينقسم إلى قسمين: يونانيين ومتوحشين، يعتقدون في جبلهم (أوليمبوس) الذي لا يبلغ ارتفاعه إلا 9700 قدم أنه أعلى جبل على وجه الأرض، وأنه مسكن الآلهة، ويستبيحون الإسترقاق من غيرهم، حتى أن أرسطو كان يقول: «إن الأرقاء حيوانات مستأنسة لها عقل» ولهذا النظر لم يكن اليونان يعدلون في غيرهم.
ارتقى الناس فيما بعد فكانوا في حكمهم بالخيرية والشرية والحسن والقبح أوسع نظرا، تبودلت التجارات بين الأمم، وحسنت الصلات، ووجدت القوانين الدولية، والأخلاق الدولية، ولم ينظر الفرد من أمة إلى الفرد من أمة أخرى نظرة العدو لعدوه، وإن كانت لا تزال عند الأمم وفي النفوس بقية موروثة من آبائنا المتوحشين، ومن أفظع هذه الآثار الحروب بين الأمم، والناس سائرون إلى الكمال، وستتغلب حتما فكرة الإنسانية فينظر الإنسان إلى الإنسان من أى جنس كان كأنه أخوه، لا يظلمه ولا يخونه، يعدل معه كما يعدل مع أفراد أسرته، وسيضمحل النظر الشخصي أو الجنسى خضوعا لسنة النشوء والإرتقاء، ويحل محله النظر العالمي، فينظر كل فرد إلى النوع الإنساني كأنه جسم واحد، يعمل على ترقيته، وتتعاون الأمم وتتبادل المنافع، وترمي كلها إلى غرض واحد هو كمال النوع.
وهذا النظر لا يتنافى مع الوطنية، فكما أن الفرد في الأسرة يعمل لخيره وخير أسرته كذلك الفرد في الأسرة الكبيرة - وهي الجنس البشري - يعمل لخير وطنه وخير الإنسانية.
الفصل التاسع
Página desconocida