نقول فى الجواب عن ذلك: إن أكثر الأنبياء وخصوصا أصحاب الرسالات كموسى وإبراهيم ونوح وإسماعيل وإسحاق لم ينشئوا بأورشليم كما توهم ذلك الكاتب الفرنجى الذى لم يعرف معنى الرسالة والرسل، ولم تكن الجزيرة العربية خالية، بل هى كانت مبتعث الأنبياء أصحاب الرسالات من القديم، والذين كانوا فى أورشليم إن استثنينا عيسى ﵇ وداود وسليمان لم يكونوا أصحاب كتب يعمل بها أقوامهم وإنما كان يعمل أكثرهم بكتب نزلت على غيرهم، وأكثرهم كان يعمل على إقامة توراة موسي.
أما الرسل الذين جاؤا فى الجزيرة العربية فقد كانوا أصحاب رسالات، ينفذونها بأنفسهم، ولم يكن عملهم مقصورا على بيان الرسالات لمن سبقوهم، ولقد بين الله واحدة الرسالة الإلهية التى اختلفت كتبها، ولم يختلف معناها، فذكرها فى قوله تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحًا، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ «١» .
وأولئك هم أولو العزم من الرسل، ولم ينشأ فى أورشليم منهم إلا عيسى ﵇، والاخرون كانوا تابعين من البلاد العربية، أو مما حولها من أرض كنعان، أو من أطراف الجزيرة كأرض سيناء.
فالبلاد العربية هى موطن الرسالات الأولي، بها ابتدأت الرسائل الإلهية، وبها ختمت، فلم يكن غريبا أن يبعث محمد ﷺ فى تلك البلاد، وينبثق نوره فى الافاق من أهل المدر، وأهل الوبر فيها.
هذا إجمال نعرج إليه ببعض التفصيل:
إدريس عربى:
٢٨- إن الحقيقة أن البلاد العربية كانت مهد النبوة، فإدريس ﵇ الذى رفعه الله تعالى مكانا عليا، والذى تقول الأخبار، أنه كان فى البطن الثالث لادم أبى الخليقة، قالوا أنه كان عربيا وفى أرض العرب، وليس لدينا دليل يجعلنا نؤمن بأنه البطن الثالث لادم، ولذلك نطرح القول فى ذلك غير مكاذبين ولا مصادقين، ولا نحسب أنه من أساطير الأولين.
وإنما الذى نتمسك به هو أنه صديق من الأنبياء الذين وصفهم الله تعالى بذلك الوصف الكريم.
فقد قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا. وَرَفَعْناهُ مَكانًا عَلِيًّا «٢»، فهو صديق، وهو رفيع المكانة عند الله تعالي، لأنه سبحانه رفعه مكانا عليا.
ويغلب على الظن أنه لم تكن نشأته بأورشليم، لأن أورشليم أنشأها يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة وأتم التسليم.
_________
(١) سورة الشورى: ١٣.
(٢) سورة مريم: ٥٦.
1 / 31