Pensamientos de Imaginación
خواطر الخيال وإملاء الوجدان
Géneros
اعترف أستاذنا في هذه الجملة اعترافا صريحا لا يخالجه أدنى شك بأن الفضل في نهضة الأدب راجع إلى اختلاط المصريين بالغربيين والاستنارة بحضارتهم وآدابهم وفنونهم وعلومهم، فما باله في موضع آخر لا يعترف لشعراء الغرب بفضل، وأخذ يقدح فيما عرب من الأدب الغربي بلا استثناء، إذ قال: «وقام بإزاء هؤلاء جماعة من شبابنا قد استهلكهم الأدب الغربي، فلا يرون أدبا إلا ما قاله شكسبير وبيرون وأضرابهما، وأدوا إلينا طريفا من هذا النظم في لغة ليس منها عربي إلا مفردات الألفاظ، ألفاظ يكاد المرء يشهد ما بينها وبين ما قسرت عليه من المعاني من التصافع بالأيدي والتراكل بالأرجل، ولولا ما يرتبطها من مثل قيد الحديد لطار كل منها إلى عشه؛ فخرج لنا من ألوان التعبير ما لا يؤاتي الذوق الشرقي ولا يستريح إليه الطبع العربي، وجعل كذلك جماعة ممن تعلموا في بلاد الغرب يعالجون في العربية إصابة المعاني الظريفة التي لامسها حسهم وهدتهم إليها أسباب تفكيرهم فعجزت اللغة، أو على الصحيح عجز علمهم باللغة عن حق أدائها؛ فخرج لهم الكلام إما غامضا مبهما وإما عاميا أو ما يدنو إلى العامي.» هل فاتك يا أستاذي العزيز أنك قد خانتك الذاكرة وكتبت مطلع مقالك على النمط الفرنسي، إذ قلت:
وأخيرا فهذا نادي القلم.
أنسيت أن مقالاتك الشائقة «في المرآة» ليست إلا نوعا من الأدب الأوروبي المسمى
Humoristique ، وهو نوع من الإنشاء الفكاهي الكاريكاتوري الذي يفيض بالتهكم الظريف والسخرية اللطيفة، ألا يتملك شعورك وينسيك آلامك الدكتور هيكل بك حينما تقرأ تعريبه «للبوذية » للكاتب والفيلسوف الفرنسي إيبوليت تين؟ ألا تتهلل بنشوة الإعجاب وتنتقل إلى عالم الخيال والأحلام حينما تقرأ القضاء والقدر وروايات شكسبير لشاعر القطرين خليل بك مطران أو البؤساء لحافظ بك إبراهيم؟
وأظنك لا تجهل أن المرحوم شوقي بك درس الآداب الفرنسية في باريس ولولاها لم يتوج في دولة القريض، ألا تهتز طربا واستحسانا حينما تقرأ مذكرات مسافر للأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرازق؟ وهو الرقة المجسمة ومثال الرشاقة والظرف، وهو مدين بمواهبه هذه إلى اللغة الفرنسية والأعوام التي قضاها بين أبنائها ورحله العديدة بعد أوبته.
إنني أشد منك تعصبا للعرب والعربية ولكنني لا أجرؤ أن أقول: إن الأدب العربي يفوق الأوروبي، وإن في شعراء العرب من يفضل على جوت وشلروهين ولا مارتين وهوجو ودوفني وشكسبير وملتون ولييوباردي وتاسو وغيرهم.
لا أنكر أن شعرنا العربي يفوق شكلا ووزنا الأوروبي ببحوره الموسيقية الوزن وقافيته المتحدة في القصيدة من أولها لآخرها، أما الأوروبي فلا يقيد بوزن موسيقي بل بعدد المقاطع واتحاد القافية في كل شطرين.
لقد لمح سيدي الفاضل بأن النهضة الأدبية ابتدأت في عصر خديو مصر إسماعيل باشا، ولكنها في الحقيقة ابتدأت قبله بزمن بعيد في عصر المماليك لظهور السيد إسماعيل الخشاب والشيخ حسن العطار، وكان أولهما لا يقل عن شعراء الطبقة الأولى من عصرنا، وقد ظهر في عهد محمد علي باشا الشيخ شهاب الشاعر الموسيقي صاحب السفينة وله ديوان كبير، والسيد علي أفندي الدرويش، وظهر في عهد الخديو سعيد باشا الشاعر العبقري محمود أفندي صفوت الساعاتي، وكل من ذكرناهم يعدون طلائع النهضة الأدبية في مصر، ويحق لهم كل فخار وكل مجد لكونهم وجدوا في زمان مظلم حالك ساد فيه الجهل وسوء الخلق.
ولقد وجه أستاذنا الكبير نداء إلى الأمة لتستخلص لها أدبا خاصا عليه طابعه المصري، أو توجد له أسلوبا يميزه عن غيره من آداب الأمم الناطقة بالضاد، ولكنني أرى صعابا جمة تعترض أمانيه.
إن الحضارة الأوروبية قد اكتسح تيارها العالم حتى انضوى تحت لوائها طائعا مختارا حينما تذوق مناهل علومها وآدابها وفنونها وصناعاتها، وتحقق أنه في حاجة ماسة إليها وعليها قوام حياته الراقية، درس كثير من شبابنا في إنجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأمريكا، وتشبع كل فريق بآداب اللغة التي درسها، وأصبح تفكيره وليد تربيته فلا يستطيع أن يحيد عما نشأ عليه، فإن أهمل لغته العربية ولم يحرز منها نصيبا وافرا كان أجنبي التفكير أجنبي الأسلوب، وهناك الطامة الكبرى.
Página desconocida