El discurso y el cambio social
الخطاب والتغير الاجتماعي
Géneros
ولكن تسليع الخطاب التعليمي ليس مسألة مفردات وحسب، بل يتعلق أيضا بالنوع، فالتعليم مجال من بين عدة مجالات يستعمر «نوع الإعلان» نظم الخطاب فيها (فيركلف، 1989م، أ، 208-211)، ونتيجة لذلك تكاثرت أنماط النصوص التي تجمع بين معالم الإعلان ومعالم أنواع أخرى. وقد سبق لنا الاطلاع على مثال لهذا في النص الخاص ببطاقة باركليكارد عاليه، حيث يمتزج الإعلان بالنظم المالية. وبعد صفحة أو صفحتين نجد مثالا مختلفا إلى حد ما من مجال التعليم، وهو مقتطف من اللائحة الداخلية لمرحلة الليسانس بجامعة لانكاستر عام 1990م. وينبغي ألا نولي أهمية خاصة لاختيار الجامعة أو المنهج الدراسي، إذ توجد اتجاهات مماثلة، بوضوح وجلاء، في غير هذه المناهج واللوائح.
ومن المعالم المشتركة للمناهج في هذه اللائحة وضع صورة فوتوغرافية بالقرب من بداية المدخل، وعبارة «سوف تحتاج إلى» وبعض الرسوم البيانية في آخره. والإدراج المنتظم للصور الفوتوغرافية في اللوائح الداخلية من التطورات الحديثة نسبيا ، ويتجلى فيه تأثير الإعلان. فالإعلان المعاصر عن السلع عادة ما يتكون من مزيج من اللغة والصور «البصرية»، والاتجاه الحالي زيادة إبراز الصور. وهذا يتفق إلى حد ما مع التطورات التكنولوجية في التليفزيون وفي الطباعة، ولكن احتمال استغلال التكنولوجيات استغلالا كاملا يتوقف على اتفاقها، كما سبق لي أن ذكرت، مع مسار التغيير الاجتماعي والثقافي. وإذن فما الذي يكسبه الإعلان من الصور «البصرية»؟ علينا إذا أردنا إجابة هذا السؤال أن ننظر نظرة شاملة إلى الخصائص العامة للإعلان باعتباره نوعا مستقلا.
يعتبر الإعلان الخطاب «الاستراتيجي» الأول بلا مراء، وفقا للتمييز الذي وضعه هابرماس بين اللغة «الاستراتيجية» ولغة «الاتصال» (1984م). فمهمة الإعلان بناء «الصور» بمعناها الآخر، أي طرائق تقديم الأشخاص إلى الجمهور، أو تقديم المنظمات والسلع إليه، وبناء هويات معينة، أو «شخصيات» لأي منها. وتقضي ظروف السوق المعاصرة بأن تقوم أعداد من الشركات بتسويق منتجات متشابهة إلى حد كبير، فإذا أرادت إحداها إثبات اختلاف ما تنتجه كان عليها أن تبني له هوية خاصة، ونرى في الوقت نفسه أن فئات الأشخاص الذين يحتمل شراؤهم لهذه المنتجات كثيرا ما يتعذر تحديد انتمائها إلى أنماط اجتماعية قائمة ومستقلة (كالطبقات، والجماعات الإقليمية والعرقية ، والانتماء إلى أحد الجنسين ... إلخ)، وإذن، فلا بد من بناء هذه الأنماط في الخطاب أيضا، بل ولا بد من بناء صورة منتجي السلع وبائعيها، بحيث تتفق مع صور المنتجات وصور من يمكن أن يستهلكوها. وهكذا نرى الجمع بين المنتج وما ينتجه والمستهلك له باعتبارهم مشاركين في أسلوب حياة معين، أي في جماعة استهلاكية (لايس، وكلاين وجهالي، 1986م) وهي الجماعة التي يبنيها الإعلان ويحاكيها.
وأما ما يكسبه المعلنون من الصور البصرية فهو طاقتها الإيحائية على محاكاة أسلوب حياة معين، وهي تتفوق على اللغة بصفة عامة في قوتها وتأثيرها المباشر، إذ تستطيع الصورة البصرية الناجحة أن تخلق فورا عالما يمكن أن يشترك المستهلك المحتمل مع المنتج وما ينتجه في الحلول داخله من قبل أن يقرأ القارئ (أو يسمع المشاهد) لغة الإعلان، وهكذا فإن معظم الصور الفوتوغرافية المطبوعة في الكتيب الذي يتضمن اللائحة المشار إليها، تصور طلاب الجامعة أثناء عملهم (في قاعات الدرس، أو أثناء استعمال المعدات العلمية، أو الدردشة، وهلم جرا) بحيث تقدم لمن يمكن أن يلتحق بالجامعة من الطلاب الجو المادي والاجتماعي الذي يستطيعون أن يتخيلوا أنهم قد دخلوه. والصورة التي طبعت في أعلى المثال المرفق لا تمثل نشاطا طلابيا، ولكنها تقدم منظرا يمثل بيئة طبيعية ذات جمال أخاذ يتيح للطالب أن يتصور أنه قد دخله (إذا قضى عاما في جامعة أمريكية في إطار دراسته للحصول على الدرجة)، أي إن الصورة البصرية تقدم صورة مغرية للمنتج (أي السلعة) والمقصود هو برنامج الحصول على الدرجة الجامعية، بحيث يتخيل الطالب المحتمل أنه ينتمي إلى هذه الصورة.
وأما الأشكال المرسومة تحت عنوان «ما سوف تحتاج إليه» في آخر الموضوع فلا تتمتع بالخصائص الإيحائية للصورة الفوتوغرافية، ولكنها تسهم من جانبها في البناء المشترك للطالب المحتمل، وللجامعة، وللمنهج الدراسي. والأشكال البيانية من هذا النوع أسلوب فعال لتقديم المعلومات في لمحة سريعة. واستعمال الأشكال البيانية يدل ضمنا على أن المؤسسة تأخذ بالأساليب الحديثة، وبأنها حساسة لما يحتاجه الطلاب، خصوصا بسبب ما تتسم به الكتيبات التي تقدم التخصصات الجامعية واللائحة الداخلية من تعقيد لا يساعد القارئ على هضم المعلومات، كما أن هذه الأشكال ترسم صورة للطالب باعتباره ذا حاجات وقيم معينة، مثل حاجته إلى المعلومات العملية في شكل ييسر هضمها، ومثل تقديره للوضوح والكفاءة في تقديمها إليه.
واستخدام الأشكال البيانية يساعد أيضا على التغلب على التناقض الذي ينجم عن استعمار الإعلان لمثل هذه الكتيبات، فقد تريد الجامعات أن «تبيع» أنفسها للطلاب، ولكنها أيضا تفرض قواعد وشروطا صارمة على الالتحاق بها. وهكذا فإن الطلاب يشغلون من ناحية موقع سلطة معينة باعتبارهم مستهلكين يتمتعون بحق الاختيار، ويشغلون من ناحية أخرى موقع طالبي الالتحاق الذين لا حول لهم ولا طول، ويؤدي تهميش شروط الالتحاق وتقديمها من خلال الشكل البياني، إلى أن يفسر القارئ «المتطلبات» التي تفرضها الجامعة (أي الشروط التي تطلب توافرها فيمن يحق له الالتحاق بها) باعتبارها حقائق لا يوجد فيما يبدو مسئول عنها. ولاحظ كيف يظهر ذلك أيضا في تفاصيل الصياغة، مثل استخدام عبارة «سوف تحتاج إلى» بدلا من «نحن نشترط» أو «نحن نطلب».
ولننتقل الآن إلى النص الرئيسي: إن ما يلفت النظر فيه هو مزج المعلومات بمحاولة الإقناع، أي إطلاع من يمكن التحاقهم من الطلاب على البرنامج الدراسي و«بيعه» لهم. ويتضح هذا من ترتيب الجمل في الفقرة الأولى، فالجملة الثالثة تصف تشكيل البرنامج ولكنها مسبوقة بجملتين تشكلان إطارا لها في سياق قصصي عن برنامج الدراسات الأمريكية في جامعة لانكاستر، هل هذا إعلان أو محاولة إقناع؟
من الممكن بطبيعة الحال، تفسير ذلك على أنه إعلام أو محاولة إقناع، فالمعلومات الخاصة بسجل الجامعة السابق في مجال الدراسات الأمريكية مهمة للمتقدمين، دون شك، ولكن التجديد يزداد جاذبية لو أنه أقيم على أسس المنجزات السابقة. والكتيبات الجامعية الصادرة في الثمانينيات أكثر حدبا من تلك الصادرة في السبعينيات أو ما قبلها على اختيار وتنظيم معلوماتها استنادا إلى الحسابات الاستراتيجية الخاصة بقدرتها على الإقناع. ولنا أن نقول دون شطط إن الحساب الاستراتيجي للمعلومات ليس فيه جديد، وأما الجديد حقا فإمكان جعل المعلومات استراتيجية ومقنعة بوضوح وجلاء، دون أن يعتبر ذلك قضية (أي من دون لفت الأنظار إلى ذلك)، فلقد أدى تأثير الإعلان باعتباره نموذجا ذا مكانة رفيعة إلى أن أصبح مزج المعلومات بأفانين الإقناع أسلوبا طبيعيا، وظهرت شروخ في الفواصل التي كانت تفصل بينهما في نظم الخطاب، ومن عواقب ذلك التغيير الجذري الذي نشهده في طبيعة «الإعلام» والمعلومات.
ويتضح مزج المعلومات بأساليب الإقناع أيضا في الفقرات الأخرى من النص المقتطف، وسوف أركز على الفقرة الثانية. أما الجملة الأولى فتبدو «إعلامية» بصورة مباشرة، حتى نصادف كلمة «المختارة» (التي توصف بها الجامعة الأمريكية)، إذ إنها تبين مدى حرص جامعة لانكاستر على مصلحة طلابها. وكلمة «الخاصة» في الجملة الثالثة تقوم بمهمة مماثلة إلى حد كبير. وفي الجملة الثانية يتضح التنظيم والتأطير، فالمعلومات الخاصة بطول المنهج الدراسي يسبقها ويؤطرها بل ويربطها رابط سببي بعبارة «العلاقات الأمريكية الوثيقة» مع جامعة لانكاستر، ونقول بالمناسبة: إن هذه العلاقات مفترضة سلفا، كأنما ينبغي أن يكون الطلاب ملمين بها. وكلمة «وثيقة» تلمح إلماحا خفيا إلى تفوق جامعة لانكاستر، وهو ما يعتبر جانبا من جوانب المقارنة المضمرة بين جامعة لانكاستر والجامعات الأخرى. وطباعة كلمة ثلاثة بحروف مائلة، والمقارنة السافرة بين جامعة لانكاستر والجامعات الأخرى، توحي بأن قصر المنهج الدراسي يقصد به أن يكون عاملا مساعدا على «التسويق». (3) إضفاء التكنولوجيا
تتسم المجتمعات الحديثة بالاتجاه إلى زيادة التحكم في المزيد من جوانب حياة الناس، وقد وصف هابرماس هذه الظاهرة بأنها استعمار ل «عالم الحياة» من جانب «نظم» الدولة والاقتصاد (1984م، 40) وما قلته عاليه عن التسليع يشير إلى جانب خطابي من جوانب الاستعمار الاقتصادي. كما تعرض فوكوه أيضا لهذا الاتجاه العام، إذ أعد قائمة ب «التكنولوجيات» و«التقنيات» التي تخدم «السلطة الحيوية» الحديثة (انظر الفصل الثاني أعلاه).
Página desconocida