El discurso y el cambio social
الخطاب والتغير الاجتماعي
Géneros
ولم يكن من المستغرب، نظرا للأصول البحثية لعلم اللغة المنهجي، أن يحرص على تمييز نفسه عن التيار الرئيسي لعلم اللغة (وهو الذي كان يخضع لسيطرة نموذج تشومسكي آنذاك أكثر مما يخضع حاليا) وعلم اللغة الاجتماعي (انظر فاولر وآخرون 1979م: 185-95) وهو يرفض «ثنائيتين سائدتين مترابطتين» في النظرية اللغوية: أولهما معاملة النظم اللغوية باعتبارها مستقلة ومنفصلة عن «استعمال» اللغة، والثانية هي الفصل بين «المعنى» وبين «الأسلوب» أو «التعبير» (أي فصل «المضمون» عن «الشكل»). واللغويات النقدية تنقض الثنائية الأولى بتأكيدها، مع هاليداي، إن «اللغة أصبحت ما هي عليه بسبب وظيفتها في البناء الاجتماعي» (هاليداي، 1973م، 65) والقول بأن اللغة التي يستعملها الناس تتوقف على موقعهم في النظام الاجتماعي، واللغويات النقدية تعارض الثنائية الثانية بمساندة رأي هاليداي في نحو أية لغة، وهو الذي يقول إنه نظم «خيارات» ينتقي المتكلمون منها ما ينتقون طبقا للظروف الاجتماعية، مفترضا أن الخيارات الشكلية ذات معان متضادة، وأن خيارات الأشكال لها دلالاتها في كل حالة، كما ينتقد علم اللغة الاجتماعي لأنه يكتفي بإقامة تعادلات بين اللغة والمجتمع، بدلا من البحث عن علاقات سببية أعمق، بما في ذلك تأثير اللغة في المجتمع: أي «إن اللغة تعمل على تأكيد وتدعيم المنظمات التي تشكلها» (فاولر وآخرون، 1979م، 190).
والعبارة المقتطفة من هاليداي في الفقرة السابقة مجتزأة من جملة كاملة تقول: «أصبحت اللغة على ما هي عليه بسبب وظيفتها في البناء الاجتماعي، ولا بد أن ينجح تنظيم المعاني السلوكية في تبصيرنا إلى حد ما بأسسها الاجتماعية» (هاليداي 1973م، 65). ويقول كريس (1989م، 445): إن اللغويات النقدية طورت المقولة الواردة في النصف الثاني من المقتطف، لا في الجزء الأول منه في الواقع، إذ إنها حاولت «استنباط» أبنية «الأسس الاجتماعية» من «تنظيم المعاني السلوكية» في النصوص، كما إن اللغويات النقدية تتخذ موقفا يتفق مع هاليداي في اعتبارها أن مادة التحليل تتكون من نصوص كاملة (منطوقة أو مكتوبة) على عكس مسلك التيار الرئيسي لعلم اللغة وعلم اللغة الاجتماعي. وما يسمى ب «افتراض سابير-وورف» الذي يقول: إن اللغات تجسد رؤى معينة للعالم يتسع ليشمل التنوع داخل إحدى اللغات، بمعنى أن نصوصا معينة تجسد أيديولوجيات أو نظريات معينة، والهدف هو «التفسير النقدي» للنصوص: أي «استعادة المعاني الاجتماعية التي يعبر عنها الخطاب بتحليل الأبنية اللغوية على ضوء سياقاتها التفاعلية وسياقاتها الاجتماعية الأكبر» (فاولر وآخرون 1979م، 195-6)، والمرمى وضع منهج تحليلي يمكن أن يستخدمه أشخاص قد يكونون مثلا مؤرخين لا متخصصين في علم اللغة.
ويعتمد علم اللغة النقدي في التحليل النصي اعتمادا كبيرا على عمل هاليداي في مجال «النحو المنهجي» (انظر هاليداي، 1985م) إلى جانب استخدام بعض المفاهيم من نظريات أخرى مثل «أفعال الكلام» و«التحويل». وتختلف اللغويات النقدية عن المداخل الأخرى فيما تبديه من اهتمام بالنحو والمفردات في النصوص، وهي تشير بكثرة إلى «التعدي»، وهو جانب من النحو في عبارة أو جملة يتعلق بمعناها الفكري، أي بالصورة التي تمثل الواقع بها (انظر الفصل السادس حيث المناقشة التفصيلية للتعدي)؛ فالنحو يقدم لنا «أنماط صوغ» مختلفة وما يرتبط بها من «مشاركين» حتى نختار ما نريد منها، وقد يكون الاختيار المنتظم لنمط صيغة معينة ذا دلالة أيديولوجية. فعلى سبيل المثال، نشرت الصحيفة الشيوعية «ذا مورننج ستار» (21 أبريل 1980م) خبرا عن نقابة العاملين بهيئة التأمين الصحي، وكيف نظمت يوما للتظاهر، فصاغت الخبر صياغة توحي بفعل متعد وفاعل هو العمال الذين ينتمون لشمال إنجلترا (وتسميهم الصحيفة «الشماليين») يقول الخبر: «هاجم مئات من الشماليين البرلمان»، وكان من الممكن صياغة هذا الخبر صوغا «علائقيا» لا يبرز فيه قيام العمال بفعل متعد هذا البروز (على سبيل المثال: «اجتمع مئات الشماليين لتقديم مظلمة إلى البرلمان»).
كما يركز المدخل أيضا على أمر متصل بهذا، وهو عمليات «التحويل» النحوية، سواء نظرنا إليها باعتبارها تتفق مع ما يحدث في «الزمن الحقيقي» (مثل التحولات المرتبطة بتطور خبر عن حدث في إحدى الصحف على امتداد أيام متتالية، ومناقشته واردة في ترو 1979م) أو بصورة مجردة، أي إن المعنى الذي كان يمكن التعبير عنه بفعل وفاعل (وجه س انتقادا شديدا إلى ص) تعاد صياغته بأسلوب تحويلي فيما يسمى «الصوغ الاسمي» كقولك: (انتقاد «س» ل «ص» شديد) (أو «كان شديدا»). والصوغ الاسمي يعني تحويل جملة من فعل وفاعل إلى جملة اسمية أو إلى أسماء، والتحويل هنا يستبدل الاسم (انتقاد) بالتركيب الفعلي الأصلي «وجه انتقادا» (أو «انتقد» في الواقع). ومن أشكال التحويل الأخرى البناء للمجهول، أي تحويل المبني للمعلوم إلى مبني للمجهول حتى ولو ذكرت الفاعل في آخر العبارة (انظر مثلا العنوان التالي «المتظاهرون تطلق عليهم النار (من جانب الشرطة)» بدلا من «الشرطة تطلق النار على المتظاهرين»). وقد ترتبط أمثال هذه التحويلات بمعالم ذات دلالة أيديولوجية في النصوص، مثل التعمية المنتظمة للفاعل، فهذا وذاك يسمحان بحذف فاعل الجملة.
ويركز المدخل كذلك على جوانب معينة من نحو الجملة تتصل بالمعاني الخاصة بالعلاقات ما بين الأشخاص، أي التركيز على طرائق الإشارة إلى العلاقات الاجتماعية والهويات الاجتماعية في الجملة، وهذا يسمى نحو النوعية (الخاص بالأسلوب الإنشائي في اللغة العربية والأفعال «الناقصة») (انظر الفصل الخامس حيث الأمثلة والمناقشة). ويقوم المدخل إلى المفردات على افتراض أن الطرائق المختلفة لاستخدام ألفاظ معينة لمجالات المعنى قد تتضمن نظما للتصنيف، تتسم بالاختلاف الأيديولوجي، ومن ثم مصدر اهتمامنا بالنظر في كيفية إعادة تناول مجالات الخبرة بألفاظ مختلفة تستند إلى مبادئ مختلفة للتصنيف، على نحو ما يحدث مثلا في غمار الكفاح السياسي (انظر الفصل السادس للمزيد من التفاصيل).
وتركز اللغويات النقدية عادة تركيزا أكبر مما ينبغي على النص باعتباره منتجا، وتركيزا أقل مما ينبغي على عمليتي إنتاج النص وتفسيره، فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من أن هدف اللغويات النقدية يتمثل - فيما يقال - في
التفسير
النقدي للنصوص، فإن هذا المدخل لا يكاد يهتم بعمليات التفسير ومشكلاته، سواء تلك الخاصة بالمحلل/المفسر، أو تلك الخاصة بالمشارك/المفسر، وهكذا نلاحظ في التفسير أن العلاقة بين المعالم النصية والمعاني الاجتماعية عادة ما تصور في صورة العلاقات المباشرة والشفافة، وعلى الرغم من تأكيد «عدم وجود ارتباط يمكن التنبؤ به بين أي شكل لغوي وأي معنى اجتماعي محدد على أساس مقابلات فردية» (فاولر وآخرون 1979م، 198)، فإن القيم تنسب، في الواقع، إلى أبنية معينة (مثل الجمل المبنية للمجهول التي لا فاعل فيها) بطريقة آلية إلى حد ما، ولكن النصوص قد تكون متاحة لتفسيرات مختلفة، استنادا إلى السياق وإلى المفسر، وهو ما يعني أن المعاني الاجتماعية (بما في ذلك الأيديولوجيات) داخل الخطاب من الممكن استنباطها ببساطة من النص من دون النظر في الأنساق وضروب التنوع في توزيع النص واستهلاكه وتفسيره اجتماعيا. وربما تكون «الأيديولوجيا قائمة في اللغة ومعتادة فيها في عيني القارئ الراضي بها وغير المنتقد لها» (فاولر وآخرون 1979م، 190)، ولكن القراء كثيرا ما يكونون نقادا، وما إن تثبت اللغويات النقدية وجود معان أيديولوجية للنص حتى تميل إلى التسليم بآثارها الأيديولوجية.
ومن أوجه القصور الأخرى في اللغويات النقدية أنها تؤكد من جانب واحد آثار الخطاب في إعادة الإنتاج الاجتماعي للعلاقات والمباني الاجتماعية القائمة، وتتجاهل في مقابل ذلك كون الخطاب ساحة تجري فيها ضروب الصراع الاجتماعي، والتغير في الخطاب باعتباره بعدا من أبعاد التغير الاجتماعي والثقافي الواسع النطاق، وليس هذا منفصلا عن تعليقاتي في الفقرة الأخيرة: أي إن التفسير عملية إيجابية فعالة والمعاني التي تصل إليها تعتمد على الموارد المستخدمة والموقع الاجتماعي للمفسر، ولن يستطيع المرء أن يقول إن النصوص تحدث آثارا أيديولوجية في متلق سلبي إلا إذا تجاهل هذه العملية الدينامية. والقضية بصفة أعم هي النظرة إلى السلطة والأيديولوجيا في اللغويات النقدية باعتبارهما لا يتجهان إلا من القمة إلى القاعدة، وهو ما يتفق مع التأكيد الذي نجده أيضا في المدخل الألتوسيري الذي تتبناه جماعة بيشوه (الذي أناقشه أدناه) بشأن السكون أو الخمود الاجتماعي لا التغير، والمباني الاجتماعية لا الفعل الاجتماعي، وإعادة الإنتاج الاجتماعي لا التحول الاجتماعي، والحاجة قائمة إلى نظرية اجتماعية للخطاب تقوم على إعادة تقييم هذه الثنائيات باعتبارها أقطابا في علاقات توتر، لا أن نختار واحدا من كل ثنائية ونرفض الآخر كأنهما هما متنافيان، أي لا يجتمعان.
وتعليقي الختامي أن اللغويات النقدية تنظر نظرة بالغة الضيق إلى التشابك بين اللغة والأيديولوجيا. ونقول أولا: إن في النصوص جوانب تختلف عن النحو والمفردات وقد تكون لها أهمية أيديولوجية، مثل البناء العام للنص باعتباره حجة أو قصة شاملة. وأقول ثانيا: إن اللغويات النقدية قد عالجت النص الفردي (المونولوج) المكتوب بصفة أساسية، ولم تقل إلا كلمات قليلة نسبيا عن الجوانب المهمة أيديولوجيا والخاصة بتنظيم الحوار المنطوق (مثل التناوب في الحديث) وإن كانت تتضمن بعض المناقشة للأبعاد التداولية للكلام الملفوظ، مثل معالم التأدب (انظر الفصل الخامس أدناه). وأقول ثالثا: إن الإهمال النسبي لعمليات التفسير أدى إلى التركيز الشديد على تحقيق الأيديولوجيات في النصوص، وأما ما تضعه اللغويات النقدية في الخلفية، فهو أن عمليات التفسير تدفع المفسرين إلى وضع افتراضات ليست في النص، وربما تكون لها طبيعة أيديولوجية (انظر الفصل الثاني حيث أضرب لها مثالا) (فيركلف، 1989م، ب، يتضمن مناقشة أوفى).
Página desconocida