المسرح الاتجاهي، بين سارتر وتشيكوف
الأثر الفني بين الفهم والتذوق
مشكلة العلاقة بين مي وجبران
ملحمة نجيب محفوظ الروائية
الأخطل الصغير
في الأدب المصري المعاصر
أزمة الجنس في القصة العربية
اتجاه جديد لنجيب محفوظ
في القصة المصرية القصيرة
لغة الأداء في القصة والمسرحية
Página desconocida
رواية «الأرض»
من واقع الأدب في مصر
المسرح الاتجاهي، بين سارتر وتشيكوف
الأثر الفني بين الفهم والتذوق
مشكلة العلاقة بين مي وجبران
ملحمة نجيب محفوظ الروائية
الأخطل الصغير
في الأدب المصري المعاصر
أزمة الجنس في القصة العربية
اتجاه جديد لنجيب محفوظ
Página desconocida
في القصة المصرية القصيرة
لغة الأداء في القصة والمسرحية
رواية «الأرض»
من واقع الأدب في مصر
كلمات في الأدب
كلمات في الأدب
تأليف
أنور المعداوي
المسرح الاتجاهي، بين سارتر وتشيكوف
المسرح بمفهومه المتكامل؛ أعني حين ننظر إليه كعمل ورسالة، شيء جليل خطير. وحين نلخص هذا المفهوم في صورته العملية، نقول إنه النص والعرض والتجسيم والمشاهدة. ومن وراء كل هذه الإمكانيات - وفي نطاق تحمل المسئولية - يقف الكاتب والمخرج والممثل والجمهور. أما الجانب الآخر من هذا المفهوم - أعني جانب الرسالة التي يمكن أن يؤديها المسرح - فتتركز في عملية الاتجاه القيادي المساير لروح العصر، والمدرك لمشكلات الجموع.
Página desconocida
على هذا الجانب الأخير تعتمد خطورة المسرح، خطورة الدور الذي يلعبه؛ فهو هنا - كأداة تثقيف وتوجيه - يتصدر قائمة كل الأدوات المماثلة، من ناحية التأثير المباشر. وعلى الرغم من المنافسة الشديدة التي يلقاها من السينما والتليفزيون، فإنه ما يزال في بعض الدول التي توفر له كل نضج الإمكانيات، صامدا أمام منافسيه. إننا عندما نضع المسرح في ميزان المقارنة، وفي كفة ما سميناه بالتأثير المباشر، يتضح لنا فارق جوهري بينه وبين السينما والتليفزيون. إنه كأسلوب تجسيمي من أساليب العرض، يعتبر أكثر فعالية وإثارة؛ فنحن أمام خشبة المسرح، نشعر أننا نلقى الأحداث والمواقف ذلك اللقاء الحي، الناتج من كون النماذج الإنسانية التي تواجهنا نماذج حية. هؤلاء الممثلون الذين يجسمون لنا تلك الأحداث والمواقف، ويقدمون لنا الحياة من خلال قطاع اجتماعي معين. لا يبدون في رؤيتنا النفسية والبصرية - كما هو الحال في السينما والتليفزيون - وهم صور فوق شاشة.
إن مادية الإحساس في الجانب البصري من الرؤية، هي العامل الأبعد أثرا في تعميق مجرى انفعالاتنا الداخلية. وكأننا لا نقف أمام تسجيل مصور الحياة، وإنما نقف وجها لوجه، أمام الحياة نفسها وبلا وسيط؛ هذا الوسيط في السينما والتليفزيون هو الشاشة وجهاز العرض. فإذا ما حيل بين طاقتنا الانفعالية، وبين مدى التجاوب؛ فلأننا لم نستطع أن نلغي من إدراكنا الوجداني تلك الوساطة بيننا وبين الواقع.
من هنا تأتي قيمة المسرح وامتيازه. ولكن أي مسرح هذا الذي نعنيه؟ إنه المسرح الذي يجب أن يتوفر له كاتب معين وجمهور معين. في حدود هذين البعدين من أبعاد أزمتنا المسرحية، تتمثل المشكلة الأكثر تعقيدا وصعوبة. ولا نريد أن نذهب مع المهتمين ببحث هذه الأزمة إلى أن الكفاية للمسرح ليست بالأمر الهين، ولا إلى أن كتابنا المسرحيين الذين يجيدون هذا العمل قلة نادرة، فهذا كله مفروغ منه. من الممكن مع مختلف ألوان الدراسة والممارسة والتشجيع، أن يرتفع مستوى الوعي والإجادة للكتابة المسرحية، وأن يزداد عدد الكتاب. المشكلة كما أتصورها ليست مشكلة الفهم التكنيكي للعمل الدرامي، وليست مشكلة الكم العددي لما نحتاج إليه من كتاب مسرحيين. الكيف لا الكم هو الذي ننشده لمسرحنا العربي الحديث، ومن زاوية موضوعية محددة.
إننا نلاحظ - والواقع يزيد هذه الملاحظة - أن مسرحنا يعقد أكثر صلاته الاجتماعية مع ماضينا القريب، حتى ليمكن أن يقال إن هذا الماضي قد أصبح الوطن الروحي لأعمالنا المسرحية؛ وليس من شك في أن للماضي الذي مارسناه كتجربة نفسية معاشة، علاقة ارتباط وثيقة متعددة الجوانب بالحاضر الذي نعيشه اليوم، مع اختلاف لون التجربة. وبمتابعة خط السير الطبيعي لعجلة التطور، يصبح هذا الحاضر نقطة ارتكاز لمستقبل مرتقب يمكن أن يرسم له الكاتب من التصورات ما يحدد معالمه. هي إذن عملية متشابكة ومتداخلة، تحتاج إلى نوع من الرؤية العقلية البعيدة، التي تتخطى المنظور إلى ما وراء حدود المنظور. من هنا نستطيع أن نقول إن دوران المسرحية العربية الحديثة حول مشكلات الماضي، وبمثل هذه الصورة الملحة، لا يمكن أن يقدم إلينا الكاتب المسرحي الذي نريده؛ الكاتب الذي يملك من وسائل الخبرة الفنية، ما يتيح له أن يوجه سلوك أبطاله على أساس التفاعل الحدثي بين الماضي والحاضر، وأن ينسج مصيرهم من خيوط تصوراته العقائدية لواقع المستقبل، على ضوء تلك الرؤية العقلية البعيدة.
ولا نقصد بهذه التصورات أن يرسم لنا الكاتب المسرحي تخطيطات مفصلة لذلك الواقع المقبل الذي يمكن أن يتطور إليه حاضر الشخصيات؛ لأن العمل المسرحي يجب أن يكون بعيدا كل البعد عن طابع الدراسة الاجتماعية أو الاقتصادية من جهة؛ ولأن المقصود من جهة أخرى هو نوع من التخيل، الذي لا يمكنه أن يتمثل الأشياء البعيدة بكل جزئياتها الدقيقة، وإنما يتمثلها في هيكلها الخارجي العام أو ملامحها الشكلية البارزة. إننا نستطيع في العمل المسرحي أن نجعل المتفرج «يرى» الماضي والحاضر، أما المستقبل فنستطيع أن نجعل نفس المتفرج «يتخيله»؛ فكل ما هو مدرج في قائمة الوجود المادي الذي يعاش كانفعال وتجربة، نطالب الكاتب المسرحي بأن «ينقله» إلينا كواقع مرئي ومحس، وكل ما يتضمن قابلية الإدراج في نفس القائمة، ويحتمل منطق النتائج المترتبة على المقدمات، نطالب هذا الكاتب بأن «يرسبه» في نفوسنا كواقع تصوري أو متخيل. وعملية الترسيب هنا - كما تفرضها مقتضيات المسرح - يجب أن تتم عن طريق التركيز والإيحاء، لا عن طريق التفصيل والتفسير، وذلك من خلال الاتجاه النفسي لسلوك الشخصيات.
أنطون تشيكوف في «بستان الكرز»، يقدم إلينا النموذج التطبيقي لهذا المسرح الذي نريده؛ يقدم إلينا حاضر الطبقة الأرستقراطية، بكل ما فيه من تفاهة وسطحية وانحلال، وهو يرينا هذا الحاضر من وراء لمسات تهكمية موجعة، نستخلصها من خطوط رسم كاريكاتيري لاذع. وعلى امتداد هذه الخطوط التحليلية المعبرة، تبدو هذه الطبقة وهي عاجزة عن التكيف مع الواقع؛ لأنها لا تفهم - أو لا تريد أن تفهم - منطق هذا الواقع؛ وتتعرج خطوط الكاريكاتير لنخرج من هذه التعارج بأن هذه الطبقة لا تصلح لشيء، وأن حاضرها يؤذن بالأفول. ومن نافذة الحاضر يسمح لنا أنطون تشيكوف، بأن نلقي نظرة ساخطة على ماض بشع؛ نلقيها ونحن ننصت إلى «تروفيموف» وهو يتحدث إلى «آنيا» الأرستقراطية المترفة، ويذكر بأن آباءها وأجدادها كانوا من ملاك الرقيق، وأن وجوه هؤلاء الأرقاء وأصواتهم ترنو إليها، وتصرخ من أعماق كل ثمرة وكل ورقة وكل شجرة في بستان الكرز. إن أهلها - طوال حياتهم - يعيشون عالة على وجود الغير، على وجود هؤلاء الرقيق؛ وهم، هي وأمها وخالها، عاجزون عن فهم أوضاعهم القائمة على هذه الحقيقة، فإذا أرادت أن تعيش معه في الحاضر فعليها أن تنزع من فوق جدران وجودها صورة ماضيها الكريه؛ يجب أن تضع لهذا الماضي حدا وأن تتخلص منه كل الخلاص. إن هناك مستقبلا سعيدا ينتظرهما، وإذا لم يقدر لكل منهما أن يعيش ليراه، فسيعيش غيرهما ليرى هذا المستقبل، ويجني ثماره.
هكذا يقوم المسرح التشيكوفي بعملية ربط هادفة بين الماضي والحاضر والمستقبل. وهو هنا لا يقدم إلينا تخطيطا مفصلا لمجتمع الغد كما تخيله تشيكوف، وإنما قدم إلينا - بواسطة الإيحاء المركز - مضمون الصورة العامة لواقع هذا المجتمع، عبر تلك الرؤية العقلية البعيدة. ومن الملاحظ أن بعض أبطال تشيكوف، ممن كانوا يعيشون أحلام الغد وتصورات المستقبل، تنقصهم إيجابية السلوك وقوة الإرادة؛ كانوا في حدود رسمه لهم، سلبيين في مواجهة وجودهم القابل للتغيير والتطور. ونفس الملاحظة تقودنا إلى ملاحظة أخرى، بالنسبة إلى موقف تشيكوف من سلبية أبطاله؛ وهو أنه كان يسخر من هذه السلبية المتمثلة في عجزهم عن تحقيق ما يتطلعون إليه من أحلام. من هذا الموقف الاتجاهي يمكننا أن نلتقط مفتاح قضية من قضايا الأدب والنقد، خلاصتها كما أوضحنا ذلك من قبل وفي غير هذا المكان، أن الكاتب يستطيع أن يكون إيجابيا من خلال السلوك السلبي لأبطاله القصصيين أو المسرحيين، حين يصب هذا السلوك في قالب من العجز المخفق، الذي يثير فينا دوافع الإنكار والسخط، والذي يوحي إلينا بأن الكاتب يشاركنا نفس الشعور، ويقف معنا على نفس الصعيد الالتزامي المعترض؛ المهم هو موقف الكاتب من سلوك أبطاله، موقفه من الناحية الفنية والالتزامية، وعند هذه النقطة تتحدد مسئوليته أمام القارئ والناقد.
نريد أن نقول عن الكاتب المسرحي الذي نريده، على ضوء هذا النموذج التطبيقي من أعمال تشيكوف: إنه الكاتب الذي يجب أن يعيش واقع حاضره وماضيه عن طريق الرؤية الفنية اللاقطة، ويعيش واقع مستقبله عن طريق الرؤية العقلية المتصورة. ولا جدال في أن هذه المطالب، لكي تصل إلى مرحلة عملية من التحقيق، تحتاج من روافد الثقافة وقيم الأخلاق، ما يهيئ للكاتب أن يكون صاحب موقف، أو صاحب وجهة نظر عقائدية، تحدد اتجاهه الفكري والخلقي من مشكلات المجتمع وقضية الإنسان.
وما دمنا في معرض الحديث عن أخلاقية الموقف الفكري لكاتب المسرح، فإن سارتر - على المستوى النموذجي للدراما الحديثة - يطالعنا كمسرحي ممتاز؛ إننا نذكر له - على سبيل المثال - موقفه من احتلال النازية لوطنه في «موتى بلا قبور»، وموقفه من اضطهاد الرجل الأمريكي الأبيض للزنوج في «البغي الفاضلة» أو «العاهر الحفية» إذا أردنا الدقة في الترجمة. في «موتى بلا قبور» يضعنا سارتر في الطرف المقابل من سلوك أبطاله، ليجعلنا نواجه - في حساسية فائقة وتوتر بالغ - وجهة نظره الفكرية فيما يجب أن يكون عليه موقفنا من عدو غاصب؛ معنى ذلك أن تبدأ حركة المقاومة، وقد بدأت هذه الحركة في عمله المسرحي، بأصدائها المنعكسة على عدد من المجاهدين، الذين وقعوا أسرى في أيدي الألمان؛ إن «لوسي» بطلة المسرحية يحيلها سارتر إلى واجهة عرض ضخمة لموقفه الاتجاهي الصارم، بالنسبة إلى مفهوم البطولة النفسية في لحظة لقاء طويل ومرهق، بين سطوة المنتصر وكبرياء المهزوم. إن «لوسي» تعرض علينا - بالنيابة عن سارتر - كل المقومات السلوكية لهذه البطولة، لقد عرضوا كيانها الجسدي والنفسي لأبشع ألوان التعذيب: الضرب المبرح وهتك العرض، ومع ذلك فقد عجزوا عن أن يشيعوا في هذا الكيان الصامد معنى الذل، لقد كانت تمارس تجربة مرة، ولكنها كانت بالنسبة إلى فم وجودها الإنساني سائغة المذاق. مضمون هذه التجربة هو الكبرياء؛ كبرياء الألم؛ ولكي نمارس هذه التجربة بنجاح، يجب أن نفرض على أنفسنا لونا من الحقد الانطوائي المترفع. إن الذين يريدون أن يخربوا في الإنسان كل ما هو جميل وشريف وقيم، ينتظرون اللحظة التي تنبثق منها رغم أنف الإرادة بادرة من الضعف؛ إنها بالنسبة إليهم لحظة الشعور بهزيمتنا وانتصارهم! إننا في قبضة أيديهم، هذا صحيح؛ والأصح منه أنهم أيضا في قبضة أيدينا! إنهم لن يطلقوا سراح حريتنا وعلينا أن نعاملهم بالمثل، ألا نطلق سراح حريتهم؛ حريتهم في أن يرونا يوما وقد عرفنا الذل والخضوع! إنهم أسرانا، تماما كما نحن أسراهم؛ بهذا نشعرهم أن وجودنا شيء حقيقي ومجسم، ونشعر أنفسنا بأن وجودهم لا وجود له! ومن الواجب أن ننتصر على أنفسنا، وذلك بأن نلغي من قائمة عذابنا معنى الإحساس بالألم؛ هذا الألم يجب أن ينهزم، هذا هو المفهوم البطولي للتجربة، تجربة الكبرياء!
تقول «لوسي» لأخيها الصغير، وهي تشير إلى موقفها ممن هتكوا عرضها، ثم وهي تحذره من الاعتراف للعدو بأسرار حركة المقاومة تحت ضغط الإرهاب: «إنهم لم يلمسوني؛ لم يلمسني أحد ... لقد تحولت إلى قطعة من الحجر؛ ولم أشعر بأيديهم وهي ترغمني؛ كنت أتطلع إلى وجوههم وأفكر في أن شيئا لم يحدث؛ كلا، لم يحدث شيء؛ لقد كنت في النهاية أذيقهم طعم الخوف؛ إنك إذا اعترفت يا «فرانسوا» فإنهم يكونون في الواقع قد هتكوا عرضي!»
Página desconocida
ويقول لها حبيبها «جان» أحد أبطال المقاومة: «إنني ألمح الجفاف في عينيك، وأدرك أن قلبك يحترق، ولكن لا يبدو عليك أثر للألم، ولا بقطرة من دموع، لقد استحال كل شيء فيك من فرط التوهج إلى بياض؛ ينبغي أن تتألمي من كونك لا تحسين بالألم! لقد فكرت كثيرا فيما تعرضت له من تعذيب، ومع ذلك فما كنت أتصور أن التعذيب يمكن أن يكسبك كل هذه الفظاعة من كبرياء الألم!»
وتجيبه «لوسي» معلقة على كلماته المعترضة: «قطرة من دموع؟! إنني لا أتمنى غير شيء واحد؛ أن يأخذوني مرة أخرى ويضربوني؛ حتى ألوذ من جديد بالصمت، وأسخر منهم، وألقي في قلوبهم الرعب. ترى هل كان الذنب ذنبي؟ إنهم هم الذين جرحوا كبريائي؛ إنني أمقتهم؛ وإذا كنت في قبضة أيديهم، فإنهم هم أيضا في قبضة يدي؛ إنني أشعر أنني قريبة إليهم أكثر من قربي منك!»
إن سارتر الفيلسوف، يتجه دائما - في قصصه ومسرحياته - إلى فلسفة مواقف أبطاله، وتغليف وجودهم النفسي بغلاف شفاف من وجهات نظره الالتزامية؛ أو إنها مجموعة من اللافتات الضوئية يسخرها للإعلان عن مضمون أفكاره. إن شخصياته وإن كانت تمثل موقفه الاتجاهي من قضية الإنسان الفرنسي حيال أزمة معينة في «موتى بلا قبور»، أو الإنسان الزنجي حيال أزمة مختلفة في «العاهر الحفية»، فهي في الوقت نفسه شخصيات، من لحم ودم، تتعادل فيها النسب التكوينية لطبيعة النفس الإنسانية ولطبيعة أفكار الكاتب. إن «لوسي» مثلا كما رسمها سارتر، لا تتحول إلى تمثال من الشمع لمجرد أنها قد قررت ألا تتألم؛ ولأنها قد نفذت هذا القرار، لقد كانت تحس في داخلها وخز الألم، وتمر بها لحظات من الضعف، ولكنها إرادة التماسك والتجلد، هي التي قامت بعملية الإلغاء لتلك المشاعر الداخلية، وهيأت لموقف الصمود؛ هي إذن نموذج بشري لا يبتعد كثيرا عن أصالة البشر، وما يبدو لنا في ذلك النموذج من بعد عن تلك الأصالة، فمرجعه إلى أن سارتر قد أراد أن يرسم لنا صورة للبشر الممتازين؛ من داخل الإطار المثالي لكبرياء الإنسان.
وسارتر هنا يختلف تماما عن تشيكوف، من حيث مفهوم السلبية والإيجابية بالنسبة إلى سلوك الشخصيات، وموقف الكاتب من هذا السلوك. إن شخصية «فوانيتسكي» مثلا في مسرحية «العم فانيا»، وكذلك شخصية «فرشنين» في مسرحية «الشقيقات الثلاث»، ثم شخصية «تروفيموف» في مسرحية «بستان الكرز»؛ شخصيات تملك جرأة الأحلام على تغيير الأوضاع، ولكنها لا تملك القدرة على التنفيذ؛ إنها تدرك حقيقة الواقع الذي تواجهه، ولكنها لا تعرف الطريق الذي يمكن أن يؤدي إلى تطوير هذا الواقع؛ وهي بعد ذلك تفتقر إلى حركة الدفع وقوة الإرادة. وليس من شك - كما فسرنا ذلك من قبل - في أن لتشيكوف فلسفته الاتجاهية الخاصة، من وراء وضع شخصياته في أمثال هذه المواقف؛ ولكن يبقى بعد ذلك فارق بين كاتب يستمد إيجابيته من اعتراضه الساخر على سلبية أبطاله، وكاتب آخر يستمد هذه الإيجابية من تعاطفه الواضح مع أبطاله الإيجابيين، من أمثال «لوسي» و«هنري» و«كانوري»؛ النماذج البطولية المكافحة في «موتى بلا قبور».
وكما يختلف سارتر في هذا المجال عن تشيكوف، فهو يختلف أيضا عن كثير من كتاب الواقعية الاشتراكية، من ناحية رسم الشخصية التي تحمل أفكار الكاتب. إنهم في سبيل تجسيم العقيدة المذهبية التي يعتنقونها في واقع الحياة والفن، غالبا ما يقومون بعملية تجويف للشخصية المسرحية والقصصية، ليملئوها في الوقت نفسه بأفكارهم العقائدية الخاصة. وتبدو الشخصية المجوفة وهي تحمل معنى الرمز التجريدي لفكرة معينة، أكثر مما تبدو وهي تحمل الخصائص النفسية الأصلية لسلوك الإنسان. ولو قدر مثلا لكاتب من هؤلاء الكتاب أن يتناول مضمون «العاهر الحفية» لسارتر، فإنه سينظر تلقائيا إلى مشكلة اضطهاد الزنوج في المجتمع الأمريكي من زاوية مختلفة، تتفق وطبيعة اتجاهه العقائدي المحدد؛ وفي فلك هذا الاتجاه يفرض على سلوك الشخصية المسرحية أن يدور. إن سارتر - على النقيض - لا يجعلنا نشعر على الإطلاق بأن بعض شخصياته هي التي تنوب عنه، في نقل طعناته القاتلة إلى المجتمع الأمريكي؛ ذلك لأنه لن يسمح لنفسه بأن يقف بيننا وبين شخصياته، بحيث نراه هو ولا نرى تلك الشخصيات، تبعا لأنه يتخذ فنيا جانب الحياد ولا يحجب الرؤية!
إننا دون أن نلمح وجه سارتر الفكري، نستطيع أن نلمح رأيه في المجتمع الأمريكي عبر القطاع الخاص باضطهاد الزنوج، حين نستطيع هذا الرأي من موقف «ليزي» الساقطة، والزنجي المعرض للقتل، و«فرد» الثري المترف، و«كلارك» عضو مجلس الشيوخ؛ إنه يتناول هذا المجتمع بالتجريح من ناحية المستوى العقلي متمثلا في النظرة إلى الحياة، ومن ناحية المستوى الحضاري متمثلا في النظرة إلى الإنسان، فبينما نرى العقلية الأمريكية تقيم الحياة على أساس الدولار، نرى الحضارة الأمريكية تقيم الإنسان على أساس اللون؛ ووسائل التقييم عندها لا تعرف شيئا اسمه الضمير، فبالدولار تلجأ هذه العقلية إلى شراء الذمم وتدبير المؤامرات.
لقد حاول «فرد» ومعه أبوه عضو الشيوخ - بدولاراتهما الخمسمائة - أن يجعلا «ليزي» تغير شهادتها أمام القضاء، لينجو «توماس» فتى العائلة الأبيض رمز الأمة الكريمة «العظيمة» والتاريخ «المجيد» من تهمة قتله لزنجي بريء؛ وعندما تجيبهما «ليزي» بأن الزنجي الشهيد لم يحاول أن يغتصبها، وإنما الذي قام بالمحاولة هو فتاهما الأبيض، وأنها مضطرة أمام القضاء إلى أن تعلن هذه الحقيقة، عندما تقول هذا يكون الرد المنطقي للعقلية الأمريكية، هو أنه لا يوجد هناك غير حقيقة واحدة: هناك بيض وسود ولا شيء غير ذلك! ومن خلال بعض اللقطات الجانبية لصورة المجتمع الأمريكي يبلغ سارتر قمة السخرية الجارحة، وهو يوحي إلى العقلية الأمريكية بأن المال يعجز في كثير من الظروف عن شراء الإنسان، وذلك حين اختار نموذجه الإنساني الرامز إلى هذه الحقيقة إحدى المومسات! ولقطة أخرى من لقطات سارتر، تطلعنا - بالنسبة إلى مستوى الحضارة الأمريكية - على مدى الوعي في اختيار الزاوية؛ يقول «فرد» للبغي الفاضلة، وقد سيطر عليه جنون الرغبة في امتلاكها بالقوة، إنه قد اشتهاها وهو ينظر إلى زنجي قد علقوه فوق شجرة؛ لقد شارك في قتله، وكان معه مسدسه؛ ولا يدري لماذا كان يرى جسدها وهو يرى جسد الزنجي المتأرجح فوق الأغصان؛ لكأنما كان جسدها في تلك اللحظة - عبر رؤيته النفسية المزدوجة - يتأرجح هو الآخر فوق ألسنة اللهب؛ في تلك اللحظة التي مرت منذ دقائق، اشتهاها؛ وأطلق على الزنجي الرصاص!
إن قيم الحضارة الأمريكية من وراء منظار سارتر، تبدو وهي قائمة على لونين من الشهوة: شهوة الجنس وشهوة الدم!
إننا حين نتطلع إلى النموذج المنشود لكاتبنا المسرحي الذي نريده، فإنما نتطلع إليه متتلمذا في البداية على مدرستي سارتر وتشيكوف، في حدود هذه القيم الاتجاهية التي قدمناها على ضوء التحليل والتطبيق. وتواجهنا بعد ذلك مشكلة الجمهور، إذا ما وضعنا في حسابنا عنصر الملاءمة بين المستويات الفنية اللازمة لمسرحنا الحديث. إن مستوى الكاتب - على مدار قوى التطور - يستطيع أن يرفع إليه تدريجيا مستوى الجمهور. ومن طبيعة المجتمع في خطواته التطورية، أن يلائم بين عمليات التفاعل المندمجة في خط سير إنساني، يشترك في ميدان النشاط العملي مع بقية الخطوط، فإذا كانت هناك قوى معينة من شأنها أن تسهم في تطوير المستوى العقلي لجمهور المسرح، حتى يستطيع أن يتجاوب مع مثل تلك القيم الاتجاهية تجاوب فهم وإدراك وتأثر، فإن من بين هذه القوى - وفي طليعتها - كاتبنا المسرحي الذي ينبغي له أن يقوم بدوره في عملية القيادة؛ إن أزمة جمهورنا المسرحي ليست أزمة الإقبال العددي على دور العرض، ولكنها أزمة التهيؤ العقلي لمسرح جديد تتوفر له تلك القيم إذا ما نضج المستوى الاتجاهي للكتاب؛ لأنه لا جدوى إذا ما نجح الكاتب وسقط الجمهور!
إن سقوط الجمهور معناه أن يسقط العمل المسرحي على الرغم من نجاحه، وهذا هو حادث لمسرحية «الطائر البحري» لتشيكوف، عندما واجهت في أول عرض جمهورا تخلف مستواه العقلي عن مستوى المضمون الرمزي للمسرحية؛ ولكنها في العرض الثاني وبعد ذلك بعامين، وعندما وجد الجمهور المتطور الإدراك، المكتشف لما وراء الرمزية الموضوعية من أفكار واتجاهات، تحقق لها ما هي جديرة به من تقدير ونجاح. ولقد نجحت مسرحية «الذباب» لسارتر - على الرغم من رمزيتها الفلسفية المسرفة - لأنها عرضت على جمهور استطاع بإدراكه المرهف، أيام الاحتلال النازي واندلاع حركة المقاومة، أن يفهم المعاني الخفية التي أراد الكاتب توصيلها عن طريق الرمز إلى مواطنيه؛ ما دامت قوى الاحتلال تحول بين أصحاب القلم وبين حرية التعبير!
Página desconocida
الأثر الفني بين الفهم والتذوق
هناك فنان فهم الحياة حق الفهم وخبرها كل الخبرة، ومع ذلك فهو يتذوقها بقدر محدود لا يتناسب وخبرته العميقة، ولا يتفق وفهمه الأصيل. فما هو الفارق بين طبيعة «الفهم» وطبيعة «التذوق» في حياة الفنان؟ لتوضيح هذا الفارق الفني بين الطبيعتين نقول: إنك تفهم الشيء بعقلك وتتذوقه بشعورك، نعني أن الفهم أداته الذهن الثاقب وأن التذوق أداته الإحساس الرهيف ... إنهما طاقتان: طاقة عقلية وطاقة شعورية، والذين قويت عندهم الطاقة الأولى وضعفت الثانية، هم الذين تتوقد في وجودهم شعلة الفهم وتخبو شعلة التذوق، بالنسبة إلى أي قيمة من قيم الفن وأي معنى من معاني الحياة. إن هناك مثلا من «يفهم» قصيدة من الشعر، يفهم فيها اللفظ والصورة، ويفهم فيها الوزن والقافية، ويفهمها اتجاهيا إذا طلبت إليه الشرح والتفسير، ومع هذا كله لا يستطيع أن «يتذوق» فيها وحدة العمل الفني، ولا إيحائية التركيب اللفظي، ولا تماسك التجربة الشعورية، وهي معروضة تفصيليا من خلال مضمون. وقل مثل ذلك عن الذي يفهم أصول النوتة الموسيقية للحن من الألحان، ثم لا يتذوق جمال اللحن، ولا يهتز لروعة الإيقاع، ولا يستجيب لتصويرية النغم.
إن فهم الحياة هو أن نفتح «لمشاهدها» أبواب العقل، أما تذوق الحياة فهو أن نفتح «لتجاربها» أبواب الشعور؛ إننا «نراها» هناك تحت إشعاع الومضة الذهنية، ولكننا «نتلقاها» هنا تحت تأثير الدفقة الوجدانية، وعلى مدار هذه الكلمات نستطيع أن ننظر إلى كل عمل يمت إلى الفن بسبب من الأسباب.
هذه الكلمات هي معالم الطريق إلى «الأداء النفسي»، أو إلى هذه المحاولة المذهبية التي تحمل ذلك العنوان، وهدفها أن تزن قيم الفن بميزان جديد، سواء أكان الفن ممثلا في قصة تحليلية أم في لوحة أم في مقطوعة موسيقية أم في قصيدة، وسواء أكان الفهم أو التذوق في كل أثر من هذه الآثار متعلقا بموقف الفنان من مشاهد الحياة وتجارب النفس حين ينتج، أم كان منتسبا إلى موقف الذين يحكمون على الفن ويقيمون له الميزان عن طريق الذهن أو عن طريق الشعور. إن الفن في جوهره ليس فهما للحياة يقف بنا عند حد الرؤية المادية والآثار العقلية، حين تقوم هذه من تلك مقام النتيجة من المقدمة أو مقام النهاية البداية، وإنما هو إلى جانب هذا حركة في الوجود الخارجي، تعقبها هزة في الوجود الداخلي يتبعها انفعال، انفعال يحدث تلك المشاركة الوجدانية بين منتج الفن وبين متذوق الفن؛ نتيجة لذلك التجاوب الشعوري بين الفنان وبين مصدر التلقية الأولى والإلهام الوليد؛ نريد أن نقول إن اللقطة البصرية في الإنتاج الفني حيث يعقب عليها العقل وحده، ليست كل شيء مهما بلغت الطاقة الذهنية في التفكير والتعبير عن صور شتى وآفاق، وإنما العبرة باللقطة النفسية التي تفتح نوافذ الحس ثم تنحدر إلى كوى الشعور، وتستقر آخر الأمر في أعماق الذات الشاعرة في الطبيعة الإنسانية.
وعندما نقول الوجود الخارجي والوجود الداخلي، فإنما نقصد بالتعبير الأول ذلك المسرح الكوني الزاخر بالمشاهد المادية ونعني به الحياة، ونقصد بالتعبير الأخير ذلك المعرض الإنساني الحافل بالصور الوجدانية ونعني به النفس، هناك حيث ترقب المدركات الحسية وتتأمل، وهنا حيث تتلقى المدركات النفسية وتسجل. ولا بد من المشاركة الفنية التي يتم فيها التوافق بين عالم النفس وعالم الحياة، لنحصل على هذا المزيج الأخير من واقعيتين.
هذه الخواطر التي يثيرها في الذهن كل مشهد مادي في الواقع الخارجي، يجب أن يصهرها الفن في تلك البوتقة الداخلية لتتحول إلى مشاعر. أليس الفن في حقيقته المثلى عملية استقبال حسية تعقبها عملية إرسال نفسية؟ إنه لكذلك على التحقيق، وإننا لنفرق تبعا لهذا التحديد بين إنتاج فني لا يهز من الكيان الشاعر غير الحواس الخارجية، وبين إنتاج آخر يثير في هذا الكيان ما أثاره الإنتاج الأول، ثم يزيد عليه حقيقة أخرى حين يطرق أبواب الشعور في صدق وأصالة.
كلمات نؤيدها بالدليل حين ننتقل إلى مرحلة التطبيق، ونقدم أول مثال: دعي الموسيقار العظيم فرانز لست إلى حفل من تلك الحفلات الخاصة، التي كانت تزخر بها الصالونات الباريسية، ويدعى إليها جمهور خاص من الطبقة الأرستقراطية التي كانت تعشق فيما تعشق من متع الحياة أنغام الخالدين؛ وحين نهض لست ليأخذ مكانه من البيانو، طلب إليه المدعوون أن يعزف شيئا من آثار بتهوفن، وشيئا من آثار ذلك العبقري الآخر الذي كان يجلس بين الصفوف في انتظار العزف، صديقه فردريك شوبان. ومن المعروف عن لست أنه كان يجمع إلى موهبته الفذة في التأليف الموسيقى، موهبة أخرى لا يختلف في تقديرها النقاد، وهي أنه كان أقدر القادرين على عزف موسيقى بتهوفن خاصة، وموسيقى غيره من أقطاب النغم على العموم.
وحين انتهى لست من عزف مقطوعة «ألا داجيو» من سوناتة «دودييز مينير» لبتهوفن، أقبل عليه المدعوون وفي مقدمتهم شوبان، ليثنوا بمشاعرهم التي أغرقها في فيض الذهول سحر النغم، على تلك القدرة الفائقة التي أعادت إلى الأذهان صورة حية من صور بتهوفن الخالد. ومرة أخرى طلب الحاضرون إلى لست، أن يعزف لهم مقطوعة خاصة من مقطوعات «البريلود» لشوبان، وكانت مقطوعة يعتز بها الموسيقار البولوني ويعتز بها الفن؛ لأنها قطعة من نفسه الشاعرة في فترة من فترات ألمه النبيل، ذلك الذي طالما تحدث عنه إلى الناس في أنغام، وعندما فرغ لست من عزف المقطوعة ظهر عدم الارتياح على وجه شوبان؛ إن لست لم يخرج على أصول النوتة، ولم تخنه المقدرة على العزف في يوم من الأيام، ولم يستطع صديقه صاحب «البريلود» أن ينكر هذا عليه، ولكن؛ ولكن كان هناك شيء ناقص أحسه شوبان ولم يحسه أحد سواه، إلا حين نهض ليأخذ مكان لست من البيانو ويبدأ عزف المقطوعة من جديد.
لقد لمس الحاضرون أن هناك فارقا ملحوظا بين الأنغام، حين انطلقت في المرة الثانية من بين أنامل شوبان، ولقد كانت «مشاعرهم» هي المرصد الدقيق لتسجيل الفارق الفني هنا وهناك، حتى لقد أقبل لست على صديقه يعانقه ويقبله ويقول له: حقا يا عزيزي شوبان إن اللحن قد خرج من بين يديك وهو شيء آخر؛ لقد بعثت فيه من روحك لأنه قطعة من حياتك أنت.
هذا هو الأثر الفني بين الفهم والتذوق حين يتمثل في مقطوعة موسيقية، لقد كان الفارق الملموس بين لست وشوبان، هو الفارق بين من «فهم» اللحن بعقله حين نقله عن أصول النوتة، وبين من «تذوق» اللحن بشعوره حين نقله عن حديث الوجدان، ومن هنا بدت مقطوعة «البريلود» عند لست جسدا جميلا بغير روح، وبدت عند شوبان جسدا يفوق الأول جمالا؛ لأن فيه الروح الذي يضفي على الفن كل معنى من معاني الحياة.
Página desconocida
هنا، في هذا المثال، مفرق الطريق بين أسلوبين في تقديم الأثر الفني إلى الجماهير: أسلوب يعتمد على الذهن «الفاهم»، وأسلوب يعتمد على الشعور «الذواق»، أو قل إنه اختلاف بين طبيعتين: طبيعة تتلقى الإثارة عن طريق الحس، وطبيعة تتلقى الإثارة عن طريق النفس، أو قل مرة أخرى إنه اختلاف بين مزاجين: مزاج يحلق بالتجربة المادية في آفاق الفكر، ومزاج يحلق بالتجربة النفسية في آفاق الشعور ...
وإنه لذلك الاختلاف الذي تبرزه الفوارق الدقيقة بين فنان تذوق الحياة منعكسة على الذات الشاعرة، وبين فنان فهم تلك الحياة منعكسة على الورقة الناقلة؛ ونعني بها النوتة الموسيقية التي نقل عنها لست فترة من حياة صديقه نقلا ذهنيا لا حرارة فيه.
اقرأ قصة «أم» لفرانسو مورياك، إنها قصة لا تطالعك بتلك الطاقة التحليلية الضخمة، التي تطالعك بها آثار كاتب مثل بلزاك أو دستوفسكي أو ستندال، ولا بذلك الفهم الواسع الذي يحيط بصور الحياة، ليفرغها بعد ذلك في إطار؛ ليس فيها شيء من هذا الذي أشرنا إليه، ولكن فيها الفنان الذي يعيش في موضوع قصته، ويتمثل التجربة تمثلا شعوريا لا غلو فيه، ويتذوق الحياة في لحظاتها النفسية النادرة، التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق.
هناك لحظة من تلك اللحظات النادرة التي نعنيها في قصة مورياك، وقبل أن نقف بك عند تلك اللحظة، نلخص لك مضمون القصة بصراعه النفسي، وهو مضمون العلاقة «الخالدة» بين كل أم وكل زوجة ابن، تحتدم في أعماقهما المعركة حول الرجل الذي تربطه بالأولى روابط البنوة وبالثانية صلات الزوجية. هذا الرجل الذي يقف بين «العدوتين» موقف الحائر المتردد، الذي تتعرض حياته في كل وقت لهبوب العواصف والأعاصير. الابن هنا، وهو فرنان كازيناف، رجل ضعيف الشخصية مسلوب الإرادة، يعطف على زوجته ولكنه لا يستطيع أن يجهر بهذا العطف؛ خوفا من تلك الأم التي بقيت له بعد وفاة أبيه، وطبعته منذ صباه الباكر بطابع الخضوع والرهبة؛ فهو لا يستطيع أن يجادل ولا أن يعترض ولا أن يقف في وجهها عندما تتعقد الأمور. والأم كازيناف امرأة تحب ابنها برغم قسوتها عليه، وما كانت قسوتها تلك إلا نتيجة لهذا الحب، الذي تريد به الأمومة أن تملك وأن تتحكم وأن تستأثر، ولا يشاركها في هذا اللون من حب التملك إنسان. والزوجة، وهي ماتيلد كازيناف، فتاة لقيت من ظلم الحماة وإهمال الزوج وقسوة الحياة، ما ينوء به الطوق ويفرغ معه الصبر؛ ومع ذلك فقد صبرت واحتملت ، ولقيت متاعب العيش بالرضا القانع والصبر الجميل.
وتمضي القصة في طريقها لتصور لك أدوار الصراع، الصراع الذي انتهى بموت الزوجة بعد حالة وضع، قوضت من الجسد المتهالك آخر حصن من حصون المقاومة، أو آخر معقل من معاقل الكفاح، ولقد ماتت وحيدة، لا همسة عطف من الابن، ولا نظرة رثاء من الأم، ولا موعد لقاء مع رحمة القدر ... وحين انتهى كل شيء، وسكتت كل حركة، ودفنت في تراب الموت كل خصومة، استطاع فرنان كازيناف أن يصعد إلى حجرة الشهيدة، وأن يحس لذع الندم وأن يوجه إلى أمه كلمة عتاب.
ونلتقي باللحظة التي يصور فيها مورياك موقف النادم أمام الجثة الهامدة؛ تلك اللحظة النادرة من لحظات «التذوق» لمشهد من مشاهد الحياة منعكسا على صفحة الشعور. لقد وقف فرنان أمام جثة الشهيدة، وكأنه يقف أمام قديس ليعترف له بما جنت يداه، بما اقترف من إثم، بما حمل من ذنوب؛ ترى من أغمض عينيه كل تلك الأعوام فلم ير هذا الجمال؟ ومن أغلق قلبه كل تلك السنين فلم ينعم بهذا الصفاء؟ وهذا الطهر، وهذا الصبر، وهذا الإيمان، وهذه القيم الإنسانية من حال بينه وبينها، حتى لكأنه يبصرها لأول مرة، ويستشعرها لأول مرة وينكشف له منها في لحظة عابرة، ما غاب عنه فيما مر من أيام دنياه؟ ترى هل يستطيع أن يفعل شيئا لهذا الجسد، الجسد الذي احترق في موقد العذاب، وتألم، وحمل من الشقاء فوق ما يحمل طوق الأحياء؟ شيئا ولو كان صغيرا ضئيلا لا قيمة له، يشعره بأنه قدم إليه في رحاب الموت ما عجز أن يقدمه في رحاب الحياة؟ إنه يريد الآن أن يعبر للجسد الهامد عن عطفه، عطفه الذي لم يستطع أن يعبر عنه في يوم من الأيام، ولقد قدر له أن يعبر عن هذا العطف، حين خطر «لذبابة» هائمة أن تستقر على الوجه الحزين؛ لقد انتفض كالمصعوق ليرد العدوان الأثيم عن تلك البقعة «الآمنة»، البقعة التي لن يسمح بعد الآن بأن «تقلق» أمنها هجمات المعتدين.
هذا هو الأثر الفني بين الفهم والتذوق ممثلا في قصة تحليلية، إن مورياك في هذه القصة كما قلنا لك، لا يطالعك بذلك «الفهم» الواسع، الذي يحيط بصور الحياة ليفرغها بعد ذلك في إطار، ولكنه يطالعك بذلك التذوق للحياة في لحظاتها النفسية، التي لا يفطن إليها غير أصحاب الوعي العميق؛ تلك اللقطة النادرة في جملة عابرة، اللقطة المتمثلة في تصوير الندم والشعور به، وفي الإيحاء بالذنب والتكفير عنه، وتلك الزاوية الفريدة التي اختارها ليركز فيها ذلك الإيحاء، بلمسات قليلة موجزة قوامها «الذبابة الهائمة»، التي راح يدفع عدوانها عن الوجه الحزين؛ كل هذه القيم التصويرية التي ارتفعت بالمشهد النفسي إلى آفاق متسامية في فن القصة، نستطيع أن نلخصها في معنى واحد هو المحور الرئيسي، الذي ندور حوله منذ البداية، ونعني به التذوق الشعوري الكامل للوجود الخارجي، حين يتحول إلى تجربة داخلية كاملة في النفس الإنسانية.
أما عن الأثر الفني بين الفهم والتذوق ممثلا في لوحة تصويرية، فارجع إلى اللوحة الثمينة التي رسمها جيرار لمدام ريكامييه، قف أمامها طويلا، وتأمل نظرة العينين في ذلك الوجه الساحر الآسر، إنها ومضة الأسى الدفين اللافح يشع من عيني امرأة؛ امرأة كانت وحيا ملهما لأقطاب الشعور والتصوير والأدب. إن جيرار لم يكن يعلم كل شيء عن قصة مدام ريكامييه، التي كان واقع حياتها أعجب من الخيال وأغرب من الأسطورة، هذا الواقع الذي لم يفهم كل الفهم سره العميق ولكنه تذوقه، حين أوحى التذوق إلى ريشته البارعة، أن تصور هذا الأسى اللافح في العينين الساحرتين.
لقد قدر لهذه المرأة الجميلة أن تتزوج من أبيها، الذي كان أحد الأثرياء في عصره، ولم تكن تعلم أن الزوج هو الأب، الذي انحدرت من صلبه وقضت كل أيام الحياة معه، وهي عذراء؛ أما هو فكان يعلم أنها ابنته، ولكن ظروفا قاهرة هي التي أملت عليه أن يقترن بها، وأن يعيش معها تحت سقف واحد، دون أن يعرف سره
1
Página desconocida
الحقيقي غير أمها وغير الله، من هنا تعذبت لأن حياتها قد خلت من الرجل؛ الرجل الزوج، والرجل الآخر الذي حال بينها وبينه سياج من العفاف والطهر، في بيئة كم امتحنت صمودها بألوان من المغريات. لقد عاشت كل أيامها في أسر الحرمان؛ حرمان الروح والجسد.
هذا المعنى الأخير، استطاع جيرار الفنان أن يتذوقه وأن يستشفه، وأن يصبه صبا في نظرة العينين الحالمتين. إنه كما قلنا لم يكن «يفهم» الكثير من قصة تلك الحياة، ومع ذلك فقد استطاع أن ينفذ شعوره الملهم إلى ما وراء المجهول، وأن «يتذوق» الحياة في قصة، وأن يصورها في نظرة، وأن يتحدث بها إلى الناس في ألوان وظلال.
هذا التذوق الشعوري الكامل هو أساس الأداء النفسي، أو هو الطريق إليه في مختلف الفنون. لقد كان طريق شوبان إلى هذا الأداء الذي نعنيه في مقطوعة «البريلود»، وكان طريق مورياك إلى هذا الأداء نفسه في قصة «أم»، وقل مثل ذلك بالنسبة إلى جيرار في لوحة «مدام ريكامييه».
ونحن بعد هذا لا ننكر أثر «الفهم» كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، ولكن الذي نريد أن نقوله وقد سبق أن قلناه، هو أن الفن في جوهره ليس فهما للحياة، يقف بنا عند حد الرؤية المادية والإثارة العقلية، وإنما هو - إلى جانب هذا - حركة في الوجود الخارجي تعقبها هزة في الوجود الداخلي يعقبها انفعال؛ وكل هذه النقلات المترابطة تكون في مجموعها عملية التذوق، التي تمهد الطريق للأداء النفسي. ولو قدر للفنان أن يملك هذه الموهبة، فلا بد له من أن يملك القدرة على التعبير الصادق ليبلغ الهدف الأخير من ذلك الأداء.
إن الأداء النفسي لا يكمل معناه، إلا وهو قائم على دعامتين، هما: الصدق الشعوري والصدق الفني؛ متحدين في مجال صورة تعبيرية. أما الصدق الشعوري فهو ذلك التجاوب بين التجربة الحية وبين مصدر الإثارة، أو هو تلك الشرارة المشعة التي تندلع في الوجود الداخلي من التقاء تيارين: أحدهما نفسي متدفق من أعماق الشعور، والآخر حسي منطلق من آفاق الحياة؛ هذا هو الصدق الشعوري وميدانه الإحساس، أما الصدق الفني فميدانه التعبير، التعبير عن دوافع هذا الإحساس بحيث يستطيع الفنان أن يلبس تجاربه ذلك الثوب الملائم من فنية التعبير، أو يسكن مضامينه ذلك البناء المناسب من إيحائية الصور.
مشكلة العلاقة بين مي وجبران
إذا وصفت العلاقة بين مي وجبران بأنها مشكلة، فأنا لا أعدو الواقع بالنسبة إلى الحقيقة التي عاشت في نفسي ردحا من الزمن، وكانت مفرق الطريق بيني وبين غيري من الدارسين؛ هل كانت علاقة مي بجبران لونا من الصلة الشعورية، التي تندرج تحت كلمة الحب حينا وكلمة العاطفة حينا آخر، وتتصل من قريب ومن بعيد بأنوثة المرأة ورجولة الرجل، إذا ما حددنا العاطفة الأنثوية نحو الطرف المقابل بأنها تفضيل وتمييز وإيثار؟ هذه هي المشكلة؛ المشكلة التي يتطلب بحثها الكثير من الوعي والكثير من الحذر والكثير من الأناة؛ لأن الباحث المسرع في الدراسة أشبه بالسائق المسرع في القيادة، كلاهما وهما في سبيل الوصول إلى هدفه المنشود في أقرب وقت قد يرتكب جريمة قتل، وفي خلال الطريق قد يكون المقتول بالنسبة إلى السائق رجلا وبالنسبة إلى الباحث حقيقة؛ والحقيقة التي قتلها الدارسون «المسرعون»، هي أن عاطفة «الأنوثة» في مي لم تتجه يوما إلى جبران!
إن صورة تلك العلاقة قد بدأت في نفسي، وهي داخل إطار من الشك المثير. أما مصدر هذا الشك فهو طبيعة من الأنثوية. لقد بدت لي هذه الطبيعة يوما وهي مغلفة بالانحراف ملفعة بالشذوذ، حتى استحالت في بوتقة الفكر إلى سؤال حائر ينتظر الجواب: هل كانت مي امرأة؟ امرأة ورثت كغيرها من النساء تلك التركة الخالدة عن الأم الأولى وهي حواء؟ إن المرأة الطبيعية في رأيي هي تلك التي يستيقظ في أعماقها الشعور بالرجل، سواء أكانت هذه اليقظة في صورة حب مضطرم، أم كانت في صورة عاطفة جياشة، أم كانت في صورة حس مشبوب؛ هذه هي المرأة الطبيعية. أما المرأة الشاذة فهي تلك التي «تنام» في أعماقها مثل هذه «اليقظة»، هي تلك التي تلهب دون أن تحس بين جنبيها وهج النار، هي تلك التي تثير ولا تثار؛ هي مي في حقيقتها العميقة التي لم «تتذوق» طعم الحب؛ لأنها فقدت «شهية » الأنوثة، وهذا هو الباب المغلق الذي يحتاج ليفتح على مصراعيه إلى طرق عنيف!
لقد تتبعت حياتها النفسية وهي بين الرجال، وهي في صالونها الأدبي في أيام الثلاثاء، وكان من بين أولئك الذين يحيطون بها رجال ممتازون؛ بعضهم لا تنقصه الرجولة، وبعضهم لا تنقصه الشهرة، وبعضهم لا تنقصه المكانة الأدبية والاجتماعية، وكل هذه الصفات جديرة بلفت نظر المرأة واجتذاب أعمق ما فيها من غرائز الأنوثة، تلك التي تنشد في الرجل وجها معينا من وجوه الإثارة. كانت تجتمع بهم، وتتحدث إليهم، ثم لا شيء وراء الحديث المألوف واللقاء المتكرر مما يتصل بالشعور الأنثوي والعاطفة الوجدانية. ولقد شغف بها بعضهم ذلك الشغف الذي يؤدي بالكرامة ويعصف بالوقار، ومع ذلك فقد ظل القلب العجيب على هموده، وخموده، وكأنه لا يعرف النبض ولا يعترف بالخفوق! هذا ولي الدين يكن يقول لها يوما في إحدى رسائله:
سيدتي ملكة الإلهام؛ ما أسكت هذا القلم عن مناجاتك إلا حرب الأيام، إنه منذ أيام كثيرة أسيرها الذي لا يرجى فكاكه. غير أني كنت أناجي روحك كلما بدت لعيني أشياء من محاسن هذا الوجود؛ كم وقفت أمام الأبيض المتوسط أرتجل العبرات، هذه أشعاري لا أهديها إليك، إني لأشفق أن أحييك بغير الابتسامات؛ وكم دخلت الروض أساجل قماريه، تلك أغان أرجعها لديك، إني لأخاف أن أغنيك بغير المسرات. والآن عندي قبلة هي أجمل زهرة في ربيع الأمل أضعها تحت قدميك، إن تقبليها تزيدي كرما وإن ترديها فقصاراي الامتثال. وبعد، فإني في انتظار بشائر رضاك، وطاعة لك وإخلاص!
Página desconocida
أسلوب في الأدب والحب عند ولي الدين يكن، يلتقي مع أسلوب مماثل عند الرافعي. واستمع له هو الآخر وهو يوجه الخطاب بعد المقدمة الشعرية إلى مي فيقول:
يا نسمة في ضفاف النيل سارية
مسرى التحية من ناء إلى ناء
يا ليت رياك مست قلب هاجرتي
فتشعريه بمعنى رقة الماء
ليست تحب سوى ألا تحب فما
أعصى الدواء على من حبه دائي!
هذا، وإن النفس لتنازعني إليك، ولكن لم أتطفل على أحد من قبلك ولن أتطفل عليك مرتين، نقول الشمس والقمر والنجوم، فإذا أنت تريدين أن نراك من مرصد فلكي! وأي بليغ يراك ولا يعرف فيك فنا جديدا في حسن معانيه ومبانيه، ويعرفك ولا يرى فيك أبدع البديع فيما يعانيه من افتنانه؟ لله الحمد أن جعلنا نتلقى الماء ولم يجشمنا أن نصعد من أجله السماء!
أسلوبان كلاهما في الحب ذليل وفي الأدب مصنوع، وكم قلت لنفسي وأنا أستعرض ما فيهما من المواكب اللفظية، المواكب التي كانت تمر تحت شرفة مي، وهي تقدم تحية المقهور وولاء التابع وضراعة المبتهل: أتكون مي قد نظرت إلى الرجلين نظرة المرأة المدلة بكبرياء الأنوثة إلى كل حب ذليل؟ أم تكون قد نظرت إليهما كأديبين نظرة الأديبة المعتزة بشرف الثقافة إلى كل أدب غير خلاق؟ فرضان إذا وضعتهما تحت مجهر الفكر لم يظفر أحدهما بما ينشده الباحث من وسائل الإقناع. تريد أن تطمئن إلى كلا الفرضين فيقلقك هذا الخاطر الذي يثب من مكمنه ليعترض عليك: ألم يكن في حياة مي محب كريم على نفسه؟ محب لا تنحني بين شفتيه ظهور المعاني ولا تخر على قدميها الكلمات؟ ألم يكن في حياة مي أديب تثق بفنه؟ أديب لا تختنق في أدبه الأخيلة تحت ضغط الصنعة المسرفة، ولا تتحول الصور إلى جثث محنطة قد أطبقت عليها توابيت الألفاظ؟ يعترض هذا الخاطر فلا تملك إلا أن تعترف بالواقع، الواقع الذي يشير في حياة مي إلى وجود جبران ... وعندئذ تتبخر في الفضاء كل الظنون وتنهار تحت أقدام الفكر كل الفروض!
لقد كانت طبيعتها الأنثوية واحدة هنا وهناك؛ فتور عجيب يزلزل في نفسك قوائم الإيمان بأنها كانت امرأة، امرأة يضطرب بين جنبيها الإحساس الخالد بالأنوثة، وينطلق من وجودها الداخلي نداء الأعماق. إن بين أيدينا رسائلها ورسائله، فتعال نبحث بين السطور عن أثر الأنثى الطبيعية، وتعال بعد ذلك نفتش بين ركام الألفاظ عن المفتاح؛ المفتاح الذي نديره في ثقب الباب المغلق ليفتح على مصراعيه، إذا لم يؤمن الذين نادوا بحب مي لجبران بنتيجة الطرق العنيف!
Página desconocida
أنا ضباب يا مي؛ أنا ضباب يغمر الأشياء ولكن لا يتحد وإياها؛ أنا ضباب وفي الضباب وحدتي، وفيه انفرادي ووحشتي، جوعي وعطشي. ومصيبتي هي أن الضباب وهو حقيقتي، يتوق إلى استماع قائل يقول: لست وحدك ونحن اثنان، أنا أعرف من أنت!
أخبريني يا مي، أفي ربوعكم من يقدر ويريد أن يقول لي: أنا ضباب آخر أيها الضباب؛ فتعال نخيم على الجبال وفي الأودية، تعال نسير بين الأشجار وفوقها، تعال نغمر الصخور المتعالية، تعال ندخل إلى قلوب المخلوقات وخلاياها، تعال نطوف في تلك الأماكن البعيدة المنيعة غير المعروفة؟ قولي يا مي: أيوجد في ربوعكم من يريد ويقدر أن يقول لي ولو كلمة واحدة من هذه الكلمات؟
أرأيت إلى هذا الأسلوب الجديد في الأدب والحب؟ أرأيت إلى جبران الإنسان تحترق في موقد العذاب خلجات نفسه، وإلى جبران الفنان تنتشر في متحف الإبداع لوحات أفكاره؟ إنه الرجل الذي يعيش في الضباب ويود أن يلمح من خلاله شبح أنثى، أو بارقة عطف، أو طيف أمل؛ وها هو ذا ينادي، ينادي أنثاه نداء الوحدة والغربة، والانفراد والوحشة، والجوع والعطش، ترى هل فهمت لغة نفسه، ووعت منطق شعوره، وتذوقت في النداء حرارة الدعاء؟ إن الأنوثة الخامدة تقدم إليك هذا الجواب:
لقد قصصت شعري؛ وعندما ترى من صديقاتك بعد اليوم يا جبران من هن في هذا الزي يمكنك أن تذكرني، وأن تقول لهن في سرك إنك تعرف من يشبههن! كنت إلى شهور راغبة في التخلص من هذه الذوائب، التي يقولون إن لطولها يدا في قصر عقل المرأة، وهو افتراء طبعا. ولكن عندما رأيت شعري بحلكته وتموجه الجميل وعقاربه الجريئة مطروحا أمامي، تداعبه يد المزين شعرت بأسف على هذه الخسارة! غير أن المزين طيب خاطري بعبارات، تكسرت فيها الكلمات الألمانية والإيطالية، وهو روماني على ما يقول، فهل كان في وسعي أن أضحك؟ لقد مضى يصف لي جمال الشعر القصير ومنافعه ومميزاته، لا سيما وأنه، على ما زعم المزين الصالح، يليق لي كثيرا؛ وسألته إلى كم امرأة يقول كل هذه الكلمات، فأجاب : «أنت فيلسوفة!» أرأيت هذه الفيلسوفة التي تسعى إلى قص شعرها ثم تحزن عليه، ثم تضحك لأن المزين يعزيها عن فقده بكلمات مسرحية؟!
هذه هي المرأة التي كان يخاطبها جبران؛ المرأة التي كان يخاطبها بلغة الشعر فتخاطبه بلغة الشعر، ويحدثها عن قلبه وهو بين يدي الأشواق، فتحدثه عن رأسها وهو بين يدي الحلاق، وإنه لحديث الأنوثة المكفنة بأثواب العدم، ومن حولها صرخة من أصدق صرخات الوجود!
أنوثة مقتولة ولو التمست لها مي شتى الأسباب والمعاذير، ولو حاولت أن تبرر شذوذها وهي تقول لجبران في رسالة سابقة، تمهد بها لهذا الشذوذ:
جبران! لقد كتبت كل هذه الصفحات ضاحكة لأتحايد كلمة الحب؛ إن الذين لا يتاجرون بمظاهر الحب ودعواه في السهرات والمراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميتية رهيبة، قد يغبطون عليها الذين يوزعون عواطفهم في اللألاء السطحي؛ لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم ويفضلون تضليل قلوبهم عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة.
ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكنني أعرف أنك محبوبي وأني أخاف الحب. إني أنتظر من الحب كثيرا، فأخاف ألا يأتيني بكل ما أنتظر! أقول هذا مع علمي بأن القليل من الحب كثير، الجفاف والقحط واللاشيء في الحب خير من النزر اليسير؛ كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا، وكيف أفرط فيه؟ لا أدري! الحمد لله أنني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به؛ لأنك لو كنت الآن حاضرا بالجسد لهربت خجلا بعد هذا الكلام ولاختفيت زمنا طويلا، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى!
حتى الكتابة ألوم نفسي عليها أحيانا؛ لأني بها حرة كل الحرية؛ أتذكر قول القدماء من الشرقيين إنه خير للبنت ألا تقرأ ولا تكتب. إن القديس توما يظهر هنا، وليس ما أبدي هنا أثر الوراثة فحسب، بل هو شيء أبعد من الوراثة. قل أنت ما هو هذا؟ وقل لي ماذا كنت على ضلال أو هدى، فإني أثق بك وأصدق بالبداهة كل ما تقول.
أصدق ما يقال هنا عن هذا التمهيد أنه متعمد ومقصود، أو أنه حركة بارعة من حركات التغطية والتعمية والإيهام؛ تزعم مي أنها تخشى الحب، ولو صدقت لقالت إنها لا تستطيع أن تتذوقه؛ لأنها كما سبق القول قد فقدت أبرز الخصائص عند المرأة الطبيعية! تخشى الحب ولماذا تخشاه؟ ألأنه قد يأتيها بالنزر اليسير، وهي لا ترضى بما دون الكثير؟ وما هذا الكثير إن لم يكن هو الرباط المقدس في منظار حواء؟ لقد لوح لها جبران يوما بهذا الأمل المشتهى عند كل أنثى، فلم يلق منها غير الصد والإعراض؛ لقد أرادتها صداقة فكرية وأرادها جبران علاقة وجدانية، وها هي مي ترفض عرضه وتدور حول هذا المعنى بهذه الكلمات: ... لقد فهمت ما أريد وإنما في غير معناه الحقيقي، وفهمته على وجه لم أقصده! ثم سطت عليك الكبرياء، كبرياء الرجل، فنسيت أن السكوت لا يحسن بيننا على هذه الصورة، نحن اللذين تكاتبنا أبدا كصديقين مفكرين؛ آلمني سكوتك من هذا القبيل، وأرهف انتباهي، فأعلمني أنك لم تشاركني ارتياحي إلى تلك الصداقة الفكرية؛ لأنك لو كنت سعيدا بها مثلي لما كنت رميت إلى أبعد منها! وصار معنى سكوتك عندي: «إما ذاك وإما لا شيء»، وأنت أدرى بأثر هذا في نفسي!
Página desconocida
تناقض بين موقف اليوم وموقف الأمس، وكلمات يطلقها اللسان هناك ويكذبها هنا واقع الشعور. وما زلنا بعد هذا كله نفتش بين ركام الألفاظ عن المفتاح؛ مفتاح الطبيعة الأنثوية الشاذة، التي لم ينبض فيها عرق بعاطفة نحو رجل من الرجال! وقبل أن نقدم إليك هذا المفتاح نحب أن نرجع إلى تلك العبارة، التي ذكرت فيها مي اسم «توما» القديس، وأثر الوراثة في حياتها النفسية. هناك - كما تقول لجبران - ما هو أبعد من أثر تلك الوراثة في تكوين نفورها من الحب، هذه الكلمات التي تحمد الله على أنها لم تنطلق من بين شفتيها، وإنما انطلقت من بين شفتي القلم ... هناك «شيء» آخر تسأل عنه جبران، وتستنجد بذكائه ليلهمه الجواب، ومعذرة للذكي النابغ إذا لم يفطن لهذا «الشيء»، وهو بالنسبة إلى المشكلة مفتاح الباب؟ معذرة لجبران إذا لم يفهم لغة مي النفسية لأنه كان يحب، وفي الحب تقرأ القلوب وحدها ولا تقرأ العقول؛ إن عقل جبران لو لم يكن أمام لغة مي معصوب العينين، لرأى هذا «الشيء» البعيد وكأنه يراه من مدى قريب!
ما هو هذا الشيء؟ رجعة أخرى إلى الوراء؛ إلى رسالة قديمة من رسائل مي، لنلتقط من بين سطورها المفتاح! لقد أغاظها جبران يوما بكبريائه، كبرياء الرجل الذي يريد أن يشعر المرأة بأنه قادر على السيطرة والامتلاك؛ إزاء رجل من هذا الطراز لا تستطيع المرأة المعتزة بكرامتها إلا أن تثور، وإذا ما ثارت المرأة فهي الثورة التي تعصف بالوعي، وترفع عن وجه حقيقتها «الداخلية» كل قناع! هكذا تجد كل امرأة وهكذا تجد مي. وتختلف الحقائق بعد ذلك تبعا لاختلاف التكوين النفسي عند شتى النساء؛ لقد ثارت على جبران، وفي خلال ثورتها على مرجل وجودها الداخلي ولم يكن محكم الغطاء، فتطايرت قطرات السر الرهيب في هذه الكلمات: ... لما كنت أجلس للكتابة كنت أنسى من وأين أنت؛ وكثيرا ما أنسى أن هناك شخصا، أن هناك «رجلا» أخاطبه! فأكلمك كما أكلم نفسي، وأحيانا كأنك «رفيقة» لي في المدرسة!
هكذا تكلمت مي، وإذا تكلمت مي فليس هناك زيادة لمستزيد؛ إن ذلك «الشيء» الذي سألت عنه جبران، قد أجابت عنه هنا في لحظة غضب ثائرة، ولم يكن في كلمة واحدة غير «الأنوثة المقتولة»، وإذا ما قتلت الأنوثة في أعماق المرأة فقد قتل إحساسها بالرجل، وانمحت الفوارق الجنسية في عالم الشعور؛ يبدو الرجل في منظارها وهو لا يختلف عنها في شيء؛ لأنها حرمت حاسة الجنس وسلبت توجيه الغريزة، وقل بعد ذلك أنه فقد الشهية نحو الأشياء، وما يترتب عليه من أثر في سلوك الأحياء: تفقد شهية الطموح فتزهد في المجد، وتفقد شهية القراءة فتشغل عن العلم، وتفقد شهية الأكل فتعزف عن الطعام؛ وكذلك المرأة حين تفقد شهية الأنوثة فتنسى الرجل وتنفر من الحب! لقد كانت مي في تلك السطور الأخيرة التي كتبتها لجبران، هي المرأة التي «نسيت» أن هناك «رجلا» تخاطبه، وكل امرأة تتعرض لهذا الشذوذ فهي واحدة من اثنتين: امرأة يتجرد إزاءها الرجل من أعمق صفات الرجولة، فإذا هو بوتقة إحساسها «رفيقة» من عالم النساء، وامرأة تتجرد إزاء الرجل من أبرز خصائص الأنوثة، فإذا هي في البوتقة نفسها «رفيق» من عالم الرجال، ومن هنا ينقطع «التيار» العاطفي بينها وبينه وكأنه تيار كهربائي بين قطبين سالبين ... وهذا هو المفتاح!
ترى هل كف جبران بعد ذلك عن السير مع عاطفة مي «السابقة» أو المسلوبة إلى نهاية الطريق؟ كلا؛ لأنه ما زال يحدق في لغة نفسها بعقل معصوب العينين:
لدي أمور كثيرة أريد أن أقولها عن العنصر الشفاف وغيره من العناصر، ولكن علي أن أبقى صامتا عنها، وسوف أبقى صامتا حتى يضمحل الضباب، وتتفتح الأبواب الدهرية ويقول لي ملاك الرب: تكلم فقد ذهب زمن الصمت، وسر فقد طال وقوفك في ظلال الحيرة! متى يا ترى تتفتح الأبواب الدهرية؛ هل تعلمين؟ هل تعلمين متى تنفتح الأبواب الدهرية ويضمحل الضباب؟ ها قد بلغنا قمة عالية فظهرت أمامنا سهول وغابات وأودية، فلنجلس هنيهة يا مي ولنتحدث قليلا، نحن لا نستطيع البقاء هنا دائما؛ لأنني أرى عن بعد قمة أعلى، وعلينا أن نبلغها قبل الغروب!
إنه ما يزال يسأل عن أبواب الأمل متى تفتح، الأبواب التي تقف من ورائها امرأة تنتظره وفي شفتيها همس، وفي عينيها لهفة، وفي يديها ذلك المنديل الإلهي، الذي تجفف به عرق النفس وتمسح غبار الروح، بعد رحلته الطويلة المضنية في طريق الحياة؛ إنه يريد أن يجلس قليلا ليستريح ويتحدث عن تلك القمة، التي يود أن يبلغاها معا قبل أن تحتضر شمس العمر على فراش الغروب! ولكن الأيام تمر والأبواب لا تنفتح، وليس هناك من ينتظر، والقمة التي بلغها وحيدا بلا رفيق أو حبيب، كانت قمة اليأس والخيبة وضيعة الرجاء. وانتهى الحديث عن اللقاء، وابتدأ الحديث عن الرحيل، وها هو جبران ينثر بين يديها أشلاء شعور تمزقت أوصاله على بقايا الصخور:
أتعلمين يا مي أني ما فكرت في الانصراف الذي يسميه الناس موتا، إلا وجدت في التفكير لذة غريبة وشعرت بشوق هائل إلى الرحيل؟ ولكني أعود فأذكر أن كلمة لا بد من قولها، فأحار بين عجزي واضطراري وتغلق أمامي الأبواب. لا لم أقل كلمتي بعد، ولم يظهر من هذه الشعلة غير الدخان، أقول لك يا مي، ولا أقول لسواك، إني إذا انصرفت قبل تهجئة كلمتي ولفظها، فإني سأعود لأقول الكلمة التي تتمايل الآن كالضباب في سكينة روحي؛ أتستغربين هذا الكلام؟ إن أغرب الأشياء أقربها إلى الحقائق الثابتة، وفي الإرادة البشرية قوة اشتياق تحول السديم فينا إلى شموس!
وأخيرا ودع جبران الدنيا ورحل عن عالم الأحياء؛ أما مي فقد بقيت من بعده وحيدة، لقد أضحت حياتها فراغا من كل شيء: فراغا من عطف الأبوة وحنان الأمومة، من صحبة الرفيق ونجوى الصديق، من ألق الشهرة وفنون المجد، من رونق الصبا وهتاف المعجبين؛ وما كان أصدقها وهي تعبر عن هذا الفراغ، في رسالة إلى نسيبها الدكتور زيادة فتقول:
إني أتعذب شديد العذاب يا جوزف، ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة وينبغي خلق تعبير جديد، لتفسير ما أحسه في وحولي. إن هناك أمرا يمزق أحشائي ويميتني في كل يوم، بل في كل دقيقة! لقد تراكمت علي المصائب في السنوات الأخيرة وانقضت علي وحدتي الرهيبة - التي هي معنوية أكثر منها جسدية - فجعلتني أتساءل كيف يمكن عقلي أن يقاوم عذابا كهذا! وكان عزائي الأوحد في محنتي هذه مكتبتي ووحدتي الشعرية، فكنت أعمل وأعمل كالمحكومة بالأشغال الشاقة، لعلي أنسى فراغ مسكني، أنسى غصة نفسي، بل أنسى كل ذاتي!
وقفة متأملة عند بعض الصور التعبيرية في هذه الرسالة؛ لأن تلك الصور ما هي إلا اعترافات نفسية لم تفصح عن مدلولها الكلمات؛ ما هو هذا «الأمر» الذي كان يمزق أحشاء مي، ويميتها في كل يوم كما تقول؟ أليس هذا الأمر الذي يرمض جوانحها بالعذاب، هو ذلك «الشيء» الذي كانت تسأل عنه جبران؟ أليس هو الشعور بأثر «الأنوثة المقتولة» التي حرمتها الرجل حبيب قلب وأنيس وحدة وشريك حياة؟ ألا تسمعها وهي تشكو «فراغ المسكن» وتصور وحدتها الرهيبة، بأنها كانت «معنوية أكثر منها جسدية»؟ لقد كانت وحدة نفس أكثر مما كانت وحدة جسد؛ لأن المرأة التي تقتل فيها الأنوثة، قلما تحس ذلك القلق الناتج عن كبت الغريزة، وإنما الشيء الذي يكثر إحساسها به من غياب الرجل هو فراغ الحياة! لقد كانت أضواء الشهرة تحول بين ناظريها وبين رؤية هذا الفراغ، كما كانت صيحات الإعجاب تغطي على طنينه الضخم، كلما طرق السمع من حين إلى حين ... وعندما أقبل اليوم الذي همدت فيه من حولها كل حركة، وخفت كل صوت وانطفأ كل بريق، تجلت لها الدنيا على حقيقتها المفزعة، التي لا وهم فيها ولا خداع!
Página desconocida
على ضوء هذا كله نستطيع أن نقول إن علاقة مي بجبران، لم تكن علاقة قلب وإنما كانت علاقة فكر، وإن عاطفتها نحوه لم تكن عاطفة حب، وإنما كانت عاطفة إعجاب؛ ولقد كان جبران جديرا بإعجابها وتقديرها وتفضيلها له على كل معاصريه من الأدباء؛ لأنه في رأينا ورأي الحق قد سبق بفهمه لحقيقة الفن، ذلك الجيل الذي عاش فيه! إن الفن في جوهره كما قلنا عنه يوما ليس فهما للحياة، يقف بنا عند حد الرؤية المادية والإثارة العقلية، حين تقوم هذه من تلك مقام النتيجة من المقدمة أو مقام النهاية من البداية، وإنما هو إلى جانب هذا حركة في الوجود الخارجي تعقبها هزة في الوجود الداخلي يتبعها انفعال، انفعال يحدث تلك المشاركة الوجدانية بين منتج الفن وبين متذوق الفن، نتيجة لذلك الفناء الشعوري بين الفنان وبين مصدر التلقية الأولى والإلهام الوليد.
ملحمة نجيب محفوظ الروائية
1 «بين القصرين» عمل فني جديد ظفر أخيرا بجائزة الدولة؛ ونجيب محفوظ صاحب هذا العمل، ظفر بتقدير النقد قبل أن يظفر بتقدير الدولة، منذ أن بدأت خطوط فنه الروائي تتجمع في نقطتي ارتكاز رئيسيتين، لا بد من توافرهما لكل عملية انطلاق فنية، هدفها الوصول إلى نقطة النهاية. عنصر المراقبة النفسية الدقيقة لشتى التجارب الجماعية المعاشة هي نقطة الارتكاز الأولى لعملية الانطلاق الفني، حين تتركز هذه التجارب في بؤرة العدسة اللاقطة، لتبرز موقف الكاتب من مشكلات عصره؛ وانصهار الملكة القاصة في بوتقة الممارسة المذهبية لكتابة العمل الروائي هي نقطة الارتكاز الثانية، حين تكون هذه الممارسة تفاعلا ثقافيا واعيا مع المقاييس النقدية المتطورة، بحيث تنبثق من خلاله - أعني هذا التفاعل - قيم الكاتب من الناحية الفنية.
إن أعمال نجيب محفوظ - على مدار نقطتي الارتكاز الأولى والثانية - تمثل نوعا من التصاعد الهرمي الذي يتدرج من القاعدة ب «خان الخليلي»، و«القاهرة الجديدة» و«زقاق المدق»، و«السراب» و«بداية ونهاية»، ثم ينتهي إلى القمة في «بين القصرين»، و«قصر الشوق»، و«السكرية»، وهي الأجزاء الثلاثة التي تكون في مجموعها عمله الروائي الأخير، أو ملحمته الروائية الجديدة. وإذا كان هذا التصاعد الهرمي لم يسجل تفاوتا كبيرا بين الأعمال الأولى والعمل الأخير، من ناحية المستوى الفني للكاتب، إلا أنه قد سجل هذا التفاوت، من ناحية الوعي الاتجاهي بين درجات التصاعد وقمته.
إن المستوى الفني عند نجيب محفوظ، ما يزال يحتفظ بمقوماته، فطريقته في رسم الأبعاد النفسية للشخصيات، وأسلوبه في إبراز الأبعاد المكانية كإطار مادي للأحداث والمواقف، وطابعه في اختيار النموذج الإنساني الرامز إلى المشكلة، هي التي تكون حتى اليوم، الملامح الثابتة لشخصيته الروائية. وإذا كان هنا بعض التغير، فهو خاص بعرض المونولوج الداخلي في صورة جديدة، قوامها تسجيل الحركة النفسية مباشرة قبل كل عملية تطوير موقفية، ورسم الحدث من الداخل وليس من الخارج، كما فعل في تقديم اللحظة التي استشهد فيها فهمى، بطل الجزء الأول من روايته الطويلة.
ولكن الخطوة الكبيرة الزاحفة كما قلنا، هي التي سجلها العمل الأخير من ناحية الوعي الاتجاهي، الذي يمثل موقف الكاتب من مشكلات عصره؛ فبعد أن كان نجيب يقتطع المشكلة الجماعية من واقع مرحلة زمنية واحدة، بحيث تمثل قطاعا عرضيا من قطاعات المجتمع في جيل معين، بعد هذا اتسعت لديه دائرة العرض الفني، بحيث تركزت فيها مشكلات العصر على امتداد أجيال ثلاثة، هي : الجيل الذي عاش قبل ثورة 1919، والجيل الذي عاصر تلك الثورة، والجيل الذي جاء بعدها ومهد لتلك الانتفاضة الشعبية المتمثلة في ثورة 1952؛ ومن خلال قطاع طولي ممتد، عبر الأجيال الثلاثة، استخدمت فيه شتى القطاعات العرضية، كروافد نهرية تعين المجرى الرئيسي على الانطلاق، تبرز لنا أسرة السيد أحمد عبد الجواد تاجر البقالة بالنحاسين، بما فيها من الأبناء والأحفاد، كرمز إنساني صادق لتطور المجتمع المصري في تلك المرحلة التاريخية الطويلة، من مختلف الزوايا السياسية والاجتماعية والفكرية.
وعندما نستعرض النماذج البشرية، التي يتألف منها الكيان الاجتماعي لهذه الأسرة التي بدأت حياتها قبل ثورة 1919، نلمس أن لكل نموذج تركيبته النفسية التي تميزه وتوجه سلوكه حيال الأحداث؛ فالسيد أحمد عبد الجواد، رب الأسرة، شخصية ازدواجية تمثل اتجاهين متناقضين في الحياة؛ فهو من جهة: شعار واقعي لطبقة التجار الميسورين في جيله، وهي الطبقة التي كانت تبحث عن المتعة الروحية والجسدية، وتمزج بينهما مزجا كاملا على ما بين المتعتين من تفاوت صارخ؛ يملك الأذن الحساسة والشعور المرهف، لاستقبال الصوت الإنساني المطرب والنغمة الموسيقية الشجية، ويسعى إلى مجالس الغناء والطرب، ويشارك فيها إذا جاوزت النشوة عنده حدها المعقول؛ وهو من جهة أخرى يضيف إلى هذه المتعة الروحية، متعة أخرى تتركز في اتجاهه الديني الذي يحرص عليه، إلى الحد الذي لا يتصور معه، أن مثله قد يفكر يوما في ارتكاب المعصية، ومع ذلك فهو عبد خاضع يستلذ عبوديته لسلطان الغريزة، بدافع الفتوة الجنسية التي كانت المباهاة، عند أبناء جيل عاش في فراغ هائل من تمثل القيم الإنسانية الرفيعة، كنتيجة طبيعية للحرمان من توجيه الثقافة. وهو، ذلك المرح العربيد خارج بيته، شخصية أخرى تتميز داخل البيت بالجد والوقار والاستبداد والعنف، حتى تحول البيت أمام تقاليده الإرهابية إلى سجن مرهق، قيدت فيه - بالنسبة إلى نزلائه - حرية السلوك والإرادة.
وأمينة - الزوجة - تمثل تركيبة نفسية أخرى، هي تركيبة الأكثرية المطلقة من بنات جيلها المتزوجات؛ إنسانة - تبعا لفهم المجتمع المصري لوضع المرأة في ذلك الحين - لا تصلح إلا للقيام بدورها المصنع الآدمي لإنتاج النسل، والبقاء كل فترات العمر خلف جدران البيت، لتؤدي فروض الطاعة للزوج، على طريقة الجواري المجلوبات من سوق الرقيق.
وياسين - الابن الأكبر للسيد أحمد عبد الجواد من الزوجة الأولى المطلقة - شاب يعيش على هامش الحياة كرمز معبر عن كل النماذج التي عاشت في جيله، ممثلة لتكرارية النسخ العقلية المشوهة، حيث تكتفي هذه النسخ بقسط ضئيل من التعليم، لتواجه به المصير في معركة الحياة؛ وهكذا ورث هذا الابن الأكبر - كاتب مدرسة النحاسين - ورث نظرة أبيه إلى القيم الحياتية، حين تتركز هذه القيم في بؤرة إشباع الغريزة عن طريق السلوك الجنسي، هذا السلوك الذي تلقى فيه ياسين - بحكم قانون الوراثة المزدوج - جانب الاندفاع فيه عن الأب النزق، وجانب الانحطاط عن الأم المطلقة.
وفهمي - الابن الثاني لرب الأسرة، الشاب المثقف طالب الحقوق - هو النموذج الوحيد الذي يمكن أن يتخذ عنوانا ضخما لتلك الانتفاضة العقلية المتوثبة التي وعت سطورها الشبيبة المثقفة، وعكست أهدافها الجارفة على خط السير الكفاحي لثورة 1919. إن صورة هذه الشخصية - كما رسمها نجيب محفوظ - تماما مع طبيعة الدور الذي قامت به: شاب هادئ، متزن، لا يتكلم إلا بحساب، وتحت رماد الهدوء الخارجي، تختفي جمرات تنتظر اللحظة المناسبة، لتبهر بوهجها كل العيون؛ وإنسان يغلف اتزانه بأثواب طبيعية من الطموح الحزين. لم يكن فهمي يعيش من أجل ذاته، ولكنه كان يعيش من أجل المجموع؛ ولهذا علق على صورة سعد زغلول - الرمز الكبير الخالد لكفاح الشعب - علق هذه الصورة على جدران فكره وشعوره. كان يدرك الإمكانيات الرهيبة التي يملكها المستعمر، لمواجهة حركة شعبية عزلاء، يقودها زعيم أعزل؛ من هنا كان الشعور بالحزن. ومع ذلك فقد كان طموحه يتفوق على حزنه، حين يمتلئ أملا في أن تنتصر قوة الحق الأعزل على قوة الباطل المدججة بالسلاح. وفي سبيل القيم الإنسانية الرفيعة التي عاش من أجلها فهمي، لقي بطل «بين القصرين» مصرعه في إحدى المظاهرات التي نظمتها لجنة الطلبة التنفيذية، ابتهاجا بعودة الزعيم من منفاه.
Página desconocida
وإذا ما انتقلنا إلى شخصية كمال الابن الأصغر، والطالب بمدرسة خليل أغا الابتدائية - تصادفنا أخطر شخصية في العمل الروائي كله، بل أخطر شخصية رسمتها ريشة نجيب محفوظ على الإطلاق. ولكننا لن نجد في «بين القصرين» إلا جذور هذه الشخصية، أو بداية نموها الإنساني، فإذا ما انتقلنا إلى «قصر الشوق» و«السكرية» طالعتنا امتداداتها الفكرية السامقة، التي تبرز لنا كل الأبعاد الموضوعية لتلك الأزمة، التي عاناها جيل كان من أبنائه نجيب محفوظ، ومجموعة الذين استمدوا قيمهم الهادفة، من جلال الكلمة وقدسية الثقافة، ثم عاشوا ليروا بأعينهم، كيف انهارت قيمهم تحت أقدام الرجعية السياسية والاجتماعية.
ويبقى بعد ذلك من أفراد الأسرة ومن نماذجها البشرية، ابنتا السيد أحمد عبد الجواد؛ وهما خديجة وعائشة، ولكل منهما اتجاهها السلوكي الناتج عن وجهة نظر نفسية إلى واقع الحياة.
وعلى ضوء هذا الاتجاه السلوكي، الذي يميز كل شخصية من شخصيات العمل الروائي في «بين القصرين»، يمكننا أن نحدد مفهوم الواقعية عند نجيب محفوظ؛ إنها واقعية النمط الإنساني في إطار الأكثرية المطلقة، والمحافظة على تقديم هذا النمط، في حدود مستوياته النفسية والعقلية، من خلال الخط الاتجاهي لسير الأحداث والمواقف. إن أسلوب نجيب في التعبير عن المضمون الاجتماعي للمشكلة، هو أسلوب الواقعية الإيحائية، التي تحرص على نقل هذا المضمون مرتبطا بالتزامية الصدق التاريخي، بحيث لا يخلو هذا الالتزام من عنصر الإيحاء الفكري الخاص بوجهة نظر الكاتب الموقفية. ولا تعد وجهة النظر هنا - بالنسبة إلى طريقة نجيب محفوظ - نوعا من أيديولوجية الواقع التي يلتزمها أصحاب الخط السياسي في أدب القصة، حين يتدخلون بفلسفة معينة توجه المضمون الاجتماعي على أساس الرؤية العقائدية لمجتمع مثالي لم يوجد في واقع الحياة، ولكنه ينبغي - تبعا لوجهة نظرهم - أن يوجد في واقع الفن.
ومن خلال المنظار النقدي المحايد، تبدو لنا واقعية نجيب محفوظ، أكثر ضمانا لسلامة العرض الفني بالنسبة إلى التجربة الجماعية؛ ذلك لأن تدخل الكاتب بفلسفة عقائدية معينة، يفرضها على خط السير الاتجاهي للعمل الروائي، من شأنه أن يحجب رؤيتنا الداخلية الحقيقية، للمستوى النفسي والعقلي لكل شخصية من الشخصيات؛ وفي هذا الجو الضبابي لا نستطيع إلا أن نلمح غير شبح الكاتب؛ لأنه يقف حائلا بيننا وبين الآخرين.
من هنا يبدو أحمد عبد الجواد، وأمينة، وياسين، وكمال، وبقية أفراد الأسرة يبدو كل منهم حيال الأحداث التي تمر بهم، على حقيقة مستوياتهم النفسية والعقلية؛ إنهم حيال أحداث الثورة مثلا أنماط واقعية متباينة: فبينما نجد فهمي بحكم وعيه وثقافته وإدراكه لقيمة اللحظة الصاعدة التي تصنع الحاضر والمستقبل، دائم الثورة على الاستعمار، دائم التقديس لكفاح سعد زغلول، مضحيا بنفسه في النهاية من أجل أهدافه ومبادئه، نجد في الأطراف الأخرى المقابلة: أمينة، وهي لا تكف عن دعاء الله أن ينشر السلام، ويصفي قلوب المصريين والإنجليز، والأب وهو قانع دائما من وطنيته بالمشاركة الوجدانية، دون الإقدام على عمل يغير وجه الحياة، ثم وهو يحاول أن يستغل سلطته الأبوية الرهيبة، في تجميد كل الخطوات الزاحفة لفهمي في طريق الكفاح، ولتنمحي الثورة في منطق الأنانية، طالما كان الخطر بعيدا عن أبنائه؛ ونرى ياسين وهو يعلق على الأحداث بأسف هادئ، لا يمنعه من مواصلة حياته المعتادة، والسهر حتى منتصف الليل في أوكار العاهرات؛ وإحدى فتيات الأسرة وهي تصب سخطها على سعد زغلول؛ لأنه في رأيها سبب هذا الشر كله، ولولاه لعاش هو وعاش معه بقية المصريين في دعة وسلام؛ أما صغير الأسرة كمال، فكل ما يعنيه من تلك الأحداث هو أن الجنود الإنجليز، في معسكرهم القائم أمام البيت يحتفون به ويداعبونه ويقدمون له قطع الشيكولاتة، كلما أطرب آذانهم بصوته الطفولي الحبيب؛ وبهذا الأسلوب من الواقعية الإيحائية، لا يحول المؤلف بيننا وبين رؤية السلوك الاتجاهي لكل شخصية من شخصياته؛ لأنه يضعنا وجها لوجه - دون أن يتدخل - أمام مستويات التفكير الحقيقية لتلك الشخصيات.
ونجيب محفوظ يقدم الشخصية المرسومة أحيانا بطريقة جديدة، يقدم إلينا النموذج الإنساني في موقف من المواقف وكأنه مرآة ذات وجهين، يعكس أحدهما صورة الوجود الداخلي للنموذج نفسه، بينما يعكس الوجه الآخر صورة أخرى لنموذج إنساني مغاير، يشترك مع النموذج الأول في التقاء الخطوط النفسية المنطلقة من نقطة ارتكاز الحدث. إننا نرى أحمد عبد الجواد مرة من خلال أمينة، ونراه مرة وكأنه واجهة عرض مزدوجة؛ فإذا ما فكر ياسين مثلا في شخصية أبيه، وإذا ما فكرت أمينة في تلك الشخصية؛ تحول كل منهما - إلى واجهتي عرض: إحداهما أمامية تلمح من ورائها صورته النفسية الأصيلة، والأخرى جانبية تطالعنا بالصورة المقابلة التي تتفق معها أو تختلف، في مدى التأثر بواقع التجربة الإنسانية المعاشة.
2
مفهوم السلبية والإيجابية في العمل الفني، من أي زاوية يمكن أن ينظر إليه؟ الواقع أن هذا المفهوم يحتاج إلى تحديد. إن شخصية فهمي مثلا - كما رسمها نجيب محفوظ - شخصية تخيرت طريقها بأسلوب إرادي صارم، ورسمت لهذا الطريق بداية واعية صاعدة، كانت نهايتها أشبه بعملية تتويج بطولية، لمجموعة من خطوات النضال الهادف؛ وإزاء هذا التحديد الاتجاهي للشخصية الإنسانية، يبدو نجيب محفوظ - على ضوء الرؤية النقدية عند بعض النقاد - كاتبا واقعيا تتميز واقعيته بالطابع الإيجابي، الذي ينبغي للروائي أن يلتزمه عند تصوير الشخصيات، والإيجابية المقصودة مصدرها أن فهمي بطل «بين القصرين»، لم يكن سلبيا في مواجهة المشكلات، ولم يكن سلبيا في مواجهة الموت؛ على عكس بعض الشخصيات الأخرى كحسنين ونفيسة في «بداية ونهاية»، حين عالج كل منهما مشكلته بالانتحار، وهو - على ضوء تلك الرؤية النقدية عند هؤلاء النقاد - موقف هروبي بالنسبة إلى المشكلة؛ لأن الانتحار - بمضمونه النفسي والإنساني - ما هو إلا عملية إنهاء سلبية لحياة غير هادفة؛ ومن هنا يتهم نجيب محفوظ بأنه لم يكن في عمله الروائي السابق، كاتب الواقعية الإيجابية كما ظهرت بنسيجها المحكم، في الجزء الأول من روايته الأخيرة «بين القصرين»؛ وقد يتهم مرة أخرى بأنه كان سلبيا بالنسبة إلى بعض المواقف، التي أبرز من خلالها أخطر شخصية رسمتها ريشته، وهي شخصية كمال بطل «قصر الشوق» و«السكرية».
من هنا كان مفهوم السلبية والإيجابية يحتاج إلى تحديد. إن الحكم بسلبية العمل الفني أو إيجابيته، يجب أن يستمد من موقف الكاتب نفسه، وليس من موقف الشخصية المرسومة؛ من الموقف «التأثيري» لذلك الكاتب وليس من الموقف «السلوكي» لهذه الشخصية. فقد يكون الكاتب - من ناحية التأثير الانفعالي في قرائه - إيجابي الهدف، حين تكون الشخصية التي يرسمها سلبية السلوك أو سلبية الاتجاه، وعلى العكس؛ إذا لم يستطع الكاتب أن يفجر في وجودنا الداخلي تلك الطاقة الانفعالية، فهو كاتب سلبي على الأساس التحديدي للسلبية التأثيرية. إن الكاتب الإيجابي الهادف هو الذي يفتح عيون الطبقات على مشكلاتها، وذلك عن طريق تجسيم هذه المشكلات بأي أسلوب من أساليب العرض، ولن تتم هذه العملية التجسيمية، إلا إذا استطاع الكاتب أن يصب المشكلة في نفوس قرائه، وأن يملأ وجودهم الداخلي بكل عنصر من عناصر الإثارة. وفي رأينا أن نجيب محفوظ، قد حقق هذا الهدف الإيجابي، وهو يدفع حسنين ونفيسة إلى الانتحار في «بداية ونهاية»، ثم وهو يدفع بكمال إلى هاوية التردد والحيرة والكفر بالقيم، في بعض المواقف من «قصر الشوق» و«السكرية».
لقد كانت المشكلة التي دار حولها نجيب بمجموعة الأحداث والمواقف في «بداية ونهاية» هي مشكلة الفقر، في مجتمع إنساني متخلف لا ضمان فيه؛ فإذا انحرفت نفيسة عن طريق الشرف لتمارس الخطيئة «ضمانا» للقمة العيش، وإذا تحول حسن عن الحياة النظيفة ليعيش في كنف العاهرات؛ «ضمانا» لاستمرار بقائه، وإذا اضطر حسنين أن يعتمد على صدقات أخيه البلطجي، «ضمانا» لاستكمال تعليمه بالكلية الحربية، وإلى أن يحكم بعد ذلك على أخته وعلى نفسه بالموت؛ «ضمانا» لإنقاذ سمعته بعد أن أصبح محترما في المجتمع، فتلك هي الواقعية الإيحائية التي يلتزمها نجيب محفوظ؛ إنه هنا يبدو إيجابيا من خلال المواقف السلبية لشخصياته؛ لأن هدفه الإيحائي من وراء هذه العملية التجسيمية، هو أن يفتح عيوننا على الواقع البشع للمشكلة، وكأنه في موقف المحتج - الذي يدفعنا معه إلى الاحتجاج - على مجتمع تعود أن يرغم بعض أفراده - تبعا لخلوه من ضمان للحياة الشريفة، على أن يلتمسوا تلك الضمانات المنحرفة، التي تتفق مع منطق الفقر والحاجة، وتعود أن يقنع البعض الآخر أن الموت - بالنسبة إلى حياتهم القاسية - يعد طريقا من طرق الخلاص.
Página desconocida
هذه الواقعية الإيحائية التي التزمها الكاتب في «بداية ونهاية»، هي التي تطالعنا مرة أخرى - بوجهها الإيجابي - من خلال بعض المواقف السلبية لشخصية كمال في «قصر الشوق»؛ إن كمال يبدو لنا أكثر من واجهة عرض مزدوجة، إنه مجموعة من واجهات العرض المتداخلة، التي قدم نجيب محفوظ من وراء زجاجها الشفاف، مختلف الخيوط الناسجة لمشكلات جيل مأزوم، لم تستطع صحته النفسية أن تقاوم أمراض مجتمع فاسد؛ إنه الجيل الذي عاش من بعد ثورة 1919 إلى ما قبل 1952. لقد بدأ كمال حياته وهو صحيح النفس، كان امتدادا طبيعيا لفهمي، حين ورث عنه إيمانه بكل القيم الرفيعة، وحين اقتبس منه أشرف جوانب شخصيته، وحين اختار نفس الطريق الذي سار فيه. فإذا ما تعثرت خطوات كمال، بعد أن دميت قدماه تحت صدمات الصخور المعوقة، وإذا ما شك في قيمة قيمه التي آمن بها، بعد أن رأى مثله العليا تنهار تحت أقدام الرجعية السياسية والاجتماعية، فتلك هي اللحظات الموحية، التي تتيح لنا رؤية الموقف الاحتجاجي للكاتب، من خلال التصوير المجسم لواقع مجتمع مريض. إننا نستطيع أن نحدد مفهوم الإيجابية الموقفية للكاتب الروائي، بمدى نجاحه في هز وجودنا الفكري بالقلق؛ القلق الذي يصبح عملية بدء موجهة، لكل محاولة جماعية لتغيير الأوضاع، ويستطيع الكاتب - من خلال لحظات الضعف في حياة أبطاله - يستطيع أن يصب في نفوسنا هذا القلق، حين يربطنا بهذا الضعف ربطا شعوريا، عماده تصور المشكلة بأنها ليست مشكلة فرد، ولكنها مشكلة مجموع.
إن نجيب محفوظ - بقسوته المسرفة على بعض أبطاله - يذكرنا بالكاتب الفرنسي مورياك ... لقد سئل مورياك مرة: لماذا تسرف في القسوة على أبطالك؟ فأجاب: ليزداد القارئ عطفا عليهم؛ والواقع أن هذا هو المفتاح، مفتاح الغرفة النفسية الكبيرة التي يضعنا فيها كل من مورياك ونجيب محفوظ، ونعني بها غرفة الشعور بالعطف والرحمة، إزاء لحظات الضعف في حياة الآخرين. إن عطفنا على حسنين ونفيسة في «بداية ونهاية»، وعلى كمال في «قصر الشوق» هو وليد ذلك التأثر الانفعالي، الناتج عن تقديرنا بأن القوى المعوقة التي اعترضت طريق حياتهم كانت - بالنسبة إلى إمكانياتهم الكفاحية - أكبر من أن تقاوم. ومما يعمق مجرى الشعور بالعطف على هؤلاء الأبطال، إحساسنا بأننا لو وجدنا في ظروف قاسية كظروفهم، فربما سرنا مثلهم في نفس الخط، وتعرضنا مثلهم لنفس المصير، ومن هنا نمتلئ عطفا عليهم، بل وثورة من أجلهم. والكاتب الإيجابي الهادف، هو الذي يستطيع أن يكسب لأبطاله - سواء كانوا إيجابيين أو سلبيين - يستطيع أن يكسب لهم من إدراك قرائه تلك اللحظات المضيئة بالعطف والثورة.
كمال في «قصر الشوق» - وكما رسم نجيب محفوظ شتى الأبعاد النفسية لشخصيته - لم يكن يمثل نفسه، بل كان يمثل جيلا من المثقفين وعى رسالته، وحدد دوره، ورسم لنفسه بداية الطريق؛ ولكن عوامل كثيرة - عرضها الكاتب من خلال العمل الفني في «السكرية» - قد عوقت هذا الجيل وأزمت وجوده؛ لأنها كانت أضخم من قدرته النضالية على تغيير الأوضاع: فانتكاس الحركة الوطنية بعد موت سعد، وتزييف الإرادة الجماعية بواسطة زعماء الأقليات طمعا في الحكم، وتآمر القصر مع الاستعمار لخنق انتفاضات الشعب، ورواسب الصراع الطبقي في الوجود الإنساني للبرجوازية الصغيرة، وانهيار قيم الفكر والثقافة في مجتمع، سيطر عليه الانحلال الخلقي وخلا من تكافؤ الفرص؛ كل هذه القوى المدمرة هي التي صنعت جذور الأزمة النفسية لجيل المثقفين بعد ثورة 1919. ولقد كان كمال هو الرمز الكبير، الذي رأينا من خلاله جذور الأزمة في «قصر الشوق»، وامتداداتها الرهيبة في «السكرية».
إن المشاهد التي تقدم لنا كمال - كشخصية متماسكة تمثل المضمون الثوري للإنسان - هي تلك التي يعرضها نجيب محفوظ من خلال الأحداث والمواقف في «قصر الشوق». هو ثائر على رأي أبيه، الذي يريد له أن يلتحق بمدرسة الحقوق، ليكون في المجتمع من أصحاب النفوذ؛ ولهذا قرر أن يلتحق بمدرسة المعلمين، ليتخذ من تعلم اللغات الأجنبية معبره الحقيقي إلى شتى الثقافات. ومن خلال هذا المشهد الثوري، نرى كمال وهو يقول لصديقه فؤاد: «وا أسفاه! إن والدي كأكثر الناس ممن يهيمون بالمظاهر الزائفة؛ الوظيفة، النيابة، القضاء؛ هذا كل ما يهمه، لست أدري كيف أقنعه بجلال الفكر والقيم السامية، الجديرة بأن ينشدها الإنسان من هذه الحياة!» ويقول فؤاد: «قيم جليلة من غير شك، ولكن أين البيئة التي ترفعها إلى المنزلة اللائقة بها؟» ويرد كمال في إصرار نبيل: «لا يمكنني أن أنبذ عقيدة سامية لا لشيء، إلا لأن من حولي لا يؤمنون بها!»
هذا المشهد يقدم لنا إنسانا مثاليا يؤمن بدور الثقافة، يؤمن بدورها في حياة الفرد والمجموع؛ ومن نافذة قيمه الثقافية الجديدة، أطل على كثير من قيم الأمس الممتدة على حدود الرؤية العقلية، وأطلق عليها ثورته؛ ثار على سلطة الأب المستبد، كان بالأمس يخاف هذا الأب، أما اليوم فبعد أن قرعت يداه أبواب عابدين في المظاهرة الكبرى، التي تحدت الملك هاتفة: «سعد أو الثورة ...» فتراجع الملك واستقال سعد من الاستقالة. أما بعد ذلك فلن يذعن لقوة الخوف، إنه وهم كسائر ما امتحن به من أوهام. وثار على جهل أمه كما ثار من قبل على استبداد أبيه، لا بالتحدي والعصيان، ولكن بالتحرر من قيد أفكارهما الموجهة؛ ويقول كمال مخاطبا نفسه: «أبي هو الفظاظة الجاهلة، وأمي هي الرقة الجاهلة. إن جهلك يا أمي هو الذي ملأ حياتي بالأساطير، فأنت همزة الوصل بيني وبين عالم الكهوف، وكم أشقى اليوم في سبيل التحرر من آثارك، كما سأشقى غدا في سبيل التحرر من أبي!»
ثار مع الشعب على القصر، وثار وحده على الأب، أما ثورته على الأم؛ فلأنها قد غرست في تربة نفسه منذ الطفولة، بذور مفهوم خرافي عن الدين؛ وما لبث أن ثار على هذا المفهوم الخرافي، الذي ربطه بعالم الكهوف. واتسع بعد ذلك الحيز النفسي لثورته، فشمل زعماء الأقلية الذين تعاونوا مع الاستعمار والقصر، كان الوفد «عقيدة تلقاها عن فهمي، واقترنت في قلبه باستشهاده وتضحيته!»
هذا الاتجاه الشعبي لبطل «قصر الشوق»، يبرز لنا من خلال المناقشات المحتدمة في السياسة، بين كمال وبين مجموعة من أصدقاء المدرسة الأرستقراطيين. كانوا بحكم نشأتهم الأرستقراطية المنعزلة، يتعالون على الشعب، وإذا ما تكلموا عنه فكأنما يتكلمون عن شعب غريب. أما هو - ذلك المنحدر من صلب الشعب - فكان يدافع عنه ويقف إلى جنبه، وفي شخص زعيمه سعد زغلول، ومن هنا - وفي كل معركة كلامية تنشب بينه وبينهم، يصبح هو مندوب سعد ويصبحون هم مندوبي عدلي وثروت ومحمد محمود. كان أحدهم مثلا يناقشه بهذا المنطق: «إذا كان سعد وعدلي سيين عندي في الناحية السياسية، فإنني لا أراهما كذلك كرجلين؛ لا يمكن أن أتجاهل ما يمتاز به عدلي من كريم الأصل، وعظيم الجاه والثقافة، أما سعد؛ فما هو إلا أزهري قديم.» ويقول له الآخر: «ليست الوطنية عند سعد إلا نوعا من البلاغة تستهوي العامة.» وينفجر كمال في غيظ وسخرية: «إن الذين تؤمنون بهم ليسوا إلا خونة، ليسوا إلا طبقة من الإنجليز المطربشين؛ أنتم تقللون من شأن الكلام كأنه لا شيء، الحق أن أخطر ما تمخض عنه تاريخ البشرية من جلائل الأمور، يمكن إرجاعه في النهاية إلى كلمات، الكلمة العظيمة تتضمن الأمل والقوة والحقيقة، نحن نسير في الحياة على ضوء كلمات. على أن سعدا ليس صانع كلمات فحسب، إن سجله حافل بالأعمال والمواقف؛ ولست في حاجة إلى أن أذكركم بأن العظمة شيء غير الفقر والغنى، وغير العمامة والطربوش!»
نجيب محفوظ يقدم الصراع هنا في صورة مزدوجة: الصراع السياسي والصراع الطبقي، في مجال واحد متشابك الخطوط؛ حسين شداد ابن المليونير صنيعة الخديو، وحسن سليم ابن المستشار صنيعة أحزاب الأقلية في جانب، وكمال أحمد عبد الجواد ابن تاجر البقالة بالنحاسين في الجانب الآخر؛ أو عدلي وثروت في طرف، وفي الطرف المقابل سعد زغلول، الأرستقراطيون يواجهون الشعب، والصراع حول كرم الأصل وشرف المنبت والفوارق الشاسعة بين طبقتين. ويبلغ الصراع قمته حين يفصح كمال عن حبه لعايدة أخت حسين شداد، ويكشف عن رغبته في أن تكون زوجة له؛ لقد هزم الشعب في المعركة، وخرج منها ودماؤه تنزف، لقد سخرت عايدة من أوهام كمال، وتزوجت من ابن طبقتها حسن سليم؛ فضلت ابن المستشار على ابن تاجر البقالة؛ وكانت نقطة تحول ضخمة في خط السير النفسي لكمال، تناولها نجيب محفوظ - من خلال العمل الفني في «السكرية» - كبداية لأثر الصراع الطبقي في أزمة جيل عاش في مجتمع مريض!
3
في آخر صفحة من «قصر الشوق»، يرسم لنا نجيب محفوظ خط اتجاه نفسي جديد لشخصية كمال، وهو يتلقى الصدمة الثانية بموت زعيمه وزعيم الشعب: سعد زغلول؛ كان خط الاتجاه النفسي الأول، حين ركز كل اهتمامه العاطفي في حب فتاة من طبقة غير طبقته، ثم خرج من هذا الصراع الطبقي وهو مهزوم؛ لقد فقد في الصدمة الأولى حبه العاطفي، وفقد في الصدمة الثانية حبه القومي، وكلاهما كان نقطة ارتكاز موجهة لأبرز انطلاقات السلوك الفكري والموقفي بالنسبة إلى شخصية كمال في «السكرية»، وهي الجزء الأخير من هذه الرواية الطويلة «ومات سعد» ... المنفى والثورة والحرية والدستور مات صاحبها، كيف لا يحزن وخير ما في روحه من وحيه وتربيته؟! وماتت عايدة؛ بمعنى أنها خرجت من حياته. الموت حادث نسبي، مضمونه الشعوري بالنسبة إلينا هو أن يخرج من حياتنا إنسان نحبه؛ ولقد هز موتهما - موت حبه القومي وموت حبه العاطفي - جانبا كبيرا من قيم وجوده: الأمل والتفاؤل، والخطوة الزاحفة إلى المستقبل، فوق معبر من الطموح والثقة بالنفس.
Página desconocida
صورة طبيعية لشخصية إنسانية صميمة، لونها نجيب محفوظ، دون أن يلجأ إلى افتعالية الرتوش؛ إنه يقدم إلينا عنصر التبرير الموضوعي لتحول هذه الشخصية من موقف إلى موقف. أقوى الأقوياء لا تخلو حياتهم من لحظات الضعف، ولكن افتعالية الرتوش هي التي تظهر لنا الصورة الإنسانية، وقد خلت من ألوان تلك اللحظات، وكأن الإنسان آلة تسيرها قوة منظورة إلى طريق مرسوم. نجيب محفوظ - كدارس سيكولوجي واجتماعي من خلال العمل الروائي - لا يتورط في فرض تلك الآلية على أبطاله، ومن هنا تبدو شخصياته وهي بعيدة عن قابلية التحول من موجات نفسية تندفع وتنحسر في نهر الحياة، إلى دمى خشبية تفرض عليها الأصابع المحركة أن تتخذ أوضاعا معينة!
في الفصل الرابع من «السكرية» نرى كمال وهو يندفع مع الجموع الشعبية إلى سرادق الاحتفال بعيد الجهاد الوطني، «كان هذا ثامن عيد يشهده، وكان كالآخرين قد امتلأ بمرارة التجارب السياسية التي خلفتها الأعوام السابقة، والأعوام التي تلت موت سعد، وقال لنفسه وهو يستعيد ذكريات تلك المرارة: لقد عاصرت عهد محمد محمود، الذي عطل الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد واغتصب حرية الشعب، كما عشت سنين الإرهاب والعهر السياسي، التي فرضها إسماعيل صدقي على البلاد؛ كان الشعب يثق في قوم ويريدهم حكاما له، ولكنه كان يجد فوق رأسه دائما أولئك الجلادين البغضاء، تحميهم هراوات الكونستبلات الإنجليز ورصاصهم، وسرعان ما يقول له بلغة أو بأخرى: أنت شعب قاصر ونحن الأوصياء؛ والشعب يخوض المعارك دون توقف، فيخرج من كل معركة وهو يلهث، حتى اتخذ في النهاية موقفا سلبيا شعاره الصبر والسخرية، فخلا الميدان إلا من الوفديين من ناحية والطغاة من ناحية أخرى، وقنع الشعب بموقف المتفرج وراح يشجع رجاله في همس، دون أن يمد لهم يدا. إن قلبه لا يستطيع أن يتجاهل حياة الشعب، إنه يخفق معه دائما، رغم عقله التائه في ضباب الشك!»
من خلال هذا التسجيل النفسي والتاريخي، يتخذ نجيب محفوظ من شخصية بطله كمال، إحدى اللافتات المضيئة التي تشير إلى منعطفات الدروب الاتجاهية، بالنسبة إلى جيل بدأت خطواته وهي ثابتة، ثم انتهت وهي متعثرة؛ لأن رصيده من أسلحة المقاومة لم يكن متكافئا مع رصيد أعدائه من أسلحة القمع والإرهاب. وفي ضوء هذه اللافتة، نرى كمال وقد بدأ يتأزم، نراه وقد بدأ إيمانه بالقيم يهتز؛ هذا الشعب الذي استكان للطغاة في سلبية مثيرة، أهو ذلك الشعب الذي كان يلتقي به في عيد الجهاد الوطني، فيذكره هديره العاصف بأن في «مكتبته - أي مكتبة كمال - أصدقاء قليلين ممتازين مثل دارون وبرجسون ورسل، وفي هذا السرادق ألوفا من الأصدقاء يبدون بلا عقول، ولكن يتمثل في مجتمعهم شرف الغرائز الواعية، وليسوا في النهاية دون هؤلاء المفكرين خلقا للحوادث وصنعا للتاريخ؟!» إن إيمان كمال بالشعب بدأ يعتريه الشك؛ وزحف الشك بعد ذلك إلى إيمانه بالعلم وبالفلسفة، لقد أصبح من رأيه أن «الفلسفات قصور جميلة، ولكنها لا تصلح للسكنى.» أما العلم فقد غدا من خلال رؤيته العقلية: «دنيا مغلقة من حولنا، لا نعرف إلا بعض نتائجها القريبة، لقد اطلع على آراء نخبة من العلماء، يرتابون في مطابقة الحقيقة العلمية للحقيقة الواقعية، وآخرين ينوهون بقانون الاحتمال، وغيرهم ممن تراجعوا عن ادعاء الحقيقة المطلقة؛ فلم يلبث أن حرك رأسه مرتابا!»
كان له إيمانه الديني ثم إيمانه بالحقيقة، ولم يلبث الله أن خرج من عالم كمال، ولم يلبث أن خرج بعده رسل وبرجسون وإسبينوزا ودارون؛ ويقول له صديقه عبد العزيز الأسيوطى صاحب مجلة «الفكر الحر»، التي يشارك في تحريرها ببحوثه ودراساته: «أنت أعزب في فكرك كما أنت أعزب في حياتك!» ويقول كمال لنفسه: «ترى أكانت عزوبته نتيجة لفكره، أم كان فكره نتيجة لعزوبته، أم أن الاثنين كانا نتيجة لشيء ثالث؟!»
في هذا المنولوج الداخلي الموجز، يقدم نجيب محفوظ خريطة المعالم النفسية لأزمة بطله كمال، وعلى امتداد الخطوط في هذه الطريقة، نستطيع أن نحدد تضاريس تلك الأزمة، التي صنعت شتى الاتجاهات الأخيرة لشخصيته؛ إن مضمون الفكر الأعزب والحياة العزباء، هو في جوهره مضمون الوحدة المقلقة، وهذه الوحدة كما تساءل كمال بينه وبين نفسه - كانت نتيجة لشيء ثالث، والشيء الثالث كان في ضوء الواقع شيئين: لقد هزم الشعب - بعد موت سعد - في صراعه القومي ضد الأقلية والاستعمار والقصر، وهزم هو - أي كمال - في صراعه الطبقي ضد «عايدة». ومن هنا، من هذين المنبعين الرئيسيين، انبثق تيار الأزمة العقلية والنفسية، جارفا معه إيمان كمال بأكثر ما اعتنقه من قيم، وتدفقت بعد ذلك في حياته تيارات أخرى من منابع جديدة، عمقت مجرى الأزمة وجسمت معالم المشكلة. لقد سيطر الانحلال الخلقي على المجتمع، وأصبح المنحلون أخلاقيا - من أمثال رضوان ابن أخيه ياسين - هم أصحاب الحظوة والنفوذ لدى المسئولين من رجال الحكم، أما هو - الإنسان الجاد الذي كان مرتبطا في حياته بقيم ومبادئ - فقد بقي مدرسا مغمورا يلقن مبادئ اللغة الإنجليزية لتلاميذه الصغار، واستمر موظفا لم يتخط بعد عشرة أعوام من العمل المرهق حدود الدرجة السادسة. وحين يتقرر نقله إلى أقاصي الصعيد لا يجد من يتوسط له ويبقيه في القاهرة غير ابن أخيه الناعم المنحل الذي لا يعرف مبادئ الشرف؛ وماذا كانت النتيجة التي خرج بها من إيمانه بالثقافة؟ لقد أدرك أخيرا أن الثقافة لا كرامة لها في بلده! إن أخاه الجاهل ياسين - بفضل المكانة المرموقة لنجله المنحرف - قد سبقه في ميدان المكاسب المادية من وظائف الحكومة؛ وصديقه فؤاد - ابن جميل الحمزاوي الذي كان عاملا في محل أبيه السيد أحمد عبد الجواد - أصبح يخاطب رب نعمته بلغة التعالي والكبرياء، وقد وضع ساقا على ساق؛ لأنه اليوم وكيل للنيابة بعد أن تخرج في مدرسة الحقوق أو مدرسة النفوذ، ولم يتخرج كما فعل هو في مدرسة المعلمين أو مدرسة الثقافة؛ والدراسات الجادة العميقة التي كان ينشرها في مجلة «الفكر الحر»، لم تجد من يقدرها في مجتمع تسوده في ميدان الفكر والخلق والسياسة كل أسباب التدهور!
ويقول له صديقه رياض قلدس الكاتب القصصي، الذي كان يشاركه في تحرير تلك المجلة: «إنك تعاني أزمة فريدة، كل ما عندك مزعزع الأركان، عبث وقبض الريح، نضال أليم مع أسرار الحياة والنفس، وملل وسقم، إني أرثي لك؛ إنك توحي إلي بشخصية الرجل الشرقي الحائر بين الشرق والغرب، الذي دار حول نفسه كثيرا حتى أصابه الدوار!» ويقول كمال لنفسه وقد تفجر في داخله أحد المنبعين الرئيسين لأزمته: «يتكلم عن الشرق والغرب؛ ولكن من أين له أن يعرف عايدة؟ قد تكون التعاسة متعددة الجوانب.»
هل انتهى كمال، الشخصية المصرية الصميمة، المعبرة عن واقع جيل مأزوم، والتي انتزع لها نجيب محفوظ - من خلال لحظات ضعفها النبيل - كل ما في نفوسنا من إيجابية الثورة على مجتمع بشع، تعود أن يحطم أروع ما يستقر في نفوس أفراده من إيمان بالقيم؟!
لقد انتهى كمال ليبدأ من نقطة النهاية؛ ليبدأ في شخصية أخرى رسمها نجيب، لتكون واجهة عرض جديدة للجيل المتطور؛ الذي مهد لثورة 1952، إنها شخصية أحمد شوكت، المكافح الشاب صاحب الأفكار التقدمية، المعبر عن انتفاضة الشعب الناطقة بعد صمت طويل؛ انتهى فهمي ليبعث في كمال، وانتهى كمال ليبعث في ابن أخته أحمد، من خلال قطاع طولي ممتد عبر العمل الروائي على مدار الأجزاء الثلاثة، ومن وراء الزجاج الشفاف لواجهة العرض الجديدة، نلمح مجموعة القيم العقائدية لشخصية أحمد شوكت. «إن الوفد حزب الشعب، وهو خطوة تطورية وطبيعية في آن؛ كان الحزب الوطني حزبا تركيا دينيا رجعيا، أما الوفد فهو مبلور القومية المصرية ومطهرها من الشوائب، إلى أنه مدرسة الوطنية والديمقراطية. ولكن المسألة أن الوطن لا يقنع ولا ينبغي له أن يقنع بهذه المدرسة؛ نريد مرحلة جديدة من التطور، نريد مدرسة اجتماعية لأن الاستقلال ليس بالغاية الأخيرة، ولكنه الوسيلة لنيل حقوق الشعب الدستورية والاقتصادية والإنسانية. أما الأدب فهو وسيلة من وسائل التحرير الكبرى، ولكنه قد يكون وسيلة للرجعية، فمن الأزهر ودار العلوم خرجت آداب مرضية عملت أجيالا على تجميد العقل والروح؛ والعلم أساس الحياة الحديثة؛ ينبغي أن ندرس العلوم وأن نتشبع بالعقلية العلمية، الجاهل بالعلم ليس من سكان القرن العشرين ولو كان عبقريا. وعلى الأدباء أن ينالوا حظهم منه. لم يعد العلم وقفا على العلماء، أجل لهؤلاء التضلع والتعمق والبحث والكشف، ولكن على كل مثقف أن يضيء نفسه بنوره وأن يعتنق مبادئه ومناهجه؛ ادرس الآداب كما تشاء، ولكن لا تنس العلم الحديث، ولا يجب أن تخلو مكتبتك - إلى جانب شكسبير وشوبنهور - من كونت ودارون وفرويد وماركس وإنجلز، لتكن لك حماسة أهل الدين، ولكن ينبغي أن تذكروا لكل عصر أنبياءه؛ وأن أنبياء هذا العصر هم العلماء!»
هذه الأفكار والمبادئ تلقاها البطل الثاني للسكرية، عن أستاذه عدلي كريم رئيس تحرير مجلة «الإنسان الجديد»، وسرعان ما آمن بها، واستقرت جذورها في أعماقه، واتخذ منها شعاره القومي والإنساني في معركة المصير؛ ولقد كان أحمد شوكت معجبا بخاله كمال، ككاتب يمثل الطبقة المثقفة في جيله، ولكنه يتلقى من زميلته سوسن حماد - الصحفية المستنيرة التي أصبحت فيما بعد شريكة حياته - يتلقى من نقدها الموضوعي لموقف كمال الثقافي، ما يضيف إلى وجوده الفكري مزيدا من اللحظات المضيئة؛ إن كمال الكاتب، من خلال المنظار النقدي لسوسن: «واحد من الذين يهيمون في تيه الميتافيزيقيا؛ إنه يكتب كثيرا عن الحقائق القديمة: الروح؛ المطلق؛ نظرية المعرفة، هذا جميل، ولكنه - فيما عدا المتعة الذهنية والترف الفكري - لا يفضي إلى غاية! ينبغي أن تكون الكتابة وسيلة محددة الهدف، وأن يكون هدفها الأخير تطوير هذا العالم، والصعود بالإنسان في سلم الرقي والتحرر. الإنسانية في معركة متواصلة، والكاتب الخليق بهذا الاسم حقا يجب أن يكون على رأس المجاهدين، أما وثبة الحياة فلندعها لبرجسون وحده؛ عندما يكون الإنسان متألما يركز اهتمامه في إزالة أسباب الألم، مجتمعنا متألم جدا، فيجب أن نزيل الألم قبل كل شيء؛ ولنا بعد ذلك أن نلهو وأن نتفلسف!»
هذه اللحظات المضيئة التي تصنعها الكلمة الموجهة، تبرز موقف الكاتب من مشكلات عصره ... إنها تمثل دورا قياديا بالنسبة إلى المحيط الفكري للمجموع القارئ. ونجيب محفوظ لا يقتصر على الواقعية الإيحائية لإبراز مثل هذا الموقف الالتزامي، ولكنه يجسم عملية العرض بمجموعة من الأحداث المتشابكة، التي يربط فيها بين السلوك الداخلي والسلوك الخارجي لشخصياته؛ ومن هنا يمكننا أن نتابع خطوات أحمد شوكت - النموذج الصاعد للجيل الذي مهد لثورتنا الأخيرة - وهو يشق طريقه إلى هدف محدد، تقوده أضواء باهرة من الإيمان بقيم جديدة، عماده التطلع إلى حياة أفضل!
Página desconocida
لقد انتهت هذه الخطوات بصاحبها إلى المعتقل، ومن وراء القضبان كانت أفكار أحمد شوكت ومبادئه تتسلل إلى الخارج، لتنضم إلى أمواج المد التطورية في نضالها الزاحف. وعلى أصداء تلك الأفكار والمبادئ استيقظ ماضي الجيل المأزوم ممثلا في كمال، وبدأ يرتبط بالحاضر ويتفاءل بالمستقبل؛ ويقول كمال لصديقه رياض قلدس، بعد أن هزت ضميره قوى الدفع الجديدة: «إن من المستحسن دائما أن يتأمل الإنسان ما يراود نفسه من أحلام، وعلى ذلك فالتصرف هروب، كما أن الإيمان السلبي بالعلم هروب، وإذن فلا بد من عمل، ولا بد للعمل من إيمان، والمسألة هي كيف نخلق لأنفسنا إيمانا جديرا بالحياة؛ دعني أخبرك بما قال لي أحمد شوكت، عندما زرته في سجن القسم قبل نقله إلى المعتقل، لقد قال لي إن الحياة عمل وزواج وواجب إنساني عام، وليست هذه المناسبة للحديث عن واجب الفرد نحو مهنته أو زوجه. أما الواجب الإنساني العام فهو الثورة الأبدية، وما ذلك إلا العمل الدائب على تحقيق إرادة الحياة ، ممثلة في تطورها نحو المثل الأعلى؛ أتدري ماذا قال أيضا؟ قال إني أؤمن بالحياة وبالناس، وأرى نفسي ملزما باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق، إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب؛ كما أرى نفسي ملزما بالثورة على مثلهم، متى ما اعتقدت أنها باطل، إذ النكوص عن ذلك خيانة. وهذا هو معنى الثورة الأبدية!»
لقد بدأ كمال يفيق من الإغماءة النفسية الطويلة، بدأ يستعيد إيمانه بنفسه، وبالشعب وبالحياة؛ لقد انتفض مع الانتفاضة الجديدة؛ وحين التقى القطب السالب بالقطب الموجب، اندلعت الشرارة المقدسة التي أضاءت للجموع الزاحفة معالم الطريق!
4
المضمون الاجتماعي والاتجاهي - كما عرضناه في نقدنا لهذه الملحمة الروائية - ينحصر حتى الآن في نطاق القطاع الطولي لمجرى الأحداث والمواقف. أما القطاعات العرضية فيستخدمها الكاتب - كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول من هذه الدراسة - كروافد فنية، تعين المجرى الرئيسي على الانطلاق، هذه القطاعات أو هذه الروافد تمثل الأطراف المتقابلة على جوانب الحيز الامتدادي لخط التطور، كما رسمه الواقع التاريخي للمجتمع المصري، وكما لونه الالتزام الموقفي لنجيب محفوظ.
إن الأطراف المتقابلة تواجهنا مرة من داخل الإطار السلوكي للشخصية، وتواجهنا مرة أخرى من داخل الإطار الاتجاهي للثقافة، وتواجهنا مرة ثالثة من داخل الإطار المذهبي للعقيدة السياسية والدينية؛ هناك تقابل من ناحية المفهوم الثقافي والسياسي بين كمال وأحمد شوكت، وتقابل من ناحية المفهوم القومي والديني بين كمال ورياض قلدس، وتقابل من ناحية العقيدة المذهبية بين أحمد شوكت وأخيه عبد المنعم، وتقابل من ناحية الوضع الاجتماعي بين أمينة وسوسن حماد. فبينما نجد مفهوم الثقافة عند الجيل الذي يمثله كمال، هو مفهوم القراءة والاطلاع لمجرد الترف العقلي والمتعة الذهنية، نرى هذا المفهوم يتطور عند الجيل الذي يليه والذي يمثله أحمد شوكت، بحيث تتحول الكلمة المقروءة من عملية إضاءة بالنسبة إلى الفرد، إلى عملية قيادة بالنسبة إلى المجموع؛ إلى تحقيق مصير عادل بالنسبة إلى قضية الإنسان. وبينما نرى كمال يؤمن بالوفد كحزب، يمثل الأغلبية الشعبية وأمانيها في الاستقلال، ويقف بإيمانه عند هذا الحد كنقطة نهائية لهدفه الاتجاهي ، نرى أحمد شوكت وهو يتخطى بتفكيره هذه النقطة، وينظر إلى الوفد على أنه مرحلة انتقالية، يجب أن تعقبها مراحل أخرى من البناء الهادف إلى إسعاد الجماهير. وكمال وعايدة يقابلهما - داخل الإطار السلوكي للشخصية - أحمد شوكت وعلوية صبري، نفس الصراع الطبقي الذي ينتهي هنا كما انتهى هناك، بهزيمة الطرف الممثل للطبقة الوسطى من الشعب! ولكن حين يتأزم كمال وتترك الأزمة رواسبها العميقة في نظرته إلى الحياة والناس، يتماسك أحمد شوكت ويرتفع بطموحه فوق مستوى الموقف، ويرتبط بفتاة من طبقته ويحول الهزيمة إلى انتصار؛ لقد بقي كمال مأزوما حائرا، حتى بعد أن أحب بدور أخت عايدة، ولم يستطع أن ينتصر على نفسه ليرتبط بهذه الفتاة، التي أرغمها الزمن على أن تهبط من عليائها، إلى المستوى الطبقي الذي ينتمي إليه!
يقول له صديقه رياض: «أمن المعقول أن تحبها وأن يكون في وسعك أن تتزوجها؛ ثم تمتنع عن زواجها؟!» فيجيبه بأنه يحبها ولكنه لا يحب الزواج! فيقول له محتجا: «إن الحب هو الذي يسلمنا للزواج، فما دمت لا تحب الزواج كما تقول، فأنت لا تحب الفتاة!» فيجيب بإصرار: «بل أحبها وأكره الزواج!» فيقول له: «لعلك تخاف المسئولية»، فيجيبه محتدا: «إني أحمل من أعباء المسئولية في بيتي وفي عملي ما لا تحمل بعضه!» ويعقب رياض: «لعلك أناني أكثر مما أتصور!» فيقول ساخرا: «وهل يتزوج الفرد إلا مدفوعا بأنانيته الظاهرة والخفية؟!» ويقول له: «لعلك مريض؛ فاذهب إلى طبيب نفساني لعله يحللك!» فيجيب: «من الطريف أن مقالتي القادمة في مجلة الفكر عن «كيف تحلل نفسك»!» فيقول له: «أشهد لقد حيرتني»، فيكون جوابه: «أنا الحائر إلى الأبد!»
كان مصابا بانقسام الشخصية من ناحية، وبدا له الحب من ناحية أخرى «ديكتاتورا»، وقد علمته الحياة السياسية في مصر، أن يمقت الديكتاتور من صميم قلبه، «ففي بيت العالمة جليلة كان يحب «عطية» بجسده، ثم سرعان ما يسترده، وكأن ما كان لم يكن! أما هذه الفتاة المستكنة في حيائها، فلن تقنع بما دون روحه وجسده جميعا إلى الأبد!»
إننا مرة أخرى أمام لحظة تفجير لأحد المنبعين الرئيسيين لأزمة كمال، أمام هزيمة الشعب في صراعه السياسي ضد الديكتاتورية! لقد مرت بنا لحظة تفجير أخرى للمنبع الآخر، حين أثار رياض في نقاشه مشكلة الشرقي الحائر بين الشرق والغرب، فأثار بها في نفسه مرارة الذكرى المترسبة في مشكلته مع عايدة؛ لقد كره الدكتاتور الطبقي في شخص عايدة، كما كره الدكتاتور السياسي في شخص صدقي ومحمد محمود؛ وعلى طول المدى الانفعالي بهذه الديكتاتورية السياسية والطبقية، تعذب كل ما فيه حتى الحب!
وإذا ما انتقلنا إلى القطاع العرضي الذي نرى من خلاله كمال كرمز للأكثرية المسلمة، ورياض قلدس كرمز مقابل للأقلية المسيحية في المجتمع المصري - رأينا نجيب محفوظ يطالعنا بوجهة نظر موقفية لمشكلة الوضع الديني والقومي لهذه الأقلية، مع التزامية الصدق التاريخي في عرض جوانب المشكلة. يقول رياض لصديقه كمال: «إن الأقباط جميعا وفديون، ذلك أن الوفد حزب القومية الخالصة؛ القومية التي تجعل من مصر وطنا حرا للمصريين، على اختلاف عناصرهم وأديانهم. أعداء الشعب يعلمون ذلك؛ ولهذا كان الأقباط هدفا للاضطهاد السافر طوال عهد صدقي، وسيعانون ذلك منذ اليوم!» ويقول له كمال في دعابة: «ها أنت تتحدث أنت الذي لا تؤمن إلا بالعلم!» ويعقب رياض في حماسة: «إني حر وقبطي معا، أشعر في أحايين كثيرة بأن المسيحية وطني لا ديني، وربما إذا عرضت هذا الشعور على عقلي اضطربت ... ولكن مهلا، أليس من الجبن أن أنسى قومي! شيء واحد خليق بأن ينسيني هذا التنازع، ألا وهو الفناء في القومية المصرية الخالصة، كما أرادها سعد زغلول!» ويقول كمال وصدره يجيش بالعواطف: «لا تؤاخذني، فقد عشت حتى اليوم دون أن أصطدم بمشكلة العنصرية؛ فمنذ البدء لقنتني أمي أن أحب الجميع، ثم شببت في جو الثورة المطهر من شوائب التعصب، فلم أعرف هذه المشكلة.» ثم يسأله: «وكيف نستأصل مشكلة كهذه من الجذور؟» ويجيب رياض: «من حسن الحظ أنها ذابت في مشكلة الشعب كله، مشكلة الأقباط اليوم هي مشكلة الشعب؛ إذا اضطهد اضطهدنا، وإذا تحرر تحررنا!»
إن التزامية الصدق التاريخي هنا، تبدو لنا من خلال الواقع الاجتماعي الذي يصوره نجيب محفوظ بأمانة؛ ذلك لأن اضطهاد الأقباط في تلك الفترة بواسطة الدكتاتورية الحاكمة، وأشياعها من أبناء الرجعية الشعبية، كان بسبب الاتجاه السياسي، ولم يكن بسبب العقيدة الدينية، ولعل نجيب محفوظ يرمز إلى الوحدة الشعورية كرباط قومي بين الأكثرية المسلمة والأقباط، بتلك الصداقة الخالصة من التعصب بين كمال ورياض قلدس. وكل خلاف طائفي يمكن النظر إليه على ضوء الجانب الموقفي للكاتب، وهو جانب الدعوة إلى الفناء في القومية المصرية. ولقد اتسع الأفق المذهبي اليوم لهذه الدعوة، حتى شمل المفهوم الإنساني العام لمعنى «الفناء»، بالنسبة إلى القومية العربية!
Página desconocida
وفي مجال الأسرة الصغيرة - أسرة شوكت - يدير نجيب محفوظ صراعا مذهبيا بين أحمد شوكت وأخيه عبد المنعم؛ إنه الصراع الذي شهده المجتمع المصري بين اتجاهين متناقضين، لكل منهما نظرته العقائدية الخاصة إلى تنظيم الحياة الاجتماعية على أسس معينة. ومن داخل هذا القطاع العرضي الجديد، نتابع خط السير الفكري لأحمد التقدمي المتطور، والخط الآخر المضاد الذي يتخذه عبد المنعم، كشعار اتجاهي للإخوان المسلمين؛ يقول عبد المنعم في معرض النقاش بينه وبين أحمد: «لسنا جمعية للتعليم والتهذيب فحسب، ولكننا نحاول فهم الإسلام كما خلقه الله، دينا ودنيا وشريعة ونظام حكم؛ ماذا تعرف عن الإسلام حتى تهرف بما لا تعرف؟!» ويرد أحمد بهدوء: «أعرف أنه دين، وحسبي ذلك، أنا لا أؤمن بالأديان.» ويتساءل عبد المنعم مستنكرا: «ألديك برهان على بطلان الأديان؟!» ويجيب أحمد بنفس الهدوء: «ألديك أنت برهان على حقيقتها؟!» ويعقب عبد المنعم محتدا: «عندي وعند كل مؤمن، ولكن دعني أسألك أولا كيف تعيش؟» ويقول أحمد باعتداد: «بإيماني الخاص، إيماني بالعلم وبالإنسانية وبالغد، وبما ألتزمه من واجبات ترمي في النهاية إلى تمهيد الأرض لبناء جديد!» ويصيح عبد المنعم في غضب: «لقد هدمت كل ما الإنسان إنسان به!» ويواصل أحمد انطلاقه الجدلي: «بل قل إن بقاء عقيدة أكثر من ألف سنة ليست آية على قوتها، ولكن على خطة بعض بني الإنسان؛ ذلك ضد معنى الحياة المتجددة؛ ما يصلح لي وأنا طفل يجب أن أغيره وأنا رجل؛ طالما كان الإنسان عبدا للطبيعة والإنسان، وهو يقاوم عبودية الطبيعة بالعلم والاختراع، كما يقاوم عبودية الإنسان بالمذاهب التقدمية؛ ما عدا ذلك فهو نوع من الفرامل الضاغطة على عجلة الإنسانية الحرة!»
هكذا يرافق نجيب محفوظ موكب التطور الحياتي، للمجتمع المصري من مختلف زواياه، وما تزال الروافد الجانبية في العمل الروائي، تصب في المجرى الكبير؛ فشخصية سوسن هي الامتداد التطوري لشخصية أمينة. لقد حطمت المرأة المصرية قضبان السجن وخرجت إلى الحياة؛ من البيت إلى الشارع، ومن رق الزوجية إلى حرية الإرادة، ومن جمود الانطواء إلى حركة الانطلاق، ومن سلبية الوضع الاجتماعي إلى إيجابية المشاركة في توجيه المصير، ونظرة الرجل إلى المرأة تتفاوت هي الأخرى على مدار الأجيال: ينظر إليها أحمد عبد الجواد في صورة أمينة، كمصنع آدمي لإنتاج النسل، وكجارية تناديه دائما بكلمة «يا سيدي»، تجسيما للعبودية المعترفة بالاستبداد كحق مشروع! وينظر إليها في صورة زنوبة، وزبيدة وجليلة كنموذج ترفيهي في مجال العلاقة الجنسية؛ وينظر إليها فهمي في صورة مريم جارته الجميلة، التي تبلغ من فهم الحياة مرحلة تتساوى فيها مع أختيه خديجة وعائشة، وتتفوق فيها نسبيا على أمه؛ وينظر إليها كمال في صورة عايدة، كنموذج للمستوى المعيشي الرفيع، والجمال الأرستقراطي الباهر والثقافة الفرنسية المتميزة، كرد فعل لحرمان بيئته الشعبية من كل هذه القيم المغرية! وينظر إليها أحمد شوكت في صورة سوسن، الفتاة المكافحة المستنيرة، التي تكسب قوتها بعرق الجبين، ولا تستمد فتنتها الأنثوية في نظره من جمال الوجه، كما يفعل الآخرون، وإنما تستمدها من جمال الفهم لمشكلة الحياة وقضية الإنسان!
وعلى ضوء الرؤية النقدية لواقعية نجيب محفوظ الإيحائية، نستطيع أن ننظر إليه وهو يتخذ موقفه، إلى جانب التطور بالنسبة إلى الأطراف المتقابلة، حتى لقد جعل كمال في نهاية «السكرية»، يتفاعل تفاعلا إيجابيا مع خطوات النضال الجديد. ونجيب في واقعيته لا يفرض الشخصية على الموقف، وإنما يفرض الموقف على الشخصية، بمعنى أنه يضع الشخصية في مستوى عقلي معين، يتحتم معه أن ترتبط بسلوك موقفي مناسب، وهذا ما نلاحظه على شخصياته في مختلف المواقف والمستويات؛ إن فرض الشخصية على الموقف عند كتاب الواقعية الأيديولوجية، ناتج من كون الموقف جاهز الإعداد مقدما في ذهن الكاتب، وأن الشخصية قد تكون غير جاهزة الوجود في الواقع الخارجي، ومن هنا نشعر أن الكاتب الأيديولوجي غالبا ما «يجوف» الشخصيات ليملأها بأفكاره الذاتية!
ومع ذلك فإن هذه الملحمة الروائية - كعمل فني يقف موقف الندية من أنضج الأعمال المماثلة في أدب الغرب - لا تخلو من بعض المآخذ، فنجيب محفوظ مثلا - وعلى الأخص في «بين القصرين» - يسرف أحيانا في رسم الأبعاد النفسية لبعض الشخصيات من خلال عملية السرد؛ وعيب هذه الطريقة أنها تطبع خط السير الحدثي بطابع البطء والرتابة!
إن الحركة بطيئة في بعض فصول الجزء الأول من هذه الرواية، ولو رسم نجيب تلك الأبعاد النفسية من خلال اللقطات الحديثة والموقفية، لرأينا تلك الحركة الجياشة، التي شملت الوجود الداخلي والخارجي للشخصيات في «قصر الشوق»، وبلغت الذروة في إبراز العنصر التجسيمي والتركيز لمختلف اتجاهات النسيج الروائي في «السكرية».
وهناك قطاعات عرضية قليلة، تخرج عن نطاق البعد الموضوعي الرئيسي للمشكلة في خطوطها العامة؛ وذلك حين يعمد نجيب إلى التفصيلات الجزئية، لما يدور أحيانا من أحداث ذاتية في الجو العائلي لآل شوكت، أو في جو المغامرات الجنسية لطبقة العوالم المغنيات، من أمثال زبيدة وجليلة زنوبة، أو في جو العلاقات البيئية والشعورية بين أحمد عبد الجواد وأصدقائه من طبقة التجار؛ لا تخلو عملية الالتقاط من الإسراف في تجميع كل الزوايا من أجل اكتمالية الصورة، وكنا نفضل لو لجأ نجيب إلى «الاختيار»؛ فاختيار الزاوية المعبرة قد تغنينا عن زوايا كثيرة، واختيار اللقطة الموحية قد تغنينا عن مجموعة كاملة من اللقطات!
الأخطل الصغير
دراسة فنية لشعره «عندما يتزوج الفكر الحياة، تولد التجربة في الفن.»
إذا لم تخني الذاكرة، فألبير كامي هو صاحب هذه الكلمات، وبقدر ما تحمل كلماته هنا من روح الشعر، فهي تحمل الكثير من منطق التحديد العلمي الضابط للمقاييس النقدية؛ ذلك لأن مفهوم المزاوجة بين كل طرفين متقابلين، هو أن تكون عملية ارتباط تفاعلية، يتحقق فيها عنصر التبادل المثمر والمشاركة المنتجة، إنها عملية يتوفر فيها جانب الإرادة، كما يتوفر فيها جانب الإدراك؛ لأننا حين نفكر في أن نرتبط بالطرف المقابل لوجودنا الإنساني، ندرك ما وراء اتجاهنا من رغبة ملحة في الشعور المكثف بالحياة؛ من خلال رؤية عقلية معينة، من هنا يتم تفتيت اللحظة الزمنية في بوتقة التفاعل المزدوج، بين الوجود الداخلي والوجود الخارجي، أو بين حركة التأمل الفكري للفنان، وحركة الحياة المندمجة في حركة الزمن. وتفتيت اللحظة الزمنية إلى جزئيات: متغيرة ونامية، هو ما نعبر عنه بمراحل التجربة. والتجربة النفسية في الفن تقتضي - لكي تتم لها كل أبعاد التجسيم - أن نعيش في قلب اللحظة الزمنية، وأن نراقب نموها من الداخل؛ ذلك لأن عملية المعايشة من الخارج، بعيدا عن مجال المراقبة التأملية الدقيقة، لا يفتح من نوافذ الرؤية لمراحل النمو المطرد غير تلك النافذة التي نطل منها على مرحلة التبلور النهائي، عندما يقتصر الفنان على أن يعطينا خلاصة التجربة. وعملية المعايشة من الخارج يترتب عليها من جهة أخرى أن تعرض التجربة وهي مبتورة، وبمعنى آخر: وهي جذور بغير امتدادات. وإذا ما اقتصرت هذه المعايشة على دور التفاعل الحسي بيننا وبين مشاهد الحياة، فهنا تتلاشى التجربة النفسية المكثفة، لتأخذ مكانها اللوحة الوصفية المجردة.
بشارة الخوري أو الأخطل الصغير - في هذا المجال التحديدي وعبر الرؤية النقدية - يبدو وهو شاعر اللوحة وليس شاعر التجربة؛ إنه رسام لوحات مبدع، وصاحب لغة شعرية ممتازة. وهو في محيط التعبير بالألفاظ والصورة، يتيح للنقد أن يعتبره واحدا من شعراء الجيل الماضي، وأن يعتبره في الوقت نفسه واحدا من شعراء هذا الجيل. إن النقد - على ضوء السمات التعبيرية لشعره - يستطيع أن يلحقه بمدرسة الشعر التقليدي إلى جانب شوقي ومطران، ويستطيع أن يلحقه بمدرسة الشعر التجديدي، إلى جانب إيليا أبي ماضي وعلي محمود طه؛ فكما نجد في شعره من ملامح المدرسة الأولى، ذلك الميل إلى التقرير والخطابية والاحتفاء برنين اللفظ، نجد من ملامح المدرسة الثانية تلك العناية بأن يحل التجسيم الإيحائي والموسيقى الداخلية والصورة المركبة، محل التقرير والخطابة والتعبير المباشر.
Página desconocida
في محيط الشكل التعبيري؛ يمكننا أن ننسب بعض شعر الأخطل الصغير إلى المدرسة الأولى، وأن ننسب بعضه الآخر إلى المدرسة الثانية. وعندما نقول إنه ليس شاعر التجربة، فإنما نعني التجربة بشكلها الفني الناضج، كوليد كامل النمو لزواج الفكر بالحياة. إن عملية الارتباط التفاعلي بالوجود المقابل عند بشارة الخوري، تعتمد على حركة الحواس الخارجية اللاقطة، أكثر مما تعتمد على حركة المشاعر الداخلية المتأملة؛ وفي نطاق التخطيط الإطاري والموضوعي للقصيدة، نلمس بوضوح مدى تفوق اللوحة المرسومة على التجربة المعاشة، بل إن هذا التفوق ليبلغ من السيطرة ذلك الحد الذي تتضاءل معه التجربة، بحيث تبدو لنا هي نقطة ارتكاز بغير انطلاقات. وإذا ما نظرنا إلى الشعر على أنه مزيج متعادل من المعايشة الحسية والنفسية للوجود المقابل، فإننا نستطيع أن نكتشف جوهر التفاوت بين نجاح اللوحة وإخفاق التجربة في شعر الأخطل الصغير. وجوهر التفاوت بين المدرسة الأولى والمدرسة الثانية، عندما نذكر «الطلاسم» مثلا لأبي ماضي أو «الله والشاعر» لعلي طه، كنموذجين تطبيقيين لتلك العلاقة الزوجية بين الفكر الشعري وبين حقائق الوجود، ومدى ما توفر للتجربة من توازن الأبعاد الموضوعية المختلفة، في مجال انعكاس المد الخارجي على جدران الذات.
وإذا ما نظرنا إلى بشارة الخوري كواحد من شعراء المدرسة الثانية - بالنسبة إلى الشكل التعبيري واتجاهات المضمون الشعري - فإنه يؤكد لنا أصالته كوجه فني لا يعكس ملامح الآخرين. إنه هنا نسخة غير مكررة، لا تحمل طابع أبي ماضي ولا طابع علي طه، على الرغم من وحدة الخط التجديدي الذي يلتقي على امتداده الشعراء الثلاثة. إن من أهم القيم الفنية لشعرنا المعاصر، أن يكون لكل شاعر طعمه الخاص، ولونه المتميز وطابعه المستقل؛ إننا بذلك نضمن تنوع الشخصية الشعرية، على أساس من تنوع الأداء، حتى لا يستطيع شاعر واحد يمثل مركزية الطابع والاتجاه، أن يلغي من وجودنا الذوقي كل المتفرعين من نقطة البداية. ولقد قلنا يوما ونحن نشير إلى الفن الغربي، ممثلا في القصة واللوحة والقصيدة، إن النسخة الأصيلة هناك، تبهرنا دائما حيث لا تحدث ظاهرة التكرار والتقليد لشكلية العمل الفني وموضوعيته، مهما اتحد الاتجاه المذهبي عند الكتاب والشعراء والمصورين؛ جان بول سارتر وألبير كامو بينهما اتجاه وجودي في القصة، وبول إيلوار ولوي أراجون يجمع بينهما اتجاه يساري في الشعر، وبابلو بيكاسو وسلفادور دالي يجمع بينهما اتجاه سريالي في التصوير، ومع ذلك فلن تجد واحدا من هؤلاء - في حدود الاتجاه المذهبي - نسخة مكررة من الآخر؛ إنهم جميعا يمثلون هذه الظاهرة الجميلة في تاريخ الفن، ونعني بها ظاهرة الاستقلال والأصالة.
هذه هي صورة الأخطل الصغير كشاعر مجدد، أما حين نلقاه كشاعر كلاسيكي من داخل الإطار الذي يضم صورتي شوقي ومطران، فإننا لا نستطيع أن نميز وجهه الشعري في زحمة الوجوه المتشابهة؛ ذلك لأن المجرى التعبيري العام لتدفق الطاقة الشعرية عند شعراء المدرسة الأولى، كان يعتمد على كثير من الروافد الجانبية للشعر العربي القديم، من هنا فقد شعر هذه المدرسة - وهي المدرسة التي اقتطعت جزءا من الوجود الفني والزمني لبشارة الخوري - جوانب مهمة من مفهوم التنوع الحاسم للشخصية الشعرية، وهو التنوع الذي لا يمكن أن يقوم إلا على أسس ثابتة من الاستقلال والأصالة.
ونعود بعد ذلك إلى مجموعة من نماذج التطبيق، لنكرر القول بأنه شاعر اللوحة وليس شاعر التجربة. إنك في معرض هذا الشاعر الرسام، يواجهك عدد من اللوحات الوصفية، منها: «هند وأمها»، «سلمى الكورانية»، «الصبا والجمال»، «عمر ونعم»، «ندى ووداد». ونشير إلى هذه اللوحات؛ لأنها تمثل في مجال التعبير بالصور ملامح المدرسة التجديدية، وتقدم إلينا ذلك الطابع الاستقلالي المتميز، لواحد من شعراء المدرسة الثانية، ولنقف أمام لوحة رسمتها ريشة الأخطل الصغير:
أتت هند تشكو إلى أمها
فسبحان من جمع النيرين!
فقالت لها: إن هذا الضحى
أتاني وقبلني قبلتين
وفر فلما رآني الدجى
حباني من شعره خصلتين
Página desconocida
وما خاف يا أم بل ضمني
وألقى على مبسمي نجمتين
وذوب من لونه سائلا
وكحلني منه في المقلتين
وجئت إلى الروض عند الصباح
لأحجب نفسي عن كل عين
فناداني الروض: يا روضتي!
وهم ليفعل كالأولين
فخبأت وجهي ولكنه
إلى الصدر يا أم مد اليدين
Página desconocida
ويا دهشتي حين فتحت عيني
وشاهدت في الصدر رمانتين!
وما زال بي الغصن حتى انحنى
على قدمي ساجدا سجدتين
وكان على رأسه وردتان
فقدم لي تينك الوردتين
وخفت من الغصن إذ تمتمت
بأذني أوراقه كلمتين
فرحت إلى البحر للإبتراد
فحملني ويحه موجتين
Página desconocida