يستطيع الإنسان أن يخدم وطنه من طرق عدة: (1)
الدفاع عن البلاد إذا هوجمت أو أريد التعدى على حريتها، وهذه هي وطنية الجنود، وقد ظهر هذا النوع من الوطنية بأجلى مظاهره في الحرب العظمى، فقد بذلت فيها الدماء من كل فريق من المتحاربين بسخاء حفظا على البلاد من التعدي عليها أو على حريتها. (2)
وقف الحياة على خدمة الوطن، وهذه وطنية السياسيين والمصلحين، فالسياسيون يديرون دفة البلاد نحو ما يرقيها ويعلي شأنها، ويقودون الرأي العام إلى ما فيه مصلحة الوطن، فإن رأوا رأيا لم يرضه عامة الناس عملوا ما يرونه حقا، ولم يثنهم من عزمهم تهمة يتهمون بها ولا نقد يوجه إليهم، يفضلون عمل الحق ولو أهينوا على عمل خطأ يرضي الجمهور وإن كرموا، عمادهم إخلاصهم ومرشدهم وجدانهم، وأما المصلحون فإنهم يرون موضوع الداء فيعالجونه، وكثيرا ما يحدث أن الداء يتأصل فيها حتى تألفه وتظنه السلامة، فإذا دعاها المصلح إلى العمل على الخلاص منه قامت في وجهه وعارضته وحسبته خارجا عليها، كما قال الله تعالى:
أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون
ولكن المصلح يزيده الإضطهاد تمسكا برأيه ودفاعا عنه، ولا يزال الناس يلتفون حول رأيه شيئا فشيئا حتى يصبح المذهب المقرر والرأي السائد، ويعجب الناس إذا نظروا إلى ماضيهم كيف كانوا يعتنقون هذا المذهب الفاسد، وكيف لم يدركوا فساده بمجرد الدعوة إليه. (3)
أداء الواجب: وهذه وطنية الناس كلهم، فأداء كل واجبه اليومي في عمله وفي بيته ومع أولاده وأصحابه ومن يعاملونه وانتخابه خير الناس إذا انتخب، ومساعدته المشروعات النافعة بماله وعمله وجاهه.. كل هذه وطنية صادقة صحيحة ترفع شأن الوطن وتعلي مكانته. (4)
تشجيع المصنوعات الوطنية والحاصلات البلدية وتفضيلها على غيرها ما أمكن، كما أن وطنية الصانع والمنتج تقضي عليهما أن يبذلا الجهد لجعل المصنوع والمنتج في حالة لا تقل عن أمثالها مما يرد من الخارج، وعلى الحكومة مساعدة ما تنتجه البلاد نفسها بما تضع من نظام الضرائب ونحوهما، وإن الأمة إذا ساعدت المصنوعات والحاصلات البلدية تكون قد ساعدت على حفظ الثروة في بلادها وجعلتها تنتقل من يدها إلى يدها الأخرى.
وبعد، فكل إنسان يستطيع بعمله ولو حقيرا أن يخدم وطنه، وليست خدمة الوطن مقصورة على العظماء، بل إن العظماء لا يكون لهم أثر كبير ما لم تؤيدهم الأمة، فالقائد الكبير إنما فخره نتيجة عمله وعمل الجنود الصغار، بل وعمل من صنع للجنود نعالهم وملابسهم ونحو ذلك، والسياسي العظيم لا يصل إلى غرضه إلا بمعونة كتاب يعينونه في فروع من العمل مختلفة، وأفراد يبذلون ما يحتاج إليه من المال وهكذا، الأمة كالساعة، كل آلة لها عمل، ولا بد من أداء كل آلة عملها لينتظم سيرها، وإن كان يختلف عمل الآلات أهمية، وسير هذه الآلات وانتظامها لا تقع عليه العين عادة، وإنما مظهر هذا الانتظام سير العقارب، فإذا دلت على الأوقات بالضبط دلنا ذلك على أداء كل آلة وظيفتها وإلا لا، كذلك الحوادث العظيمة في الأمة والنجاح الكبير لها مظهره عظماء الرجال والمصلحون، ولكن ما كان يتم ذلك في الحقيقة لولا أعمال آلاف من الناس لم يعرفهم التاريخ، فهؤلاء الآلاف منزلتهم منزلة آلات الساعة الخفية، والعظماء بمنزلة عقربي الساعة هما مظهران لأعمال عدة دقيقة، غير أن الشأن في الساعة أنه إذا تعطلت آلة منها وقفت الساعة جميعا أما في الأمة فإذا تعطل أحد أفرادها عن السير حملت الأمة عبأه وسارت، فالجندي في الجيش إذا خر صريعا سار الجيش وتحمل عبء الجندي، وكان الأولى للجيش ألا يخر أحد منه صريعا، وأن يحمل كل واحد عبأه فقط.
فالفلاح في زرعه الأرض وعنايته بالبقر والغنم، والنجار في صناعته، والتاجر ببيعه وشرائه، والجندى بمحاربته، والكناس في الشوارع يكنس الأقذار، والأم تربي بنيها وتعني بالبيت وشؤونه والخادم بخدمتها، والأطباء بمحاربتهم الأمراض ومعالجتهم المرضى، ورجال الحريق بإطفائهم النار، ورجال العلم الذين ينشرون العلم ويحاربون الجهل، ورجال السياسة الذين ينصرون الحق ويخذلون الباطل بأقوالهم وأعمالهم، والشعراء والموسيقيون وجميع رجال الفن الذين يمدون الحياة بالسعادة، ويشعرون الناس بالجمال، كل هؤلاء يخدمون وطنهم بعملهم، وكل هذه الأعمال لا بد منها لسير الأمة إلى الأمام، وكل هؤلاء إذا أدوا أعمالهم باتقان ولم يراعوا فيها مصلحتهم الشخصية فحسب بل راعوا فيها خيرهم وخير الناس فهم وطنيون صادقون يفخر الوطن بهم، ويشرف بعملهم. (2-5) واجب الإنسان نحو الإنسانية عامة
النوع الإنساني مؤلف من أمم وقبائل مختلفة لكل منها ميزات وخصائص، وهى مع كثرتها جسما واحدا، كل أمة وكل قبيلة عضو من أعضائه، يستفيد كل عضو من سلامة باقي الأعضاء ويتضرر بما يصيبها، فالحي في المدينة إذا كان قذرا غير صحي هدد جميع أجزاء المدينة بالخطر، وانتشار الوباء في جزء من مملكة يعرض المملكة جميعها للضرر، والمخترع يخترع آلة جديدة فيستفيد من اختراعها عدد كثير، والعالم يستكشف حقيقة علمية فيشترك في الإستفادة منها سائر العلماء في أنحاء الأرض، والأمة تجني جناية كأن تشهر حربا فيتضرر العالم كله منها ضررا بليغا، وهكذا.
Página desconocida