El discurso y el cambio social
الخطاب والتغير الاجتماعي
Géneros
الإهداء
تصدير
شكر وتقدير
مقدمة
1 - مداخل تحليل الخطاب
2 - ميشيل فوكوه وتحليل الخطاب
3 - نظرية اجتماعية للخطاب
4 - التناص
5 - تحليل النصوص: بناء العلاقات الاجتماعية و«النفس»
6 - تحليل النصوص: بناء الواقع الاجتماعي
Página desconocida
7 - الخطاب والتغير الاجتماعي في المجتمع المعاصر
8 - تحليل الخطاب عمليا
المراجع
الإهداء
تصدير
شكر وتقدير
مقدمة
1 - مداخل تحليل الخطاب
2 - ميشيل فوكوه وتحليل الخطاب
3 - نظرية اجتماعية للخطاب
Página desconocida
4 - التناص
5 - تحليل النصوص: بناء العلاقات الاجتماعية و«النفس»
6 - تحليل النصوص: بناء الواقع الاجتماعي
7 - الخطاب والتغير الاجتماعي في المجتمع المعاصر
8 - تحليل الخطاب عمليا
المراجع
الخطاب والتغير الاجتماعي
الخطاب والتغير الاجتماعي
تأليف
نورمان فيركلف
Página desconocida
ترجمة
محمد عناني
الإهداء
إلى أمي وذكرى أبي.
تصدير
نشأت فكرة كتابة هذا الكتاب من مناقشات مع عدد من الزملاء في جامعة لانكاستر حول تحليل الخطاب باعتباره من مناهج البحث الاجتماعي، وخصوصا علماء الاجتماع بول باجولي، وسكوط لاش، وسيليا لوري، وميك ديلون من قسم العلوم السياسية، وسوزان كوندور من قسم علم النفس، كما استفدت من التشجيع والحماس اللذين أبداهما الزملاء والطلاب من دارسي علم اللغة، وخصوصا رومي كلارك، وروز إيفانيتش، وهيلاري جانكس، وستيف سليمبروك، وماري طولبوت، كما قدمت ماري طولبوت أيضا عينة المحادثة القصصية في الفصل الخامس، وأود الإعراب عن امتناني للتعليقات البالغة الفائدة التي أبداها جونتر كريس، وجون طومسون على مسودة أولى من هذا الكتاب، وأخيرا وليس آخرا على الإطلاق فقد تلقيت مؤازرة وتسامحا ذواتي قيمة من المحال تقديرها أثناء عملية الكتابة من فوني، وسايمون، وماثيو.
شكر وتقدير
المقال الصحفي في [الفصل الرابع: التناص - العينة الأولى: تقرير إخباري] تكرمت صحيفة ذا صن فسمحت بتصويره وإدراجه في الكتاب، وأود التعبير عن امتناني لدار نشر جامعة كمبريدج، وللدكتور س. لفنسون؛ لسماحهما باستخدام الشكل الوارد في [الفصل السابع: الخطاب والتغير الاجتماعي في المجتمع المعاصر - (2) التسليع] ولجامعة لانكاستر؛ لسماحها باستخدام النص الوارد في [الفصل السابع: الخطاب والتغير الاجتماعي في المجتمع المعاصر - (2) التسليع] ولدار نشر
MGN
المحدودة؛ لسماحها بإعادة نشر المقال الوارد في صفحة [الفصل الرابع: التناص - العينة الأولى: تقرير إخباري].
Página desconocida
مقدمة
بدأ الباحثون في شتى المجالات العلمية اليوم يدركون طرائق ارتباط جوانب التغير في استعمال اللغة بجوانب تغيير اجتماعية وثقافية أوسع نطاقا، وبدءوا من ثم يقدرون أهمية استخدام التحليل اللغوي باعتباره منهجا لدراسة التغير الاجتماعي، ولكننا نفتقر حتى الآن إلى منهج للتحليل اللغوي يجمع بين الكفاءة النظرية، وإمكان تطبيقه عمليا. وهكذا فإن هدفي الرئيسي في هذا الكتاب أن أبني مدخلا للتحليل اللغوي يمكنه الإسهام في سد هذه الفجوة، أي أن أبني مدخلا ذا فائدة خاصة للبحث في التغير اللغوي، ويمكن استعماله في دراسات التغير الاجتماعي والثقافي.
وإنجاز ذلك يتطلب الجمع بين مناهج التحليل اللغوي التي وضعت في إطار علم اللغة والدراسات اللغوية، وبين الفكر الاجتماعي والسياسي المرتبط ببناء نظرية اجتماعية للغة تتميز بكفاءتها. والمناهج المذكورة أولا تضم في نظري العمل داخل شتى فروع علم اللغة (المفردات، علم الدلالة، النحو) والتداولية، وقبل كل شيء «تحليل الخطاب» الذي وضعه علماء اللغة، خصوصا في الآونة الأخيرة (وسوف أناقش شتى معاني «الخطاب» و«تحليل الخطاب» بعد قليل). وأما الفكر المشار إليه ثانيا، فيضم عندي العمل الذي قام به أنطونيو جرامشي، ولويس ألتوسير، وميشيل فوكوه، ويورجن هابرماس، وأنطوني جيدينز (انظر المراجع)، ومثل هذا «الجمع» كان ينبغي أن يتحقق من زمن طويل، ولكن العديد من العوامل المختلفة حالت دون تحقيقه بصورة مرضية حتى اليوم، وكان من بينها عزل الدراسات اللغوية عن العلوم الاجتماعية الأخرى، وهيمنة النماذج الشكلية والمعرفية على علم اللغة، ومن بينها أيضا نقص الاهتمام باللغة من جانب العلوم الاجتماعية الأخرى، وهو الذي كان ظاهرة تقليدية، إلى جانب الاتجاه إلى اعتبار اللغة كيانا شفافا، فإذا كان من الشائع استخدام بيانات لغوية معينة مثل المقابلات الشخصية، فقد ساد الاتجاه إلى تصور إمكان استخلاص المضمون الاجتماعي من دون الاهتمام باللغة نفسها، ولكن هذه المواقف بدأت تتغير؛ فالحدود القائمة بين العلوم الاجتماعية آخذة في الضعف، ويزداد تنوع النظريات والتطبيقات الناشئة داخل المباحث العلمية، ويصاحب وجوه التغير المذكورة «الاتجاه إلى اللغة» في النظرية الاجتماعية، وهو ما أدى إلى منح اللغة مكانة رئيسية أكبر داخل الظواهر الاجتماعية.
وهكذا، فإن المحاولات السابقة للجمع بين الدراسات اللغوية والنظرية الاجتماعية لم تحقق إلا نجاحا محدودا، فعلى سبيل المثال، قامت مجموعة من علماء اللغة في بريطانيا في السبعينيات ببناء مبحث يسمى «علم اللغة النقدي» من خلال الجمع بين نظريات ومناهج التحليل النصي الخاص ب «علم اللغة المنهجي» (هاليداي، 1978م) وبين نظريات الأيديولوجيا، وقبل ذلك بقليل كان ميشيل بيشوه وزملاؤه في فرنسا قد بدءوا يضعون مدخلا لتحليل الخطاب يستند خصوصا إلى العمل الذي أنجزه عالم اللغة زيليج هاريس، ونظرية الأيديولوجيا الماركسية في الصورة التي أعاد صوغها بها ألتوسير، ويعيب كلا من هاتين المحاولتين عدم التوازن بين العناصر اللغوية والعناصر الاجتماعية في «التركيب» الذي يجمع بينهما، على الرغم من وجود نقاط قوة ونقاط ضعف متكاملة، ففي الأولى نجد أن التحليل اللغوي والتعامل مع النصوص اللغوية يتميزان بالنضج، ولكنهما يكادان يفتقران إلى نظرية اجتماعية، كما أنهما يستخدمان مفهومي «الأيديولوجيا» و«السلطة» دون ما يلزم من المناقشة أو الشرح؛ وأما في عمل بيشوه فإن النظرية الاجتماعية ناضجة مفصلة، والتحليل اللغوي يقتصر على معالجة دلالية بالغة الضيق. أضف إلى هذا أن المحاولتين تقومان على نظرة استاتيكية (ساكنة، ثابتة) لعلاقات السلطة، تتميز بالتأكيد المبالغ فيه للطريقة التي يسهم بها التشكيل الأيديولوجي للنصوص اللغوية في إعادة إنتاج علاقات السلطة القائمة، ولا يكاد يلتفت إلى الصراع والتحول في علاقات السلطة ودور اللغة في ذلك، ونجد تأكيدا مماثلا لوصف النصوص باعتبارها نواتج مكتملة، من دون التفات يذكر إلى عمليات إنتاج النصوص وتفسيرها، ولا إلى جوانب التوتر التي تميز هذا وذاك، ومن ثم فإن محاولات التركيب المذكورة لا تناسب البحث الدينامي في اللغة أثناء عمليات التحول الاجتماعي والثقافي (ارجع إلى الفصل الأول الذي يناقش هذه المداخل بقدر أكبر من التفصيل، ويشير إلى المحاولات التي بذلت في الآونة الأخيرة؛ لتحسينها وتطويرها).
وأما التركيب الذي سوف أحاوله في هذا الكتاب فسوف يرتكز (مثل تركيب بيشوه) على «تحليل الخطاب» ومفهوم «الخطاب». والخطاب مفهوم يصعب تحديده، وذلك - إلى حد كبير - بسبب وجود تعريفات كثيرة متضاربة ومتداخلة، وضعت من شتى الزوايا النظرية والمباحث العلمية (انظر فان دييك، 1985م، وماكدونيل، 1986م، اللذين يوردان بعض التعريفات). ويستخدم مصطلح «الخطاب» في علم اللغة أحيانا للإشارة إلى عينات مديدة من الحوار المنطوق، وهو ما يختلف عن «النصوص» المكتوبة، وبهذا المعنى فإن «تحليل النصوص» و«تحليل الخطاب» لا يشتركان في اقتصار التحليل اللغوي التقليدي على الجمل أو الوحدات النحوية الأصغر، ولكنهما يركزان على الخصائص التنظيمية للحوار على مستوى أعلى (مثل تبادل الأدوار، أي التناوب، أو مثل بناء أنواع افتتاح المحادثة واختتامها)، أو على النصوص المكتوبة (مثل بناء خبر منشور في الصحيفة عن إحدى الجرائم)، ولكن الأكثر شيوعا هو استعمال «الخطاب» في علم اللغة، للإشارة إلى عينات من اللغة المنطوقة أو المكتوبة. وبالإضافة إلى الحفاظ على تأكيد المعالم التنظيمية على المستوى الأعلى، يؤكد معنى «الخطاب» المذكور التفاعل بين المتكلم والسامع، أو بين الكاتب والقارئ، ومن ثم عمليات إنتاج وتفسير الكلام والكتابة إلى جانب سياق الحال الخاص باستعمال اللغة، ويعتبر «النص» هنا بعدا واحدا من أبعاد الخطاب، بمعنى أنه «الناتج» المكتوب أو المنطوق لعملية إنتاج النصوص (فيما يتعلق باعتبار الخطاب «النص والتفاعل» معا، انظر ويدوسون، 1979م). ونقول أخيرا: إن «الخطاب» يستخدم للإشارة إلى شتى الأنماط اللغوية المستخدمة في مختلف المواقف الاجتماعية (مثل «الخطاب الصحفي»، و«الخطاب الإعلاني»، و«خطاب قاعة الدرس»، و«خطاب الاستشارات الطبية»).
ومن ناحية أخرى، يستخدم مصطلح «الخطاب» على نطاق واسع في النظرية والتحليل الاجتماعي، كما هو الحال مثلا في عمل ميشيل فوكوه، للإشارة إلى شتى طرائق بناء مجالات المعرفة والممارسة الاجتماعية، وهكذا فإن خطاب «علم الطب» هو الخطاب السائد اليوم في ممارسة الرعاية الصحية، على الرغم من تعارضه مع شتى أنماط الخطاب الكلية «البديلة» (مثل نمط العلاج الكلي والإبر الصينية)، وكذلك ضروب الخطاب «الشعبية» المنتشرة. وتتجلى أنواع الخطاب بهذا المعنى في طرائق معينة لاستخدام اللغة وغيرها من النظم الرمزية، مثل الصور البصرية (انظر طومسون، 1990م). والخطاب لا يقتصر على تصوير أو تمثيل كيان أو علاقات اجتماعية، بل إنه ينتج أو يشكل هذه الكيانات والعلاقات، وأنواع الخطاب المختلفة تمثل كيانات أساسية (سواء كانت «المرض النفسي» أو «المواطنة» أو «ثقافة القراءة والكتابة») بطرائق مختلفة، وتحدد مواقع الأشخاص بطرائق مختلفة، باعتبارهم ذواتا اجتماعية (كأن يعتبروا أطباء أو مرضى)، وهذه الآثار الاجتماعية للخطاب هي التي تحظى بالتركيز عليها في تحليل الخطاب، كما يحظى بالتركيز عليه أمر مهم آخر، وهو التغير التاريخي: أي كيف تتضافر أنواع مختلفة من الخطاب في ظل ظروف اجتماعية معينة لإنتاج خطاب جديد مركب. ومن الأمثلة المعاصرة مثال البناء الاجتماعي لمرض الإيدز، أي مرض نقص المناعة المكتسب، إذ تجتمع فيه عدة أنواع من الخطاب (مثل ما يتعلق بالأمراض التناسلية، والحديث عن التعرض ل «الغزو» من جانب «الأجانب»، والتلوث)، بحيث تشكل خطابا جديدا خاصا بالإيدز. وسوف يناقش في الفصل الثاني هذا المعنى الاجتماعي النظري للخطاب.
وترتكز محاولتي للجمع بين التحليل اللغوي والنظرية الاجتماعية على الجمع بين هذا المعنى الاجتماعي النظري للخطاب وبين معنى «النص والتفاعل» في تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي، وهذا المفهوم للخطاب وتحليل الخطاب له أبعاد ثلاثة، فأية «حادثة» خطابية (أي حالة من حالات الخطاب) ينظر إليها باعتبارها - في الوقت نفسه - قطعة نصية، وحالة ممارسة خطابية، وحالة ممارسة اجتماعية، فأما البعد النصي فيتبدى في التحليل اللغوي للنص، وأما بعد «الممارسة الخطابية»، مثل «التفاعل» في صورة الخطاب باعتباره نصا وتفاعلا، فيحدد طبيعة عمليتي إنتاج النص وتفسيره، مثل تحديد أنواع الخطاب (بما في ذلك أنواع الخطاب بالمعنى الاجتماعي النظري) التي يستمد منها، وكيف تجتمع معا فيه، وأما بعد «الممارسة الاجتماعية» فيعالج القضايا المهمة في التحليل الاجتماعي مثل الظروف المؤسسية والتنظيمية للحادثة الخطابية، وكيف يشكل ذلك طبيعة الممارسة الخطابية والآثار التشكيلية/البنائية للخطاب المشار إليه عاليه.
وينبغي أن أضيف أن مصطلح «النص» يستخدم في هذا الكتاب بالمعنى المألوف في علم اللغة لا في سواه؛ أي للإشارة إلى منتج مكتوب أو منطوق، بحيث تطلق صفة «النص» على تسجيل مقابلة شخصية أو محادثة، على سبيل المثال. والتأكيد في هذا الكتاب منصب على اللغة، ومن ثم على النصوص اللغوية، ولكنه من الصحيح توسيع فكرة الخطاب لتشمل الأشكال الرمزية الأخرى، مثل الصور البصرية والنصوص التي تجمع بين الكلمة والصورة، كما هو الحال في الإعلانات (انظر هودج وكريس، 1988م). وسوف أستخدم تعبير «خطاب» من دون أداة تعريف أو تنكير (بالإنجليزية)، في الإشارة إلى اللغة التي ننظر إليها من الزاوية الثلاثية الأبعاد المبينة عاليه (مثل قولي: «تحديد الذوات الاجتماعية يتحقق خطابيا»). وسوف أشير إلى «أنماط الخطاب» التي ينهل منها الناس عندما يمارسون الخطاب بمعنى الأعراف، مثل الأنواع والأساليب. وسوف أبدأ في الفصل الرابع باستخدام مصطلح الخطاب مصحوبا بأداة تعريف أو تنكير (فأقول «خطاب ما»، أو «أنواع الخطاب»، أو «خطاب البيولوجيا») فيما يشبه المعنى الاجتماعي النظري لطبقة معينة من أنماط الخطاب أو أعرافه، وسوف أشير أيضا إلى «ممارسات الخطاب» الخاصة بمؤسسات أو منظمات أو مجتمعات معينة (على العكس من «الممارسة الخطابية» باعتبارها بعدا يقبل التمييز تحليليا من أبعاد الخطاب).
وتتضمن الفصول 1-3 مبررات إقامة المفهوم المتعدد الأبعاد للخطاب، وتحليل الخطاب الذي رسمته أعلاه بالخطوط العريضة. فالفصل الأول يمثل استقصاء لمداخل تحليل الخطاب ذات التوجه اللغوي، أي إنها تركز على النصوص وتحليل النصوص، وسوف أسوق الحجة على أن هذه المداخل لا تهتم الاهتمام الكافي بجوانب الخطاب المهمة اجتماعيا، والتي تتطلب الاستعانة بالنظرية الاجتماعية، ويستعرض الفصل الثاني المنظورات الاجتماعية للخطاب في أعمال ميشيل فوكوه، ذلك المنظر الاجتماعي الذي كان له تأثير رئيسي في تطوير تحليل الخطاب، باعتباره شكلا من أشكال التحليل الاجتماعي، ويقول الفصل بعد ذلك: إن من شأن ازدياد الاهتمام بتحليل النصوص والتحليل اللغوي أن يزيد من قيمة تحليل الخطاب باعتباره من مناهج البحث الاجتماعي. ويقدم الفصل الثالث بعد ذلك مدخلي المتعدد الأبعاد، باعتباره تركيبا يجمع بين رؤى الخطاب ذات التوجه الاجتماعي واللغوي معا، سائرا متجها إلى ما سوف أطلق عليه مصطلح «النظرية الاجتماعية للخطاب». وتتضمن الفصول التالية في الكتاب تفصيلات هذا المدخل وتطبيقاته على شتى أنواع الخطاب.
ذكرت في بداية هذه المقدمة أن أشكال التغيير في استعمال اللغة تمثل جانبا مهما من أشكال التغير الاجتماعي والثقافي على نطاق أوسع، وهي مقولة يزداد إثبات صدقها كل يوم، لكنها تحتاج إلى المزيد من الشروح والمبررات، فمقولات الأهمية الاجتماعية للغة ليست جديدة؛ إذ إن النظرية الاجتماعية في العقود الأخيرة قد وطدت ما تتمتع به اللغة من مكانة رئيسية في الحياة الاجتماعية (انظر طومسون، 1984م). وأقول أولا: إننا رأينا، في إطار النظرية الماركسية، أن جرامشي (1971م) وألتوسير (1971م) يؤكدان أهمية الأيديولوجيا لإعادة الإنتاج الاجتماعي الحديث، كما أن غيرهما، مثل بيشوه (1982م) يعرف الخطاب بأنه الشكل المادي اللغوي البارز للأيديولوجيا (ومصطلح «إعادة الإنتاج» الذي استعملته، يعني الآليات التي تستعين بها المجتمعات للحفاظ على أبنيتها الاجتماعية وعلاقاتها الاجتماعية على مر الزمن). وأقول ثانيا: إن فوكوه (1979م) قد أكد أهمية التكنولوجيات في الأشكال الحديثة للسلطة، ومن الواضح أن هذه الآليات تعتمد اعتمادا أساسيا على اللغة. وأقول ثالثا: إن هابرماس (1984م) يركز على «استعمار» «عالم الحياة» من جانب «نظم» الاقتصاد والدولة، وهي التي يرى أنها تمثل «إزاحة» للاستعمالات «التواصلية» للغة الموجهة إلى إنتاج الفهم من جانب الاستعمالات «الاستراتيجية»، للغة الموجهة إلى تحقيق النجاح، أي إلى جعل الناس يفعلون أفعالا معينة، ويتجلى الارتقاء بمكانة اللغة والخطاب في المجال الاجتماعي بأشكال شتى، مثل البحث في العلاقة بين الجنسين (سبندر، 1980م)، أو أجهزة الإعلام (فان دييك، 1985م، ب) الذي يركز على اللغة، والبحث في علم الاجتماع الذي يستمد بياناته من المحادثات (أتكنسون وهريتدج، 1984م).
Página desconocida
أما الذي يمكننا التساؤل عن صحته فهو: إن كانت مثل هذه النظرية ومثل هذه البحوث تعترف بالأهمية التي دائما ما تمتعت بها اللغة في الحياة الاجتماعية، وإن لم تكن قد حظيت بالتقدير الكافي من قبل، أو إن كان يتجلى فيها فعلا زيادة الأهمية الاجتماعية للغة. وعلى الرغم من احتمال صحة هذا وذاك، فأعتقد أننا شهدنا تحولا كبيرا في العمل الاجتماعي للغة، وهو التحول الذي يتجلى في بروز دور اللغة في جوانب التغير الكبرى التي حدثت على امتداد العقود القليلة الماضية، ولا يقتصر عدد كبير من هذه التحولات الاجتماعية على استعمال اللغة، بل إن وجوه التغير في الممارسات اللغوية قد ساهمت إلى حد كبير في إحداث هذه التحولات الاجتماعية، وربما وجدنا أحد المؤشرات على الأهمية المتزايدة للغة في التغير الاجتماعي والثقافي في طبيعة المحاولات المبذولة للتحكم في مسار التغيير، إذ أصبحت تضم محاولات متزايدة لتغيير الممارسات اللغوية؛ ولأضرب الآن بعض الأمثلة:
انظر أولا إلى ما شهدته بلدان كثيرة في الآونة الأخيرة من بروز التوسع في فكرة التسويق، بحيث امتد مفهوم السوق ليشمل مجالات جديدة في الحياة الاجتماعية؛ إذ أصبحت بعض القطاعات مثل التعليم والرعاية الصحية والفنون مطالبة بإعادة هيكلتها، وإعادة تحديد مفاهيمها حتى تتسق أنشطتها مع مبدأ إنتاج السلع وتسويقها بين المستهلكين لها (أوري، 1987م)، وقد كانت لهذه التغييرات آثارها العميقة في أنشطة العاملين في هذه القطاعات، وعلاقاتهم الاجتماعية وهوياتهم الاجتماعية والمهنية. ويضم جانب كبير من تأثيرها جوانب تغيير في الممارسات الخطابية، أي جوانب تغيير في اللغة؛ ففي مجال التعليم، على سبيل المثال، يجد الناس أنهم يتعرضون للضغوط الرامية إلى الانخراط في أنشطة جديدة تحددها الممارسات الخطابية إلى حد كبير (مثل التسويق) وإلى اللجوء إلى ممارسات خطابية جديدة داخل الأنشطة القائمة (مثل التدريس)، ويتضمن هذا «إعادة صياغة» للأنشطة والعلاقات، مثل إعادة تسمية الطلاب بوصفهم بأنهم «مستهلكون» أو «عملاء»، ووصف المناهج العلمية بأنها «بضائع» أو «منتجات»، كما يتضمن إعادة هيكلة خفية للممارسات الخطابية للتعليم - فيما يتعلق بأنماط الخطاب المستخدمة فيها (من حيث الأنواع والأساليب وهلم جرا) - و«استعمار» التعليم من جانب أنماط خطابية من خارجه، بما في ذلك الإعلان، والإدارة، وجلسات إسداء المشورة.
ونقول أيضا إن الصناعة تتجه الآن إلى ما يسمى مرحلة الإنتاج «فيما بعد فورد» (باجولي ولاش، 1988م؛ باجولي، 1990م)، التي تعني أن العمال لم يعودوا يمارسون عملهم بصفتهم أفرادا يؤدون مهام متكررة في إطار عملية إنتاج لا تتغير، بل باعتبارهم أعضاء في فرق تجمع بينهم وتربطهم علاقة تتسم بالمرونة في عملية سريعة التغيير. أضف إلى ذلك أن الإدارة أصبحت تنظر إلى العلاقات التقليدية بين العامل/الموظف والشركة، باعتبارها فاشلة في هذا السياق، ومن ثم حاولت تغيير ثقافة مكان العمل، وقد يكون ذلك مثلا بإنشاء مؤسسات تضفي المزيد من طابع المشاركة على علاقة العاملين بالإدارة مثل ما يسمى «حلقات الجودة». ووصف هذه التغيرات بأنها ثقافية ليس مجرد ألفاظ تقال؛ إذ إن التغيرات تهدف إلى إرساء قيم ثقافية جديدة، وإذكاء روح الجد عند العمال، بحيث يتمتعون بدوافع ذاتية، وكما يقول روز (في بحث غير منشور) بالقدرة على «الإدارة الذاتية». وتعتبر هذه التغييرات في التنظيم وفي الثقافة، إلى حد كبير، تغييرات في الممارسات الخطابية؛ إذ إن استعمال اللغة يكتسب أهمية أكبر باعتباره من وسائل الإنتاج والرقابة الاجتماعية في مكان العمل، وإذا شئنا المزيد من التحديد قلنا: إن المتوقع اليوم أن يشتبك العمال في تفاعل مباشر فردي وجماعي باعتبارهم متحدثين وسامعين، وتؤكد جميع توصيفات الوظائف المكتبية تقريبا، حتى على أدنى المستويات، مهارات التواصل. ومن نتائج هذا أن الهويات الاجتماعية للعاملين، التي كان ينظر إليها بالصورة التقليدية باعتبارها «وظيفية» وحسب، قد أصبحت تنتمي إلى مجال الحياة الشخصية، ومن المعالم البارزة لهذه التغييرات أنها تتجاوز الحدود القومية، فأساليب الإدارة الجديدة والأشكال الجديدة مثل «حلقات الجودة»، مستوردة من البلدان الناجحة اقتصاديا مثل اليابان، بحيث نجد أن جوانب التغيير في الممارسات الخطابية في مكان العمل قد بدأت تكتسب طابعا دوليا إلى حد ما. والنظام العالمي الجديد للخطاب يتميز إذن بانتشار التوتر ما بين الممارسات المستوردة التي يزداد طابعها الدولي وبين التقاليد المحلية.
وتوجد أمثلة أخرى كثيرة على التغيير، مثل أنواع التغيير في العلاقات بين الأطباء والمرضى، وبين السياسيين والجمهور، وبين الرجال والنساء في أماكن العمل وفي الأسرة، وهي التي تعتمد في بنائها إلى حد ما على الممارسات الخطابية الجديدة. أضف إلى ذلك أن ازدياد ظهور الخطاب في التحولات الاجتماعية يوازيه - كما ذكرت عاليه - اهتمام بالتحكم في الخطاب؛ أي بإحداث تغييرات في الممارسات الخطابية في إطار استحداث التغير الاجتماعي والثقافي. إننا نشهد ما أسميته «إخضاع الخطاب للتكنولوجيا» (فيركلف، 1990م، ب)؛ إذ نشهد التكنولوجيات الخطابية التي تعتبر نمطا من أنماط «تكنولوجيات الحكومة» (روز وميلر، 1989م) التي يجري تطبيقها الآن بصورة منتظمة في شتى المنظمات، ويتولى ذلك تكنولوجيون محترفون يجرون البحوث في الممارسات الخطابية، ويعيدون تصميمها، ويقومون بالتدريب على استخدامها، وكان من بين الأمثلة المبكرة لهذا التطور نشأة من يوصفون بأنهم متخصصون في علم النفس الاجتماعي ويتولون التدريب على اكتساب مهارات معينة (انظر أرجايل، 1978م). وقد بدأ النظر إلى التكنولوجيات الخطابية، مثل إجراء المقابلات الشخصية أو جلسات إسداء المشورة باعتبارها تقنيات لا ترتبط بسياق معين، أو من المهارات التي يمكن تطبيقها في شتى المجالات المختلفة. كما يجري على نطاق واسع إخضاع الممارسات الخطابية المؤسسية للمحاكاة؛ إذ إن الممارسات الخطابية للمحادثات، وهي التي تنتمي بصورة تقليدية إلى مجال الحياة الخاصة، أصبحت تخضع بانتظام للمحاكاة داخل بعض المنظمات (وسوف نعود لمناقشة تكنولوجيات الخطاب في الفصل السابع).
هدفي إذن وضع مدخل لتحليل الخطاب يمكن استخدامه باعتباره منهجا من بين مناهج أخرى للبحث في جوانب التغير الاجتماعي، مثل التي أشرت إليها عاليه. وتتوقف فائدة أي منهج من مناهج تحليل الخطاب في مثل هذه السياقات على تلبيته عددا من الشروط كحد أدنى، وسوف أعلق على أربعة منها، وفي غضون ذلك أورد بعض التفاصيل الخاصة بمدخلي الذي ذكرته آنفا. لا بد أن يكون أولا منهجا صالحا للتحليل المتعدد الأبعاد؛ إذ إن مدخلي الثلاثي الأبعاد يتيح تقييم العلاقات بين التغير الخطابي والتغير الاجتماعي، ويتيح إقامة العلاقة بين الخصائص التفصيلية للنصوص بصورة منتظمة وبين الخصائص الاجتماعية ل «الأحداث الخطابية» باعتبارها من أمثلة الممارسة الاجتماعية.
ولا بد أن يكون ثانيا منهجا صالحا للتحليل المتعدد الوظائف، فالممارسات الخطابية المتغيرة تسهم في التغير في المعرفة، (بما في ذلك المعتقدات والمنطق السليم) والعلاقات الاجتماعية، والهويات الاجتماعية، والمرء يحتاج إلى مفهوم للخطاب ومنهج للتحليل يعمل حسابا للتفاعل بين هذه جميعا. ولدينا نقطة انطلاق صالحة تتمثل في النظرية المنهجية للغة (هاليداي، 1978م) التي ترى أن اللغة متعددة الوظائف، وترى أن النصوص تقوم في آن واحد بتمثيل الواقع، وتحديد العلاقات الاجتماعية، وإنشاء الهويات. وسوف تزداد فائدة نظرية اللغة المذكورة إذ اقترنت بتأكيد الخصائص الاجتماعية البناءة للخطاب في المداخل الاجتماعية النظرية إلى الخطاب، مثل مداخل فوكوه.
ولا بد أن يكون ثالثا منهجا للتحليل التاريخي، أي إن على تحليل الخطاب أن يركز على عمليات الهيكلة أو عمليات «الإفصاح والربط» في بناء النصوص، وأن يركز في الأجل الطويل على «نظم الخطاب» (أي الصور الكلية للممارسات الخطابية في مؤسسات معينة، أو حتى في مجتمع برمته). وأما على مستوى النصوص، فأنا أنظر إلى هذه العمليات من زاوية «التناص» (انظر الفصل الرابع)، فالنصوص تبنى من خلال نصوص أخرى يجري الإفصاح عنها وترابطها بطرائق معينة، وهي طرائق تعتمد على الظروف الاجتماعية وتتغير بتغيرها. وأما على مستوى نظم الخطاب، فالعلاقات بين الممارسات الخطابية والحدود بينها في مؤسسة ما، أو في المجتمع كله، تتغير بالتدريج بطرائق تتفق مع اتجاهات التغير الاجتماعي.
ولا بد أن يكون رابعا منهجا نقديا؛ إذ إن العلاقات بين التغير الخطابي والاجتماعي والثقافي ليست في العادة شفافة عند الأشخاص الذين يرتبطون بها، وقس على ذلك إخضاع الخطاب للتكنولوجيا، والوصف بأنه «نقدي» يعني ضمنا أنه يبين الروابط والأسباب الخفية، كما يعني التدخل كذلك، بمعنى توفير الموارد للذين يضارون بسبب التغيير. ومن المهم في هذا الصدد أن نتجنب صورة التغيير الخطابي باعتبارها عملية ذات اتجاه واحد يمتد من القمة إلى القاعدة؛ إذ إننا نجد صراعا حول هيكلة النصوص ونظم الخطاب، وقد يقاوم الناس أو يتبنون جوانب التغيير القادمة من المستوى الفوقي، أو يجارونها وحسب. (انظر مناقشة ذلك في الفصل الثالث، والفصل السابع أدناه.)
وختاما لهذه المقدمة أقدم عرضا موجزا مسبقا لدراسة التغير الخطابي في الفصول 3-7. أما الفصل الثالث فيقدم التركيب الذي أنجزته، والذي يجمع بين مفاهيم الخطاب ذات التوجه الاجتماعي والتوجه اللغوي. ويرتكز وصفي للتحليل على مستوى البعد الخاص بالممارسة الخطابية على مفهوم التناص. وأما وصفي للتحليل على مستوى البعد الخاص بالممارسة الاجتماعية فيرتكز على مفهوم الأيديولوجيا، وخصوصا الهيمنة؛ بمعنى أنها أسلوب للسيطرة يقوم على التحالفات، وضم الجماعات الثانوية، وتوليد الرضا. والواقع أن ضروب الهيمنة داخل منظمات ومؤسسات معينة وعلى المستوى المجتمعي يجري إنتاجها، وإعادة إنتاجها، ومعارضتها وتحويلها داخل الخطاب. أضف إلى ذلك أنه يمكن النظر إلى هيكلة الممارسات الخطابية بطرائق معينة داخل نظم الخطاب بحيث تصبح «مطبعة» وتحظى بالقبول على نطاق واسع، باعتبارها في ذاتها شكلا من أشكال الهيمنة (الثقافية بصفة خاصة). وهكذا فإن الجمع بين مفهومي التناص والهيمنة هو الذي يجعل إطار الفصل الثالث مفيدا للبحث في التغير الخطابي في علاقته بالتغير الاجتماعي والثقافي، وأما تحديد النصوص وأنماط النصوص السابقة التي تعتبر مصدرا ينهل منه (أي «حادثة خطابية» خاصة)، وكيف تفصح عن نفسها، فيعتمد على موقف الحادثة الخطابية إزاء أنواع الهيمنة وضروب الصراع حول الهيمنة، أي إذا ما كانت الحادثة الخطابية تعارض، مثلا، ممارسات وعلاقات الهيمنة القائمة أو تسلم بوجودها وتقبلها كما هي. والمدخل للتغير الخطابي المبين في الفصل الثالث يجمع بين صورة النص والممارسة الخطابية المأخوذة من باختين من طريق مفهوم التناص عند كريستيفا (باختين، 1981م و1986م، وكريستيفا، 1986م، أ)، وبين صورة السلطة المأخوذة من نظرية الهيمنة عند جرامشي (جرامشي، 1971م؛ بوسي - جلوكمان، 1980م).
وأتناول بالتفصيل الإطار المبين في الفصل الثالث في الفصول التي تليه؛ فالفصل الرابع يتناول مفهوم التناص من حيث التمييز بين التناص «الواضح» (أي الوجود الصريح لنصوص أخرى داخل نص ما) وبين «التفاعل الخطابي» (أي تكوين نص من مجموعة من أنماط النصوص أو الأعراف الخطابية)، وأقدم فيه طريقة للتمييز بين الأنواع المختلفة من أعراف الخطاب، وتحديد العلاقات بينها، مثل «الأنواع»، و«ضروب الخطاب» و«الأساليب»، و«أنماط النشاط». ويناقش الفصل التناص أيضا من زاوية علاقته بالإسهام الاجتماعي للنصوص والتحولات التي تتعرض لها، وعلاقته ببناء الهوية الاجتماعية في الخطاب. وأما في الفصلين الخامس والسادس، فأنا أركز على تحليل النصوص، ويتصدى هذان الفصلان لبعض جوانب النص، مثل المفردات والنحو، والتماسك، وبناء النص، وقوة النص وترابط معناه (وانظر مناقشة هذه المصطلحات في الفصل الثالث). والفصلان يتناولان أيضا فكرة تحليل الخطاب باعتبارها متعددة الوظائف، فالفصل الخامس يتناول أساسا وظيفة الخطاب في تشكيل الهويات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية، ويركز الفصل السادس على تشكيل نظم المعرفة والعقيدة في الخطاب وإعادة إنتاجها وتغييرها. وأما الفصل السابع فيركز على بعد معين من أبعاد الخطاب، وهو بعد الممارسة الاجتماعية، ويؤكد خصوصا بعض اتجاهات التغيير العريضة ذات التأثير في نظم الخطاب المعاصرة (مثل إضفاء الديمقراطية أو الطابع السلعي أو التكنولوجي على الخطاب) وعلاقتها بضروب التغير الاجتماعي والثقافي.
Página desconocida
وتشمل تحليلات التغيير في الفصول 4-7 شتى المجالات والمؤسسات، إلى جانب عينات تفصيلية من الخطاب. ومن القضايا المثارة في الفصل الرابع قضية الأسلوب الذي تتبعه أجهزة الإعلام في تغيير الحد الفاصل بين المجالين العام والخاص للحياة الاجتماعية، ولا يقتصر ذلك على مادة الخطاب الإعلامي، مثل تناول بعض جوانب الحياة الخاصة باعتبارها أخبارا (جماهيرية)، بل يتجلى أيضا على مستوى التناص من خلال مزج الممارسات الخطابية للمجال الخاص بالممارسات الخطابية في المجال العام، ومن نتائج هذا أن بعض الأجهزة الإعلامية تستخدم صورا نمطية من الكلام الشائع. ومن القضايا الأخرى قضية الضغط الذي تتعرض له المرافق الخدمية حتى تعامل خدماتها باعتبارها سلعا، والمستفيدين بها باعتبارهم مستهلكين، وهو ما يتضح في الممارسات الخطابية الخاصة بتقديم المعلومات والإعلانات. وأنا أناقش في الفصل الخامس بعض صور التغيير في الهويات الاجتماعية للعاملين المهنيين وعملائهم، وفي طبيعة التفاعل بينهم، مركزا على الأطباء والمرضى. وأنا أقول: إن ضروب التغير في الهوية والعلاقة بين الطبيب والمريض تتحقق على مستوى الخطاب في الابتعاد عن المقابلات الطبية الرسمية والاقتراب من جلسات إسداء المشورة القائمة على المحادثة، وهي التي قد تتضمن الممارسات الخطابية لتقديم المشورة وإدراجها في نظم الطب التقليدية. ويتضمن الفصل السادس عينات من كتيبين عن رعاية الحوامل، وهي تمثل صورا متضادة للتعامل مع الحوامل، وأناقش بعد ذلك «هندسة» التغير الدلالي في إطار محاولة إحداث تغير ثقافي، مشيرا بصفة خاصة إلى الخطب التي ألقاها أحد الوزراء في حكومة تاتشر حول التسليع ومزج تقديم المعلومات بالإعلان، وكان يتناول في هذه الحالة قضية التعليم، ضاربا المثل بإحدى اللوائح الجامعية.
ومن أهداف هذا الكتاب إقناع القراء أن تحليل الخطاب عمل ممتع لمن يقوم به، وتوفير الموارد التي يحتاجونها للقيام به. وهكذا فإن الفصل الأخير في الكتاب، الفصل الثامن، يجمع أطراف المادة التي سبق عرضها في الفصول 3-7 في شكل مجموعة من الخطوط الإرشادية اللازمة للقيام بتحليل الخطاب. وتتناول هذه الإرشادات جمع النصوص وكتابتها وتشفيرها، واستعمال النتائج والتحليل أيضا.
الفصل الأول
مداخل تحليل الخطاب
هدفي في هذا الفصل أن أصف بإيجاز عددا من المداخل المطبقة في الآونة الأخيرة وحاليا في تحليل الخطاب، باعتبار ذلك سياقا وأساسا لتفصيل القول في مدخلي في الفصول 3-8، لقد أصبح تحليل الخطاب اليوم مجالا دراسيا بالغ التنوع، حيث نجد مداخل منوعة في كل مبحث من عدد من المباحث (وبعض جوانب هذا التنوع مذكورة في فان دييك، 1985م، أ)، وهكذا فإن استقصاء المداخل في هذا الفصل يقوم بالضرورة على الاختيار؛ إذ اخترت عددا من المداخل التي تجمع، إلى حد ما، بين التحليل الدقيق للنصوص اللغوية وبين التوجه الاجتماعي للخطاب، ويتفق هذا مع هدفي في الفصول اللاحقة لتحقيق جمع فعال ويقبل التطبيق بين التحليل النصي وطرائق التحليل الاجتماعي الأخرى، كما أنني تعاملت مع المداخل بصورة انتقائية، مركزا على جوانبها التي تقترب أكثر من غيرها من أولوياتي في هذا الكتاب.
ومن الممكن تقسيم المداخل المستقصاة إلى مجموعتين وفقا لطبيعة توجهها الاجتماعي إلى الخطاب، مميزا بين «المداخل غير النقدية» والمداخل «النقدية»، ولكن مثل هذا التقسيم ليس مطلقا، فالمداخل النقدية تختلف عن المداخل غير النقدية في أنها لا تقتصر على وصف الممارسات الخطابية، بل تبين أيضا كيف يتشكل الخطاب بفعل علاقات السلطة والأيديولوجيات، والآثار البناءة للخطاب في الهويات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، ونظم المعرفة والعقيدة، وإن لم يكن أيهما واضحا في العادة للمشاركين في الخطاب. فأما المداخل التي وصفتها بأنها غير نقدية أساسا فتتضمن الإطار اللازم لوصف خطاب قاعة الدرس عند سنكلير وكولتارد (1975م)؛ والعمل «الإثنومنهجي» في مجال «تحليل المحادثة»؛ ونموذج الخطاب العلاجي عند لابوف وفانشيل (1977م)، إلى جانب مدخل حديث لتحليل الخطاب، وضعه باحثان في علم النفس الاجتماعي هما بوتر ووذريل (1987م)، وأما المداخل النقدية التي أدرجتها فهي: «اللغويات النقدية» عند فاولر وآخرين (1979م) والمدخل الفرنسي لتحليل الخطاب الذي بناه بيشوه على أساس نظرية الأيديولوجيا عند ألتوسير (بيشوه، 1982م). ويختتم الفصل بملخص للقضايا الرئيسية في تحليل الخطاب، وهي المستخلصة من هذا الاستقصاء، والتي سوف تمثل نقطة انطلاق إلى عرض مدخلي الخاص في الفصل الثالث. (1) سينكلير وكولتارد
عمل سنكلير وكولتارد (1975م) وكذلك كولتارد (1977م) على وضع نظام وصفي عام لتحليل الخطاب، ولكنهما قررا التركيز على قاعة الدرس؛ لأنها حالة ثابتة الشكل، ومن المحتمل أن تخضع ممارسة الخطاب فيها لقواعد واضحة، ويقوم نظامهما الوصفي على وحدات يفترض أن ترتبط فيما بينها بالعلاقة نفسها مثل الوحدات في الأشكال المبكرة للنحو المنهجي (هاليداي، 1961م): والوحدات مرتبة بمعيار طبقي، بمعنى أن الوحدات الأعلى طبقة تتكون من الوحدات في الطبقة الأدنى، وهكذا، ففي النحو، تتكون الجملة من عبارات، وهي تتكون من مجموعات، وهلم جرا. وعلى غرار ذلك نجد أن خطاب قاعة الدرس يتكون من خمس وحدات ذات طبقات تنازلية - الدرس، والتعامل، والتبادل، والخطوة، والفعل - بمعنى أن الدرس يتكون من تعاملات، تتكون كل منها من مبادلات، وهلم جرا.
ولا يكاد سنكلير وكولتارد يذكران شيئا عن «الدرس»، ولكنهما يقولان بأن «التعامل» ذو بناء واضح، فالتعاملات تتكون من مبادلات، وهي تفتح وتغلق بما يسميانه «مبادلات الحدود» التي تتكون على الأقل من «خطوات إطارية»، إلى جانب خطوات أخرى أو من دونها، فعلى سبيل المثال يقول المعلم: «والآن، قلت في نفسي فلنعمل اليوم على حل ألغاز ثلاثة»، وهذه الجملة تتضمن خطوة إطارية («والآن») وخطوة «تركيزية» تقول للتلاميذ موضوع التعامل المتوقع. وعادة ما تقع بين مبادلات الحدود سلسلة من المبادلات «الإخبارية» أو «التوجيهية» أو «الرامية إلى تلقي المعلومات»، وفي هذه السلسلة تقع مقولات وطلبات (أو أوامر) على الترتيب، وتطرح الأسئلة، عادة، من جانب المعلم.
فلننظر في بناء نمط من أنماط المبادلة، وهي المبادلة الرامية إلى تلقي المعلومات، وتتكون في العادة من ثلاث خطوات: «البداية» و«الرد» و«رد الفعل». مثلا:
المعلم :
Página desconocida
هل تستطيع أن تقول لي سبب تناولك كل هذا الطعام؟
التلميذ :
للحفاظ على قوتي.
المعلم :
للحفاظ على قوتك، نعم. للحفاظ على قوتك.
ولماذا تريد الحفاظ على قوتك؟
أول ما يقوله المعلم هو خطوة البداية، وقول التلميذ رد عليها، وأول سطر من القول الثاني للمعلم رد الفعل، والسطر الثاني خطوة بداية جديدة، لاحظ أن مقولة («منطوقة») واحدة يمكن أن تتكون من أكثر من خطوة واحدة، ووجود رد الفعل بانتظام يفترض سلفا أن المعلمين يتمتعون بسلطة تقييم أقوال تلاميذهم (فمن النادر أن يخاطر أحد بأن يفعل هذا خارج إطار تعليمي) ويبين أن جانبا كبيرا من خطاب قاعة الدرس يدور حول اختبار ما يعرفه التلاميذ، وتدريبهم على أن يقولوا أشياء ذات صلة بالموضوع وفقا للمعايير التي وضعتها المدرسة.
والخطوة الواحدة تتكون من فعل واحد أو أكثر، ويميز سنكلير وكولتارد بين 22 فعلا في خطاب قاعة الدرس، وبعضها خاص بهذا النمط من الخطاب دون غيره، (مثل فعل «الطلب»؛ أي الذي يطلب الطفل فيه الحق في الإجابة، ربما بأن يرفع يده)، وبعضها الآخر أقل اختصاصا بهذا النمط، فخطوة البداية في المبادلة التي ترمي إلى تلقي المعلومات قد تتضمن «الاستخلاص» (أي استخلاص شيء من السامع) على سبيل المثال، وربما يكون ذلك عندما تتضمن خطوة البداية في مبادلة توجيهية ما «توجيها» معينا.
وتعتبر الأفعال فئات وظيفية لا فئات شكلية، ومن القضايا الرئيسية قضية العلاقة بينها وبين الفئات الشكلية للنحو، (وقد حظيت هذه القضية باهتمام كبير في إطار التداولية، انظر ليفنسون، 1983م؛ وليتش وتوماس، 1989م)، ومن المشهور عدم وجود حالات تقابل بسيطة. فعلى سبيل المثال قد تكون الجملة الاستفهامية («السؤال النحوي») توجيها واستخلاصا في الوقت نفسه (مثل: «هل تستطيع إغلاق الستائر؟») والجملة الخبرية («المقولة النحوية») يمكن أن تكون أيا من هذين أو فعلا «إخباريا» (مثل «الستائر ليست مغلقة»، فقد تمثل هذا طلبا للتأكيد، أو طلبا من أحدهم بإغلاقها، أو مجرد تقديم معلومات)، ويشير سنكلير وكولتارد إلى ما يسميانه «الحال» و«التكتيك»؛ للبت في الوظيفة التي تقوم بها الجملة في قطعة معينة من الخطاب. وذكر الحال يدعو إلى النظر في عوامل حالية ذات علاقة به، فعلى سبيل المثال: إذا كان الأطفال يعرفون أن الكلام في قاعة الدرس ممنوع، فإن الجملة الخبرية التي يقولها المعلم (مثل «أنت تتكلم») ربما فسرها التلميذ بأنها أمر له بالكف عن الكلام، وعلى ما يقوله لابوف وفانشيل (انظر أدناه) يقترح سنكلير وكولتارد قواعد تفسيرية تأخذ في اعتبارها الشكل النحوي للجملة والعوامل الحالية، وأما «التكتيك» فينظر في تأثير موقع الجملة من حيث ارتباطها بما سبق داخل الخطاب في تفسيرها، فعلى سبيل المثال قد ترد جملة خبرية مثل «ربما يختلف الأمر من وجهة نظر المرأة» بعد رد فعل في سلسلة المبادلات المستخلصة، (أي حيث يتوقع المرء خطوة البداية)، ومن المحتمل أن تفسر باعتبارها استخلاصا، على الرغم من أن معظم الجمل الخبرية ليست استخلاصية، وأن معظم الجمل الاستخلاصية جمل استفهامية.
وتكمن قوة الإطار الذي وضعه سنكلير وكولتارد في الطريق الرائد الذي يلفت النظر إلى خصائص التنظيم المنهجي للحوار، ويقدم طرائق وصفها، وأما أوجه قصورها فتتضمن غياب التوجه الاجتماعي الناضج للخطاب، وعدم كفاية الاهتمام بالتفسير، ومن الممكن إرجاع أوجه القصور المذكورة إلى المادة (البيانات) التي اختاراها، فهما يركزان على نموذج مركزية المعلم التقليدية في خطاب قاعة الدرس، ومادتهما لا يتجلى فيها تنوع ممارسات قاعة الدرس الراهنة. وهذا يجعل خطاب قاعة الدرس يبدو أشد تجانسا مما هو عليه في الواقع، ويطبع الممارسات السائدة بجعلها تبدو في صورة الممارسات الوحيدة، فهو يقدمها باعتبارها «موجودة» وحسب، ومتاحة للتوصيف، لا باعتبار أنها أنشئت من خلال التنازع مع ممارسة بديلة، وأنها قد زودت بأيديولوجيات معينة (مثل الآراء في التعليم والمتعلمين)، وأنها تساعد على الحفاظ على علاقات سلطة معينة داخل المجتمع. وبإيجاز، فإن مدخل سنكلير وكولتارد ينقصه التوجه الاجتماعي الناضج، ما دام يتجاهل النظر في طرائق تشكيل علاقات السلطة للممارسات الخطابية، ولا يضع خطاب قاعة الدرس في مكانه التاريخي وسط عمليات الصراع الاجتماعي والتغيير. فالخصيصة المرموقة لخطاب قاعة الدرس المعاصر تتمثل في تنوعه، والمرء يريد أن يعرف سبب الضغوط التي يتعرض لها خطاب قاعة الدرس التقليدي الذي يصفانه، وطبيعة القضية المطروحة.
Página desconocida
وتجانس المادة المشار إليها تصرف النظر أيضا عن ازدواج الدلالة في خطاب قاعة الدرس وتنوع التفسيرات المحتملة. انظر في المثال التالي عند كولتارد (1977م، 108):
المعلم :
ما نوع هذا الشخص في رأيك؟
هل ترى؟ ما الذي تضحك منه؟
التلميذ :
لا شيء.
المعلم :
ماذا؟
التلميذ :
لا شيء.
Página desconocida
المعلم :
تضحك من لا شيء؟ لا شيء على الإطلاق؟
التلميذ :
لا.
الأمر مضحك فعلا؛ لأنهم لا يخطر لهم ذلك كأنما لم يكونوا حاضرين، وربما لم يحبوا ذلك، والكلام يفصح عن موقف متحذلق.
ويرى سنكلير وكولتارد أن هذا يدل على سوء تفسير التلميذ للحال؛ إذ يتصور أن سؤال المعلم عن الضحك يقصد به التأديب لا الحوار، ولكن أمثال هذه النماذج تشير أيضا إلى إمكان تعدد الجوانب في خطاب قاعة الدرس، وإلى تعايش مجموعة من أنماط خطاب قاعة الدرس في المدارس، وهو ما ينبغي لمنتجي النص ومفسريه أن يأخذوه في حسبانهم، ويعني هذا، ضمنا، ضرورة الانتباه إلى العمليات الخطابية، وإلى التفسير والإنتاج، وأما التركيز عند سنكلير وكولتارد فينصب على النصوص باعتبارها من نواتج الخطاب (وإن كانت فئة التكتيك توحي بدرجة من الانتباه إلى التفسير)، ويؤدي هذا أيضا إلى جعل موقفها من التحليل إشكاليا ما دام المحللون يفسرون النصوص ولا يكتفون بوصفها. ولنسأل: أفلا يفسر سنكلير وكولتارد فعلا بياناتهما حتى حين يزعمان أنهما يصفانها فحسب؟ أفلا يفسرانها من وجهة نظر المعلم حين يريان مثلا أن التلميذ يسيء فهم المعلم بدلا من إبدائه عدم الالتزام (أو الحياد) في الرد على سؤال يحتمل إجابتين من المعلم؟ فتعبير «لا شيء» في الواقع يحتمل أكثر من دلالة، ومن الممكن أن يعني «لا أستطيع أن أخبرك بما يجعلني أضحك هنا»، ويثير هذا مشكلة أخرى في هذا الإطار؛ إذ إنه يفرض قرارات معينة بشأن وظائف الأقوال، في حين أن الأقوال في الواقع كثيرا ما تحمل وجهين للمعنى، لا أن تتصف بالغموض وحسب، على نحو ما تبينه الأبحاث الحديثة في التداولية (انظر لفنسون، 1983م)، أي إن معانيها تستعصي على البت الواضح فيها. (2) تحليل المحادثة
تحليل المحادثة مدخل من مداخل تحليل الخطاب، وضعته مجموعة من علماء الاجتماع الذين يصفون أنفسهم بأنهم «إثنومنهجيين»، ومدخل «الإثنومنهجية» من المداخل التفسيرية في علم الاجتماع، وهو يركز على الحياة اليومية باعتبارها إنجازا قائما على المهارة، وعلى المناهج التي يستخدمها الناس ل «إنتاجها» (جارفينكل، 1967م، وبنسون وهيوز، 1983م). ويميل الإثنومنهجيون إلى تجنب النظرية العامة ومناقشة أو استخدام بعض المفاهيم مثل الطبقية أو السلطة أو الأيديولوجيا وهي التي تمثل أهمية أساسية للتيار الرئيسي لعلم النفس، وبعض الإثنومنهجيين يبدون اهتماما خاصا بالمحادثة وبالمناهج التي يطبقها المتحادثون في إنتاجها وتفسيرها (شنكاين، 1978م؛ أتكنسون وهريتيدج، 1984م)، ويركز محللو المحادثة أساسا على المحادثة غير الرسمية بين الأنداد (مثل المحادثة التليفونية) وإن كانت بعض البحوث الحديثة قد تحولت إلى الأنماط المؤسسية للخطاب، حيث تبدو مظاهر عدم التكافؤ في السلطة بوضوح أكبر (باتون ولي 1987م). ويختلف تحليل المحادثة عن مدخل سنكلير وكولتارد في أنه يبرز العمليات الخطابية، ومن ثم يولي اهتماما أكبر بالتفسير والإنتاج، ولكن مفهوم هذا التحليل للتفسير والعمليات مفهوم ضيق، كما سوف أقيم عليه الحجة أدناه، ويشبه تحليل المحادثات مدخل سنكلير وكولتارد في التوجه نحو اكتشاف الأبنية في النصوص.
وقد وضع محللو المحادثات توصيفات لشتى جوانب المحادثة، مثل فواتح المحادثة وخواتيمها، وكيفية عرض الموضوع، وتطويره وتغييره، وكيف يحكي الناس حكايات في أثناء المحادثات، وكيف ولماذا يعيدون صوغ المحادثة (مثلا بتقديم فحواها أو باقتراح ما توحي به ضمنا). وأما البحوث الخاصة بالتناوب، أي كيف يتناوب المتحادثون أدوار الكلام، فقد كانت باهرة وذات نفوذ كبير، ويقترح ساكس وشيجلوف وجيفرسون (1974م) وجود مجموعة بسيطة من قواعد التناوب التي تمتاز بالصلابة، وتنطبق هذه القواعد عند اكتمال الوحدة المستخدمة في بناء دور المتحدث، إذ يبني المتحدثون أدوارهم بوحدات معينة، كأن تكون الوحدة جملة مركبة، أو جملة بسيطة، أو عبارة، أو حتى كلمة واحدة، ويستطيع المشاركون البت في ماهية هذه الوحدة والتنبؤ بلحظة اكتمالها بدقة كبيرة، والقواعد منظمة على النحو التالي: (1) للمتحدث الحالي أن يختار المتحدث التالي له؛ (2) وإذا لم يفعل ذلك فقد يختار المتحدث التالي نفسه بالبدء في دوره في الحديث؛ (3) فإن لم يحدث هذا فللمتحدث الحالي أن يواصل حديثه. ويقول ساكس وشيجلوف وجيفرسون: إن هذه القواعد تشرح عددا كبيرا من معالم المحادثات التي رصدت، ويضيفون أن حالات التداخل بين المتحادثين تتسم بالقصر بصفة عامة، وبأن عددا كبيرا من حالات الانتقال من متحدث إلى غيره تقع دون فجوات ودون تداخلات، وهلم جرا. وعلى الرغم من عمومية القواعد فإنها تسمح بالتنوع الكبير في بعض معالم المحادثة، مثل نظام أدوار الكلام وطول كل منه.
ويركز تحليل المحادثة تركيزا شديدا على الدلالات المضمرة للتتابع في المحادثة، أي الزعم بأن كل قول منطوق يفرض قيودا على ما يتبعه، و«الثنائيات المتجاورة» - مثل السؤال والإجابة، أو الشكوى والاعتذار - من الأمثلة ذات الوضوح الناصع على هذا، فالسؤال الذي يطرحه أحد المتحادثين يستتبع بالضرورة إجابة من متحدث آخر. ومن الأدلة على أن قولا من «س» يستتبع إشراك «ص» ما يلي: (1) إن أي شيء يقال بعد قول «س» سوف يعتبر خاصا ب «ص» إن كان ذلك ممكنا (والمثال عليه: «هل هذه زوجتك؟» قد تتبعه إجابة تقول «يعنى! إنها ليست والدتي»، ومن المحتمل أن تعتبر هذه العبارة ردا بالإيجاب على السؤال). (2) إنه إذا لم يصدر قول من «ص»، فإن غياب القول سوف يلاحظ، ومن الشائع أن يعتبر أساسا لمعنى مستنبط (فعلى سبيل المثال إذا امتنع المعلمون عن إبداء ردود أفعالهم على إجابات التلاميذ فقد يعني ذلك ضمنا رفض هذه الإجابات)، ويقول أتكنسون وهريتيدج (1984م، 6) «إن كل قول منطوق يقع في موقع يحدده البناء في الحديث»، ومما يترتب على هذا أن تناوب الأدوار يتجلى فيه تحليل الأدوار السابقة، وهو ما يوفر الأدلة الدائمة في النص على كيفية تفسير الأقوال الملفوظة.
ومما يترتب على هذا أيضا أن موقع القول وحده وسط الأقوال المتتابعة يكفي للبت في معناه، ولكن هذا مشكوك فيه إلى حد كبير، لسببين: الأول (1) أن تأثير التتابع في المعنى يتغير طبقا لنمط الخطاب، والثاني (2) أن المشاركين في المحادثة قد يرجعون، كما سبق أن ذكرت في مناقشتي لسنكلير وكولتارد، إلى أنماط خطاب منوعة في أثناء «تفاعلهم»، بحيث يضطر المشاركون، باعتبارهم منتجين ومفسرين، إلى تعديل مواقعهم باستمرار إزاء هذه الأنماط. انظر بناء المقتطف التالي من مقابلة شخصية طبية أقدم في الفصل الخامس تحليلا لها:
Página desconocida
سوف أقول في تحليلي لهذه الشذرة المقتطعة من مقابلة شخصية: إنها مزيج من المقابلة الطبية وجلسة إسداء المشورة. وفي إطار هذا المزيج ماذا يقول التتابع للمفسر عن سؤال الطبيب في دوره الأول؟ نعرف في المقابلات الطبية التقليدية أن السؤال الذي يسأله الطبيب فور إشارة المريض إلى حالة مرضية قد تكون خطرة (وهي إدمان شرب الخمر هنا)، من الأرجح أن يفسر على أنه استقصاء طبي يتطلب الانتباه الكامل من كلا المشاركين، وأما في جلسة إسداء المشورة، فإن مثل هذا السؤال يمكن تفسيره بروح المحادثة، أي باعتباره سؤالا عارضا يدل على أن المستشار ملم بمشاكل المريض. وفي الشذرة المقتطفة يبدو أن المريضة تعتبره سؤالا عارضا، فهي تجيب إجابات آلية تتكون من كلمات مفردة عن السؤال الرئيسي وإقرار الطبيب للإجابة (وربما محاولة التحقق من صدقها)، ثم تغير القصة مرة أخرى؛ لتحكي بعض الأحداث الأخيرة. واتخاذ مثل هذا القرار التفسيري يقتضي أن تحيط المريضة بمعلومات أكثر عن التتابع، أي إنها تحتاج إلى إصدار حكم على حادث اجتماعي، والعلاقة الاجتماعية بينها وبين الطبيب، ونمط الخطاب أيضا. وهذا يعني أن لدينا صورة لعمليات الخطاب وتفسيره تتسم بتعقيد يزيد على ما هو مفترض عموما في تحليل المحادثات، أي صورة يمكن أن تتسع مثلا لمحاولات منتجي النص ومفسريه شق طريقهم داخل مخزونات أنماط الخطاب. ويوحي هذا المثال أيضا بأن التحليل نفسه عملية تفسير، ومن ثم فهي ممارسة خلافية وإشكالية، ولكننا لا نكاد نجد شيئا من هذا في تحليل المحادثات. ومع ذلك، فإن المحللين يميلون، مثل سنكلير وكولتارد، إلى تفسير البيانات استنادا إلى وجود توجه مشترك بين المتحادثين نحو نمط خطابي واحد (ولكن انظر جيفرسون ولي، 1981م)، ومن الآثار الناجمة عن ذلك رسم صورة للمحادثة تتميز بالتناغم المبالغ فيه والتعاون الوثيق.
أضف إلى هذا تجاهل السلطة باعتبارها عاملا في المحادثات، ففي عمليات التفاوض التي أشرت إليها يتمتع بعض المشاركين، عادة، بقوة أكبر من غيرهم. وفي الكثير من أنماط الخطاب (مثل خطاب قاعة الدرس) لا نجد قواعد مشتركة لتناوب الكلام، حيث يتمتع المشاركون بالمساواة في الحقوق والالتزامات، بل نجد توزيعا متفاوتا للحقوق (مثل الحق في أن يختار المتحدث نفسه، أو أن يقاطع المتحدث، أو أن يواصل الحديث عبر أدوار عديدة) والالتزامات (مثل القيام بدوره في الحديث إذا رشح لذلك)، وفي أمثال هذه الحالات يتضح لنا أن إنتاج الخطاب جزء من عمليات أوسع نطاقا، أي عمليات إنتاج الحياة الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، والهويات الاجتماعية، ولكن جانبا كبيرا من تحليل المحادثات الذي يقدم تفسيرات متناغمة للتفاعل بين الأنداد يعطينا الانطباع بأن إنتاج الخطاب غاية في ذاته.
وعلى الرغم من اختلافهما في نقاط الانطلاق البحثية والتوجهات النظرية، فإن مدخل سنكلير وكولتارد يشارك مدخل تحليل المحادثات نقاط القوة وأوجه القصور؛ إذ إن كليهما قد أسهم إسهاما كبيرا في إيجاد تقدير جديد لطبيعة المباني في الحوار، وإن كان كل منهما يتسم بغياب التوجه الاجتماعي الناضج للخطاب (وفي هذا الصدد يعاني تحليل المحادثات من أوجه النقص نفسها عند سنكلير وكولتارد)، ولا يقدم أيهما وصفا مقنعا لعمليات الخطاب والتفسير، وإن كان تحليل المحادثة يقدم نظرات ثاقبة في جوانب معينة من التفسير. (3) لابوف وفانشيل
يعتبر كتاب لابوف وفانشيل (1977م) دراسة اشترك في إعدادها عالم من علماء اللغة وعالم من علماء النفس لخطاب المقابلة الشخصية الخاصة بالعلاج النفسي، وخلافا لموقف سنكلير وكولتارد، وموقف تحليل المحادثات، يفترض لابوف وفانشيل أن الخطاب غير متجانس، وهما يريان ذلك دليلا على «التناقضات والضغوط» (ص35) الناشئة عن ظروف المقابلة الشخصية، وهما يتفقان مع جوفمان (1974م) على أن التنقل بين «الأطر» من المعالم العادية في المحادثة، ويحددان في المادة التي يدرسانها تركيبا من أساليب مختلفة ترتبط بأطر مختلفة، مثل: «أسلوب المقابلة الشخصية»، و«أسلوب الحياة اليومية»، اللذين يستخدمان في قصص المرضى عما جرى «في الدنيا منذ الزيارة الأخيرة» (والحرف «ق» يرمز في المثال للقصة) وأسلوب الأسرة (التي يرمز له بحرف أ) هو الأسلوب الذي عادة ما يستخدم في الحالات «الأسرية» للتعبير عن المشاعر الجارفة.
وهما يقسمان المقابلات الشخصية إلى «قطاعات» تتفق في مداها تقريبا مع «المبادلات» عند سنكلير وكولتارد، وإن كانت هذه القطاعات يمكن أن تكون أيضا أجزاء من المونولوجات. وتحليل القطاعات يؤكد وجود «تيارات اتصال» لغوية وشبه لغوية، والصفة الأخيرة تشمل بعض ملامح الكلام مثل طبقة الصوت، ودرجة ارتفاعه، وبعض مميزاته مثل «التهدج»، وحمله معاني مضمرة «ينكرها» المتكلم. ومن المتغيرات بين أنماط الخطاب الأهمية النسبية للقناة شبه اللغوية، ففي الخطاب العلاجي يعتبر التناقض بين المعاني الصريحة للقناة اللغوية، والمعاني المضمرة للقناة شبه اللغوية من المعالم الأساسية.
والتحليل يقدم «توسيعا» لكل قطاع، أي إعادة صوغ للنص قادرة على التصريح بما هو مضمر، بالإشارة إلى الأسماء التي تحيلنا إليها الضمائر، والإفصاح عن المعاني المضمرة التي تدلنا عليها المفاتيح شبه اللغوية، وإدراج المادة الحقيقية ذات الصلة بالموضوع من أجزاء أخرى من البيانات، والتصريح ببعض المعرفة التي يشترك فيها المتحدثون. وحالات التوسع المذكورة غير محدودة، ويمكن زيادة تفاصيلها إلى ما لا نهاية. وفيما يلي نموذج نصي، يتضمن التحليل من حيث أساليبه، وصورته الموسعة (ق: قصة، أ: أسرة). < ق وهكذا - عندما اتصلت بها اليوم قلت < أ «والآن، متى تعتزمين أن تأتي إلى البيت؟» > أ > ق. < ق عندما اتصلت بوالدتي اليوم (الخميس) قلت لها في الواقع < أ «والآن، فيما يتعلق بالموضوع الذي يعرف كلانا أنه مهم ومصدر قلق لي، متى تتركين منزل أختي حيث (2) اكتمل الوفاء بالتزاماتك و(4) تعودين إذ إنني أطلب مجيئك إلى بيت، حيث (3) تتعرض التزاماتك الأولية للتجاهل، ما دام ينبغي لك أن تفعلي ذلك باعتبارك (الأم الرئيسة) وترؤسين أسرتنا؟» > أ > ق.
الرموز في الأقواس المجعدة تسبق المقولات التي تقبل كما هي، وبعض هذه خاصة بتفاعل محدد، وبعضها الآخر مثل «الأم الرئيسة»، أي «الأم هي رأس الأسرة»، تترتب عليها دلالات عامة في الثقافة بالنسبة لالتزامات الدور؛ إلى جانب رموز أخرى تنتمي إلى الافتراضات الدائمة للعلاج (مثل مقولة: «المعالج لا يأمر المريض بما ينبغي أن يفعله») أو للثقافة (مثل: «على المرء أن يعتني بنفسه») ونادرا ما تصاغ المقولات صياغة صريحة، ومع ذلك فإن القضية الرئيسية في أي تفاعل قد تتمثل في البت فيما إذا كان الحادث يمثل إحدى المقولات أو لا يمثلها، أضف إلى ذلك أن المقولات تشكل روابط مضمرة بين أجزاء التفاعل، ولها أهميتها في تحقيق ترابط معناه.
إذن فإن تحليل القطاع يقول إنه تفاعل (ومعناه «الفعل الذي يؤثر في العلاقات بين النفس والآخرين») ومن المفترض أن أي كلام منطوق يؤدي في الوقت نفسه عدة أفعال ذات ترتيب هرمي بحيث تقوم الأفعال في المستويات الدنيا بتنفيذ الأفعال في المستويات العليا (وهذه العلاقة يبينها استخدام تعبير «ومن ثم» في المقتطف الوارد أدناه)، وهكذا يقول المقتطف الوارد أعلاه (وبعد تبسيط ما وضعه لابوف وفانشيل):
تواصل رودا (المريضة) القصة، وتقدم معلومات لدعم زعمها أنها نفذت الاقتراح «ح». وتطلب رودا معلومات بشأن الوقت الذي تعتزم والدتها فيه العودة إلى المنزل، ومن ثم تطلب من والدتها بصورة غير مباشرة أن تعود للبيت، ومن ثم تنفذ الاقتراح «ح»، ومن ثم تتحدى والدتها بصورة غير مباشرة بسبب تقاعسها عن القيام بدورها كما ينبغي باعتبارها رئيسة الأسرة، معترفة في الوقت نفسه بأوجه قصورها، وزاعمة في الوقت نفسه مرة أخرى أنها نفذت الاقتراح.
وأما المقولة «ح» فهي اقتراح (المعالج) بأنه ينبغي لكل فرد أن يعبر عن حاجاته للآخرين، وأمثال هذا التصوير تستند إلى قواعد الخطاب التي اقترحها لابوف وفانشيل لتفسير الأشكال السطحية للأقوال المنطوقة، باعتبارها أنواعا معينة من الأفعال، فهما يتحدثان مثلا عن قاعدة «الطلب غير المباشر»، وهي التي تحدد الشروط التي تجعل الأسئلة («طلب المعلومات») تعتبر طلبات للقيام بفعل معين، ويختتم التحليل ب «قواعد التتابع» اللازمة للربط بين القطاعات.
Página desconocida
ويشير لابوف وفانشيل إلى مدخلهما باعتباره تحليلا «شاملا» للخطاب، ولا شك أن طابعه الشامل باهر، وإن كان أيضا يستغرق وقتا بالغ الطول، على نحو ما يقران به. وهما يحددان في الواقع عددا من المشكلات التي تكتنفه، فالمفاتيح شبه اللغوية عسيرة التفسير، وهو ما ذاع فعلا عنها، والتوسع قد يستمر بلا نهاية، حيث لا توجد نقاط توقف واضحة الدافع، ومن شأن التوسع طمس الاختلافات المهمة بين العناصر المقدمة والمؤخرة في الخطاب، لكنني أريد التركيز في مناقشتي على فكرتين مهمتين في مدخلهما ولا بد من زيادة النظر فيهما.
تقول الأولى إن الخطاب قد يكون متغاير الأساليب؛ أي غير متجانس بسبب التناقضات والضغوط الناشئة في الحالة التي يجري الكلام فيها. ففي حالة الخطاب العلاجي مثلا، يقال إن استخدام أسلوب «الحياة اليومية» و«الحياة العائلية» يمثل جانبا من استراتيجية المريض؛ لجعل بعض أجزاء الكلام محصنة أمام الخبرة النفاذة للمعالج. وسبق لي أن ذكرت أن هذا شبيه بمفهوم جوفمان عن الأطر. ومبدأ عدم تجانس الخطاب عنصر رئيسي في مناقشتي للتناص. وسوف أقتصر هنا على الإشارة إلى اختلافين اثنين وحسب بين موقفي وموقف لابوف وفانشيل. الأول: هو طي أسلوب داخل أسلوب، كما هو الحال في النموذج الوارد أعلاه، وهو شكل واحد وحسب من أشكال عدم التجانس، وكثيرا ما يتخذ أشكالا أكثر تركيبا وتعقيدا، حيث يصعب الفصل بين الأساليب، وأقول ثانيا: إن نظرتهما إلى التغاير أو عدم التجانس تقوم على أكثر مما ينبغي من الثبات، فهما يريان أن الخطاب العلاجي يمثل تركيبا ثابتا من الأساليب، ولكنهما لا يحللان التغاير بأسلوب دينامي باعتباره يمثل تحولات تاريخية في المركبات الأسلوبية. فالواقع أن القيمة الأولى لمبدأ التغاير تكمن، فيما يبدو، في البحث في التغير الخطابي داخل إطار التغير الاجتماعي والثقافي الواسع النطاق (انظر أواخر الفصل الثالث، حيث ترد تفاصيل هذا المنظور).
وأما الفكرة الثانية فتقول: إن الخطاب يبنى على مقولات مضمرة يسلم المشاركون بصحتها دون مناقشة، وتعتبر الأساس اللازم لترابط معناه، وهذا مبدأ مهم آخر لا ينظر لابوف وفانشيل في إمكانياته الكامنة وما يترتب عليه من آثار، وأقول إنهما، بوجه خاص، لا يلتفتان إلى الطابع الأيديولوجي لبعض هذه المقولات، مثل دور الالتزامات المرتبطة بالأم، أو الأيديولوجيا «الفردية» للذات في مقولة «على المرء أن يعتني بنفسه»، أو إلى الوظيفة الأيديولوجية التي يقوم بها العلاج في إعادة إنتاج هذه المقولات دون طعن فيها، وهو ما يذكرنا بالبحوث النقدية في العلاج باعتباره آلية لإعادة تكييف الأشخاص ؛ للقيام بأدوارهم الاجتماعية التقليدية. وأقول بعبارة أخرى إن لابوف وفانشيل يحجمان عن إجراء تحليل نقدي للخطاب العلاجي، بالرغم من تقديمهما موارد تحليلية قيمة لإجراء مثل هذا التحليل. (4) بوتر ووذريل
والنموذج الأخير للمدخل غير النقدي لتحليل الخطاب الذي أناقشه هنا استخدام بوتر ووذريل (1987م) تحليل الخطاب منهجا في علم النفس الاجتماعي، وهذا مهم في السياق الحالي، أولا: لأنه يبين كيف يمكن استخدام تحليل الخطاب في دراسة قضايا ربطتها التقاليد بمناهج أخرى، وثانيا: لأنه يثير السؤال القائل: هل يرتبط تحليل الخطاب في المقام الأول ب «الشكل» أم ب «المضمون» في الخطاب؟ (انظر نقد طومسون (1984م، 106، 8) لسنكلير وكولتارد لأنهما «شكليان» ويتجاهلان مضمون خطاب قاعة الدرس.)
ويستند دفاع بوتر ووذريل عن تحليل الخطاب باعتباره منهجا لعلماء النفس الاجتماعي إلى حجة واحدة يطبقها المرة تلو المرة على العديد من المجالات الرئيسية للبحث في علم النفس الاجتماعي. وتقول الحجة: إن علم النفس الاجتماعي التقليدي قد أساء تصور خصائص أساسية للمادة اللغوية التي يستخدمها بل و«تكتم عليها»؛ وإن الخطاب بناء ومن ثم فهو يشكل الأشياء والفئات؛ وإن ما يقوله المرء لا يظل متسقا في جميع المناسبات بل يتغير وفقا لوظائف الحديث. وتطبق هذه الحجة أولا على البحث في المواقف، إذ إن البحوث التقليدية كانت تفترض أن لدى الناس مواقف متسقة تجاه الأشياء، مثل «المهاجرين الملونين»، ولكن تحليل الخطاب يبين أن الناس يصدرون تقييمات مختلفة، بل ومتناقضة لشيء ما، وفقا للسياق، ليس هذا وحسب، بل يبين أيضا أن مفهوم الشيء نفسه يتغير وفق تقييمه (ولذلك فإن «المهاجرين الملونين» تركيب يرفضه الكثير من الناس). وتطبق الحجة بعد ذلك على دراسة أساليب استخدام الناس للقواعد، وكيف يقدم الناس «روايات» توضيحية (ذرائع، مبررات ... إلخ) لسلوكهم وما إلى هذا بسبيل، مؤكدة في كل حالة تفوق تحليل الخطاب على المناهج الأخرى، مثل المناهج التجريبية.
ويبين بوتر ووذريل أن إيلاءهما الأولوية للمضمون في مدخلهما مضاد لإيلاء الأولوية للشكل في «نظرية تطويع الكلام» النفسية الاجتماعية، وهي نظرية تتعلق بطرائق تعديل الأشخاص لكلامهم حتى يلائم من يكلمونهم ، ومن ثم فهي تثبت تغيير الشكل اللغوي وفقا للسياق والوظيفة، وأما في مدخلهما فهما يركزان على تغير المضمون اللغوي. وفي بعض الحالات يقع التركيز على مضمون مقولات الكلام المنطوق - في مجال البحث في المواقف مثل ما يقوله من أجابوا على الأسئلة من أبناء نيوزيلاندا بصدد وجوب إعادة المهاجرين البولينيسيين (أي أبناء جزر المحيط الهادي الشرقية) إلى بلادهم - وعلى أنواع الحجج التي «تعمل» فيها هذه المقولات، وفي حالات أخرى يقع التركيز على المفردات والاستعارة، كأن يتعلق مثلا بموقع الخبر في الجملة (من أفعال وصفات) والاستعارات المقترنة بالمجتمع المحلي فيما نشرته أجهزة الإعلام عن الاضطرابات التي وقعت داخل المدن الكبرى في بريطانيا عام 1980م.
والواقع أن التمييز بين الشكل والمضمون ليس واضحا بالصورة التي قد يبدو بها، فللمضمون جوانب تدخل بوضوح في قضايا الشكل، فقد تكون الاستعارة مسألة صهر مجالات معان مختلفة، ولكنها أيضا تتعلق بنوع الألفاظ المستخدمة في النص، وهو جانب من جوانب الشكل الخاص بها، والعكس بالعكس؛ فبعض جوانب الشكل تدخل في قضية المضمون، ومزج الأساليب في الخطاب العلاجي عند لابوف وفانشيل يعتبر - على أحد المستويات - مزجا للأشكال (فهما يشيران مثلا إلى ملامح النبرات التي تميز الأسلوب «العائلي») ولكن له دلالته من حيث المضمون، وليكن مثلا من حيث بناء صورة المريض باعتباره نوعا خاصا من أنواع «النفس» أو الذات.
ويعتبر الإطار التحليلي عند بوتر ووذريل فقيرا إن قورن بالمداخل الأخرى، فالمضمون عندما يقتصر على جوانب محدودة من المعنى «الفكري» أو التصوري للخطاب، وهو ما يتجاهل أبعاد المعنى الأخرى (الخاصة بالعلاقة بين الأشخاص بصفة عامة) وما يرتبط بها من جوانب الشكل (والشرح الوافي للمعنى الفكري والخاص بالعلاقة بين الأشخاص وارد في بدايات الفصل الثالث). وتبدو أوجه القصور التحليلي في أنصع صورها في معالجة بوتر ووذريل لقضية «النفس»، فعلى عكس المعالجات التقليدية للنفس في علم النفس الاجتماعي، يتبنى هذان موقعا تركيبيا يؤكد التغير في بناء النفس في الخطاب، ومع ذلك فإنهما يعجزان عن تطبيق هذه النظرية في تحليل الخطاب، وذلك (كما أقول في الفصل الخامس) لأننا نرى ملامح نفوس مختلفة موحى بها من خلال الصور المجتمعة لمعالم لغوية (وجسدية) وسلوكية شتى، ونحتاج في وصفها إلى جهاز تحليلي أشد ثراء مما يقدمه إلينا بوتر ووذريل.
ويتسم مدخل بوتر ووذريل، مثل المداخل الأخرى المشار إليها، بأنه غير ناضج بالدرجة الكافية في توجهه الاجتماعي للخطاب، فهما يركزان في تحليلهما للخطاب تركيزا فرديا منحازا على الاستراتيجيات البلاغية للمتكلمين، وتعتبر مناقشتهما للنفس استثناء واضحا من ذلك، لأن النظرية التركيبية للنفس تؤكد الأيديولوجيا والتشكيل الاجتماعي للنفس في الخطاب، ولكن هذه النظرية لا تتفق مع التوجه العام للكتاب، كما أنها غير مطبقة في تحليل الخطاب. كما نجد أخيرا اتجاها نحو وصف النشاط الاستراتيجي أو البلاغي للنفس باستخدام الفئات والقواعد وما إليها بسبيل، باعتبارها بديلا عن إخضاع النفس، لا رؤية هذا وذاك معا في تركيب جدلي (انظر الفصل الثالث حيث يرد هذا الرأي مفصلا). (5) علم اللغة النقدي
علم اللغة النقدي مدخل وضعه فريق من الباحثين في جامعة إيست أنجليا في السبعينيات (فاولر وآخرون، 1979م؛ كريس وهودج، 1979م)، إذ حاولوا الجمع بين منهج للتحليل اللغوي للنص وبين نظرية اجتماعية عن وظيفة اللغة في العمليات السياسية والأيديولوجية، استنادا إلى نظرية اللغة الوظيفية المرتبطة باسم مايكل هاليداي (1978م، 1985م) والمعروفة باسم علم اللغة المنهجي (أو اللغويات المنهجية).
Página desconocida
ولم يكن من المستغرب، نظرا للأصول البحثية لعلم اللغة المنهجي، أن يحرص على تمييز نفسه عن التيار الرئيسي لعلم اللغة (وهو الذي كان يخضع لسيطرة نموذج تشومسكي آنذاك أكثر مما يخضع حاليا) وعلم اللغة الاجتماعي (انظر فاولر وآخرون 1979م: 185-95) وهو يرفض «ثنائيتين سائدتين مترابطتين» في النظرية اللغوية: أولهما معاملة النظم اللغوية باعتبارها مستقلة ومنفصلة عن «استعمال» اللغة، والثانية هي الفصل بين «المعنى» وبين «الأسلوب» أو «التعبير» (أي فصل «المضمون» عن «الشكل»). واللغويات النقدية تنقض الثنائية الأولى بتأكيدها، مع هاليداي، إن «اللغة أصبحت ما هي عليه بسبب وظيفتها في البناء الاجتماعي» (هاليداي، 1973م، 65) والقول بأن اللغة التي يستعملها الناس تتوقف على موقعهم في النظام الاجتماعي، واللغويات النقدية تعارض الثنائية الثانية بمساندة رأي هاليداي في نحو أية لغة، وهو الذي يقول إنه نظم «خيارات» ينتقي المتكلمون منها ما ينتقون طبقا للظروف الاجتماعية، مفترضا أن الخيارات الشكلية ذات معان متضادة، وأن خيارات الأشكال لها دلالاتها في كل حالة، كما ينتقد علم اللغة الاجتماعي لأنه يكتفي بإقامة تعادلات بين اللغة والمجتمع، بدلا من البحث عن علاقات سببية أعمق، بما في ذلك تأثير اللغة في المجتمع: أي «إن اللغة تعمل على تأكيد وتدعيم المنظمات التي تشكلها» (فاولر وآخرون، 1979م، 190).
والعبارة المقتطفة من هاليداي في الفقرة السابقة مجتزأة من جملة كاملة تقول: «أصبحت اللغة على ما هي عليه بسبب وظيفتها في البناء الاجتماعي، ولا بد أن ينجح تنظيم المعاني السلوكية في تبصيرنا إلى حد ما بأسسها الاجتماعية» (هاليداي 1973م، 65). ويقول كريس (1989م، 445): إن اللغويات النقدية طورت المقولة الواردة في النصف الثاني من المقتطف، لا في الجزء الأول منه في الواقع، إذ إنها حاولت «استنباط» أبنية «الأسس الاجتماعية» من «تنظيم المعاني السلوكية» في النصوص، كما إن اللغويات النقدية تتخذ موقفا يتفق مع هاليداي في اعتبارها أن مادة التحليل تتكون من نصوص كاملة (منطوقة أو مكتوبة) على عكس مسلك التيار الرئيسي لعلم اللغة وعلم اللغة الاجتماعي. وما يسمى ب «افتراض سابير-وورف» الذي يقول: إن اللغات تجسد رؤى معينة للعالم يتسع ليشمل التنوع داخل إحدى اللغات، بمعنى أن نصوصا معينة تجسد أيديولوجيات أو نظريات معينة، والهدف هو «التفسير النقدي» للنصوص: أي «استعادة المعاني الاجتماعية التي يعبر عنها الخطاب بتحليل الأبنية اللغوية على ضوء سياقاتها التفاعلية وسياقاتها الاجتماعية الأكبر» (فاولر وآخرون 1979م، 195-6)، والمرمى وضع منهج تحليلي يمكن أن يستخدمه أشخاص قد يكونون مثلا مؤرخين لا متخصصين في علم اللغة.
ويعتمد علم اللغة النقدي في التحليل النصي اعتمادا كبيرا على عمل هاليداي في مجال «النحو المنهجي» (انظر هاليداي، 1985م) إلى جانب استخدام بعض المفاهيم من نظريات أخرى مثل «أفعال الكلام» و«التحويل». وتختلف اللغويات النقدية عن المداخل الأخرى فيما تبديه من اهتمام بالنحو والمفردات في النصوص، وهي تشير بكثرة إلى «التعدي»، وهو جانب من النحو في عبارة أو جملة يتعلق بمعناها الفكري، أي بالصورة التي تمثل الواقع بها (انظر الفصل السادس حيث المناقشة التفصيلية للتعدي)؛ فالنحو يقدم لنا «أنماط صوغ» مختلفة وما يرتبط بها من «مشاركين» حتى نختار ما نريد منها، وقد يكون الاختيار المنتظم لنمط صيغة معينة ذا دلالة أيديولوجية. فعلى سبيل المثال، نشرت الصحيفة الشيوعية «ذا مورننج ستار» (21 أبريل 1980م) خبرا عن نقابة العاملين بهيئة التأمين الصحي، وكيف نظمت يوما للتظاهر، فصاغت الخبر صياغة توحي بفعل متعد وفاعل هو العمال الذين ينتمون لشمال إنجلترا (وتسميهم الصحيفة «الشماليين») يقول الخبر: «هاجم مئات من الشماليين البرلمان»، وكان من الممكن صياغة هذا الخبر صوغا «علائقيا» لا يبرز فيه قيام العمال بفعل متعد هذا البروز (على سبيل المثال: «اجتمع مئات الشماليين لتقديم مظلمة إلى البرلمان»).
كما يركز المدخل أيضا على أمر متصل بهذا، وهو عمليات «التحويل» النحوية، سواء نظرنا إليها باعتبارها تتفق مع ما يحدث في «الزمن الحقيقي» (مثل التحولات المرتبطة بتطور خبر عن حدث في إحدى الصحف على امتداد أيام متتالية، ومناقشته واردة في ترو 1979م) أو بصورة مجردة، أي إن المعنى الذي كان يمكن التعبير عنه بفعل وفاعل (وجه س انتقادا شديدا إلى ص) تعاد صياغته بأسلوب تحويلي فيما يسمى «الصوغ الاسمي» كقولك: (انتقاد «س» ل «ص» شديد) (أو «كان شديدا»). والصوغ الاسمي يعني تحويل جملة من فعل وفاعل إلى جملة اسمية أو إلى أسماء، والتحويل هنا يستبدل الاسم (انتقاد) بالتركيب الفعلي الأصلي «وجه انتقادا» (أو «انتقد» في الواقع). ومن أشكال التحويل الأخرى البناء للمجهول، أي تحويل المبني للمعلوم إلى مبني للمجهول حتى ولو ذكرت الفاعل في آخر العبارة (انظر مثلا العنوان التالي «المتظاهرون تطلق عليهم النار (من جانب الشرطة)» بدلا من «الشرطة تطلق النار على المتظاهرين»). وقد ترتبط أمثال هذه التحويلات بمعالم ذات دلالة أيديولوجية في النصوص، مثل التعمية المنتظمة للفاعل، فهذا وذاك يسمحان بحذف فاعل الجملة.
ويركز المدخل كذلك على جوانب معينة من نحو الجملة تتصل بالمعاني الخاصة بالعلاقات ما بين الأشخاص، أي التركيز على طرائق الإشارة إلى العلاقات الاجتماعية والهويات الاجتماعية في الجملة، وهذا يسمى نحو النوعية (الخاص بالأسلوب الإنشائي في اللغة العربية والأفعال «الناقصة») (انظر الفصل الخامس حيث الأمثلة والمناقشة). ويقوم المدخل إلى المفردات على افتراض أن الطرائق المختلفة لاستخدام ألفاظ معينة لمجالات المعنى قد تتضمن نظما للتصنيف، تتسم بالاختلاف الأيديولوجي، ومن ثم مصدر اهتمامنا بالنظر في كيفية إعادة تناول مجالات الخبرة بألفاظ مختلفة تستند إلى مبادئ مختلفة للتصنيف، على نحو ما يحدث مثلا في غمار الكفاح السياسي (انظر الفصل السادس للمزيد من التفاصيل).
وتركز اللغويات النقدية عادة تركيزا أكبر مما ينبغي على النص باعتباره منتجا، وتركيزا أقل مما ينبغي على عمليتي إنتاج النص وتفسيره، فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من أن هدف اللغويات النقدية يتمثل - فيما يقال - في
التفسير
النقدي للنصوص، فإن هذا المدخل لا يكاد يهتم بعمليات التفسير ومشكلاته، سواء تلك الخاصة بالمحلل/المفسر، أو تلك الخاصة بالمشارك/المفسر، وهكذا نلاحظ في التفسير أن العلاقة بين المعالم النصية والمعاني الاجتماعية عادة ما تصور في صورة العلاقات المباشرة والشفافة، وعلى الرغم من تأكيد «عدم وجود ارتباط يمكن التنبؤ به بين أي شكل لغوي وأي معنى اجتماعي محدد على أساس مقابلات فردية» (فاولر وآخرون 1979م، 198)، فإن القيم تنسب، في الواقع، إلى أبنية معينة (مثل الجمل المبنية للمجهول التي لا فاعل فيها) بطريقة آلية إلى حد ما، ولكن النصوص قد تكون متاحة لتفسيرات مختلفة، استنادا إلى السياق وإلى المفسر، وهو ما يعني أن المعاني الاجتماعية (بما في ذلك الأيديولوجيات) داخل الخطاب من الممكن استنباطها ببساطة من النص من دون النظر في الأنساق وضروب التنوع في توزيع النص واستهلاكه وتفسيره اجتماعيا. وربما تكون «الأيديولوجيا قائمة في اللغة ومعتادة فيها في عيني القارئ الراضي بها وغير المنتقد لها» (فاولر وآخرون 1979م، 190)، ولكن القراء كثيرا ما يكونون نقادا، وما إن تثبت اللغويات النقدية وجود معان أيديولوجية للنص حتى تميل إلى التسليم بآثارها الأيديولوجية.
ومن أوجه القصور الأخرى في اللغويات النقدية أنها تؤكد من جانب واحد آثار الخطاب في إعادة الإنتاج الاجتماعي للعلاقات والمباني الاجتماعية القائمة، وتتجاهل في مقابل ذلك كون الخطاب ساحة تجري فيها ضروب الصراع الاجتماعي، والتغير في الخطاب باعتباره بعدا من أبعاد التغير الاجتماعي والثقافي الواسع النطاق، وليس هذا منفصلا عن تعليقاتي في الفقرة الأخيرة: أي إن التفسير عملية إيجابية فعالة والمعاني التي تصل إليها تعتمد على الموارد المستخدمة والموقع الاجتماعي للمفسر، ولن يستطيع المرء أن يقول إن النصوص تحدث آثارا أيديولوجية في متلق سلبي إلا إذا تجاهل هذه العملية الدينامية. والقضية بصفة أعم هي النظرة إلى السلطة والأيديولوجيا في اللغويات النقدية باعتبارهما لا يتجهان إلا من القمة إلى القاعدة، وهو ما يتفق مع التأكيد الذي نجده أيضا في المدخل الألتوسيري الذي تتبناه جماعة بيشوه (الذي أناقشه أدناه) بشأن السكون أو الخمود الاجتماعي لا التغير، والمباني الاجتماعية لا الفعل الاجتماعي، وإعادة الإنتاج الاجتماعي لا التحول الاجتماعي، والحاجة قائمة إلى نظرية اجتماعية للخطاب تقوم على إعادة تقييم هذه الثنائيات باعتبارها أقطابا في علاقات توتر، لا أن نختار واحدا من كل ثنائية ونرفض الآخر كأنهما هما متنافيان، أي لا يجتمعان.
وتعليقي الختامي أن اللغويات النقدية تنظر نظرة بالغة الضيق إلى التشابك بين اللغة والأيديولوجيا. ونقول أولا: إن في النصوص جوانب تختلف عن النحو والمفردات وقد تكون لها أهمية أيديولوجية، مثل البناء العام للنص باعتباره حجة أو قصة شاملة. وأقول ثانيا: إن اللغويات النقدية قد عالجت النص الفردي (المونولوج) المكتوب بصفة أساسية، ولم تقل إلا كلمات قليلة نسبيا عن الجوانب المهمة أيديولوجيا والخاصة بتنظيم الحوار المنطوق (مثل التناوب في الحديث) وإن كانت تتضمن بعض المناقشة للأبعاد التداولية للكلام الملفوظ، مثل معالم التأدب (انظر الفصل الخامس أدناه). وأقول ثالثا: إن الإهمال النسبي لعمليات التفسير أدى إلى التركيز الشديد على تحقيق الأيديولوجيات في النصوص، وأما ما تضعه اللغويات النقدية في الخلفية، فهو أن عمليات التفسير تدفع المفسرين إلى وضع افتراضات ليست في النص، وربما تكون لها طبيعة أيديولوجية (انظر الفصل الثاني حيث أضرب لها مثالا) (فيركلف، 1989م، ب، يتضمن مناقشة أوفى).
Página desconocida
وقد دأب بعض ممارسي اللغويات النقدية في الآونة الأخيرة على الإعراب عن انتقادهم للعمل السابق (كريس، 1989م، فاولر، 1988م، أ) بما في ذلك بعض الانتقادات التي ذكرتها آنفا، كما اتجه بعض أعضاء المجموعة إلى العمل الوثيق بوضع مدخل مختلف بعض الشيء (هودج وكريس، 1988م؛ كريس وثريد جولد، 1988م) وأطلقوا عليه «السيميوطيقا الاجتماعية». وتختلف هذه عن اللغويات النقدية في أنها تهتم بشتى أنواع النظم السيميوطيقية، ومن بينها اللغة، وكذلك بالتفاعل ما بين اللغة والسيميوطيقا البصرية. وهكذا غدا من شواغلها الرئيسية العمليات الخطابية الخاصة بإنتاج النص وتفسيره، كما اهتمت اهتماما سافرا بوضع نظرية اجتماعية للخطاب، تتسم بالتوجه إلى الكفاح والتغير التاريخي في الخطاب، ويتركز هذا في محاولة لوضع نظرية للنوع. (6) بيشوه
وضع ميشيل بيشوه وزملاؤه (بيشوه وآخرون، 1979م؛ بيشوه، 1982م) مدخلا نقديا لتحليل الخطاب، وهو يشبه اللغويات النقدية في محاولة الجمع بين نظرية اجتماعية للخطاب ومنهج للتحليل النصي، معتمدين أساسا على الخطاب السياسي المكتوب، وكانوا يربطون واعين بين بحوثهم وبين التطورات السياسية في فرنسا، وخصوصا العلاقة بين الحزبين الشيوعي والاشتراكي في السبعينيات والمقارنة بين خطابيهما السياسيين.
وكان المصدر الرئيسي لمدخل بيشوه في النظرة الاجتماعية نظرية الأيديولوجيا الماركسية عند ألتوسير (1971م)، وكان ألتوسير يؤكد الاستقلال النسبي للأيديولوجيا عن القاعدة الاقتصادية، وإسهام الأيديولوجيا الكبير في إعادة إنتاج العلاقات الاقتصادية أو تغييرها، كما كان يقول: إن الأيديولوجيا أبعد ما تكون عن «الأفكار» المجردة، بل إن لها أشكالا مادية. وإلى جانب هذا فإن الأيديولوجيا تعمل من طريق تشكيل الأشخاص باعتبارهم ذواتا اجتماعية، وتثبيتهم في «مواقع» ذوات معينة، وإيهامهم في الوقت نفسه بأنهم أحرار، وتقع هذه العمليات داخل شتى المؤسسات والمنظمات، مثل التعليم أو الأسرة أو القانون، وهي في نظر ألتوسير تعمل باعتبارها أبعادا أيديولوجية للدولة، أو ما أطلق عليه «أجهزة الدولة الأيديولوجية».
ويتمثل إسهام بيشوه في هذه النظرية في إرساء فكرة اعتبار اللغة شكلا ماديا بالغ الأهمية من أشكال الأيديولوجيا، وهو يستخدم مصطلح «الخطاب» ليؤكد الطبيعة الأيديولوجية لاستعمال اللغة، قائلا: إن الخطاب «يبين آثار الصراع الأيديولوجي داخل عمل اللغة، وعلى الجانب المقابل وجود الطابع المادي للغة داخل الأيديولوجيا » (بيشوه، مقتطف في كورتين، 1981م)، ويمكن تصور أحد أجهزة الدولة الأيديولوجية باعتباره مركبا من «تشكيلات أيديولوجية» متداخلة العلاقات، وكل منها يتفق عموما مع موقع طبقي داخل هذا الجهاز. ويقول بيشوه: إن كل موقع من هذه المواقع يتضمن «تشكيلا خطابيا»، وهو المصطلح الذي استعاره من فوكوه. والتشكيل الخطابي هو «الذي يستطيع في إطار أي تشكيل أيديولوجي ... أن يحدد «ما يمكن وما ينبغي أن يقال» » (بيشوه 1982م، 111، والتأكيد في الأصل). وفهم هذا الكلام يتعلق بالدلالات المحددة للألفاظ: فالكلمات يتغير معناها وفقا لمواقع الذين «يستخدمونها»، (بيشوه وآخرون 1979، 33) أضف إلى هذا أنه على الرغم من أن تشكيلين خطابيين مختلفين قد يشتركان في كلمات أو تعبيرات معينة فيهما، فإن العلاقات بين هذه وبين الكلمات أو التعبيرات الأخرى سوف تختلف ما بين الحالتين، وينطبق ذلك على معاني هذه الكلمات والتعبيرات المشتركة؛ لأن علاقتها بغيرها هي التي تحدد معناها. فعلى سبيل المثال نجد أن كلمة «مناضل» تعني أشياء متعددة كثيرة في خطاب النقابات (حيث قد تكون مرادفا للناشط، وعكس معنى «الخامل») وفي خطاب اليمين المحافظ (حيث يمكن أن تكون مرادفا ل «المخرب» وعكس معنى «المعتدل»). يضاف إلى هذا أن الذوات الاجتماعية تتشكل في علاقتها بتشكيلات خطابية معينة ومعانيها الخاصة؛ وهذه التشكيلات الخطابية، حسبما يقول بيشوه واجهات لغوية «ل «مجالات فكرية» ... تكونت على أسس اجتماعية تاريخية في صورة نقاط تحقيق الاستقرار، إذ تنتج الذات وفي الوقت نفسه
تنتج في صحبته
ما سوف يرى ويفهم ويفعل ويخاف ويتمنى» (بيشوه 1982م، 112-13، التأكيد في الأصل).
وتقع التشكيلات الخطابية داخل مركبات من عدد من التشكيلات الخطابية المترابطة، تسمى المركب الخطابي، وتتحدد المعاني الخاصة بكل تشكيل خطابي «من الخارج»، أي من خلال علاقته بغيره داخل المركب الخطابي. و«الحالة» الخاصة للمركب الخطابي في أي وقت معين (أي ما التشكيلات الخطابية التي يحتويها وما العلاقات بينهما)، تعتمد على حالة الصراع الأيديولوجي داخل أجهزة الدولة الأيديولوجية، ولكن هذا التحديد الخارجي للتشكيلات الخطابية أمر لا تتمتع الذوات في العادة بالوعي به، فالذوات يميلون إلى أن يتصوروا خطأ أنهم هم أنفسهم مصدر معاني التشكيل الخطابي، وإن كانوا في الحقيقة من نواتجه. ويشير بيشوه إلى عناصر جاهزة سابقة البناء تتردد وتدور بين التشكيلات الخطابية، ويظن الناس أنها تعبر عن «الواقع»، أو عما هو معروف، أو ما سبق أن قاله المشاركون، في حين أن هذه عناصر نشأت في الواقع خارج الذوات، أي داخل المركب الخطابي. ومن الأمثلة تعبيرات مثل «ارتفاع مستويات المعيشة بعد الحرب»، أو «التهديد السوفييتي»، وهي تنتقل من تشكيل خطابي إلى آخر، باعتبارها تعبيرات جاهزة، مع افتراضاتها السابقة (أي إن ارتفاع مستويات المعيشة قد حدث، وأنه يوجد تهديد).
ولكننا نواجه تمييزا مهما يقول: إن الذوات لا يقبلون التشكيل الخطابي قبولا تاما في كل حالة، فقد يقيم بعضهم مسافة تفصله عنهم باستعمال ما يسمى «التمييز الميتاخطابي» (انظر الفصل الرابع) مثل الإشارة إليه مسبوقا بصفة «المزعوم» أو بعبارة «ما يسمى كذا»، أو بتجهيله. وهذا التمييز الذي يحول دون القبول الكامل أي «التماهي»، يطلق عليه بيشوه تعبير «التماهي المضاد»، ويعني به الابتعاد عن الممارسات القائمة من دون إحلال ممارسات جديدة في محلها. وأما إذا حدث هذا الإحلال فسوف ينشأ لدينا ما يسمى «نقض التماهي» وهو موقف اختلاف جذري تجري فيه «الإطاحة بمركب التشكيلات الأيديولوجية وإعادة ترتيبها (مع التشكيلات الخطابية المتداخلة معها)» (بيشوه 1982م، 189)، ولكن بيشوه يرى إمكان الارتباط الخاص بين نقض التماهي وبين النظرية والممارسة الثورية للماركسية اللينينية في الشكل التنظيمي للحزب الشيوعي.
ويسمى منهج التحليل «التحليل التلقائي للخطاب» لأن للإجراءات جانبا يتولاه الحاسوب لتحديد التشكيلات الخطابية في مجموعة مختزنة من النصوص. ويقول بيشوه وآخرون (1979م، 33): إن تكوين «الكوربوس» (النصوص المختزنة) في ذاته يجسد «الافتراض القائل بوجود تشكيل خطابي واحد أو أكثر» مهيمن على النصوص التي يتكون منها، ويضيف بيشوه وزملاؤه: إن مثل هذا الافتراض ينبغي أن يصدر من المباحث العلمية المتخصصة، مثل التاريخ أو علم الاجتماع، لا من محللي الخطاب أنفسهم، لتجنب الدوران في حلقات، إذ إن تجميع الكوربوس على أساس افتراض ما، يعني فرض التجانس على هذه النصوص، كما يزداد تجانس الكوربوس باستبعاد بعض الأجزاء النصية التي تختلف «ظروف إنتاجها» (وتختلف من ثم التشكيلات الخطابية المهيمنة فيها) عن النصوص الرئيسية.
وأول إجراء من هذه الإجراءات هو التحليل اللغوي للنص بتقسيمه إلى جمل بسيطة، باستخدام الإجراءات «التحويلية» التي وضعها عالم اللغة زليج هاريس (1963م). على سبيل المثال: «إنني آسف لرحيلها» يمكن تحليلها بتقسيمها إلى جملتين بسيطتين هما: «إنني آسف» «(لأنها) رحلت». وبعد ذلك توضع رسوم بيانية تبين أنواع العلاقات بين هذه الجمل البسيطة (التنسيق، التبعية، الاستكمال ... إلخ). ويجري بعد ذلك تطبيق إجراءات حاسوبية أخرى لتحديد الكلمات والعبارات التي ترتبط بعلاقة «استبدالية»، بمعنى أنها يمكن أن تأتي في المواقع نفسها في الجمل البسيطة ذات البناء النحوي المماثل، والتي تتشابه في علاقتها بالجمل البسيطة الأخرى. فعلى سبيل المثال ترتبط الكلمتان «المناضلون» و«المخربون» بعلاقة استبدالية في الجملتين التاليتين: «علينا أن ننتبه للمناضلين الذين يعطلون الصناعة»، و«يجب أن تحذر الأمة من المخربين الذين يقوضون مؤسساتنا». وعندما تنشأ علاقة استبدالية في أحد النصوص بين كلمات أو تعبيرات معينة، تنشأ علاقات دلالية بينها، مثل علاقة الترادف («أ» يفيد «ب»، و«ب» يفيد «أ») أو علاقة الإيحاء المضمر («أ» توحي ب «ب»)، ولكن «ب» لا توحي ب «أ»، ومن المحتمل أن يكون ذلك سمة مميزة للتشكيل الخطابي الذي يرتبط به النص. وتركز الإجراءات على «كلمات أساسية» معينة، كلمات ذات قيمة اجتماعية استثنائية أو دلالة سياسية (مثل كلمة «الكفاح» في الخطاب السياسي) (ولمن يريد المزيد من الوصف التفصيلي لمنهج التحليل أن يرجع إلى مينجينو 1976م، وطومسون 1984م، 238-47)، وأخيرا لا بد من تفسير نتائج الإجراءات التحليلية، وإن كانت المشاكل المرتبطة بالتحليل لا تكاد تحظى بأي اهتمام، ويبدو أن المنهج كله مخصص لحالة واحدة.
Página desconocida
وترجع قوة مدخل بيشوه، وسبب اعتباره مدخلا نقديا، إلى أنه يقرن نظرية ماركسية للخطاب بالمناهج اللغوية للتحليل النصي. ومع ذلك فإن معالجته للنصوص غير مرضية. فكما ذكرت آنفا، يؤدي بناء الكوربوس إلى فرض التجانس على النصوص قبل تحليلها، (كورتين وماراندين، 1981م، 22-23) وتطبيق الإجراءات التحويلية في تحليل النصوص وتقسيمها إلى جمل بسيطة يؤدي إلى طمس المعالم المميزة للتنظيم النصي. أضف إلى ذلك أن هذه الإجراءات تسمح بالتركيز على أجزاء مختارة من النصوص، وهو ما يعني أن التحليل سوف ينصب على الجمل في الواقع لا على النصوص. كما أن النصوص تعامل معاملة النواتج، على نحو ما يعاملها ممارسو اللغويات النقدية، وأما العمليات الخطابية الخاصة بإنتاج النصوص وتفسيرها فلا تكاد تحظى بأي اهتمام. كما يجري تحليلها من زاوية دلالية ضيقة (وهو الانتقاد الذي وجهته أيضا إلى بوتر ووذريل) مع التركيز المحدد سلفا على «الكلمات الأساسية»، وهذا يعني الاهتمام بالأبعاد الفكرية للمعنى فقط، وإهمال أبعاد العلاقات بين الأشخاص وهي التي تتعلق بالعلاقات الاجتماعية والهويات الاجتماعية، وتجاهل خصائص معنى المقولات المنطوقة في سياقها، في سبيل تحديد المعنى التجريدي للعلاقات. وهكذا فإن هذا المدخل يتجاهل جوانب كثيرة من شكل النصوص وتنظيمها وهي التي تهتم بها المداخل الأخرى، والخلاصة أن المحلل لا يحاول معالجة العناصر المميزة للنص ول «الحادث الخطابي»، بل يتناول النصوص بصفتها أدلة على صحة افتراضات مسبقة عن التشكيلات الخطابية، ونلاحظ وجود اتجاه مماثل في النظرية الألتوسيرية للمبالغة في تأكيد إعادة الإنتاج - بمعنى وصف مواقع الذوات داخل تشكيلات معينة وكيفية ضمان السيطرة الأيديولوجية - على حساب التغيير، أي كيف يمكن للذوات الطعن في السيطرة والتشكيل القائم وإعادة هيكلته تدريجيا من خلال ممارستهم. وسبق لي أن قلت بوجود تأكيد مماثل في اللغويات النقدية، وهكذا فإن مدخل بيشوه يقوم على نظرة من جانب واحد للذات في موقعها، وباعتبارها ناتجا، وتجاهل قدرة الذوات على العمل باعتبارهم قوى فاعلة. وأما نظرية «نقض التماهي» باعتبارها تمثل التغيير الذي يتولد خارج الذات من خلال ممارسة سياسية معينة، فإنها بديل غير محتمل الوقوع لبناء إمكانية تغيير نظرة المرء إلى الخطاب وإلى الذات.
وأما تحليل الخطاب على أيدي «الجيل الثاني» في إطار تقاليد بيشوه، فقد أدى إلى تغيير المنهج بطرائق جوهرية، وكان ذلك راجعا في جانب منه إلى الانتقادات الموجهة إليه، وراجعا في جانب آخر إلى تأثير التغيرات السياسية في فرنسا (مالديديه، 1984م، 11-14)، وأكدت بعض دراسات الخطاب السياسي (مثل كورتين، 1981م) استراتيجيات التحالف الخطابية، ووجود مجموعات من تشكيلات خطابية مختلفة تؤدي إلى جعل الخطاب حافلا بالعناصر المتباينة وغامضا، ولكن هذه الخصائص يصعب استيعابها في الرؤية السابقة التي تقول بأن التشكيلات الخطابية متجانسة صلبة وترتبط بعلاقات تعارض ثابتة ساكنة. وقد وصف الخطاب بعد ذلك بأنه يتميز في تكوينه بالتباين الداخلي (أوتييه، ريفي 1982م)، وأن من مقوماته عناصر «حوارية» و«تناصية» من نوع ينتمي إلى تقاليد نظرية مختلفة (انظر باختين، 1981م، وكريستيفا، 1986م، أ؛ والفصل الثالث في هذا الكتاب)، كما بدأ النظر إلى البحوث السابقة من الزاوية التي انتقدته منها عاليه، أي باعتباره إجراءات ترمي إلى فرض التجانس، وأصبح ينظر إلى المركب الخطابي باعتباره «عملية إعادة هيكلة مستمرة»، حيث يتسم تحديد أي تشكيل خطابي بأنه «غير ثابت أساسا، فليس بالحدود الدائمة التي تفصل ما بين الداخل والخارج، ولكنه جبهة تتلاقى فيها تشكيلات خطابية مختلفة، وهي جبهة حدودية تتغير وفقا لما يدور حوله الصراع الأيديولوجي» (كورتين، 1981م، 24). ونظرا لتعدد العناصر التي يتكون منها الخطاب، فلا بد أن تظل أقسام معينة من النص تحمل أكثر من وجه للمعنى، وهو ما يواجه المفسر بأسئلة حول التشكيلات الخطابية التي يراها أقرب في نظره إلى تفسيرها، وهكذا، كما قال بيشوه في أحد أبحاثه الأخيرة (1988م)، يكتسب تحليل الخطاب طابع البحث التفسيري لا البحث الوصفي المباشر. ونلاحظ في الوقت نفسه التخلي عن «وهم المؤمن بالنظريات» الذي يقول: إن التحولات الجذرية للمركب الخطابي «يبررها وجود الماركسية/اللينينية» (بيشوه، 1983م، 32). وإزاء التركيز الجديد على «الحادث» الخطابي المعين، نشأت نظرة جدلية إلى الخطاب، وأصبحت إمكانية التحولات راسخة في طبيعة الخطاب المتباينة المتناقضة، ويقول بيشوه: «إن أي خطاب يمكن أن يعتبر علامة على الحركة داخل الانتماءات الاجتماعية التاريخية التي تستند إلى الهوية، وذلك في حدود اعتبار الخطاب، في الوقت نفسه، من ثمار هذه الانتماءات والعمل ... الخاص بالإزاحة داخل ساحتها» (بيشوه 1988م، 648) (والمقصود بالإزاحة أن الخطاب أزاح أحد الانتماءات وحل محلها).
الخاتمة
أود أن أختتم هذا الاستقصاء بالربط بين القضايا الرئيسية التي عرضت لها حتى الآن، في صورة عدد من المقولات التي يمكن اعتبارها «المطلوب» للمدخل النقدي السليم لتحليل الخطاب، وسوف يقدم ذلك صورة أولية للمدخل الذي أشرع في بنائه في الفصل الثالث، ويبين علاقته بما سبقت لي مناقشته، وسوف يساعد في الوقت نفسه على تحديد المجالات التي يظهر فيه ضعف وفجاجة تقاليد تحليل الخطاب ذات التوجه اللغوي التي استعرضتها في هذا الفصل، وهي التي تحتاج إلى التدعيم بالاستفادة من معالجة اللغة والخطاب في النظرية الاجتماعية. (1)
موضوع تحليل النصوص اللغوية، وهي تحلل من زاوية طبيعتها الخاصة (انظر بيشوه). يجب أن تضمن النصوص المختارة لتمثيل مجال معين من مجالات الممارسة تمثيل التنوع في شتى الممارسات (انظر سنكلير وكولتارد) وتجنب فرض التجانس عليها (انظر بيشوه). (2)
بالإضافة إلى كون النصوص «نواتج» لعمليتي إنتاج النصوص وتفسيرها، فإن هذه العمليات نفسها تخضع للتحليل (انظر سنكلير وكولتارد، واللغويات النقدية، وانظر المدخل إلى التحليل النقدي للخطاب في فان دييك (1988م) الذي يبدي اهتماما مفصلا بعمليات الخطاب). ينظر إلى التحليل نفسه باعتباره تفسيرا، ويسعى المحللون إلى إبداء الحساسية لميولهم التفسيرية والأسباب الاجتماعية لها (انظر سنكلير وكولتارد، وتحليل المحادثات، واللغويات النقدية). (3)
قد تتميز النصوص بتعدد عناصرها المتباينة وبالغموض، وقد يتطلب إنتاجها وتفسيرها الاستعانة بمجموعات من أنماط مختلفة من الخطاب (لابوف وفانشيل؛ انظر تحليل المحادثات، ومجموعة بيشوه من «الجيل الأول»). (4)
يدرس الخطاب تاريخيا وديناميا، من حيث تغير المجموعات من أنماط الخطاب في إنتاج الخطاب، ومن حيث ما يتجلى في هذا التغيير من تمثيل وتشكيل لعمليات تغيير اجتماعي أوسع نطاقا («الجيل الثاني» من مجموعة بيشوه، والسيميوطيقا الاجتماعية؛ وانظر لابوف وفانشيل، و«الجيل الأول» من مجموعة بيشوه، واللغويات النقدية). (5)
الخطاب بناء اجتماعيا (اللغويات النقدية، بيشوه، بوتر ووذريل)، إذ إنه يشكل الذوات الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، ونظم المعرفة والعقيدة، كما أن دراسة الخطاب تركز على آثاره الأيديولوجية البناءة (بيشوه، اللغويات النقدية، انظر لابوف وفانشيل). (6)
لا يقتصر اهتمام تحليل النصوص على علاقات السلطة في الخطاب (انظر تحليل المحادثة)، بل يبين أيضا كيف تقوم علاقات السلطة والصراع على السلطة بتشكيل الممارسات الخطابية في مجتمع ما أو مؤسسة ما وتغييرها (الجيل الثاني من مجموعة بيشوه؛ انظر المداخل غير النقدية، واللغويات النقدية). (7)
Página desconocida
يهتم تحليل الخطاب بعمله في التحويل الإبداعي للأيديولوجيات والممارسات، وكذلك عمله في ضمان إعادة إنتاجها (انظر بيشوه، واللغويات النقدية). (8)
تحلل النصوص من حيث التنوع الشديد في معالمها شكلا ومعنى (مثل خصائص الحوار، وبناء النص والمفردات والنحو أيضا) فيما يتعلق بالوظيفة الفكرية للغة ووظيفتها في العلاقات ما بين الأشخاص (انظر بوتر ووذريل، وبيشوه).
والذي أتصوره أن تحليل الخطاب يركز على التنوع والتغيير والصراع؛ فالتنوع في الممارسات وتنوع العناصر داخلها يعني أنها انعكاس معاصر لعمليات التغير التاريخي التي شكلها الصراع بين القوى الاجتماعية. وعلى الرغم من أن البنود 4 و5 و6 حظيت ببعض الدعم، خصوصا في إطار المداخل النقدية لتحليل الخطاب التي ناقشتها عاليه، فإن علينا أن نستعين بالنظرية الاجتماعية حتى نجد صورها الكاملة الناضجة الصريحة. ويقدم فوكوه نظرات ثاقبة قيمة فيها جميعا، كما سوف أقيم الحجة على ذلك في الفصل الثاني. ومع ذلك، فلا التقاليد النقدية في تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي، ولا فوكوه، يعالج البند السابع معالجة مرضية، ألا وهو الأسلوب الذي يسهم به الخطاب في إعادة إنتاج المجتمعات وفي تغييرها. وثنائية الخطاب المشار إليها تتمتع بأهمية أساسية في الإطار الذي أقدمه في الفصل الثالث، وتجاهلها في كتابات فوكوه ترتبط بضعف نظري ومنهجي كبير في عمله.
الفصل الثاني
ميشيل فوكوه وتحليل الخطاب
ألم تنجح ممارسة الخطاب الثوري والخطاب العلمي على امتداد المائتي عام الأخيرة في تحريرك من الفكرة التي تقول إن الألفاظ ريح، همس خارجي، رفرفة أجنحة يصعب على المرء سماعها في قضية التاريخ الخطيرة؟
ميشيل فوكوه، علم آثار المعرفة
كان لفوكوه تأثير هائل في العلوم الاجتماعية والإنسانيات، ومن الممكن أن يعزى شيوع مفهوم «الخطاب» وتحليل الخطاب باعتباره منهجا، في جانب منه، إلى هذا التأثير، ومن المهم أن نفحص عمله ببعض التفصيل لسببين؛ الأول أن علماء الاجتماع يشيرون على نطاق واسع إلى مدخل فوكوه إلى تحليل الخطاب باعتباره نموذجا، ولما كنت أدعو إلى مدخل مختلف لتحليل الخطاب في دراسات التغير الاجتماعي والثقافي، فلا بد من إيضاح العلاقة بين المدخلين. فالتضاد كبير هنا بين تحليل الخطاب ذي التوجه النصي (ومن ثم التوجه اللغوي) (وقد أشير إليه فيما يلي باسم «التحليل النصي» فقط) وهو مدخلي الخاص، وبين مدخل فوكوه التجريدي. كما إنني أحتاج إلى تقديم الأسباب التي تبرر ضرورة نظر علماء الاجتماع في استخدام «التحليل النصي»، وسوف أسوق الحجة في آخر الفصل على أنه يمكن أن يؤدي إلى تحليلات اجتماعية أفضل.
وأما السبب الثاني لتخصيص فصل عن فوكوه، فقد سبقت لي الإشارة إليه، ألا وهو أن بناء مدخل للتحليل الخطابي، سليم من الناحية النظرية ويمكن تطبيقه عمليا، يتطلب تركيبا يجمع بين تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي وبين النظرات الثاقبة التي أتت بها النظرية الاجتماعية الحديثة في اللغة والخطاب. وعمل فوكوه يسهم إسهاما مهما في بناء نظرية اجتماعية للخطاب في مجالات معينة مثل العلاقة بين الخطاب والسلطة، والبناء الخطابي للذوات الاجتماعية والمعرفة، والعمل الذي يؤديه الخطاب في التغيير الاجتماعي، وعلى نحو ما بينت في آخر الفصل الأول، نرى أن المداخل ذات التوجه اللغوي ضعيفة وغير ناضجة في هذه المجالات.
ومع ذلك، فلما كان مدخل فوكوه إلى الخطاب، والسياق الفكري الذي نشأ وتطور فيه، يختلفان اختلافا شاسعا عما يقابلهما في حالتي، فلا يستطيع المرء أن «يطبق» عمل فوكوه في تحليل الخطاب، فهذا يعنى، كما يقول كورتين، دعوة «منظور فوكوه إلى العمل» (1981م، 40) في إطار «التحليل النصي» ومحاولة تطبيق نظراته الثاقبة في مناهج التحليل الفعلية. كانت المكانة البارزة التي حظي بها الخطاب في أعمال فوكوه المبكرة نتيجة للمواقع التي اتخذها إزاء إجراء البحوث في العلوم الإنسانية، إذ اختار التركيز على ممارسات خطابية في محاولة لتجاوز الطريقين البديلين الكبيرين للبحث، واللذين كانا متاحين آنذاك للباحثين الاجتماعيين، وهما البنيوية والتفسيرية (الهرمانيوطيقا) (دريفوس ورابينوف 1982م، 13-23). أي إن فوكوه مهتم بالممارسات الخطابية باعتبارها تشكل المعرفة، وبشروط تحويل المعرفة المرتبطة بتشكيل خطابي معين إلى علم.
Página desconocida
وهذا السياق الفكري يساعد على إيضاح الفوارق الكبيرة بين تحليل الخطاب عند فوكوه وتحليل الخطاب ذي التوجه النصي. نقول أولا: إن فوكوه كان مهتما في بعض مراحل عمله بنوع بالغ الخصوصية من أنواع الخطاب، أي خطاب العلوم الإنسانية، مثل الطب، والطب النفسي، والاقتصاد والنحو، وأما تحليل الخطاب ذو التوجه النصي فإنه، على خلاف ذلك، يهتم بأي نوع من أنواع الخطاب، كالمحادثة، وخطاب قاعة الدرس، وخطاب أجهزة الإعلام وهلم جرا. وأقول ثانيا، كما سبق لي أن بينت: إن تحليل النصوص اللغوية المنطوقة والمكتوبة جانب أساسي من جوانب تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، ولكنه ليس جزءا من تحليل الخطاب عند فوكوه، إذ إنه يركز على ما يسمى «شروط إمكانية» الخطاب (روبين، 1973م، 83) وعلى «قواعد التكوين» التي تحدد ما يمكن أن يكون «موضوعا»، و«النوعيات التعبيرية»، و«الذوات» و«المفاهيم»، و«الاستراتيجيات» الخاصة بنمط معين من أنماط الخطاب (ويرد شرح هذه المصطلحات أدناه). ويركز فوكوه على مجالات المعرفة التي تشكلها هذه القواعد.
اقتطفت آنفا رأي كورتين الذي يقول: إن علينا دعوة «منظور فوكوه إلى العمل» في إطار تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، ولكن الإشارة إلى «منظور فوكوه» يمكن أن تكون مضللة، بسبب التحولات في عمل فوكوه من تأكيد شيء إلى تأكيد سواه (وهي موصوفة بوضوح في ديفيدسون، 1986م). ففي عمله المبكر الخاص ب «علم آثار المعرفة» نجده يركز على أنماط الخطاب (التشكيلات الخطابية، انظر أدناه) باعتبارها قواعد لتكوين مجالات المعرفة، وأما في دراساته الأخيرة عن «الأنساب»، فالتأكيد يتحول إلى العلاقات بين المعرفة والسلطة. وأما في أعمال فوكوه في سنواته الأخيرة، فإن اهتمامه يتحول إلى «الأخلاق» أي «كيف يفترض أن يشكل الفرد نفسه باعتباره ذاتا أخلاقية بأفعاله نفسها» رابينوف، 1984م، 352. وعلى الرغم من أن الخطاب يظل في دائرة اهتمامه دائما، فإن مكانة الخطاب تتغير، ويتغير ما يترتب على ذلك من موقعه بالنسبة للتحليل النصي.
وسوف أقدم في هذا الفصل أولا وصفا وتقييما لمفاهيم الخطاب في دراسات فوكوه «الأثرية» (خصوصا فوكوه، 1972م)، ثم أناقش كيف تغيرت مكانة الخطاب في عمل فوكوه الخاص بالأنساب (مركزا على فوكوه، 1979م، و1981م). والهدف الرئيسي في هذين القسمين تحديد عدد من المنظورات القيمة والنظرات الثاقبة في الخطاب واللغة في عمل فوكوه، وهي التي ينبغي أن تدرج في نظرية تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، وأن تطبق في منهجيته حيثما كان ذلك ملائما، ولكنني أختتم كلامي بمناقشة بعض نقاط الضعف في عمل فوكوه، وهي التي تحد من قيمته للتحليل النصي، وكيف يمكن للتحليل النصي أن يدعم التحليل الاجتماعي، بما في ذلك التحليل الاجتماعي في إطار التقاليد الفوكولتية. وإذن، فإن ما أقدمه يعتبر قراءة لفوكوه من وجهة نظر خاصة؛ وأما العروض والبحوث النقدية الأشمل والأكثر اتزانا، فإنها متاحة في كتب أخرى (مثل دريفوس ورابينوف، 1982م؛ وهوي، 1986م؛ وديوز، 1987م؛ وفريزر، 1989م). (1) أعمال فوكوه «الأثرية»
تتضمن الدراسات «الأثرية» المبكرة لفوكوه (وسوف أشير بصفة خاصة إلى فوكوه، 1982م) فكرتين نظريتين رئيسيتين عن الخطاب، وينبغي إدراجهما في تحليل الخطاب ذي التوجه النصي. أما الأولى فهي نظرية بنائية للخطاب، وتعني النظر إلى الخطاب باعتباره مكونا فعالا أو بانيا للمجتمع من شتى الأبعاد؛ فالخطاب يشكل موضوعات المعرفة، والذوات الاجتماعية، وأشكال «النفس»، والعلاقات الاجتماعية، والأطر النظرية. وأما الثانية فهي تأكيد الاعتماد المتبادل فيما بين ممارسات الخطاب لمجتمع من المجتمعات، أو مؤسسة من المؤسسات؛ فالنصوص دائما ما تنهل من غيرها من النصوص المعاصرة والسابقة تاريخيا، وتغيرها (وهي خصيصة يشار إليها بتعبير شائع هو «تناص» النصوص ، انظر الفصل الثالث)، كما أن أي نمط من أنماط الممارسة الخطابية يتولد من امتزاج نصوص أخرى معا، ويعتمد تحديده على علاقته بالنصوص الأخرى (وهو المنظور الذي أدركه بيشوه، وعبر عنه بما نسبه من أولوية ل «التركيب الخطابي» انظر الفصل الأول). وعلى الرغم من أن تركيز فوكوه (1972م) منصب على التشكيلات الخطابية للعلوم الإنسانية، فإن نظراته الثاقبة تنسحب على جميع أنماط الخطاب.
ما الذي يعنيه فوكوه ب «الخطاب» و«تحليل الخطاب» في أعماله «الأثرية»؟ إنه يرى أن تحليل الخطاب مختص بتحليل «الأقوال» (وهذه هي الترجمة المعتادة للكلمة الفرنسية
énoncés ؛ وهي ترجمة قد تكون مضللة إلى حد ما؛ إذ توحي بأن المقصود هو العبارات الخبرية، خلافا للأسئلة والأوامر والتهديدات وهلم جرا). وطبقا لإحدى الصياغات (فوكوه ، 1972م، 107-108) فإن تحليل الأقوال يمثل طريقة واحدة من عدد من الطرائق المستخدمة لتحليل «أشكال الأداء اللغوي». وأما الأخريات فهي: «التحليل المنطقي للمقولات، والتحليل النحوي للجمل، والتحليل السياقي أو النفساني للصيغ» والتحليل الخطابي للأقوال ليس بديلا عن هذه الأنماط الأخرى للتحليل، لكنه لا يمكن اختزاله فيها أيضا. ومن النتائج المترتبة على ذلك أن فوكوه يرى أن تحليل الخطاب لا تنبغي معادلته بالتحليل اللغوي، ولا معادلة الخطاب باللغة. فتحليل الخطاب لا يتعلق بتحديد أي الجمل «ممكنة» أو نحوية، بل بتحديد «التشكيلات الخطابية» المتغيرة من الزاوية الاجتماعية التاريخية (ويشار إليها أحيانا بصفة «الخطاب» وحسب)، ونظم القواعد التي تجعل من الممكن تكوين أقوال (عبارات/جمل) معينة دون غيرها في أماكن وأوقات ومواقع مؤسسية معينة. والواقع أن تصور التحليل اللغوي الذي يتوسل به فوكوه مرتبط بلحظة زمنية معينة (فوكوه، 1972م، وكان قد كتب في 1969م) وأنواع القواعد التي يستند إليها تماثل، فيما يبدو، ما كان الباحثون في علم اللغة الاجتماعي في السبعينيات قد انتهوا إلى تسميته «قواعد اللغويات الاجتماعية»، أي القواعد الاجتماعية لاستعمال اللغة. ومع ذلك، فإن منظور فوكوه يختلف اختلافا شاسعا عن أي منظور نجده في علم اللغة الاجتماعي؛ ويرجع جانب من هذا الاختلاف إلى عدم الاهتمام بالنصوص اللغوية المشار إليه آنفا .
ويتكون التشكيل الخطابي من «قواعد التشكيل» الخاصة بمجموعة الأقوال المعينة التي تنتمي إليه، وبصفة أخص قواعد تشكيل «الموضوعات»، وقواعد تشكيل «النوعيات التعبيرية»، و«مواقع الذات»، والقواعد الخاصة بتشكيل «المفاهيم»، والقواعد الخاصة بتشكيل «الاستراتيجيات» (فوكوه، 1972م، 31-39). وقواعد التشكيل المذكورة تكونها مركبات من عناصر سابقة، خطابية وغير خطابية (الأمثلة عليها أدناه) وعملية التعبير عن هذه العناصر وربطها معا تجعل الخطاب ممارسة اجتماعية (وفوكوه نفسه يستخدم تعبير «ممارسة خطابية»). وسوف أناقش كل نمط من أنماط هذه القواعد بالترتيب، مقدما ملخصا لموقف فوكوه، ومشيرا بإيجاز إلى إمكان أهميتها وما يترتب عليها لتحليل الخطاب. (2) تشكيل الموضوعات
تقول النظرة الأساسية فيما يتعلق بتكوين الموضوعات: إن «موضوعات» الخطاب تتكون وتتحول في الخطاب وفقا لقواعد تشكيل خطابي معين، لا أنها توجد بصورة مستقلة، ويشار إليها وحسب، أو يدور الحديث عنها في خطاب معين. وكلمة «موضوعات» يعني بها فوكوه موضوعات المعرفة، أي الكيانات التي تعترف بها مباحث أو علوم معينة داخل مجالات اهتمامها، وتتصدى لها باعتبارها أهدافا للبحوث (ويمكن التوسع في هذا المعنى من معاني الموضوعات، بحيث يتجاوز المباحث أو العلوم المنظمة شكليا ويشمل الكيانات المعترف بها في الحياة العادية). ويضرب فوكوه مثالا لتكوين «الجنون» باعتباره موضوعا من موضوعات خطاب الأمراض النفسية منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن؛ وقد نجد أمثلة أخرى مثل تكوين «الأمة» و«العرق» أو «الحرية» و«الإنجاز» (انظر كيت وأبركرومبي، 1990م) في الخطاب الإعلامي والسياسي المعاصر، أو مثل «معرفة القراءة والكتابة» في الخطاب التعليمي. ويقول فوكوه: «إن المرض النفسي كونه كل ما ذكر في جميع الأقوال التي وضعت له اسما، وقسمته، ووصفته، وشرحته ...» (1972م، 32)، أضف إلى ذلك أن الجنون ليس شيئا ثابتا، بل يخضع لتحولات مستمرة فيما بين التشكيلات الخطابية، وأيضا داخل أي تشكيل خطابي. ومعنى هذا أنه لا بد من تعريف التشكيل الخطابي بحيث يسمح بالتحول في موضوعاته. ويقول فوكوه: إن «وحدة الخطاب لا تستند إلى دوام أحد الموضوعات وتفرده، بل على المساحة التي تنشأ فيها شتى الموضوعات وتتحول باستمرار» (1972م، 32).
وأما ما يتسم بأهمية كبرى هنا بالنسبة لتحليل الخطاب فهو رؤية الخطاب باعتباره قوة بناءة، إذ يسهم في إنتاج وتحويل وإعادة إنتاج موضوعات الحياة الاجتماعية (والذوات أيضا، كما سوف نرى بعد هنيهة) في الحياة الاجتماعية. ويعني هذا أن الخطاب ذو علاقة فعالة بالواقع، وأن اللغة تدل على الواقع بمعنى أنها تبني المعاني له، وهو ما ينفي القول بأن الخطاب له علاقة سلبية بالواقع، وبأن اللغة تشير وحسب إلى الأشياء التي تعتبر قائمة في الواقع (من قبل الإحالة اللغوية إليها). وأما رؤية العلاقة بين اللغة والواقع باعتبارها إحالية وحسب، فهي الرؤية المفترضة سلفا، بصفة عامة، في علم اللغة وفي المداخل المبنية داخل علم اللغة إلى تحليل الخطاب.
ويعرف فوكوه «المساحة» التي يشير إليها هنا (في آخر الفقرة قبل الأخيرة) فيما يتعلق بأي تشكيل خطابي بأنها
Página desconocida
علاقة ؛ علاقة بين كيانات محددة من «المؤسسات، والعمليات الاقتصادية والاجتماعية، والأنساق السلوكية، ونظم المعايير، والتقنيات، وأنماط التصنيف، وأنواع التوصيف» (1972م، 45)؛ وهي علاقة تشكل قواعد تكوين الموضوعات. وفي صدد الحديث عن المثال الذي ضربه فوكوه من المرض النفسي، يقول:
إذا كنا قد شهدنا في فترة معينة من تاريخ مجتمعنا معاملة علماء النفس والطب النفسي للمنحرف، وإذا كان السلوك الإجرامي قادرا على إيجاد سلسلة كاملة من موضوعات المعرفة (مثل القتل، والانتحار، والجرائم العاطفية، والجرائم الجنسية، وأشكال معينة من السرقة والتشرد)، فإنما كان ذلك راجعا إلى استعمال مجموعة من العلاقات الخاصة في خطاب الطب النفسي، مثل العلاقة بين مستويات التحديد للفئات العقابية ودرجات تخفيف المسئولية، ومستويات التشخيص السيكولوجي (أنواع الإمكانيات، والاستعداد النفسي، ودرجات التطور أو الانطواء، والطرائق المختلفة للتجاوب مع البيئة، وأنماط الشخصية، مكتسبة كانت أو وراثية)، والعلاقة بين سلطة القرار الطبي وسلطة القرار القضائي، والعلاقة بين «المصفاة» التي يشكلها التحقيق القضائي، والمعلومات الشرطية، والتحريات، والآلة الكاملة للمعلومات القضائية، و«المصفاة» التي يشكلها الاستجواب الطبي، والفحوص الإكلينيكية، والبحث في السوابق، والتوصيف البيولوجي. والعلاقة بين الأسرة والمعايير الجنسية والعقابية لسلوك الأفراد، وجدول الأعراض المرضية، والأمراض التي تدل عليها، والعلاقة بين الاحتجاز العلاجي في المستشفى ... والحبس العقابي في السجن. (1972م، 43-44)
يقول فوكوه هنا: إن أي تشكيل خطابي يكون موضوعات معينة بطرائق تمثل تقييدا صارما لها، وإن القيود المفروضة على ما يحدث «داخل» ذلك التشكيل الخطابي ناجمة عن العلاقات الخاصة بالمركب الخطابي فيما بين التشكيلات الخطابية، والعلاقات بين الممارسات الخطابية وغير الخطابية التي يتكون منها التشكيل الخطابي. وتأكيد فوكوه للعلاقات الخاصة بالمركب الخطابي تترتب عليه نتائج مهمة لتحليل الخطاب، ما دام يضع في مركز برنامج العمل البحث في بناء التشكيلات الخطابية أو ترابطها من حيث علاقة بعضها بالبعض داخل ما سوف أطلق عليه اسما يمثل مصطلحا عند فوكوه، وهو «نظم الخطاب» المؤسسي والمجتمعي، وأعني به مجموع الممارسات الخطابية داخل مؤسسة أو مجتمع، والعلاقات بينها (انظر فيركلف، 1989م، أ ص29). والرأي القائل بأن ترابط نظم الخطاب عامل حاسم في تكوين أي تشكيل خطابي، وينبغي من ثم أن يكون من نقاط التركيز الرئيسية في تحليل الخطاب رأي يعبر عنه بيشوه بطرائق مختلفة في أعماله (في مفهومه ل «المركب الخطابي»، انظر الفصل الثاني أعلاه) وبرنشتاين (1982م) ولاكلاو وموف (1985م). (3) تكوين نوعيات تعبيرية
تقول القضية الرئيسية التي يطرحها فوكوه فيما يتعلق بتكوين «النوعيات التعبيرية» إن الذات الاجتماعية أو الشخص الذي يقول قولا ليس كيانا له وجود خارج الخطاب وليس مستقلا عنه، باعتباره مصدر ذلك القول (أي مؤلفه)، ولكنه على العكس من ذلك دالة من دوال القول نفسه. ومعنى هذا أن الأقوال تضع الذوات أو الأشخاص - من تصدر منهم ومن توجه إليهم أيضا - في مواقع محددة، حتى «إن وصف القول من حيث إنه قول لا يتمثل في تحليل العلاقة بين المؤلف وبين ما يقوله (أو بين ما كان يريد قوله، أو ما قاله دون أن يريد ذلك)؛ ولكن في تحديد الموقع الذي يمكن، بل لا بد أن يشغله أي فرد إن كان له أن يصبح الذات التي تقول هذا القول» (1972م، 95-96).
ويشرح فوكوه هذه النظرة إلى العلاقة بين الذات والقول من خلال تحديد طابع التشكيلات الخطابية قائلا: إنها تتكون من تكوينات معينة من النوعيات التعبيرية. أما هذه النوعيات التعبيرية فهي أنماط من النشاط الخطابي، مثل الوصف، وتشكيل الفروض، وصياغة اللوائح القانونية، والتعليم وهلم جرا، ويرتبط بكل منها موقع خاص من مواقع الذات. وهكذا، فإن التعليم، على سبيل المثال، باعتباره نشاطا خطابيا، يضع المشاركين فيه في موقعي المعلم والمتعلم. وكما هو الحال بالنسبة ل «الموضوعات» نجد أن قواعد تكوين النوعيات التعبيرية تضعها مجموعة معقدة من العلاقات من أجل تشكيل خطابي محدد، ويلخصها فوكوه بالنسبة للخطاب الإكلينيكي قائلا:
إذا كان الطبيب يقوم في الخطاب الإكلينيكي بعدة أدوار متوالية، كدور السيد الذي يطرح الأسئلة المباشرة، ودور العين الملاحظة، والإصبع الذي يلمس، والجهاز الذي يفسر العلامات، والمركز الذي تندمج فيه الأوصاف التي سبقت صياغتها، والعامل التقني في المختبر، فذلك لأن الحالة تتضمن مجموعة كاملة من العلاقات، بين عدد من العناصر المتميزة، بعضها كان يتعلق بمكانة الأطباء، وبعضها يتعلق بالموقع المؤسسي والتقني، (مستشفى، مختبر، عيادة خاصة ... إلخ) ومنها كانوا يتكلمون، ويشغل آخرون مواقعهم باعتبارهم ذوات تدرك وتلاحظ وتصف وتعلم ... إلخ. (1972م، 53)
ويتميز هذا الإفصاح عن النوعيات التعبيرية بأنه محدد تاريخيا، وخاضع للتغير التاريخي، والانتباه إلى الظروف التاريخية التي تتحول هذه فيها، وإلى الآليات التي تحولها، يمثل جانبا مهما من جوانب البحث في التغير الخطابي في علاقته بالتغير الاجتماعي (انظر الفصل الثالث والفصل السابع أدناه). وفوكوه لا يفترض وجود «ذات طبية» تحقق الترابط بين هذه النوعيات التعبيرية ومواقع الذوات المختلفة، وتعتبر عامل توحيد بينها، ولكنه يقول: إن هذه النوعيات والمواقع المتباينة تمثل بعثرة للذات وتشظيها. أو بعبارة أخرى، يقول: إن الطبيب يتكون من تركيب من النوعيات التعبيرية ومواقع الذوات التي تظل قائمة بفضل القواعد الحالية للخطاب الطبي. ويعتبر عمل فوكوه إسهاما رئيسيا في نقض مركزية الذات الاجتماعية في النظريات الاجتماعية الحديثة (انظر هنريك، وآخرون، 1984م). وفي إثبات الرأي الذي يقول: إن الذات تتكون ويعاد إنتاجها، وتتحول من خلال الممارسة الاجتماعية وفي داخلها. وكذلك الرأي الذي يقول: إن الذات مفتتة.
وأما ما له دلالة خاصة في السياق الحالي فهو أن فوكوه ينسب دورا رئيسيا إلى الخطاب في تكوين الذات الاجتماعية، ويترتب على هذا أن قضايا الذاتية، والهوية الاجتماعية، ومسألة «النفس» ينبغي أن تشغل موقعا رئيسيا في نظريات الخطاب واللغة، وفي التحليل الخطابي واللغوي، ولكنها في الحقيقة لم تلق إلا اهتماما بالغ الضآلة في التيار الرئيسي لعلم اللغة، أو تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي والنصي، أو علم اللغة الاجتماعي أو التداولية اللغوية. فإن هذه المباحث الأكاديمية قد اعتنقت، على الدوام تقريبا، النظرة إلى الذات الاجتماعية باعتبارها سابقة على المجتمع، وهي النظرة التي رفضت على نطاق واسع في المناظرات الحديثة حول الذاتية. وطبقا لهذه النظرة، يشترك الناس في الممارسة الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي بهويات اجتماعية سبق تشكيلها وتؤثر في ممارستهم، ولكنها لا تتأثر بها. وأما من حيث اللغة فالباحثون يسلمون على نطاق واسع في هذه المجالات البحثية بأن الهوية الاجتماعية للشخص تؤثر في طريقة استخدامه للغة، من دون الإشارة تقريبا إلى أن استخدام اللغة - أي الممارسات الخطابية - يؤثر في الهوية الاجتماعية أو يشكلها. وهكذا، فإن الذاتية والهوية الاجتماعية تعتبران قضايا هامشية في الدراسات اللغوية، ولا تتجاوز عموما نظريات «التعبير» و«المعنى المعبر»: أي إن الهوية (الأصل الاجتماعي، كون المتحدث رجلا أو امرأة، والطبقة الاجتماعية، والمواقف الاجتماعية والعقائد وغيرها مما ينتمي إلى المتحدث) تجد «التعبير» عنها في الأشكال اللغوية والمعاني التي يختارها.
وأنا أعارض هذا - في اتخاذي موقف فوكوه - بإحلال مسألة آثار الممارسة الخطابية في الهوية الاجتماعية في صلب تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي نظريا ومنهجيا، وتترتب على هذه النظرة عواقب مهمة للقول بأن تحليل الخطاب منهج رئيسي من مناهج البحث الاجتماعي؛ إذ إن النظرية التعبيرية التي تقول بالذاتية في الخطاب تسمح بالنظر إلى الخطاب بصفته بعدا هامشيا للممارسة الاجتماعية، على عكس النظرية التكوينية (أي القائلة بأن الخطاب يشارك في تكوين الهوية الاجتماعية). ومع ذلك تبرز هنا تحفظات مهمة، فإن إصرار فوكوه على أن الذات نتاج للتشكيلات الخطابية تتسم بنكهة بنيوية قوية تستبعد الدور الاجتماعي الفعال بأي معنى ذي دلالة. وهذا غير مرض للأسباب التي سوف أعرضها في القسم الأخير، وأما الموقف من الخطاب والذاتية الذي أدعو إليه في الفصل الثالث فهو موقف جدلي، أي إنه يرى أن الذوات الاجتماعية تشكلها الممارسة الخطابية، ولكنها قادرة أيضا على إعادة تشكيل هذه الممارسات وإعادة بنائها. (4) تشكيل المفاهيم
يعني فوكوه بالمفاهيم: مجموعة الفئات والعناصر والأنماط التي يستخدمها مبحث من المباحث العلمية باعتبارها الجهاز الكفيل بالتعامل مع مجال اهتمامه؛ وهو يضرب مثالا من أن المبتدأ أو الفاعل والخبر والاسم والفعل والكلمة يمكن اعتبارها مفاهيم نحوية، ولكن التشكيل الخطابي هنا، شأنه شأن موقفه إزاء الموضوعات والنوعيات التعبيرية، لا يضع تعريفا لمجموعات «توحيدية» من المفاهيم الثابتة التي يرتبط بعضها بالبعض بعلاقات محددة بوضوح. فالصورة صورة تشكيلات متحركة من المفاهيم المتغيرة، ويقترح فوكوه أن يصبح المدخل إلى تشكيل المفاهيم في أحد التشكيلات الخطابية وصفا لكيفية تنظيم «مجال الأقوال» المرتبطة به، والذي «ظهرت» فيه المفاهيم و«شاعت». وتؤدي هذه الاستراتيجية إلى وصف حافل (1972م) لأنواع العلاقات الكثيرة المختلفة التي قد توجد داخل النصوص وفيما بينها. وهذا مفيد في وضع منظورات تقوم على التناص والمركبات الخطابية في تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، خصوصا لأن هذه المنظورات لم تلق إلا اهتماما ضئيلا في علم اللغة أو في تحليل الخطاب ذي التوجه اللغوي.
Página desconocida
وسوف نجد داخل «مجال الأقوال» الخاص بأي تشكيل خطابي علاقات ذات أبعاد شتى، ومن بينها العلاقة القائمة بين الأقوال الواردة في نص مفرد، مثل علاقات التتابع والتبعية. ويشير فوكوه إلى «شتى النظم البلاغية التي تربط ما بين مجموعات الأقوال (أي كيف ترتبط الأوصاف والاستنتاجات والتعريفات التي يحدد تتابعها بناء نص من النصوص)» بطرائق تعتمد على التشكيل الخطابي (1972م، 57). وقد بحثت أمثال هذه العلاقات الداخلية في النصوص في الآونة الأخيرة في إطار اللغويات النصية. ومن بين العلاقات الأخرى العلاقات ما بين خطاب وخطاب؛ إذ قد تتناول العلاقات القائمة بين التشكيلات الخطابية المختلفة أو بين النصوص المختلفة، ويمكن التمييز بينها استنادا إلى انتمائها، إما إلى «الحضور»، أو «الاقتران» أو «الذاكرة». ويعرف فوكوه مجال الحضور قائلا: إنه «جميع الأقوال التي صيغت في غير هذا المكان، وأدخلت في الخطاب، واعترف بأنها صادقة، أو تتسم بدقة الوصف، أو الاستدلال العقلاني السليم، أو القيام على الافتراضات السابقة اللازمة»، وكذلك الأقوال «التي انتقدت، أو نوقشت، أو بت في أمرها ... أو رفضت أو استبعدت» (ص57-58). سواء كان ذلك صراحة أو ضمنا. وأما مجال الاقتران فيتكون بصفة خاصة من أقوال من تشكيلات خطابية مختلفة، وترتبط بقضية العلاقات بين التشكيلات الخطابية. وأخيرا يتكون مجال الذاكرة من أقوال «لم تعد مقبولة أو تناقش»، ويمكن أن تقام بينها «علاقات النسب والنشأة، والتحويل، والاستمرار، والانقطاع التاريخي» (ص98-99). ويضيف فوكوه إلى هذه العلاقات ما يسميه «علاقة القول» إلى «كل التشكيلات التي يحدد القول إمكان وجودها في المستقبل»، ويشارك القول مكانتها (كأن تكون أدبا على سبيل المثال).
ويلخص فوكوه هذا المنظور في الزعم القائل بأنه «من المحال أن يوجد قول لا يعيد بصورة ما تمثيل ما جاء في أقوال أخرى» (1972م، 98). ويذكرنا ما يقوله عن العلاقات بين الأقوال بكتابات باختين عن النوع الأدبي والحوارية (1981م، 1986م) وهو ما قدمته كريستيفا إلى الجماهير الغربية بمفهوم التناص (1986م، أ، 37)، وكما ذكرت عاليه، يتخذ بيشوه منظورا مماثلا بأن يمنح الأولوية للمركب الخطابي في نظريته عن الخطاب. وعلى الرغم من أن تمييز فوكوه بين شتى أنماط العلاقة ليس واضحا على الدوام، فإن ما يقدمه هنا أساس للبحث المنتظم في العلاقات داخل النصوص وأنماط الخطاب وفيما بينها. وسوف أميز أنا بين «التناص» الذي يعني العلاقات بين النصوص، وبين «التداخل الخطابي» الذي يعني العلاقات بين التشكيلات الخطابية أو بتعبير أقل دقة بين الأنماط المختلفة للخطاب (انظر الفصل الرابع أدناه). ويتناول التداخل الخطابي للعلاقات فيما بين تشكيلات خطابية أخرى تمثل، طبقا لما يقوله فوكوه، قواعد التشكيل لأي تشكيل خطابي (انظر القسمين عاليه عن تشكيل الموضوعات والنوعيات التعبيرية).
ويقدم فوكوه، في مناقشاته للعلاقات القائمة داخل مجالات الأقوال (1972م، 97-98) بعض التعليقات القيمة عن فكرة «السياق»، وخصوصا كيف أن «سياق الحال» لقول ما (أي الحال الاجتماعي الذي يقع فيها) و«سياقه اللفظي» (أي موقعه بالنسبة للأقوال الأخرى التي تسبقه وتتلوه) يحدد الشكل الذي يتخذه، والطريقة التي يفسر بها. ومن المبادئ الشائعة في علم اللغة الاجتماعي أن الأقوال (أو «الملفوظات») تخضع لهذا المعيار، ولكن الملاحظة الإضافية المهمة التي يقدمها فوكوه هي أن العلاقة بين قول منطوق وسياقه اللفظي والحالي ليست علاقة شفافة؛ إذ تختلف كيفية تأثير السياق فيما يقال أو ما يكتب، وكيفية تفسير ذلك، من تشكيل خطابي إلى سواه. فعلى سبيل المثال نجد أن بعض جوانب الهوية الاجتماعية للمتحدث ككونه رجلا أو امرأة، وانتمائه العرقي، أو سنه، وهي التي من المحتمل أن تؤثر تأثيرا كبيرا في الأشكال والمعاني أثناء المحادثة، قد لا يكون لها تأثير يذكر في مؤتمر لعلماء البيولوجيا. وكذلك إذا جاء قول لأحد المشاركين مباشرة بعد سؤال طرحه آخر، فإن هذا التعاقب اللصيق قد يمثل دافعا إلى اعتبار هذا القول إجابة على السؤال في أثناء استجواب ما بأكثر مما يعتبر كذلك في محادثة عارضة. وإذن فالمرء لا يستطيع الاعتماد على «السياق» وحسب لشرح ما يقال أو يكتب أو أسلوب تفسيره، على نحو ما يفعله الكثير من اللغويين في علم اللغة الاجتماعي والتداولية، بل يجب على المرء أن يبتعد خطوة واحدة ليصل إلى التشكيل الخطابي، وترابط التشكيلات الخطابية في نظم الخطاب حتى يتمكن من شرح العلاقة بين السياق والنص والمعنى. (5) تشكيل الاستراتيجيات
تمثل قواعد التشكيل التي نوقشت إلى الآن مجال الفرص المتاحة لوضع النظريات والأفكار أو ما يسميه فوكوه «الاستراتيجيات»، وهي التي لا تتحقق كلها. وقواعد تشكيل الاستراتيجيات تحدد الفرص التي تتحقق، وهي تتكون من مزيج من قيود المركبات الخطابية، وغيرها من القيود غير الخطابية المفروضة على الاستراتيجيات الممكنة (1972م، 66-70). ويقول فوكوه مثلا: إن «الخطاب الاقتصادي في الفترة الكلاسيكية كان تعريفه يعتمد على طريقة دائمة معينة لإقامة علائق تربط إمكانات الانتظام داخليا في خطاب ما بغيره من ضروب الخطاب خارجه، وبمجال كامل غير خطابي من الممارسات، وصور الاستيلاء والمصالح والرغبات» (1972م، 69). لاحظ هنا تكرار الإشارة إلى علاقات المركبات الخطابية باعتبارها قيودا على أحد التشكيلات الخطابية، ويشير فوكوه إلى أن العلاقات التي يمكن أن تقوم بين ضروب الخطاب تتضمن القياس، والمعارضة، والتكامل، و«علاقات التحديد المتبادل» (ص67).
وتعتبر مناقشة القيود غير الخطابية هنا الإشارة التي اقترب فيها فوكوه في أعماله المبكرة أشد الاقتراب من الإقرار بإمكان خضوع الخطاب للتحكم فيه «من الخارج»، والموقف السائد تجاه العلاقة بين الممارسة الخطابية وغير الخطابية يبين في الواقع أن الأولى تتمتع بالتفوق على الأخيرة. ويشير فوكوه أولا إلى وظيفة الخطاب في الممارسات غير الخطابية، مثل «الوظيفة التي يقوم بها الخطاب الاقتصادي في ممارسة الرأسمالية الناشئة» (1972م، 69)، ثم يشير ثانيا إلى «قواعد وعمليات الاستيلاء» على الخطاب، بمعنى أن «الحق في الكلام» و«القدرة على الفهم»، وكذلك الحق في الاستفادة من «مخزون الأقوال التي سبقت صياغتها» أمور لا تتسم بالتوزيع العادل بين الفئات الاجتماعية (ص68)، ويشير ثالثا إلى «
مواقع الرغبة الممكنة فيما يتعلق بالخطاب ؛ فقد يكون الخطاب في الحقيقة مكانا للتمثيل الخيالي، وعنصرا للرمز، وشكلا من أشكال المحرمات، وأداة لاستقاء الإشباع» (ص68، التأكيد عند فوكوه).
ويربط فوكوه بين قواعد تشكيل الاستراتيجيات وبين الصبغة «المادية» للأقوال، والقيود غير الخطابية المشار إليها للتو تقيم علاقات بين الأقوال والمؤسسات. وقول فوكوه: إن الأقوال لها صبغة «مادية» لا يعني أنها تتمتع بخصيصة النطق بها في وقت محدد ومكان محدد، ولكنه يعني بها أنها تتمتع بمكانة محددة داخل ممارسات مؤسسية محددة. (6) من علم الآثار إلى الأنساب
سبق أن أشرت إلى تغير نقاط التركيز على امتداد عمل فوكوه، ويشغلني الآن انتقاله من الآثار إلى الأنساب، وما يترتب على ذلك بالنسبة لتصوير الخطاب عند فوكوه.
يقدم فوكوه الشرح المقتضب التالي للعلاقة بين علم الآثار وعلم الأنساب:
يجب أن تفهم «الحقيقة» على أنها نظام من الإجراءات المنظمة لإنتاج الأقوال وتنظيمها وتوزيعها ودورانها وتشغيلها.
Página desconocida
ترتبط «الحقيقة» بعلاقة دائرية بنظم السلطة التي تنتجها وتحافظ على بقائها، وبآثار السلطة التي تدفع إلى إنشائها وتوسع نطاقها. إنه «نظام حكم» الحقيقة (رابينوف، 1984م ، 74).
أرجو أن يرى القارئ في المقولة الأولى ملخصا لعلم الآثار الذي رسمت خطوطه العريضة عاليه، وأما المقولة الثانية فتبين بإيجاز تأثير علم الأنساب في علم الآثار، فهي تضيف السلطة، أو إذا استعرنا ألفاظ ديفيدسون قلنا: إن التركيز فيها ينصب على «العلاقات المتبادلة بين نظم الحقيقة وأشكال السلطة» (1986م، 224). والانتقال إلى علم الأنساب يمثل نقضا لمركزية الخطاب. فإذا كنا رأينا في فوكوه أولا (1972م) أنه ينسب إمكان فهم نظم المعرفة والحقيقة إلى قواعد الخطاب التي كان يراها مستقلة - بل إن العلاقة بين الممارسة غير الخطابية والممارسة الخطابية كانت تخضع في تنظيمها عنده، فيما يبدو، لهذه القواعد؛ فإن دراسة فوكوه الكبرى عن علم الأنساب، وعنوانها
التأديب والعقاب (1989م)، تضع الخطاب في موقع ثانوي بعد نظم السلطة.
ولكننا نرى، في الوقت نفسه، أن صورة طبيعة السلطة في المجتمعات الحديثة التي يرسمها فوكوه في دراساته للأنساب (انظر فريزر 1989م) تضع الخطاب واللغة في قلب الممارسات والعمليات الاجتماعية، ويرتبط طابع السلطة في المجتمعات الحديثة بمشاكل إدارة السكان، والسلطة مضمرة في الممارسات الاجتماعية اليومية الموزعة والمتغلغلة على جميع المستويات في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، ويشارك فيها الناس باستمرار؛ أضف إلى ذلك أنها «لا تصبح محتملة إلا إذا أخفت جانبا كبيرا منها، ويتناسب نجاحها تناسبا طرديا مع قدرتها على إخفاء آلياتها الخاصة» (1981م، 86) ولا تعمل السلطة بأسلوب سلبي من خلال السيطرة بالقوة على الخاضعين لها، بل إنها تشركهم معها وتعتبر «منتجة»، بمعنى أنها تشكلهم و«تعيد تجهيزهم» حتى يصبحوا صالحين لتلبية حاجاتها. والسلطة الحديثة لم تفرضها من عل قوى جماعية معينة (مثل الطبقات) على مجموعات أو أفراد؛ ولكنها تطورت ونمت «من أسفل»، من خلال تقنيات معينة «متناهية الصغر» (مثل «الاختبارات» بمعناها الطبي والتعليمي، انظر أدناه) وهي التي ظهرت في بعض المؤسسات مثل المستشفيات والسجون والمدارس في بداية الفترة الحديثة. وفي هذه التقنيات نرى علاقة مضمرة بين السلطة والمعرفة في المجتمع الحديث، فمن ناحية تنمو تقنيات السلطة وتتطور استنادا إلى المعرفة التي تولدها، كما هو الحال مثلا في العلوم الاجتماعية، ومن ناحية أخرى تهتم هذه التقنيات اهتماما بالغا بممارسة السلطة في غمار جمع المعلومات. وقد سك فوكوه مصطلحا هو «السلطة الحيوية» للإشارة إلى هذا الشكل الحديث من أشكال السلطة، وهو الذي بدأ الظهور منذ القرن السابع عشر، قائلا: «إن السلطة الحيوية جاءت بالحياة وآلياتها إلى عالم الحسابات الصريحة، وجعلت المعرفة/السلطة عاملا من عوامل تغيير الحياة البشرية» (1981م، 143).
وهذا التصور للسلطة يوحي بأن الخطاب واللغة ذواتا أهمية أساسية في العمليات الاجتماعية للمجتمع الحديث، فالممارسات والتقنيات التي يركز فوكوه عليها تركيزا شديدا - المقابلة الشخصية، جلسات إسداء المشورة وما إلى ذلك - ممارسات خطابية إلى حد بعيد. وهكذا فإن تحليل المؤسسات والمنظمات من حيث السلطة يقتضي فهم وتحليل ممارساتها الخطابية، ولكن نظرة فوكوه للسلطة لا تعني فحسب زيادة الانتباه إلى الخطاب في التحليل الاجتماعي، بل تعني كذلك زيادة الانتباه للسلطة في تحليل الخطاب، ولكن هذه الأسئلة الخاصة بالخطاب والسلطة لا تظهر في دراسات فوكوه الأثرية، ولا في مداخل تحليل الخطاب ذات التوجه اللغوي. وعلى نحو ما يشير شابيرو، نجد أن فوكوه «يرفع الرابطة بين اللغة والسياسة إلى مستوى رفيع من التجريد، وهو مستوى يسمح لنا بأن نتجاوز مبادلات السلطة المنعكسة في اللغة بين الأشخاص والجماعات حتى نقوم بتحليل المباني التي تكمن فيها» (1981م، 162).
وبعض هذه القضايا يثيرها فوكوه نفسه في دراسة (1984م) تستكشف شتى الإجراءات التي يسيطر بها المجتمع على الممارسات الخطابية ويفرض القيود عليها قائلا: «يخضع إنتاج الخطاب في كل مجتمع للسيطرة والاختيار والتنظيم وإعادة التوزيع في وقت واحد من خلال عدد معين من الإجراءات التي يتمثل دورها في تحاشي سلطاته وأخطاره، والتحكم في أحداثه العارضة، وتجنب طبيعته المادية الثقيلة الجبارة» (ص109). ومن بين «الإجراءات» التي يفحصها فوكوه فرض القيود على ما يمكن أن يقال، وعلى من يقوله، وعلى المناسبات التي يمكن أن يقال فيها. وضروب التعارض بين خطاب العقل وخطاب الجنون، وبين الخطاب الصادق والخطاب الكاذب، وآثار نسبة الكلام إلى مؤلف، والحدود المرسومة فيما بين المباحث العلمية، وإضفاء صفة القداسة على نصوص معينة، والقيود الاجتماعية المفروضة على التمتع بممارسات خطابية معينة، ويشير فوكوه في هذا الصدد إلى أن «أي نظام تعليمي وسيلة سياسية للحفاظ على - أو تعديل - امتلاك ضروب الخطاب مع ما تحمله من المعارف والسلطات» (ص123). ويوجد تأكيد مهم عند فوكوه (1984م) لصراع السلطة حول البت في الممارسات الخطابية؛ إذ يقول: «لا تنحصر ماهية الخطاب في كونه الوسيلة التي تترجم أنواع الصراع أو نظم الهيمنة، بل إنه الشيء الذي يقوم الصراع من أجله ويتوسل به، فالخطاب هو السلطة التي يظفر بها من يسعى إليها» (ص110).
وهكذا فإن الانتقال من علم الآثار إلى علم الأنساب يتضمن تغييرا للتأكيد الذي يؤدي إلى إبراز أبعاد الخطاب، فإذا كانت التشكيلات الخطابية عند فوكوه (1972م) تتسم بانتمائها إلى مباحث علمية معينة (1972) (مثل خطاب الأمراض النفسية، والاقتصاد السياسي، والتاريخ الطبيعي، على الرغم من مقاومة فوكوه للتوافق البسيط بين ضروب الخطاب وهذه المباحث)، فإن فئات الخطاب البارزة عند فوكوه (1979م، 1981م) تتسم بطابع أقرب إلى «النوعية» (مثل المقابلة الشخصية، وجلسات إسداء المشورة، باعتبارهما من الممارسات الخطابية التي ترتبط على الترتيب بما يسميه فوكوه «الفحص»، و«الاعتراف»؛ انظر أدناه). والمقصود بهذا أنها تشير إلى شتى أشكال التفاعل المبنية بطرائق معينة وتتضمن مجموعات معينة من المشاركين (مثل من يلقي الأسئلة في المقابلة الشخصية ومن يجيب عليها)، بحيث يمكن استخدامها في شتى المباحث العلمية أو المؤسسات، ومن ثم فإنها تتفق مع شتى التشكيلات الخطابية (بحيث يكون لدينا مقابلات شخصية في مجال الطب، وعلم الاجتماع، والحصول على الوظائف، وأجهزة الإعلام). وأما التضاد عند بعض الكتاب فهو بين ضروب الخطاب، و«الأنواع» (انظر كريس، 1988م، والفصل الرابع أدناه).
ويحلل فوكوه تكنولوجيتين رئيسيتين من تكنولوجيات السلطة، وهما «التأديب» (ويتضمن الفحص في تقنيته الجوهرية، فوكوه 1979م) و«الاعتراف» (فوكوه 1981م). ومن القضايا الأولية للتحليل الخاص بالأنساب قضية تدهشنا وهي أسلوب تأثير التقنيات في «الأجسام»، أي كيف تؤثر في الأشكال التفصيلية «المطبعة» للسيطرة على الميول والعادات والحركات الجسدية التي نلاحظها في المجتمعات الحديثة ، وهي أوضح ما تكون في التمارين البدنية في التدريب العسكري والعمليات المشابهة لها في الصناعة والتعليم والطب وما إلى ذلك بسبيل. وتكنولوجيا التأديب الحديثة ترمي إلى إنتاج «أجسام مطيعة» بتعبير فوكوه، وأجسام تكيفت لتلبية مطالب الأشكال الحديثة للإنتاج الاقتصادي. ويتجلى التأديب في أشكال منوعة مثل الأساليب المعمارية للسجون والمدارس والمصانع التي ترمي إلى تخصيص مساحة محددة لكل نزيل (زنزانة، مكتب، مقعد ... إلخ) بحيث يمكن إخضاعه للمراقبة الدائمة، ومثل تقسيم اليوم التعليمي أو يوم العمل إلى أجزاء يتميز بعضها عن بعض بحدود صارمة، ومثل تنظيم النشاط الجسدي فيما يتعلق مثلا بتعليم الكتابة بالقلم بالأسلوب التقليدي، وهو ما «يفترض مسبقا القيام برياضة جسدية، بمعنى مجموعة حركات تتبع منهجا يشمل الجسد كله» (1979م، 152)، أو مثل «تطبيع الحكم»، وهو الذي تقيس نظم العقاب فيه الأفراد طبقا لمعايير محددة. وعلى الرغم من أن التأديب تكنولوجيا يختص بالتعامل مع الجماهير، فإنه يفعل ذلك بأسلوب يركز على الفرد تركيزا شديدا، بمعنى أنه يعزل كل فرد ويركز على الأفراد واحدا بعد الآخر، ويخضعهم إلى إجراءات «التطبيع» نفسها. وطبقا لتأكيد فوكوه على إنتاجية السلطة، فإن السلطة التأديبية تنتج الفرد الحديث (1979م، 194).
وأما «الفحص»، فأسلوب تحقيق «علاقات السلطة التي تتيح استخلاص المعرفة وتكوينها» (1979م، 185). ويعزل فوكوه ثلاث خصائص مميزة للفحص (1979م، 187-192)؛ أولها: إن «الفحص حول اقتصاد الرؤية إلى ممارسة السلطة»، ويعني فوكوه بهذا أن يقيم التضاد بين السلطة الإقطاعية التي كانت تجعل الملك صاحب السلطة بارزا للعيان، والخاضعين للسلطة «مقيمين في الظل»، وبين سلطة التأديب الحديثة التي تجعل السلطة غير مرئية، والخاضعين لها تحت الأضواء. فالرؤية الدائمة تجعل الفرد خاضعا للسلطة من ناحية، وتتيح معاملة الأفراد و«ترتيبهم» كأنهم أشياء من ناحية أخرى. والفحص إذن «هو الإجراء الرسمي لهذا التشيؤ، إن صح هذا التعبير». ونرى ثانيا أن «الفحص يدفع بالفردية إلى مجال التوثيق»، بمعنى أن الفحص يرتبط بإنتاج سجلات عن الأشخاص. ولهذا نتيجتان؛ الأولى: «اعتبار الفرد شيئا يمكن وصفه وتحليله». والثانية: استغلال السجلات للتوصل إلى تعميمات عن السكان، وما يتصفون به في المتوسط، وأعرافهم وما إلى ذلك بسبيل. ويقول فوكوه: إن هذا الجانب الأخير هو الأصل المتواضع للعلوم الإنسانية. ونرى ثالثا أن «الفحص المحاط بشتى تقنياته التوثيقية يجعل كل فرد «حالة» معينة؛ وهي حالة تشكل في الوقت نفسه موضوعا لفرع من فروع المعرفة، وأداة لفرع من فروع السلطة». ويقيم فوكوه التضاد بين الممارسة التاريخية التقليدية التي تكتب فيها سير العظماء التي تصبح آثارا تاريخية، وبين الكتابة التأديبية/البحثية الحديثة التي تتضمن تاريخ الحالات المفردة لإخضاعها وتشييئها.
وإذا كان الفحص تقنية تشييء الأشخاص، فإن الاعتراف تقنية إخضاعهم. ويقول فوكوه «أصبح الإنسان الغربي حيوانا معترفا» (1981م، 174)، والدافع الذي يجعل المرء يغوص في ذاته ويتحدث عن نفسه، وخصوصا عن حياته الجنسية، في إطار ما، يفتأ يتسع من المواقع الاجتماعية (تتعلق أصلا بالدين، ثم بعلاقات الحب، والعلاقات الأسرية، والطب والتعليم ... إلخ) يبدو في ظاهره في صورة مقاومة تحرره من السلطة الحيوية التي تشيئه، ولكن هذا وهم في رأي فوكوه، إذ يعتقد أن الاعتراف يدفع بالمزيد من جوانب الشخص إلى مجال السلطة.
Página desconocida