كان من الذين متوا إلى الحزب الوطني بسبب يوم كان لرجال ذلك الحزب الصولة والدولة. وكان مع الوفديين في وقت ما، وقد أكل خبزا وملحا مع الديموقراطيين، وتعاقد مع الدستوريين والتحم بالاتحاديين. لم يتصل بحزب من هذه الأحزاب إلا ساعة ظن أن لهذا الحزب شأنا ونفوذا، وقد يكون لرجاله كلمة ومقام! ما أكثر أنداد زيد في الدنيا من الذين يسيرون وراء مصلحتهم، أو من الذين يستخفون بالسلوك المستقيم وسننه، أو من الأخساء الذين يتعلقون بمن يقوى، ويفرون ممن ضعف.
على أن الذي يسليني من أمور زيد هو أسلوبه في محاوراته، وبعض أحاديثه ومداوراته، في وقت يحسب فيه أن دولة حزب من الأحزاب كادت تدول، وأن حزبا آخر كاد حاله إلى المجد يحول، أو أن عزيز قوم قد آن له أن يضمحل، وأن ينال مكانه رجل كان من الذين محيت أسماؤهم من الكتاب وآن لاسمه أن فيه، ويصير من النابهين.
في ذلك الوقت يقلل زيد اختلاطه بمن كان يلابسهم كثيرا من هؤلاء الذين آن للمجد أن ينصرف عنهم، وإذا جلس بالمجالس سمعته يقول: هذا بلد لا خير فيه وليس فيه الخير، وليس الخير فيه، والخير لا يكون فيه، وما إلى ذلك من عبارات مكررة ومعان واحدة، تكاد تبغضك إلى كل بلد، وتكاد تكرهك في كل جماعة وفئة.
وفي ذلك الوقت يشرع في أن يشد الحبل بينه وبين هؤلاء الذين كان قد ارتخى الحبل عندهم من زمن مضى، ويشرع في أحاديثه بذكر بعض حسناتهم التي كانت في رحمة الله منطوية وينتهز فرصة سانحة ليرافق صديقا لزيارة هؤلاء الذين سيصبحون عما قريب أولياءه ويصبح وليهم. وإنك لتعجب من جرأته عند ما يسوق لمن يحسبهم أولياء المستقبل القريب مظاهر الود وآيات التبسيط، ومن تحدثه معهم في شئونهم الحزبية كأنه واحد منهم ولا تدهش إذا سمعته يقول أمامهم ينبغي أن تكون خطتنا إزاء خصومنا هي كذا وكذا وأن تكون أعمالنا لإصلاح شئوننا هي كذا وكذا بصوت تملؤه الحماسة.
ولا تدهش من أمثال هذا يوم تراه أوتوقواطيا، ويوم تراه ديموقراطيا، ويوم تراه إنكليزيا، ويوم تراه وطنيا. ويوم تراه وليا. ويوم تراه عصيا.
هو كل شيء؛ لأن حكمته البالغة «ودر مع الدهر كيف دارا»؛ ولأنه يجد من الفطنة والذكاء أن يتخذ المرء لكل حالة لبوسها، إن المتقلب لا يقدر قيمة الحياة إلا بمقدار ما يكسبه الإنسان فيها من وجاهة المظهر، وزيادة الثروة، والتنكب عن العقبات، ولا أنكر عليه أن الوجاهة والرزق والراحة من الخيرات التي لا تهون؛ لكني أنكر عليه الجهل بأن في الوجود خيرا آخر اسمه الخير الخلقي، يتلخص في حسن تقدير الناس للناس، وفي راحة الضمير، وأن لذة هذا الخير قد تربى على لذة ما يطلبه من مال ووجاهة وراحة. •••
أنكر على المتقلب ما أنكر، وأعجب لأصحاب المبادئ كيف يلقى المتقلبون في رحابهم سهلا، وكيف يجدون في الحياة الاجتماعية أهلا.
أستغفر الله، قد تساورني الوساوس، فأقول: عندنا أما غافل يستخدمه المتقلبون، وأما متقلبون بالقوة والاستعداد، فهم يأنسون بالمتقلبين بالفعل والحركة.
سعادة الباشا أو صورة من صور التصنع
السبت في 19 من ديسمبر سنة 1925
Página desconocida