غدا عبدا لكافور بمصر
وذل لآل تغلب بالشآم
سأنشده من الأشعار بيتا
له، إن كان لا يرضى كلامي (وآنف من أخي لأبي وأمي
إذا ما لم أجده من الكرام)
وما كاد يتم القراءة حتى قهقه الطلاب، وصفقوا وساروا خلف الكلبة يدعون كل عالم وكل أديب وكل ملم بالقراءة إلى قراءة الأبيات، واستمرت الحال هكذا طيلة النهار، وصار المتنبي حديث المدينة، وأصبح اسمه متندرا لكل مازح، ومضغة في فم كل بذيء، حتى إذا مالت الشمس للغروب قاد العبيد الكلبة إلى دار ابن حمزة، فلمحها أبو الطيب وكان في حديقة الدار، فأمر مفلحا أن يحضرها بما في عنقها، وحين قرأ الأبيات اكفهر وجهه، وعلم أنه أمام خصوم عاهرين لا تعجزهم دنيئة، ولا تكفهم ذرة من رجولة، فدعا ابن حمزة وألقى إليه الورقة، فلما قرأها قال: قاتلهم الله، ما ألد خصامهم. وما أسوأ كيدهم. هذه الكلبة مرت طول النهار بكل ناحية من نواحي المدينة، وهذه الأبيات قرأها آلاف من الناس بين سخرية وقحة، وسباب مقذع. تعسا لهم. والله ما كنت أظن أنهم يبلغون هذا. أتحب أن أرسل إلى ابن الحجاج يا أبا الطيب؟ - لا يا أبا حمزة، إياك وأن تظهر المبالاة بهم، فإن الكلب الجبان يشجع إذا أظهرت الخوف منه.
واجتمع الشعراء الثلاثة بالوزير المهلبي، وكان الحديث يدور حول حادثة الكلبة وما أثار في المدينة من ضحك وسخرية وفكاهة، وشكرهم الوزير على ما بذلوا من جهد، ووعدهم بمضاعفة الثواب إذا ثابروا.
ومرت أيام وأيام والمتنبي متحصن بداره يكاد يخشى الخروج ومقابلة الناس، واتفق أن دعاه أبو الفتح بن جنى للغداء بداره فأجاب الدعوة، وركب في حشد من عبيده يقصد دار صاحبه، وما كاد يبلغ صينية الكرخ حتى اخترق ابن الحجاج صفوف الناس، وعلق بلجام جواده، فتزاحم الناس حولهما من كل جانب، وأخذ ابن الحجاج ينشد بصوت عال قصيدة بذيئة في هجاء أبي الطيب أولها:
يا شيخ أهل العلم فينا ومن
يلزم أهل العلم توقيره
Página desconocida