El discurso y el cambio social
الخطاب والتغير الاجتماعي
Géneros
وهذا السياق الفكري يساعد على إيضاح الفوارق الكبيرة بين تحليل الخطاب عند فوكوه وتحليل الخطاب ذي التوجه النصي. نقول أولا: إن فوكوه كان مهتما في بعض مراحل عمله بنوع بالغ الخصوصية من أنواع الخطاب، أي خطاب العلوم الإنسانية، مثل الطب، والطب النفسي، والاقتصاد والنحو، وأما تحليل الخطاب ذو التوجه النصي فإنه، على خلاف ذلك، يهتم بأي نوع من أنواع الخطاب، كالمحادثة، وخطاب قاعة الدرس، وخطاب أجهزة الإعلام وهلم جرا. وأقول ثانيا، كما سبق لي أن بينت: إن تحليل النصوص اللغوية المنطوقة والمكتوبة جانب أساسي من جوانب تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، ولكنه ليس جزءا من تحليل الخطاب عند فوكوه، إذ إنه يركز على ما يسمى «شروط إمكانية» الخطاب (روبين، 1973م، 83) وعلى «قواعد التكوين» التي تحدد ما يمكن أن يكون «موضوعا»، و«النوعيات التعبيرية»، و«الذوات» و«المفاهيم»، و«الاستراتيجيات» الخاصة بنمط معين من أنماط الخطاب (ويرد شرح هذه المصطلحات أدناه). ويركز فوكوه على مجالات المعرفة التي تشكلها هذه القواعد.
اقتطفت آنفا رأي كورتين الذي يقول: إن علينا دعوة «منظور فوكوه إلى العمل» في إطار تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، ولكن الإشارة إلى «منظور فوكوه» يمكن أن تكون مضللة، بسبب التحولات في عمل فوكوه من تأكيد شيء إلى تأكيد سواه (وهي موصوفة بوضوح في ديفيدسون، 1986م). ففي عمله المبكر الخاص ب «علم آثار المعرفة» نجده يركز على أنماط الخطاب (التشكيلات الخطابية، انظر أدناه) باعتبارها قواعد لتكوين مجالات المعرفة، وأما في دراساته الأخيرة عن «الأنساب»، فالتأكيد يتحول إلى العلاقات بين المعرفة والسلطة. وأما في أعمال فوكوه في سنواته الأخيرة، فإن اهتمامه يتحول إلى «الأخلاق» أي «كيف يفترض أن يشكل الفرد نفسه باعتباره ذاتا أخلاقية بأفعاله نفسها» رابينوف، 1984م، 352. وعلى الرغم من أن الخطاب يظل في دائرة اهتمامه دائما، فإن مكانة الخطاب تتغير، ويتغير ما يترتب على ذلك من موقعه بالنسبة للتحليل النصي.
وسوف أقدم في هذا الفصل أولا وصفا وتقييما لمفاهيم الخطاب في دراسات فوكوه «الأثرية» (خصوصا فوكوه، 1972م)، ثم أناقش كيف تغيرت مكانة الخطاب في عمل فوكوه الخاص بالأنساب (مركزا على فوكوه، 1979م، و1981م). والهدف الرئيسي في هذين القسمين تحديد عدد من المنظورات القيمة والنظرات الثاقبة في الخطاب واللغة في عمل فوكوه، وهي التي ينبغي أن تدرج في نظرية تحليل الخطاب ذي التوجه النصي، وأن تطبق في منهجيته حيثما كان ذلك ملائما، ولكنني أختتم كلامي بمناقشة بعض نقاط الضعف في عمل فوكوه، وهي التي تحد من قيمته للتحليل النصي، وكيف يمكن للتحليل النصي أن يدعم التحليل الاجتماعي، بما في ذلك التحليل الاجتماعي في إطار التقاليد الفوكولتية. وإذن، فإن ما أقدمه يعتبر قراءة لفوكوه من وجهة نظر خاصة؛ وأما العروض والبحوث النقدية الأشمل والأكثر اتزانا، فإنها متاحة في كتب أخرى (مثل دريفوس ورابينوف، 1982م؛ وهوي، 1986م؛ وديوز، 1987م؛ وفريزر، 1989م). (1) أعمال فوكوه «الأثرية»
تتضمن الدراسات «الأثرية» المبكرة لفوكوه (وسوف أشير بصفة خاصة إلى فوكوه، 1982م) فكرتين نظريتين رئيسيتين عن الخطاب، وينبغي إدراجهما في تحليل الخطاب ذي التوجه النصي. أما الأولى فهي نظرية بنائية للخطاب، وتعني النظر إلى الخطاب باعتباره مكونا فعالا أو بانيا للمجتمع من شتى الأبعاد؛ فالخطاب يشكل موضوعات المعرفة، والذوات الاجتماعية، وأشكال «النفس»، والعلاقات الاجتماعية، والأطر النظرية. وأما الثانية فهي تأكيد الاعتماد المتبادل فيما بين ممارسات الخطاب لمجتمع من المجتمعات، أو مؤسسة من المؤسسات؛ فالنصوص دائما ما تنهل من غيرها من النصوص المعاصرة والسابقة تاريخيا، وتغيرها (وهي خصيصة يشار إليها بتعبير شائع هو «تناص» النصوص ، انظر الفصل الثالث)، كما أن أي نمط من أنماط الممارسة الخطابية يتولد من امتزاج نصوص أخرى معا، ويعتمد تحديده على علاقته بالنصوص الأخرى (وهو المنظور الذي أدركه بيشوه، وعبر عنه بما نسبه من أولوية ل «التركيب الخطابي» انظر الفصل الأول). وعلى الرغم من أن تركيز فوكوه (1972م) منصب على التشكيلات الخطابية للعلوم الإنسانية، فإن نظراته الثاقبة تنسحب على جميع أنماط الخطاب.
ما الذي يعنيه فوكوه ب «الخطاب» و«تحليل الخطاب» في أعماله «الأثرية»؟ إنه يرى أن تحليل الخطاب مختص بتحليل «الأقوال» (وهذه هي الترجمة المعتادة للكلمة الفرنسية
énoncés ؛ وهي ترجمة قد تكون مضللة إلى حد ما؛ إذ توحي بأن المقصود هو العبارات الخبرية، خلافا للأسئلة والأوامر والتهديدات وهلم جرا). وطبقا لإحدى الصياغات (فوكوه ، 1972م، 107-108) فإن تحليل الأقوال يمثل طريقة واحدة من عدد من الطرائق المستخدمة لتحليل «أشكال الأداء اللغوي». وأما الأخريات فهي: «التحليل المنطقي للمقولات، والتحليل النحوي للجمل، والتحليل السياقي أو النفساني للصيغ» والتحليل الخطابي للأقوال ليس بديلا عن هذه الأنماط الأخرى للتحليل، لكنه لا يمكن اختزاله فيها أيضا. ومن النتائج المترتبة على ذلك أن فوكوه يرى أن تحليل الخطاب لا تنبغي معادلته بالتحليل اللغوي، ولا معادلة الخطاب باللغة. فتحليل الخطاب لا يتعلق بتحديد أي الجمل «ممكنة» أو نحوية، بل بتحديد «التشكيلات الخطابية» المتغيرة من الزاوية الاجتماعية التاريخية (ويشار إليها أحيانا بصفة «الخطاب» وحسب)، ونظم القواعد التي تجعل من الممكن تكوين أقوال (عبارات/جمل) معينة دون غيرها في أماكن وأوقات ومواقع مؤسسية معينة. والواقع أن تصور التحليل اللغوي الذي يتوسل به فوكوه مرتبط بلحظة زمنية معينة (فوكوه، 1972م، وكان قد كتب في 1969م) وأنواع القواعد التي يستند إليها تماثل، فيما يبدو، ما كان الباحثون في علم اللغة الاجتماعي في السبعينيات قد انتهوا إلى تسميته «قواعد اللغويات الاجتماعية»، أي القواعد الاجتماعية لاستعمال اللغة. ومع ذلك، فإن منظور فوكوه يختلف اختلافا شاسعا عن أي منظور نجده في علم اللغة الاجتماعي؛ ويرجع جانب من هذا الاختلاف إلى عدم الاهتمام بالنصوص اللغوية المشار إليه آنفا .
ويتكون التشكيل الخطابي من «قواعد التشكيل» الخاصة بمجموعة الأقوال المعينة التي تنتمي إليه، وبصفة أخص قواعد تشكيل «الموضوعات»، وقواعد تشكيل «النوعيات التعبيرية»، و«مواقع الذات»، والقواعد الخاصة بتشكيل «المفاهيم»، والقواعد الخاصة بتشكيل «الاستراتيجيات» (فوكوه، 1972م، 31-39). وقواعد التشكيل المذكورة تكونها مركبات من عناصر سابقة، خطابية وغير خطابية (الأمثلة عليها أدناه) وعملية التعبير عن هذه العناصر وربطها معا تجعل الخطاب ممارسة اجتماعية (وفوكوه نفسه يستخدم تعبير «ممارسة خطابية»). وسوف أناقش كل نمط من أنماط هذه القواعد بالترتيب، مقدما ملخصا لموقف فوكوه، ومشيرا بإيجاز إلى إمكان أهميتها وما يترتب عليها لتحليل الخطاب. (2) تشكيل الموضوعات
تقول النظرة الأساسية فيما يتعلق بتكوين الموضوعات: إن «موضوعات» الخطاب تتكون وتتحول في الخطاب وفقا لقواعد تشكيل خطابي معين، لا أنها توجد بصورة مستقلة، ويشار إليها وحسب، أو يدور الحديث عنها في خطاب معين. وكلمة «موضوعات» يعني بها فوكوه موضوعات المعرفة، أي الكيانات التي تعترف بها مباحث أو علوم معينة داخل مجالات اهتمامها، وتتصدى لها باعتبارها أهدافا للبحوث (ويمكن التوسع في هذا المعنى من معاني الموضوعات، بحيث يتجاوز المباحث أو العلوم المنظمة شكليا ويشمل الكيانات المعترف بها في الحياة العادية). ويضرب فوكوه مثالا لتكوين «الجنون» باعتباره موضوعا من موضوعات خطاب الأمراض النفسية منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن؛ وقد نجد أمثلة أخرى مثل تكوين «الأمة» و«العرق» أو «الحرية» و«الإنجاز» (انظر كيت وأبركرومبي، 1990م) في الخطاب الإعلامي والسياسي المعاصر، أو مثل «معرفة القراءة والكتابة» في الخطاب التعليمي. ويقول فوكوه: «إن المرض النفسي كونه كل ما ذكر في جميع الأقوال التي وضعت له اسما، وقسمته، ووصفته، وشرحته ...» (1972م، 32)، أضف إلى ذلك أن الجنون ليس شيئا ثابتا، بل يخضع لتحولات مستمرة فيما بين التشكيلات الخطابية، وأيضا داخل أي تشكيل خطابي. ومعنى هذا أنه لا بد من تعريف التشكيل الخطابي بحيث يسمح بالتحول في موضوعاته. ويقول فوكوه: إن «وحدة الخطاب لا تستند إلى دوام أحد الموضوعات وتفرده، بل على المساحة التي تنشأ فيها شتى الموضوعات وتتحول باستمرار» (1972م، 32).
وأما ما يتسم بأهمية كبرى هنا بالنسبة لتحليل الخطاب فهو رؤية الخطاب باعتباره قوة بناءة، إذ يسهم في إنتاج وتحويل وإعادة إنتاج موضوعات الحياة الاجتماعية (والذوات أيضا، كما سوف نرى بعد هنيهة) في الحياة الاجتماعية. ويعني هذا أن الخطاب ذو علاقة فعالة بالواقع، وأن اللغة تدل على الواقع بمعنى أنها تبني المعاني له، وهو ما ينفي القول بأن الخطاب له علاقة سلبية بالواقع، وبأن اللغة تشير وحسب إلى الأشياء التي تعتبر قائمة في الواقع (من قبل الإحالة اللغوية إليها). وأما رؤية العلاقة بين اللغة والواقع باعتبارها إحالية وحسب، فهي الرؤية المفترضة سلفا، بصفة عامة، في علم اللغة وفي المداخل المبنية داخل علم اللغة إلى تحليل الخطاب.
ويعرف فوكوه «المساحة» التي يشير إليها هنا (في آخر الفقرة قبل الأخيرة) فيما يتعلق بأي تشكيل خطابي بأنها
Página desconocida