Palabras en la literatura

Anwar Macdawi d. 1385 AH
60

Palabras en la literatura

كلمات في الأدب

Géneros

هذا القطيع الذي يمثل الإنسان الحقيقي في مصر، لا يمكن إذن أن تظهر قصته فجأة، وإنما كان لها تلك الجذور الضاربة في أعماق التاريخ؛ ولو نظر المؤلف إلى وضع الأرقاء من أبطاله الروائيين من خلال الرواية الحقيقية لتكوينهم النفسي، لاستطاع أن يتجه بخط التطوير في العمل الفني اتجاها آخر، لا تنطمس فيه الأبعاد النفسية على هذه الصورة، التي اهتزت فيها أيديولوجية الواقع.

توهم «الفجائية» في ظهور قصة الإنسان «الفلاح» في مصر، هو الذي جعل المؤلف يبرز مشكلة وضعه الاجتماعي، من خلال مضمون إنساني لا عمق فيه، أين هو هذا العمق في مثل هذه الملاحظة السطحية، التي تصور لصاحبها أن حياة الفلاح متوقفة على حياة الأرض، وأن حياة الأرض متوقفة على وفرة مياه الري، وأن هذه هي العلاقة النفسية بين الفلاح وأرضه في معركة معينة من معارك الكفاح؟ لقد كانت الملاحظة عند المؤلف من هذا الطراز؛ مشاهد متتابعة لتلك المعارك الكفاحية حول الماء، وهي حينا تقع بين الفلاحين بعضهم وبعض، وهي حينا آخر تقع بينهم وبين رجال الحكومة، وتنتهي كما هو المألوف في عهد حكومة «صدقي»، إلى نوع من المقاومة السلبية المتمثلة في الشكاوي المكتوبة، يكتبها أمثال محمد أفندي من المدرسين الإلزاميين، يوم أن كانوا هم النماذج البشرية المتميزة في كل قرية، أو تنتهي إلى نوع من المقاومة الإيجابية المتمثلة في اختلاس الماء، الذي تغدقه الحكومة على أرض نائبها «الباشا» بشتى الطرق، وتحدي رجال الإدارة عن طريق التمرد الخاضع في النهاية لأوامر المسئولين. والنتيجة كما كان يسجلها الواقع المشهود، هو أن تبدأ حركات القبض على الجموع المتمردة، ثم تتعرض هذه الجموع لألوان خسيسة من التأديب الذي يهدر كرامة الإنسان.

هذا هو الواقع «المجرد» الذي شاهدته في قريتي، كما شاهده المؤلف في قريته، وكما شاهد الألوف من أبناء هذه القرى المصرية في ذلك الحين؛ ولكن ما هو موقف الروائي إزاء هذا الواقع؟ هل ينقله هذا النقل الريبورتاجي الذي جردت فيه الصور من مجالاتها الخلفية؟ إن المجال الخلفي الذي يمثل أيديولوجية الواقع بالنسبة إلى صور المواقف الكفاحية للفلاح المصري، لا يلون بمثل هذا اللون الباهت، الذي أبرز عنصر التكوين النفسي وهو معطل الإحساس برواسب المشكلة، ثم أبرز عنصر التطوير تبعا لذلك، وهو منحرف عن الاتجاه الطبيعي كما يجب أن يكون. إن الإقطاع في مصر قد سلب الفلاح المصري وجوده، سلبه حاضره ومستقبله، وكل حقه المشروع في تقرير المصير، ومع ذلك فهذا الفلاح عند المؤلف ومن خلال منظاره الروائي، عندما تحتدم الثورة في نفسه على «الباشا» وعلى الحكومة التي تقف من ورائه، فهي لا تحتدم على هذا الباشا بصفته ممثلا للإقطاع، ولا على هذه الحكومة بصفتها حامية لهذا الإقطاع، وإنما تحتدم عليه بصفته «نائبا» لحزب الشعب، وتحتدم عليها بصفتها مسئولة عن تنفيذ رغبات ممثليها من النواب؛ وهكذا ظهرت قصة الفلاحين «فجأة»، وكأن لم يكن لهم تكوين نفسي سابق، وظهرت قصة الأرض «فجأة»، وكأن لم يكن لها مقدمات تاريخية سابقة. ولا عجب بعد ذلك إذا ما بدا الفلاحون ثائرين في منظار المؤلف، لا لأنهم قد سلبوا «دهرا» كل وجودهم الإنساني، ولكن لأنهم قد سلبوا «يوما» في سبيل مصلحة أرض الباشا نصف الفترة المقررة لهم في دور مياه الري، ثم قطعة من الأرض - ستدفع لهم الحكومة تعويضها المناسب - لإنشاء طريق عبر الحقول!

ولقد وقع المؤلف في خطأ تكنيكي بارز، عندما جعل مقدمته التفسيرية لماهية الوجود الإنساني في مصر، وما تلاها من عرض لبعض ذكرياته العاطفية التي استنفدت خمسين صفحة من صفحات الكتاب، بمثابة التخطيط الخارجي للمشكلة؛ إن التخطيط الخارجي يجب أن يكون داخل الحدود، أعني داخل حدود الأبعاد الموضوعية للعمل الفني، بحيث تنبع منه نقطة الانطلاق الروائي للمواقف والأحداث: المواقف التي تبرز عملية التكوين النفسي لكل شخصياته، والأحداث التي تهيئ عنصر التبرير الموضوعي لكل موقف، حين يتحول هذا الموقف إلى مجموعة من السلوك الحركي على مدار الخط الروائي الصاعد.

إن نقطة الانطلاق الروائي في «الأرض»، تبدأ على التحديد في الصفحة الحادية والخمسين، أما الصفحات السابقة كلها فتعتبر خارج الحدود؛ لقد خصصها المؤلف لذكرى علاقة شخصية كانت تربطه في الصغر بوصيفة، ووصيفة كما تبدو لنا من خلال تلك الصفحات كتلة من شباب الجسد، كانت تهز في أعماق الفتى الصغير كل مشاعر الجنس؛ وهي فورة مبهمة قبل الأوان. ويمضي هو فيشرح لنا أدوار تلك العلاقة من خلال الصور الجسدية الملونة لوصيفة، ومن خلال كل موقف جمع بينهما مع صبيان القرية، وهم يستحمون عراة في مياه الترعة فيتحسس جسدها الفائر المليء، ثم وهو يمثل معها بأحلام الطفولة وفي مصلى الشناوي، ذلك الوضع الجنسي لكل زوجين في ليلة الزفاف، ثم وهو ينفرد بها ذات مساء تحت جميزة عبد الهادي، ليقطف بأوهام الرجولة كل ثمار هذا الجسد؛ إلى آخر تلك المواقف الفردية، التي لا تندمج في المضمون الجماعي للمشكلة، ولا تتصل بالخط الاتجاهي الذي تتبلور في حدوده الأحداث، فضلا عن كون شخصية المؤلف قد أقحمت في العمل الروائي على بقية الشخصيات الصانعة للتجربة، حتى بدت وهي «نشاز» في النغم العام لمثل هذه التجربة الإنسانية المعاشة!

ولقد ترتب على هذا الإقحام أن عملية الرصد المادي للأحداث، وكذلك عملية المراقبة النفسية للمواقف، قد أصبحت كلتاهما تنقل إلى القارئ بواسطة المؤلف نفسه، بعد أن تموضعت شخصيته في مركز الضمير الأول في السرد الروائي؛ وهنا يكمن خطأ تكنيكي آخر لا يقل عن الخطأ الأول جسامة؛ ذلك لأن عملية الرصد والمراقبة - عندما تكون العدسة الروائية مسلطة على تجارب الآخرين - لا يمكن أن تتم عن طريق الضمير الأول إلا في حدود اللقطة البصرية أو السمعية، فإذا ما أراد المؤلف أن يتخطى حدود اللقطتين، ليقدم صورة تحليلية تكشف لنا عن مضمون الوجود الداخلي للشخصيات، فهو ملزم تكنيكيا بأن يقدم هذه الصورة، في إطار الحركة الخارجية الدالة على طبيعة هذا المضمون.

لقد انطلق عبد الهادي مثلا إلى الجسر يبحث مرتاعا في الظلام عن وصيفة، بعد أن أخبره المؤلف أنه رآها تتسلل خلسة إلى أحد الحقول، ولعلها كانت مع علواني على ميعاد؛ إلى هنا وكل شيء في حدود المنظور أو المسموع: انطلاق عبد الهادي يفتش في كل مكان عن الحبيبة الضالة، وعن الغريم الذي كاد أن يسلبه أعز ما يملك، واطمئنانه بعد ذلك إلى أن الرواية التي نقلت إليه كانت من صنع الخيال؛ ولكن المؤلف يتخطى بعد لحظات حدود اللقطة البصرية والسمعية، إلى اللقطة الاستبطانية التي تخرج في النقل الروائي عن اختصاص الضمير الأول، ما دامت هذه اللقطة الأخيرة لم تعرض من خلال السلوك الحركي، وما فيه من معنى الدلالة الموحية: «وارتاح عبد الهادي قليلا، وهمهم لنفسه أن علواني يشبه خضرة تماما، وأن ما جمع بينهما وفق حقا؛ فهي أيضا تعيش في القرية بلا أرض ولا أهل، وأقاربها قد تنازلوا عنها منذ تركوها للبيه الأعزب، تخدم في ضيعته الصغيرة ذات الثلاثين فدانا، وطردها محمود بيه بعد أن خدمته سنتين؛ وهاجت نفسه في الصمت والظلام والفضاء، وشعر بحاجة إلى أن يحدث أحدا، وتمنى لو أن معه وصيفة - زوجة له - تجلس إلى الساقية أمام ثور كبير يدور بالساقية، وهو يروي أرضه من بعيد: هي تغني على الساقية، وهو يغني هناك وسط الماء المنسكب؛ وشعر بحب مباغت لكل شيء لوصيفة ولعلواني وخضرة ولكل ما في القرية.»

هكذا يختم المؤلف عملية الرصد الحدثي بمثل هذا الاتجاه المنحرف عن الأصول التكنيكية؛ وهو اتجاه يتكرر في أكثر من موضع، بل إنه ليزداد انحرافا في مواضع أخرى حين يفرض على مفهوم السمعيات والمرئيات، أن يتسع حتى للتجربة الغيرية التي تنعزل تماما بمواقفها الخاصة، عن طاقة الأبعاد التصورية لواقع النقل الروائي بواسطة الضمير الأول؛ لقد كانت القرية مثلا تعلم أن خضرة الساقطة، تهب اللذة بثمن بخس لبعض الشباب الضائعين من أمثال علواني، تعلم عن طريق النقل السماعي لا عن طريق الرؤية البصرية. والمؤلف حين ينقل إلينا بدوره كل ما يدور في القرية من أحاديث، تستحق الجهر أو تدعو إلى الهمس، يخطئ تكنيكيا حين يقدم إلينا الواقع المسموع، من خلال تجربة تصور موقفا من مواقف اللقاء الجنسي بين علواني وخضرة، ثم هو يصف لنا هذا الموقف بتفاصيله وجزئياته، وكأنه قطاع عرضي من حياة القرية قد انحصر في دائرة المنظور!

والواقعية في «الأرض» سواء أكانت واقعية حدث أو واقعية موقف، كثيرا ما تتسم بالمغالاة التي تنتج حينا من ضعف الرؤية القصصية لمجرى الخط الانسيابي لحركات الشخوص، وتنتج حينا آخر عن فرض أيديولوجية مزورة على المضمون الاتجاهي لعناصر التطوير؛ لقد انفرد المؤلف ذات مساء وتحت جميزة عبد الهادي بوصيفة، وكانت هي الفائرة الواعية بنت السابعة عشرة، مهيأة الشعور والجسد للحظة جنسية مشتهاة، لم يهيأ لها بحكم عمره الفتى الصغير الحالم ابن الثانية عشرة. وهتف هو في صوت حنون هامس وقد أحاط خصرها بذراعيه: «يا غرامي؛ أحبك.» وفتحت هي عينيها المكحولتين في دهشة بالغة لتقول له: «يا اختي بلا وكسة! انت تتكلم كده ليه يا اخويا؟ والنبي ما انا فاهمة منك حاجتن تخلق، أصل أنا ما اعرفش الكلام الإنكليزي اللي انت بتقوله ده!» من يصدق أن وصيفة إن مادية الإحساس «الواعية» التي استمدت وعيها من اختلاطها الطويل بخضرة الساقطة، ومن السنوات الخمس التي قضتها في عاصمة الإقليم مع أختها المتزوجة، لا تعرف معنى كلمة «غرامي» وكلمة «أحبك»؛ حتى لتبدو لنا من خلال الرؤية القصصية عند المؤلف وكأنها تسمع - ولأول مرة - كلاما «إنجليزيا» لا معنى له؟!

ومع ذلك نمضي مع المؤلف إلى نهاية الموقف؛ لقد أغراها بزجاجة عطر لتلاقيه في الظلام، وعندما سألته عنها اعتذر بالنسيان ثم منحها «بريزة»، أو قطعة من ذات العشرة قروش؛ وهنا أوشكت وصيفة أن تطير من الفرح، وتهيأت تماما لتلك اللحظة الجنسية المشتهاة: راحت تجذبه إليها في عنف، وتوقعه معها على الأرض، وتسأله ماذا يصنع مع فتيات مصر، وكيف يصنعن مع الرجال، ثم تلف جسده بذراعيها وتضع خدها على رأسه، وهي تقول له: «مش بنات مصر بيعملوا كده؟» ومع ذلك، ومع كل هذا الإغراء الذي زلزل كيان الفتى الصغير، فإنه لم يستجب لما كانت تدعوه إليه وصيفة، لم يستجب لا لأنه تبعا لمنطق الواقع، ولحكم تكوينه الجسدي كان عاجزا عن أن يستجيب، ولكن لأن المؤلف «اليوم» بعد أن تجاوز الثلاثين، قد خلع على نفسه «بالأمس» وهو لم يتجاوز الثانية عشرة، ثوبا من الوعي الإنساني والاجتماعي تنسج خيوطه المتنافرة مثل هذه التجربة النفسية: «ولم أجب أمام المفاجأة، وأخذت أفكر فيما صنعت قروشي بوصيفة، وبدأ اللوم يزحف إلى قلبي؛ لأنني أعطيت وصيفة نقودا، وخيل إلي أنني اشتريت منها لحظات سعيدة، وكأنما أنا واحد من الذين يخدعون الفتيات الفقيرات بالمال. وغاظني هذا التصور فنحيت وصيفة بعيدا، وأوشكت أن أصرخ في وجهها بما في نفسي، بينما كانت صور النار والفاحشة وشراء فتاة فقيرة، تملأ مني القلب بالندم وترهق إحساسي بالعار!» وهكذا في سبيل نوع من الأيديولوجية المزورة، تنحرف التجربة الداخلية تحت قوة الدفع الخارجي عن المجرى الروائي الممتد، لتتم عملية تطوير معينة لا تترتب تلقائيا على فسيولوجية الحدث كبعد موضوعي خاص!

Página desconocida