هذا التفسير لا يتفق - من ناحية التطبيق - مع ما نادى به غالي شكري، من أن الجنس في فن يحيى حقي، ليس هو القوة الوحيدة الحاسمة في توجيه السلوك الإنساني؛ لأننا هنا بالنسبة إلى سلوك العانس - ومن خلال تشريح المؤلف لمنابع ثورتها العصبية - لا نكاد نجد دافعا واحدا لتلك الثورة غير دافع الجنس؛ نحن أمام «أنثى» تثور طلبا «للرجل»، ولسنا أمام امرأة تهدف إلى العثور على زوج يكفل لها ضمان العيش؛ لأنها - في ظل تلك الأسرة - مطمئنة كما قلنا إلى الحاضر والمستقبل؛ ولأنها - من جهة أخرى، وكما أقر بذلك غالي شكري - لا تفكر في ارتفاع مستواها المعيشي؛ لأن أعصاب وعيها الاجتماعي قد ماتت؛ لم يبق لها باعتراف المؤلف سوى أعصاب الجنس، وعندما لا يبقى للإنسان - في مثل هذا الموقف - غير نوع واحد من الأعصاب، يصبح هذا الدافع الوحيد هو المحور الحاسم في توجيه انطلاقات السلوك؛ هنا شقة خلاف بين الوجهة النظرية وبين التطبيق!
بعد هذا يعود غالي شكري فيعرض عددا آخر من قصص يحيى حقي في مجموعته «دماء وطين»، ويمضي في طريقه إلى محمود البدوي وعبد الحميد جودة السحار، وسائر من طاف حولهم من كتاب القصة، هو هو بمنهجه الفكري والتعبيري، الذي قدمناه إليك في ثنايا هذا المقال، ولك أن تتبع هذا المنهج فيما بقي من فصول الكتاب، فحسب الناقد أن يقدم لك إنتاج الآخرين من خلال العرض الكيفي لا الكمي لهذا الإنتاج.
اتجاه جديد لنجيب محفوظ
«اللص والكلاب» - آخر عمل فني لنجيب محفوظ - هل نضعه في خانة القصة القصيرة الطويلة
Long Short Story ، أم نضعه في خانة الرواية القصيرة
Short Novel ؟ أكثر الذين تناولوا هذا العمل بالتحليل والنقد، أجمعوا على وضعه في الخانة الأولى، خانة اللون المطول من القصة القصيرة. من هنا - ومن وجهة نظري الخاصة - أراني مضطرا إلى مخالفة هذا الإجماع، والخلاف بعد ذلك يستند إلى المقاييس النقدية، إذا ما وضعنا هذه المقاييس بالنسبة إلى العمل الفني موضع التطبيق.
حجة الذين قالوا عن «اللص والكلاب» إنها قصة قصيرة طويلة، أن مجرى الأحداث فيها يسير في خط واحد، يشمل حياة البطل من البداية إلى النهاية. صحيح أن خط السير الواحد الذي تنبثق منه الأحداث والمواقف بالنسبة إلى الشخصية المرسومة، هو السمة الرئيسية للقصة القصيرة؛ ذلك لأننا إذا نظرنا إلى القصة القصيرة، على أنها قطاع حي من قطاعات الحياة، فهو بلا شك ذلك القطاع الطولي الممتد الذي يقدم إلينا التجربة المعاشة، من خلال مجموعة متلاحقة من اللحظات الزمنية والنفسية، تتركز حدثيا وموقفيا في اتجاه واحد.
وعبر الرؤية النقدية ونحن في مجال التحديد والمقارنة، نستطيع أن نشبه القطاع الطولي الممتد - وهو عماد القصة القصيرة - بالمجرى الرئيسي للنهر، حين يندفع إلى الأمام وحده بغير روافد، بغير تلك القطاعات العرضية التي تصب في المجرى وتكتنفه، وتضاعف من قدرته على التدفق. الفارق الفني بين القصة القصيرة والرواية القصيرة يتمثل في تلك الروافد، في تلك القطاعات العرضية التي تقوم بدور التكثيف والتعميق وتوليد طاقة الاندفاع. هناك - أعني في القصة القصيرة - مسار واحد للأحداث والمواقف، وهنا - أعني في الرواية القصيرة - مجموعة مسارات تبدو عبر رؤية النقد، وهي موزعة من الناحية الاتجاهية بين الطول والعرض. هذا المسارات لا يمكن أن تجدها مثلا في قصة «لعبة الشطرنج» أو «رسالة من امرأة مجهولة» للكاتب النمساوي ستيفان زفايج؛ لأن كلتيهما تدخل في خانة القصة القصيرة الطويلة، وتمثل خط السير الواحد لنمو التجربة التي تعيشها الشخصية.
إذا رجعنا إلى «اللص والكلاب» بعد هذا التحديد فماذا نجد؟ نجد شخصية رئيسية مأزومة هي شخصية سعيد مهران؛ الأحداث والمواقف كلها تعبر عن أزمته، تعبر بحركة الوجود الداخلي وحركة الوجود الخارجي، على مدار التفاعل المشترك بين تأثرية الشعور ومادية السلوك. وعلى امتداد القطاع الطولي الذي يعرض لنا الملامح الوجهية لأزمة البطل، أو المجرى الشعوري والسلوكي لنهر حياته المندفع في صخب الضياع والتمرد، يلوح لنا على جوانب النمو عدد من القطاعات المستعرضة؛ عدد من الروافد المكثفة لأزمة سعيد مهران.
لقد كانت أزمة البطل منذ البداية، نابعة من تنكر الابنة وخيانة الزوجة وغدر الصديق؛ سناء ونبوية وعليش، هم صناع هذه التركيبة النفسية المأزومة لبطل القصة، ومن الممكن لو أردنا لرواية «اللص والكلاب» أن تكون قصة قصيرة، أن نمضي بالأحداث والمواقف في حدود خط طولي واحد، يسير في اتجاه تلك الشخصيات، ولكن العمل الفني خرج عن هذه الحدود إلى حدود أخرى جانبية، ليصل بنا إلى مرحلة معينة من التكثيف النفسي لأزمة البطل؛ ومن هنا تكتسب «اللص والكلاب» أبعادا موضوعية جديدة عمادها تلك التعريجات المتنوعة على طول الطريق؛ وبذلك ننتقل معها من المستوى التحديدي للقصة القصيرة، إلى المستوى التحديدي الآخر لفن الرواية.
Página desconocida